شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
كان للتحدي الحضاري الغربي على المستويين العسكري والعلمي بشكل عام أثره في إجاد ردات فعل عربية واسلامية، كان من نتائجها انبلاج فجر النهضة العربية والإسلامية. هذه النهضة التي شملت مختلف الميادين الفكرية والواقعية. ومن ثم انطلق المفكرون والأصلاحيون المسلمون، خصوصاً مع بروز عامل خطير، تمثل في مجموعة من التحديات، وضعت أساس هوية الأمة في قفص الإتهام، حيث ظهرت عدة انتقادات تتهم الدين الإسلامي بكونه أحد أسباب التخلف الحضاري، وتدعو الشعوب العربية والإسلامية للتحرر منه، وقطع الصلة مع قيمه ومثله.
لذلك واستجابة لهذا التحدي الخطير قام عدد من المفكرين الإسلاميين، بحركة نشطة على مستوى التأليف والكتابة والرد. لعرض وشرح المذهب الإسلامي ونظرياته المتميزة في جميع مناحي الفعل الإنساني. ولتوضيح الإلتباس الحاصل من جراء الغزو العسكري والفكري للحضارة والإستعمار الغربيين. وبيان ان الإسلام دين الحضارة والمدنية، وانه بريء من التخلف الذي تتخبط فيه الشعوب في البلاد الاسلامية .
وقد تجاوزت هذه الردود مهمة الدفاع عن الإسلام وشريعته وقيمه، إلى الشروع في عملية تأصيلية واسعة النطاق شملت مجمل الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وذلك لبروز التفوق الحضاري الغربي، وظهوره للعيان في هذه المجالات، وإنبهار غالبية الشعوب المسلمة بما حققته هذه الحضارة المعاصرة من انجازات مهمة في هذه الميادين.
ومن أهم الميادين التي كان لزاماً على المفكر الإسلامي طرقها واماطة اللثام عن مشكلاتها وملابساتها، النظرية السياسية في الإسلام. خصوصاً وقد أسفر التقدم الغربي عن مذاهب سياسية جديدة تتفق في جوهرها على تحرير الإنسان من كل أنواع الإستبداد السياسي وتمنحه مجموعة من الحقوق، كان قد حرم منها لقرون خلت.
وبما أن العالم الإسلامي كان يرزح تحت نير الحكم الاستبدادي، لعدة اعتبارات تاريخية واجتماعية وفكرية، فقد تم الربط بين الإسلام والإستبداد. بل اعتبر الإسلام من خلال بعض النصوص واجتهادات طائفة من العلماء، من الداعين للإستبداد السياسي والمحافظين عليه.
من هنا تبرز أهمية كتاب الشيخ النائيني: «تنبيه الأمة وتنزيه الملة»، فهو من جهة يعالج عملية تأصيل شرعي للعمل السياسي، وبالخصوص الحقوق السياسية للفرد والأمة والتي بتحقيقها يحجم الاستبداد السياسي إن لم ينته. ومن جهة أخرى يقدم انطباعاً خاصاً يتعلق بالفقيه أو المجتهد، وبخصوصية موقعه وهو ينبري لمعالجة قضايا الأمة المستحدثه ومشاكلها. وعلى الخصوص مشاركته في التنظير وتأصيل المذهب الإسلامي السياسي. وما يترتب على ذلك من حقوق ظلت مسكوت عنها، لا يوليها الفقيه المسلم سنيا كان أم شيعياً، أي اهتمام يذكر إلا في حالات نادرة قليلة.
أما سبب اختيار هذا الكتاب لجعله منطلقاً لمعالجة احدى عمليات التأصيل للنظام السياسي الإسلامي. فإن ذلك يرجع لعدة أسباب: أولها، أن هذه الرسالة تعتبر باكورة التأليف في هذا الميدان في الأزمنة المعاصرة. فقد كتبت في البدايات الأولى لهذا القرن. ثانياً: ما احتوته هذه الرسالة من نقاش علمي رصين لتأصيل الحقوق السياسية وعلى رأسها قضية الشورى وحق الأمة في المشاركة في تسيير شؤونها العامة. ثالثها: الفهم والاستيعاب العميق للتطور السياسي في الغرب من طرف فقيه مسلم شيعي إمامي بالخصوص. وأخيراً الرغبة في إغناء الفكر السياسي الإسلامي بالتذكير بهذا الأبداع الذي لفه النسيان، أو كاد. لتحقيق التراكم النظري في هذا المجال. واثراء الخليفة المعرفية السياسية لابناء الصحوة الإسلامية. خصوصاً وان موضوع الشورى والديمقراطية مازال طريا تتداوله الأقلام وألألسن. لأننا لم نقطع بعد صلاتنا العميقة والتاريخية بالإستبداد السياسي؟!.
أما منهجنا في معالجة هذا الموضوع فلا يقتصر على عرض ما جاء به الشيخ النائيني من أفكار وآراء في محاولته التأصيلية. بل معالجتها ورفدها ببعض ما ذكره المفكرون الإسلاميون القدماء والمعاصرون في هذا المجال. وذلك للوصول إلى تشكيل صورة متكاملة لعملية التأصيل الإسلامي لنظام الحكم الديمقراطي أو الشوروي.
ولد الشيخ محمد حسين النائيني النجفي في حدود سنة (1273هـ-1853م)، في بلدة نائين بضواحي أصفهان. حيث تلقى اول مبادىء العلوم فيها. ليهاجر بعد ذلك إلى أصفهان سنة 1293هــ أو 1295هــ على اختلاف بين المؤرخين. حيث قرأ على أشهر علمائها. ثم هاجر منها إلى العراق ودخل سامراء في محرم سنة 1303هــ وقرأ فيها على يد الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي الشهير إلى سنة وفاته (1312هــ). ثم غادر سامراء إلى مدينة كربلاء، وبقي فيها مدة، لينتقل بعدها إلى النجف سنة (1314هـت). وفيها بدأ يحضر دروس أستاذه الملا كاظم الخراساني. ومباشرة بعد وفاة الخراساني اشتغل الشيخ النائيني بالتدريس. وبعد وفاة الميرزا محد تقي الشيرازي، انتقلت إليه الرئاسة الدينية فاصبح مرجعاً للتقليد هو والسيد أبو الحسن الأصفهاني. حيث استقامت لهما الرياسة العلمية داخل الحوزة الدينية في العراق (1) .
وعند الأعلان عن «السلطة المشروطة» في إيران سنة 1324هــ، كان النائيني من أكبر الدعاة إليها، وألف كتابه بالفارسية «تنبيه الأمة وتنزيه الملة»، في لزوم مشروطية ودستورية الدولة لتقليل الظلم على أفراد الأمة وترقية المجتمع».
وطبع عليه تقريض للشيخ ملا كاظم الخراساني، والشيخ عبدالله المازندراني ثم بعد ذلك بمدة (2) ، جمع ما أمكن جمعه من نسخه. بل كان يشتريها بقيمة غالية (3) . وأتلفت بأمره وبقيت منه نسخ (4) ، نجت من الإتلاف. وقد عرب منه فصول وطبعت في مجلة العرفان الصيداوية.
توفي النائيني ظهر يوم السبت 26/ جمادي الأولى/ سنة 1355هــ. عن نحو (82 سنة) ودفن في بعض حجرات الصحن الشريف (5) (مقام الامام علي ). بالنجف الاشرف في العراق.
ذهب أغلب المؤرخين لنهاية الحكم القاجاري في إيران إلى أن حركة المطالبة بالدستور والنظام النيابي، كانت من أبرز الأفكار السياسية التي هبت على إيران من عاصمة الدولة العثمانية، ويعود سبب ذلك إلى قرب تركيا من أوربا وشدة تأثرها بالحضارة الغربية (6) . بالإضافة إلى ان الشاه ناصر الدين كان ممن اعجبوا بالحضارة والمدنية الغربية، حيث سافر إلى أوربا عدة مرات، واستقبل بحفاوة مبالغ فيها، كان من نتيجتها بداية تحديث إيران بإدخال التلغراف وبعض النظم والمختراعات الجديدة، وإرسال البعثات إلى أوربا وانشاء «دار الفنون» لتخريج موظفين اكفاء للدولة ودبلوماسيين (7) .
إلا أن الشاه ناصرالدين (8) ، كان يرفض أن يتعدى التحديث إلى الكلام عن القوانين المنظمة للحكم أو الدستور، أو ما سمي فيما بعد بــ «المشروطية» (9) .
وقد صرح ذات مرة، انه يود ان يكون محاطاً بحاشية من الأغبياء لا يعرفون عن بروكسيل، هل هي مدينة أم نوع من الخس (10) . إلا ان ما قامت به كل من روسيا القيصرية وبريطانيا زعيمة الاستعمار آنذاك، من التدخل في السياسة الداخلية لإيران. والصراع الذي احتدم بين أنصار الفريقين الداعم للمشروطة الرافض لها. قد عجل بتسارع الأحداث وتفجرها.
ويمكن الحديث عن بداية «حركة المشروطة» في إيران، من جراء حادثة بسيطة حدثت في عام 1905م. وخلاصتها أن نفرا من أهل البازار خالفوا بعض الأوامر الحكومية، فأمرت الحكومة بشد أقدامهم في «الفلقة» وجلدهم بالسياط (11) . ولم تكن «الفلقة» شيئاً غريباً في الوسط الاجتماعي آنذاك. فهي عادة متبعة لدى الملوك السابقين. لكنها دفعت هذه المرة بعض الناس، ومنهم رجال الدين إلى الإلتجاء (12) ، في «مسجد الشاه» بجانب البازار الكبير.
لينتقلوا بعدها إلى بلدة «الشاه عبدالعظيم» حيث ارتفع عدد الملتجئين يوماً بعد يوم، وقرروا أن لا يغادوا المكان حتى يستجيب الملك لمطالبهم المتمثلة في عزل «عين الدولة» من منصبه و تأسيس دار العدالة أطلقوا عليها إسم «عدالة خانه».
ومما زاد في أهمية هذا الالتجاء، أن إثنين من أكابر علماء طهران كانا من بين الملتجئين وهما السيد محمد الطباطبائي والسيد عبدالله البهبهاني. كما كان بينهم الواعظ المشهور آغا سيد جمال الدين (13) .
وكانت النتيجة أن خضع الشاه لمطالبهم ورجع العلماء والناس إلى ديارهم فرحين بأول نصريتم تحقيقه على الاستبداد. لكن الشاه وكما يؤكد المؤرخون لم يستطع الوفاء بوعده مما دفع بالوضع للأنفجار من جديد، حيث تكاثفت فيه الإرادة الشعبية مع اصرار العلماء الذين استخدموا جميع أسلحة الضغط المادية والمعنوية، مما أرغم الشاه مظفر الدين أخيراً على إصدار القرار الذي طال انتظاره، وهو «فرمان مشروطيت» الذي اذيع في 15 أغسطس عام 1906م.
وهكذا فقد أسفر الإنقلاب الدستوري في عهد مظفر الدين شاه، أو ما يسمى بــ (انقلاب مشروطية) عن قيام حكم ملكي مقيد بأحكام الدستور، وعن حياة نيابية وحكم ديمقراطي (14) .
لكن الفرصة الكاملة لم تعط لهذه التجربة الدستورية والبرلمانية كي تنجح أو تتجذر كفعل وممارسة سياسية. فقد عارض الشاه محمد علي (15) . الذي تولى الحكم بعد مظفر الدين شاه، هذا التوجه الديمقراطي. وحاصر البرلمان وضربه بالمدفعية وأعلن العودة للإستبداد السياسي والحكم الغير مشروط.
وكانت النتيجة أن حاول الوقوف أمام رياح التغيير التي بدى أن لا مناص من ايقافها. فكان أن قعلت جذور سلطته ورمته بعيداً إلى روسيا، هارباً من شعبه الثائر. حيث ثم خلعه وتولية إبنه الصغير أحمد ملكاً لإيران. لقد كان هذا الاختيار أكبر خطأ ارتكبه الثوار سيفصح عنه التاريخ، مع الأنقلاب العسكري الذي قام به علي رضاخان قائد حامية طهران، منهيابه حكم القاجار، ومؤسسا في نفس الوقت عرش الطاووس، الذي سيكتب عنه التاريخ صفحات مريرة من الصراع السياسي، بين القوى التحررية الوطنية والإسلامية، وبين شاهات إيران. لينحسم الصراع قبل نهاية هذا القرن لصالح الثورة الإسلامية، بقيادة رجل دين يحمل صفة «فقيه مرجع» لتبدأ معه فصول جديدة من تاريخ تجربة الحكم الإسلامي في إيران بماله وما عليه.
النسخة التي اعتمدناها في هذه الدراسة هي النسخة التي نشرتها مجلة الموسم التراثية في عددها الخامس(السنة الثانية 1990م ــ 1410هـ). والسبب في ذلك يعود لندرة نسخ الكتاب، وعدم وجود طبعات جديدة في الأسواق.
فالكتاب كما اشرنا إلى ذلك في المقدمة قد جمعت جل نسخه في حياة مؤلفه عندما تولى منصب المرجعية لأنه رأى، أن وجود هذه الرسالة بين يدي خصومه من حملة فكرة الإستبداد، حجر عثرة في سبيل توطيد أمور الزعامة له. اذ كان يتخذها خصومه وسيلة لإ يغار صدور السواد ن الناس عليه. وتصويره لهم رجلا من رجال لسياسة لا رجلا من رجال الدين (16) .
لكن ما يجعلنا نطمئن لهذه النسخة، ما قاله الإستاذ محمد سعيد الطريحي رئيس تحرير مجلة الموسم، من أن اعتماده في هذه النسخة المنشورة كان على النسخة المعربة لأستاذ الجيل صالح الجعفري (17) . مع مراجعة النسخ الأصلية المخطوطة التالية.
ــ النسخة المخطوطة بخزانة الدكتور عبدالله فياض ببغداد.
ــ نسخة مخطوطة في مكتبة الوزيري بمدينة يزد (بإيران).
اجمع العقلاء ومن ضمنهم الأمة الإسلامية على ضرورة وجود سلطة تحكم وتنظم الاجتماع البشري، وذلك لأن الحكومة من ضرورات العمران لحفظ الإنسانية ورعاية مصالحها القومية والروحية. وهذا الإجماع حول وجوب اقامة السلطة، هو راي أهل السنة وراي الشيعة جميعاً (على اختلاف في الوجوب)، وراي المعتزلة إلا نفرا قليلاً، وراي الخوارج ما عدا النجدات (18) .
وذلك لضورة ترتيب العلاقات الاجتماعية، بما يكفل تحقيق العدالة بين أفراد الرعية ويمنع تطاول بعضها على بعض بالظلم أو انتهاك الحقوق والحريات. وحفظ كيان الأمة ومقوماتها من الزوال من جراء تصادم المصالح بين أفراد والجماعات.
«أما كيفية إستيلاء السلطان وتصرفه في المملكة باعتبار كونه من باب التملك أو من باب الولاية فهي ــ حسب الشيخ لانائيني ــ متصورة على وجهين لا ثالث لهما أبداً» (19) .
أي اعتبار السلطة من باب التملك والملك الشخصي، الذي يعطي الحق في التصرف في المنافع المادية وتسخيرها للأغراض الشخصية. وهذا يفضي إلى إبعاد مجموع أفراد الرعية باعتبار التملك المطلق. أما من يرفض هذا الاستعباد أو يروم كسر قيود العبودية. أو يطالب بحقه في المنافع المادية، فيعتبر متمرداً مارقاً، خارجاً عن الطاعة، مما يعرضه لأنواع المضايقات والمصائب الجسيمة.
فتمامية الملك إذا تحققت، تعطي المالك الحق في التصرف العام ، بالبيع أو الهبة أو التعطيل. بل يمكنه إفناء وتخريب ما تملكته يده. إذا لم يجدر رادعا من عقل أو ضمير. وهذا الحكم المبني على التملك الشخصي هو ما اصطلح عليه بالإستبداد. ووصفه ابن خلدون بالملك الطبيعي لأنه «حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة عن طريق التغلب والقهر» (20) .
أما افراد الرعية في ظل هذا الحكم التملكي المطلق، فهم مقيدون بسلاسل العبودية، حظهم في هذه الحياة لا يختلف كما يقول الشيخ النائيني عن «حظ النباتات التي لم تخلق إلا لغيرها، وليس لها حظ استقلالي أبداً. تسمى لجهلها بحقوقها وظلمها نفسها بالأمة المستنبتة، اي المندرجة في عداد النباتات البرية والحشائش الصحراوية» (21) ، والاستبداد من حيث هو تصرف غير مقيد وتحكمي في شؤون الجماعة السياسية (22) ، درجات مختلفة، يحدوها مدى وعي الأمة أو جهلها بمجمل حقوقها الذاتية والاجتماعية. وهذا «الجهل المطلق» (23) ، كما يصفه عبدالرحمن الكواكبي، وقلة الوعي بالحقوق السياسية، يعتبر أحد أهم أسباب نشوء الإستبداد وتعمفه في كيان الأمم واستفحاله. بالإضافة إلى عدم وجود قانون أو قاعدة موضوعية أو متفق عليها تحدد تصرفات الحاكم وتعطي للرعية أو المحكومين الحق في المحاسبة أو المتابعة.
في مقابل الحكم الإستبدادي المطلق، هناك الحكم المقيد والمشروط. مقيد بالشرائع المتفق عليها ومشروط بالسعي لأقامة وظائف الدولة، والعمل على اجراء مصالح الرعية دون إدعاء حق التملك للمنافع العامة أو التفرد بالحاكمية المطلقة.
وهذين القسمين من أنواع الحكومة، متناقضين في أصولهما وآثارهما. والسلطنة في حقيقتها عارية عن الأوهام الإلهية، رغم إدعاء المستبد وجنوحه المستمر لأتخاذ «حفة قدسية يشارك بها الله، أو تعطيه مقام ذي علاقة مع الله» (24) ، كما يقول الكواكبي.
ومن ثم ينطلق في محاولة لتشريع الحقوق ووضع القوانين التي تخدم مصالحه وشهواته التحكمية بالدرجة الأولى. فالإستيلاء أو الحكم في واقع الأمر، انما هو مشروط بمقدار الولاية والتصرف في الوظائف العامة. حيث آحاد الشعب كما يقول الشيخ النائيني ــ «شركاء مع السلطان في جميع القوى النوعية ــ مالية وغير مالية ــ ونسبتها لهم بالسوية لا تتفاوت بتفاوت درجاتهم» (25) ، فالحاكم والمحكوم في نظر الإسلام إختلاف بينهما ولا تمايز إلا في تنوع الحقوق والواجبات التي حددتها الشريعة لكل منهما.
يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين: «والحاكم والمحكومون أمام الشريعة سواء فليس تمة آية امتيازات، أو استثناءات، ولا لأسرهم بالنسبة إلى اي تكليف من التكاليف الشرعية» (26) ، وعليه فأي استحواذ أو تملك لمنفعة خارج إطار الحقوق الشرعية المعتبرة، يعتبر تجاوزاً للشريعة، وأي مس بمصالح الأمة من جهة الإستيلاء، أو التفريط، يعتبر تجاوزاً لحدود السلطة المخولة من طرف الأمة لأي حاكم. وبالتالي يكون السقوط في الإستبداد والظلم المنهي عنه شرعاً وعقلا. وقد أعطت الشريعة للأمة في هذه الحالة حقوقاً وضوابط للتعامل مع هذه النازلة مبينة في محله (27) .
ان التصدي للولاية لا يخرج عن كونه حسب النائيني ــ مجرد أجير أو أمين يحمد على إحسانه ويعاقب على إساءته، ولا يمكنه ان يجرد أفراد الرعية من حق الأعتراض، إذا ما اقترف تجاوزاً ما يخص حدود الشريعة أو مصلحة الأمة. لأن النقد والأعتراض، «غير مقيد بارادات السلطان التحكمية وميوله القلبية، وهذه السلطنة تسمى: المحدودة والمشروطة، والدستورية. والقائم بهذه السلطة يسمى الحافظ والحارس والمسؤول» (28) . والأمة المتنعمة بهكذا نظام تكون أمة «محتسبة وحرة وحية» (29) .
وقد تبلورت لدى علماء الشيعة الإمامية بعد عصر الغيبة والى الآن، عدة نظريات سياسية، يقول شمس الدين: «إن الراي المشهور عند فقهاء تلك الحقبة التالية لسنة الغيبة الكبرى، ذهبوا إلى عدم مشروعية العمل لأقامة حكم لإسلامي على مذهب أهل البيت(ع)، وحاولوا أن يستنبطوا صيغة للتعايش مع الوضع القائم استناداً إلى المبادىء الشرعية التي وضعها الأئمة المعصومون، والقواعد العامة في الشريعة، والأندماج في المجتمع السياسي، مع الاحتفاظ بالهوية الخاصة لخط الإمامة المعصومة في الحياة اليومية والعامة...» (30) .
ولكن ولضرورة وجود الحاكم لحفظ التجمع الإنساني، وتنظيم حاجاته المختلفة: «فإن الشيعة لايرون ــ كما يقول الشيخ محمد مغنية ــ أي بأس من الناحية الدينية بقيام اي دولة زمنية في هذا العصر والعصور السابقة، إذا حكمت برضا الناس واختيارهم، وأدت واجباتها كدولة صالحة تحفظ الأمن والنظام، وتصون لكل ذي حق حقه، وتحصن الحدود من الأعتداء، على شريطة ألا تتعرض للأديان من قريب أو بعيد...» (31) .
وإذا كان لا بد للناس من إمام برأو فاجر كما يقول الإمام علي عليه السلام، فإن الشيخ النائيني يقترح ضابطين رئيسيين لهذا الحكم للحيلولة دون قيام استبداد سياسي، يغتصب في آن واحد منصب الإمام الغائب وحقوق الناس والرعية. وهما:
1 ــ ايجاد دستور وافي بالتحديد المذكور يتضمن رسمياً كيفية إقامت تلك الوظائف، ودرجة استيلاء السلطان وحرية الأمة (32) . اي وضع الميثاق الاساسي الذي يحدد «طبيعة السلطة ودورها، وكذلك مجموع الحقوق والواجبات الأساسية للمواطنين، ويضبط نمط ممارسة السيادة أو تخويلها. أي شكل الحكم والحكومة، واختصاصات سلطات الدولة، وعمل وظائفها، والحقوق الأساسية للأفراد، واخيراً مشاركة المواطنين في ممارسة السلطة بواسطة الانتخاب» (33) ، أو المشورة وغيرها من الوسائل المؤدية لهذا الغرض.
وهذا الدستور الوافي كما ذكر الشيخ النائيني، لا يعتبر في صحة مشروعيته سوى عدم مخالفة بنوده للشريعة الإسلامية. فهو حسب هذا الفقيه الإمامي، يجب ان يكون مشابها للرسائل العملية التي يكتبها الفقهاء والمجتهدون لتقليد العامة لمعرفة الحلال من الحرام وجميع تفاصيل القضايا الدينية والتعبدية منها بالخصوص.
والحقيقة ان هذا الوصف فيه من الدقة والشمولية، وهو اقتراح جيد لو تعمل به الدساتير العربية والإسلامية اليوم. فالمسائل الإسلامية مبوبة ومفصلة بشكل دقيق لا تترك مسألة صغيرة أو كبيرة يحتاجها المسلم في حياته العملية إلا ذكرت وصفها وحكمها الإسلامي من حلال أو حرام، من وجوب أو ندب أو كراهية. وبالتالي فالدستور يجب ان يوضع على شاكلة هذه المسائل أو الفتاوى، ويوزع على نطاق واسع بحيث يحصل كل مواطن على نسخة منه، ليطلع عليها، ويعرف من خلالها حقوقه وواجباته داخل الدولة الإسلامية. وتبرز أهمية هذا الأقتراح العملي في كونه أهم وسيلة للتثقيف القانوني داخل الأوساط المجتمعية ومدخلاً ليس لمعرفة الحقوق والواجبات فقط، ولكن لإنتشار الوعي الحقوقي والسياسي على نطاق واسع. ولو تحقق ذلك لتقلص فعلا حجم الجهل وانتهاك حقوق الإنسان في العالم الإسلامي، سواء من طرف الحكومات أو من طرف المواطنين انفسهم.
2 ــ إحكام أساس المراقبة والمحاسبة (34) . وهذه المراقبة للسلطة ومحاسبتها لن تتأتى إلا عن طريق قيام مجلس لمندوبي الأمة، الخبراء في السياسة الداخلية والخارجية. مهمته الرئيسية مراقبة القوة الاجرائية ومنعها من السقوط في الأخطاء والاستبداد. على أن يكون المجلس ومندوبيه مسؤولين أمام الأمة بدورهم خاضعين لمراقبتها العامة.
أما مشروعية هذا المجلس وهؤلاء النواب فهي «بناء على أصول أهل السنة والجماعة حيث كان المعتبر عندهم اجماع أهل الحل والعقد لا غير. وأما بناء على مذهبنا ــ طائفة الإمامية ــ فيكفي لصحتها اشتمال هذه الهيئة المنتدبة على عدة من المجتهدين العدول أو المأذونين من قبلهم ومجرد تصحيحهم الآراء الصادرة وموافقتهم على تنفيذها كاف لمشروعية هذه النظارة..» (35) .
يراد بأهل الحل والعقد تلك الجماعة التي تتولى تنظيم أمور المسلمين الاجتماعية والسياسية والدينية وتشرف على تحقيق أهداف المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، وتمثل الأمة في اختيار حكامها وولاة أمرها، ورئيس حكومتها وقائد دولتها...» (36) .
على ان هذه المجموعة التي تتركز شرعيتها اساسا على مبدأ الشورى الإسلامي، لم يكن لها في تاريخ الإسلام وجودا واضحا ومحدداً كمؤسسة. وانما خضعت لتجاذب مختلف عبر التاريخ. كما ان مسؤولية أهل الحل والعقد، تكاد تنحصر في اختيار رئيس الدولة، الإمام أو الخليفة . اما غير ذلك من التدخلات في الشؤون العامة فان الوقائع التاريخية تضل غامضة وغير واضحة إلى حد بعيد.
بالإضافة إلى ان مفهوم المندوب أو النائب في الفكر السياسي الغربي المعاصر يختلف في كثير من جوانبه عما أنيط بأهل الحل والعقد من مسؤوليات قديماً. لكن الفكر السياسي الإسلامي المعاصر وسع أو حاول توسيع هذا المفهوم، لخلق روابط تجعل من أهل الحل والعقد هم نفسهم مندبو الأمة ونوابها المنتخبون في المجالس النيابية المعاصرة. داخل الأنظمة السياسية المعاصرة.
يقول الدكتور محمد غازي: «وهذا ما نص عليه ابن تيمية (ت 728هـت)، الذي يرى أهل الحل والعقد ليسوا إلا ممثلين للأمة. وكل ما يقومون به من واجبات، وما يعلمون من تصرفات هو بالنيابة عن جماعة المسلمين. وهي ليست تصرفات في حق أنفسهم بل هي تصرفات في حق جماعة المسلمين. حتى إذا بايع أهل الحل والعقد رجلاً، وامتنع الناس عن بيعته، لم يصر إماماً. وهذا الكلام في منتهى الوضوح والصارحة في كون أهل الحل والعقد ممثلين للأمة الإسلامية..» (37) .
وهذا الكلام على إطلاقه يثير المزيد من النقاش حول وظيفة هذه المجموعة كما عرفت في الماضي، ووظيفة المندوب أو المنتخب من طرف الأمة في الديمقراطيات المعاصرة ودوره في المجلس النيابي أو البرلمان الذي قد يتجاوز الاستشارة إلى تشريع الأحكام وتقنين القوانين. لكن الشيخ النائيني لم يناقش هذه التفاصيل الخاصة بعمل المندوب وطريقة وحوله إلى المجلس وحدود صلاحتيه. بل اقتصر كلامه هنا على أصل مشورعية عمل المندوب أو الهيئة المنتدبة، للقيام بعمل المحاسبة والمراقبة.
وذلك باشتراط وجود مجموعة من المجتهدين داخل هذه الهيئة أو المجلس، ينحصر عملها في مطابقة القوانين والتشريعات المقترحة، بالشريعة الإسلامية، وعدم تجاوزها للأصول الإسلامية المعتبرة. وإذا لم يكن هناك مجتهدون من ضمن هذه الهيئة، فلا بد من وجود «مأذونين» من طرف الفقهاء المجتهدين لممارسة هذا الحق السياسي. مع التأكيد على معرفة القوانين والتشريعات التي يصدرها المجلس من أجل التصديق عليها. ومن ثم يكتسي عمل المندوب في المحاسبة والمراقبة، صفة المشروعية، التي تلزم كلا من الحاكم ولارعية.
لكننا لا نعرف بالضبط دور الأمة التي سيكون المندوب مسؤولاً امامها، مادامت الهيئة متضمنة لمجموعة من الفقهاء المجتهدين، وأن تشريعاتها لا تصدر، إلا بعد تصحيح واذن هؤلاء الفقهاء أو مأذونيهم.
من خلال مناقشة الشيخ النائيني لمسألتي انشاء دستور وقيام هيئة منتدبة للمحاسبة والمراقبة، يتبين أن أصل مشروعيتهما عند الشيخ تنحصر في عدم مخالفة قوانين الدستور للشريعة الإسلامية، ومراقبة الفقهاء أو المأذونين من قبلهم لعمل الهيئة وما يصدر عنها وتصحيحه، كي لا يخالف مبادىء الشريعة وأصولها. وبالتالي ليس هناك أي إعتبار فعلي لغير ما ذكر من شكليات وأنماط أو أطر في العمل السياسي يسفر عنها التطور الإنساني. مادام الأصل في مشروعية أي عمل أو أي شكل من أشكال العمل السياسي، تكمن في عدم مخالفته للشريعة والإسلام؟!
وهذا رد مبدئي وعام على من يرفض بعض الإطارات والهياكل الجديدة التي يتم عبرها العمل السياسي. على اعتبار أنها مخالفة وأنها بدع لم يعرفها تاريخ الإسلام، كإنشاء البرلمانات وتنظيم الانتخابات العامة، وقيام منظمات ومؤسسات متعددة ذات مهمات تشريعة أو اجرائية وهناك أساس ثالث يدعم مشروعية مراقبة المندوبين للسلطة التنفيذية، ومحاسبتهم لها. وهذا الأساس هو حق الأمة العام في المسائلة والأعتراض. لذلك يتحدث الفكر السياسي الإسلامي المعاصر في هذا المجال عن «وجوب مسائلة الحكام» انطلاقاً من قوله تعالى: {ولا تركنوا للذين ظلموا فتمسكم النار} (سورة هود: آية / 113). وقول الرسول(ص): «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله بالعقاب».
من ثم فالأمة رقيبة على الحاكم باستمرار أولاً بما هي ملزمة من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثانياً بما هو واجب لها من حق الشورى، وثالثاً: بما هي مأمورة به من بذل النصح. رابعاً: بمالها من حق بوصفها الطرف الأول في عقد الإمامة. اذ هي بمقتضى ذلك العقل منحته حق الحكم وأمرته بالسلطة، وما هو إلا وكيل عنها. فلها الحق أن تسأله عن عمله..» (38) .
والمراجع لتاريخ الإسلام يرى أن هذين الأصلين ــ أي المحاسبة والمراقبة ــ قد عمل بهما في صدر الإسلام مما دفع بالمجتمع الإسلامي نحو الرقي والتقدم. لكن بني أمية سرعان ما أجهضوا هذه التجربة، عندما انقضوا على الحكم وحولوه من شورى إلى حكم استبدادي ملكي مطلق. ومن يومها وليل الاستبداد يزداد حلكة وانتشاراً، ويلف الواقع الإسلامي، دون أن تلوح في الأفق بشائر فجر الحرية والمساواة. وعليه فتبصر الملل الأجنبية ــ كما يقول الشيخ النائيني ــ وتتبعها تلك المبادئ الطبيعية. لذلك الرقي الهائل. واحاطتها بالقوانين الإسلامية من جهة، وسير طواغيت الأمة المسلمة القهقري من جهة أخرى. أدى إلى الحالة الراهنة من رجوع المسلمين إلى جاهليتهم الأولى، وابتلائهم بهذه الرقية الوحشية، ونشأتهم على هذه المنشأة الخسيسة النباتية (39) .
لقد حذر القرآن وأحاديث الرسول(ص) وأهل بيته، المسلمين من الوقوع في هذه المهالك والسبل ودعاهم لتجنب هذا الطريق، وأوضحوا لهم الوسائل للتحرر منها إذا ما ابتلوا بها. وقصص الأنبياء والمؤمنين وصراعهم مع الفراعنة والطواغيت. كثيرة في القرآن الكريم على رأسها قصة شعب بني إسرائيل مع فرعون مصر، الذي كان يقتل رجالهم ويستحي نساءهم، إلى ان بعث الله لهم نبيه موسى عليه السلام لتخليصهم من ذل العبودية. يقول أمير المؤمنين علي بن ابي طالب(ع). في إحدى خطبه يشرح محنة بني إسرائيل: «.... إتخذهم الفراعنة عبيداً، ثم يفسرها بقوله: فساموهم العذاب وجرعوهم المرار، فلم تبرح بهم الحال في ذلك الهلكة، وقهر الغلبة لا يجدون حيلة في امتناع، ولا سبيل إلى دفاع (40) .
ان مفهوم العبودية للحاكم ليس سوى انقياد الناس وخضوعهم لأرادته وتحكماته السياسية والملكية، على سبيل القهر والغلبة. أما الأنقياد والخضوع لأرباب المذاهب والملل فيكون عن طريق تملك القلوب بالحيلة أو التدليس وهو مصداق قوله تعالى {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} (41) .
«من هنا تظهر عندك جودة استنباط بعض علماء الفن حيث قسم الاستبداد إلى سياسي والى ديني، وربط كلا منهما في الآخر، وفرضهما تؤأمين متآخين يتوقف حفظ احدهما على وجود الآخر...» (42) . وإذا كان علاج الاستبداد السياسي منوط بتنبيه الأمة إلى حقوقها ونهوضها للمطالبة بها. فإن الاستبداد الديني اكثر صعوبة من ان يوجد له علاج ناجع فعال أو سهل يسير.
السؤال الكبير الذي يطرحه الفكر السياسي الشيعي، هو هل يجب على المجتمع الشيعي أن يعمل على تحديد السلطة وتقييدها بالقوانين والاجراءات التي تمنعها من الظلم واستبداد. مع الاعتقاد المسبق بعدم مشروعيتها الأصلية لأنها سلطة مغتصبة لمقام الإمام الغائب. وغير مأذونة لا من طرفه ولا من طرف وكلائه العامين أي الفقهاء جامعي الشرائط)؟.
يجيب الشيخ النائيني عن ذلك من خلال ثلاث مطالب:
1 ــ لا شك ان النهي عن المنكر من ضروريات الدين. وأنه واجب في حق من إرتكب منكراً أو منكرات متعددة دون ربط الأستطاعة بمجملها، فلو تحقق النهي عن منكر بعينه دون غيره من المنكرات لكان واجباً وضروريا. وهذا لا إختلاف فيه بين الفريقين السنة والشيعة.
2 ــ لا شك أن «الوظائف الحسبية» قد أوكلها الشارع في عصر الغيبة للفقهاء جامعي الشرائط، وبما أن حفظ بيضة الإسلام وانتظام المجتمعات الإسلامية، وضرورة بقائها، أهم من الأمور الحسبية، «لهذا كان ثبوت نيابة الفقهاء والنواب العمومين في عصر الغيبة على إقامة الوظائف المذكورة من أوضح القطعيات في مذهبنا» (43) .
يقول الماوردي: الحسبة هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المكر إذا ظهر فعله قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (آل عمران: آية / 104) (44) .
والحسبة تصح من كل مسلم، والفرق فقط بين المعين لوظيفة الاحتساب والمتطوع، فالمحتسب فرضه متعين، لا يجوز ان يتشاغل عنه، بل يجب عليه البحث عن لمنكر لأنكاره، البحث عما ترك من المعروف للأمر بفعله واقامته. وحسب الماوردي للمحتسب الحق في «ان يتخذ على انكاره أعواناً لأنه عمل هو له منصوب وإليه مندوب ليكون له أقهر وعليه أقدر» (45) ن وعمل النواب والمراقبين للسلطة التنفيذية يدخل اذن في عموم الحسبة. فلهم الحق في النهي عن كل ظلم تمارسه السلطة وحثها على عمل كلما يحقق مصلحة الأمة يحافظ على منافعها.
والحسبة هنا هي أحدى مظاهر الولاية العامة للأمة على نفسها وهي «ثابتة للمجتمع بالإستقلال في أصل الشرع وهي ثابتة في معظم مواردها» (46) . وقد استدل الفقهاء على ذلك كما يقول الشيخ شمس الدين بــ «عمويات من الكتاب السنة، والإجماع، وضرورة العقل الحاكم بوجوب حفظ النظام» (47) .
3 ــ اتفاق علماء الإسلام على انه يمكن تحديد تصرف الغاصب إذا لم يكن دفعه عن الموقوفة المغتصبة. وذلك باتخاذ بعض التدابير، كإقامة هيئة ناظرة مهتمة بذلك الوقف.
وهذه المطالب الثلاثة تشكل أهم الركائز الشرعية في وجوب تحديد السلطة الجائرة، وتحويلها إلى سلطة عادلة شرعية. وعمل النواب والمنتدبين من طرف الأمة في هذا التحديد والمراقبة. كعمل مجموعة من النظار في إصلاح العين الموقوفة المغتصبة.
ورفع يد الغاصب عنها أو تحديد تصرفه على الأقل. وهذا ما اتفقت عليه آراء مجتهدي المذاهب الفقهية الإسلامية وعلى رأسهم فقهاء الإمامية.
[2]
الشورى في الصطلاح الشرعي هي: «استطلاع رأي الأمة المسلمة، أو من ينوب عنها. في الأمور المتعلقة بها (الشؤون العامة) لمعرفة الراي والصواب أو الحق فيها. لأن العقول إذا ما اجتمعت وتشاورت، وضح السبيل أمامها أو توضحت السبل أمامها. كالمصابيح التي باجتماعها يزداد النور...» (48) .
وقد نص القرآن على هذا مبدأ الشورى، قال تعالى {وشاورهم في الأمر} ومعلوم أن الآية تخص مجمل الأمور الحياتية والسياسية وليس التشريع في اساس الأمور العبادية، وكذلك قوله تعالى {وأمرهم شورى بينهم} (49) . والأمثلة التطبيقية لهذا المبدأ على عهد الرسول كثيرة، حيث كان صلى الله عليه وآله وسلم دائم التشاور مع أصحابه وذوي الفهم والخبرة منهم في كثير من المجالات والمواقف. وهو القائل(ص):«أشيروا علي أصحابي» وقد استشارهم في موقعة أحد. فكان رأي الأغلبية الخروج للحرب، فخرج(ص) مع أنه كان يرى عكس ذلك.
أما تطبيقات الشورى في عهد الخلافة الراشدة فأكثر من أن تحصى حيث كان الخليفة الأول أبو بكر الصديق ومن بعده عمر بن الخطاب يسألان الصحابة في مجمل القضايا. ويطلبان رأيهم قبل الفصل فيها. وخصوصاً القضايا الهامة التي لها إرتباط كبير بمصير الأمة ومصالحها المباشرة، وكم حدث بينهم من تنازع بسبب ذلك.
ولما تولى الإمام علي الخلافة، درج على مشاروة أصحابه في مجمل الأمور، بل كان يطلب منهم النصيحة ويحثهم على ابدائها، دون خوف أو تهيب، يقول في خطبته له بصفين: «فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفضوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالممانعة، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي، ولا إلتماس اعظام لنفسي فإنه من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل ان يعرض عليه، كان العمل بهما عليه أثقل. فلا تكفوا عن مقالة بحق، و مشورة بعدل..» (50) .
وعليه فإن النصوص القرآنية والحديثية الخاصة بموضوع الشورى، بالإضافة إلى سيرة الرسول والخلفاء الراشدين من بعده وعملهم بالشورى في جميع القضايا، تعتبران التأسيس الشرعي «للركن الأول للنظام السياسي في الإسلام، بل جوهر هذا النظام في نهاية المطاف، جملة وتفصيلاً، لأنه إذا كان لابد لكل نظام من مبدأ أو ركيزة يقوم عليها، فإن ركيزة النظام السياسي الإسلامي هي الشورى» (51) .
أما الشيخ لنائيني فيؤكد هذا الفهوم المجمع عليه للشورى. ويرى أن الرسول(ص) والإمام علي في مشاورتها انما كانا يضعان الأساس للسعادة المتمثل في اعتماد الشورى كسلوك سياسي بعيداً عن التصور الاستبدادي الفرعوني للحكم. فمشاورتهما لم تكن خوفاً من عدم إصابة الحق، لأن مقام العصمة ينافي ذلك. ولكن عملهما بالشورى كان لترسيخ أصلين مهمين وهما «حرية الأمة ومساواتها مع شخص الخليفة في الحقوق النوعية» (52) .
وبناء على ذلك فالتحفظ على السلطنة وتحديدها من آكد الفروض الملزمة لنا اليوم، ومجمل الأحاديث والروايات والوقائع التاريخية في هذا المجال هي بمثابة السيرة الإرشادية لكل حاكم أو خليفة أو والي يتصدى لتسيير أمور المسلمين.
وهنا لا ننسى الجدل الذي دار وما يزال بدور حول إلزامية الشورى من الناحية الشرعية لأنه وجد من الفقهاء من لا يرى بالزاميتها للحاكم، وهم بذلك ينتصرون للإستبدادويدعمون الحكم المطلق. لأنه بغض النظر عن الوجوب الشرعي فإن «انفراد شخص بالفصل في أمر عام يتعلق بالجميع دون اعتبار للآخرين، ظلم واجحاف، وهو يتضمن ــ أيضاً ــ نوعاً من تعظيم النفس واحتقار الآخرين، وهي صفات اخلاقية مذمومة لا يمكن ان توجد في المؤمن ذرة منها» (53) .
لذلك يبدي الشيخ النائيني تعجبه ممن يسميهم «زعماء الاستبداد الديني» ويقصد بهم معارضوا الحكم المشروط في إيران من فقهاء ورجال دين، الذين غضوا أبصارهم عن هذا الحجم الهائل من الأحاديث والروايات والوقائع التاريخية التي تدل على العمل بالشورى في حياة الرسول(ص) والأئمة. وترانا ــ يقول النائيني ــ عوضا من أن نقول في حق الشورية العمومية هذه بضاعتنا ردت إلينا نعدها مخالفة للقانون الإسلامي (54) .
والغريب في الأمر انه بعد مرور قرابة مائة سنة تقريباً على هذا القول، أي رفص النظام الشوري أو الديمقراطي بحجة انه مخالف للإسلام ــ نجد الشيخ يوسف القرضاوي وهو فقيه وأصولي معاصر يرد على من يعتبر الديمقراطية من قبيل الكفر!!
يقول القرضاوي: ان جوهر الديمقراطية ــ بعيد عن التعريفات والمصطلحات الأكاديمية ــ ان يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم. والا يفرض عليهم حاكم يكرهونه. أو نظام يكرهونه، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا اخطأ، وحق عزله إذا إنحرف. وألا يساق الناس إلى اتجاهات ومناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها. فإذا عارضها بعضهم كان جزاءه التشريد والتنكيل، بل التعذيب والتقتيل...
فهل الديمقراطية في جوهرها الذي ذكرناه ــ تنافي الإسلام؟ ومن تأتي هذه المنافاة؟ وأي دليل من محكمات الكتاب والسنة يدل على هذه الدعوى (55) ؟.
وبعدما يؤكد الشيخ القرضاوي على أن جوهر الديمقراطية من صميم الإسلام يقول: «لقد قرر الإسلام الشورى قاعدة من قواعد الحياة الإسلامية، وأوجب على الحاكم أن يستثير، وأوجب على الأمة أن تنصح حتى جعل النصيحة هي الدين كله. ومنها النصيحة لأئمة المسلمين، أي أمرائهم وحكامهم (56) .
لكن ومع هذه الردود القوية، وما قدمته من أدلة عقلية ونقلية. مازال زعماء الإستبداد الديني يدعمون الإستبداد السياسي بمغالطاتهم وآرائهم التي ينسبونها للدين. وسنأتي بعد قليل على ذكرها كما حددها الشيخ النائيني.
وإذا كانت الشورى أساس الحكم الإسلامي بنص القرآن والسنة، وتحديد السلطة أضحى من ضروريات الدين فلابد لتحقيق وجودهما من الإستناد على «قوة خارجية رإدعة ومسددة تقوم بقدر القوة البشرية مقام القوة العاصمة الإلهية، ولا أقل من أن تحل محل القوة العملية وملكة العدالة» (57) ، وبالتالي فوجود هيئة ناظرة أو مجلس المندوبين من الأمور المسلمة والضرورية. لأنه سيقوم بمراقبة وتسديد عمل القوة الأجرائية والتنفيذية التي تكون وظائفها وأعمالها قد حددت سلفاً طبقاً للقوانين والتشريعات المنصوص عليها. وبذلك نكون قد أغلقنا الباب وأحكمنا إغلاقه على بروز حالة الإستبداد السياسي أو استفحالها. وهذه المرحلة تعتبر من أهم المراحل التي تصبح الأمة فيها منتبهة لحقوقها، ممارسة لحرياتها، متحررة من كل رقية أو طغيان.
وإذا كان لهذا المجلس النيابي بحكم الشورى والالتزام بقواعد القانون والشريعة، قدراً من العصمة تمنعه من الوقوع في الخطأ تماشياً مع ما قرره علماء الإمامية، ومحققاً لملكة العدل والتقوى والعلم التي إشترطها علماء أهل السنة في أهل الحل والعقد، فاعلم ــ يقول الشيخ النائيني ــ بأن الركن الأعظم لهذا التحفظ، الأصل لهذه المراقبة هو وضع الدستور» (58) ، الذي بموجبه ستتحدد الوظائف والقوانين المنظمة للمسؤوليات وحقوق جميع الأفراد والمؤسسات. فهو بمثابة رسالة عملية سياسية توضع بين يدي المواطنين لمعرفة الحقوق والواجبات كما أسلفنا. وهذه القضية رغم وضوحها وصلاحيتها وعدم منافاتها للعقل أو الشرع، لكننا عشنا قرون طويلة، كما يقول النائيني لا نرى لداء الإستبداد الذي ينخر كياننا علاجاً، وان كانت الأمم قبلنا قد تجرعت الألم من جراء نفس الداء، مما حفزها لايجاد الدواء والعلاج الشافي لهذه العلة الخبيثة. ومن ثم أحرزوا تقدماً وسبقاً علينا.
إلا أننا ومع استطاعتنا استنباط مثل هكذا علاج من أصول شريعتنا وموادها، إلا أننا إكتفينا بانتظار القائم (المهدي المنتظر). أو دعم هذا الإستبداد وإيجاد المبررات الشرعية والواقعية له. بتأويل النصوص الدينية أو تفسيرها بما يتلائم مع ميولات الحكم السياسي. ولاحقيقة ان هذا ما درج على فعله طائفة من علماء وفقهاء الفريقين السنة والشيعة عبر القرون الماضية وما زالوا.
وهكذا اجتمع على هذه الأمة المنكودة الإستبدادين السياسي والديني. وراحا يهدمان بمعاولهما أساس كيانها، معرضين بيضة الإسلام لخطر التشرذم الداخلي، وهجمة الإستعمار الأجنبي الذي يتربص خلف الحدود ينتظر الفرصة للوثوب على آخر ما تبقى من أراضي وخيرات العالم الإسلامي (59) .
تعرضت الدعوة إلى «المشروطة» في إيران العراق إلى موجة مناهضة من طرف «دعاة الاستبداد» السياسي، لدرجة أنهم انطلقوا ينشرون مجموعة من المغالطات والشبهات لصرف العوام عن تأييد النظام الديمقراطي، وذلك بحجج مختلفة ينتظم أغلبها في كون الحياة النيابية وتشريع الدستور يفضيان إلى مخالفة الشرع وهدم بعض أسسه.
لذلك فقد حمل الشيخ على عاتقه مهمة الرد وتنفيذ هذه المغالطات وذلك «بدحضها بأدلة وبراهين» (60) ، مقتصرا على أساسين مهمين لهذه المشروطة وهما الحرية والمساواة، والشورى كمنهج في الممارسة السياسية.
ـ المغالطة الأولى:
وتخص أصل الحرية، حيث جمع دعاة الإستبداد بين المطالبة بها وبين التحرر من أحكام الشريعة. مع أن الحرية مطلب انساني أصيل لا يتعارض الأصول التي انبتت عليها الديانات السماوية، التي جاءت لتحرر الإنسان من جميع العبوديات وتحقيق عبوديته الحقه والخالصة لله وحده. بل لقد حث الدين على مقاومة الأهواء والرغبات الفاسدة والتحرر منها لأنها تعتبر شكلاً من أشكال العبودية لغير الحق. وعليه «فالمشاجرات الواقعة فيما بين الأنبياء والأولياء مع فراعنة السلف وكذلك الواقعة فيما بين اتباعهم وأخلافهم مع طواغيت الخلف، هي كلها من أجل استنقاذ هذه الموهبة العظمى من مغتصبيها لا غير. كما يقول الشيخ النائيني (61) .
إن الإستبداد السياسي وخوفاً من تحرر الشعوب من تحكماته الشهوانية وتملكه المطلق لمنافعها، ما فتئ يستنجد بالإستبداد الديني الذي هو إحدى صنائعه ــ يثير الشبهات وينفر العامة من السير نحو التحرر والديمقراطية السياسية على اعتبار ذلك انما هو تحول نحو الأخذ بمبادئ الكفار، بل اعتناقاً للمسيحية. لأن هذه الصيغ الجديدة في الحكم انما نمت وترعرعت هناك في بلاد الغرب المسيحي.
وهذه الشبهة كان لها مفعولها القوي ليس في بداية هذا القرن، بل استمر إلى يوم الناس هذا فهناك عدداً كبيرا ممن ينتسب إلى التيارات السلفية المعاصرة، من يرفض الديمقراطية جملة وتفصيلا ويعتبرها من قبيل الكفر لأنها من إنتاج الكفار. وبالتالي يصدر حكمه القاطع عليها باعتبارها حرام آثم من تلبس بها.
وقد راينا كيف رد الشيخ القرضاوي على هؤلاء، وقبله الشيخ محمد الغزالي في كتابه «الإسلام والإستبداد السياسي». وغيرهم من المفكرين الإسلاميين المتنورين الذين نظروا للحرية التي تنادي بها الديمقراطية، كمبدأ إسلامي أصيل يناقض ما يصبو له الإستبداد السياسي من تقييد للحريات، بل إلغائها بالمرة في كثير من الأحيان. وشيوع العبودية المطلقة للحاكم وللنظام السياسي الذي يبني ركائزه على هذه العبودية.
طبعاً لم تكن حجج دعاة الإستبداد تنتصر بالمغالطات فقط، وانما كانت تتخذ بعض المظاهر الحياتيه في الغرب دليلاً على أن الحرية المناداة بها ستؤدي حتما إلى السفور وخروج النساء من المنازل عاريات كاسيات، وشوع التفسخ والأنحلال الخلقي والأخلاقي، على اعتبار ان هذه الأوضاع هي احدى أهم النتائج التي أسفر عنها الإيمان والعمل بالديمقراطية الغربية، والمناداتها بالحرية الفردية والجماعية. كما تخوفوا من «أخطار حرية الصحافة والمطبوعات التي يمكن أن تفتح طريقاً للأفكار والآراء الالحادية الغربية» (62) .
لكن الإستبداد السياسي وان كان يشجع هذه المغالطات، لم يكن في حقيقة الأمر يهتم بصلاح الناس أو إلتزامهم بالأعراف والعقائد الدينية. لأننا وبعد قرون من رفض الشورى والديمقراطية، وتقييد الحريات الشخصية، نجد أن مجتمعاتنا تنغمس في جميع الرذائل التي أسفر عنها إطلاق الحريات الخاصة بشكل مفرط في الغرب، في نفس الوقت الذي نعاني منه من جميع أشكال الإستبداد السياسي الذي أصبح نمطا مألوفا لدى الشعوب المسلمةٍ، وهي تمارس الحكم أو تؤسس للأنظمة السياسية.
ــ المغالطة الثانية:
وتخص أصل المساواة التي ما فهم منها دعاة الاستبداد سوى انها دعوة للتسوية في الأحكام ورفع جميع الامتيازات والخصوصيات الذاتية والموضوعية. كما توسلوا في هذا المجال بــ «التعارض بين تفوق المسلم من جهة والاعتراف رسميا بمساواة كل المواطنين امام القانون بصرف النظر عن دينهم من ناحية اخرى..» (63) .
مع أن هذا التفسير للمساواة، مخالف لمبادئ العقل ولم تدعو له الديانات السماوية. فالأختلاف في القدرات والعطاءات والكفاءات من القضايا العقلائية والواقعية التي لا خلاف حولها بين عقلاء الأمم. «ان قانون المساواة من أشرف القوانين المأخوذة عن السياسات الإسلامية، بل مبنى العدالة وأساسها وروح هاتيك القوانين» (64) ، كما يؤكد الشيخ النائيني. فالناس سواسية أمام القانون والشرع الإسلامي، وهم قبل ذلك متساوون في أصل الخلقة. فالخلق كما يقول الإمام علي عليه السلام في عهده للأشتر، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق. وهذا ما أكد عليه بوضوح البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 19/ أيلول / 1981م: «الناس جميعاً سواسية أمام الشريعة «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى» ولا تمايز بين الأفراد في تطبيقها عليهم: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» ولا في حمايتها إياهم: «ألا أن أضعفكم عندي قوي، حتى آخذ الحق له، أقواكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه» (65) .
لكن أعداء «المشروطة» أو الحكم الحكم المشروط، لما أدركوا ان أصل المساواة سيجعلهم وأفراد الأمة سواء في تحمل المسؤولية أو الأستحواذ على المنافع المادية راموا تحريفهٍ، وتشويش فهمه في نظر العامة، بل ألبسوه حللا مزيفة لا تليق به. هذا مع ان وضع الدستور انما لحفظ القوانين وتوضيحها وترتيبها لمعرفة حدود الاستيلاء، وخصائص الوظائف الإجرائية، وتنظيم المسؤوليات العامة داخل الدولة. وهذه الأجراءات والتقنينات لا تختص بالأعمال التعبدية أو القضايا الشرعية التي يرجع فيها إلى كتب ورسائل الفقهاء المجتهدين، ومن هم في مرتبة مراجع التقليد لدى العامة. لقد وقع خصوم «المشروطة»، في خلط بين قوانين الدستور المنظمة لوظائف السلطة وبين الأحكام الشرعية، وبذلك أظهروا جهلهم الواضح بمبادى المشروطة وما تختص به.
ــ المغالطة الثالثة:
«هذه هي المغالطة العظيمة التي ألقاها الاستبداديون في مقابل الدستور» (66) ، ومفادها أننا لسنا بحاجة إلى قانون أو دستور. مادام القرآن والسنة هما قانوننا السماوي الذي نزل به الوحي. وعليه فالبحث عن قوانين جديدة أو استيرادها من الكفار هو بدعة وضلال بل وخروج عما دعت إليه رسالة الإسلام.
أما الرد على هذه المغالطة فيأتي على مطلبين كما يرى الشيخ النائيني:
ــ المطلب الأول: يختص بالكشف عن هذه القوانين المجهولة في الدستور، هل هي مخالفة للشريعة حتى يصدق عليها عنوان البدعة. على ان مفهوم البدعة لا يدخل تحته أي اجتهاد خاص لفرد أو جماعة لأكتشاف طريقة أو أسلوب ينظم حياتهم أو معاشهم ويحقق لهم المصالح الموجوة.
سواء أصبح هذا الأجتهاد عرفاً يعمل به، أو قيد في إطار ما يحفظ العمل به ومراجعته. والمهم هنا ان لا يعتقد انه قانون إلهي ملزم.
ــ المطلب الثاني: ان الأمور الغير واجبة بالذات قد تصبح واجبة بتحلف يمين أو نذر أو أي من الأوامر اللازمة الطاعة، «والاشتراط ضمن العقد اللازم أو غير ذلك، تكون كذلك لازمة العمل وواجبة بالعرض أيضاَ إذا توقف عليها وجود الواجب وهذا من الضروريات العقلية» (67) .
لقد أشارت الشريعة إلى بعض المقدمات صراحة لأن لا سبيل لتحقيق الواجب إلا بها كوجوب الوضوء والغسل للصلاة. «وعلى هذا النسق فإن الاخذ بالدستور وتطبيقه عندما يكون شرطاً لازماً لرفاهية المسلمين وأمتهم وتقدمهم يصير واجباً. وجدير بالإهتمام ان نذكر أن أهل السنة عادة وبمقدمة أخرى كما يقول ــ أحمد عنايت ــ يصلون إلى نفس النتيجة أي القول بالمصلحة وهي لغة تعني المصالح أو الرفاهية بمعنى ان المصلحة العامة ينبغي ان تكون ذات اولوية في ترجيح الفقهاء وتحديدهم. لكن لأن الشيعة لا يقولون بالمصلحة فانهم يستبدلونها بالمقدمة الواجبة كسلاح لرد اي اعتراض يمكن ان يوجه إلى التقنين البشري في مجال لم يصل فيه مجوز شرعي محدد (68) .
وعليه يصبح وجوب وضع دستور محدد من المسلمات العقلية البديهية لأن تحديد السلطات السياسية وبيان وظائف القوة الأجرائية ومسؤوليات آحاد الأمة أمام القوانين الموضوعة. تجعل من وجود دستور مفصل وواضح لجميع القوانين ضروريا. دون أن يدعي ان هذا الدستور مندرج تحت عنوان التشريع الإلهي.
وهذه الغالطة هي نفسها التي روج لها ــ حسب الشيخ النائيني ــ جملة من جهلة الأخباريين (69) ، الذين اعتبروا الرسائل العلمية التي يكتبها المجتهدون لتقليد العامة في عصر الغيبة. على أنها مقابلة لصاحب الشريعة. من هنا يتبين مدى الخلط بين مفهوم البدعة وحقيقة الدستور وقوانينه.
ــ المغالطة الرابعة:
وتتعلق بوضع الملجس النيابي، الذي خصه ونوا به، دعاة الإستبداد بوافر من الشتائم والشبهات. لأنه الطريق الأفضل لتحديد الظلم وتقييد السلطات الجائرة من هذه الشبهات:
أولاً: الخلط الذي وقع فيه بعض العامة عندما اعتبروا تدخل النواب بمثابة التدخل في شؤون الإمامة. وهذا شكل من أشكال الغصب لمقام الإمام الغائب. والرد على هذه الشبهة متيسر «اذ ليس الغرض من بعث المبعوثين إلا تحديد الإستيلاء الجوري وكف الغصب والظلم» (70) ، فكيف نخلط بين الأمرين، على أن هذا التدخل لا يختلف مع ما يجب أن يقوم به أهل الحل والعقد ضمن أسس أهل السنة والجماعة الذين إشترطوا تدخلهم واستشارتهم والأخذ باجتهاداتهم وآرائهم، خصوصاً إذا ما اجمعوا عليها.
ثانياً: هناك فريق آمن بلزوم تحديد السلطة وقيام هيئة ناظرة لمراقبة السلطة وسير القوانين. لكنهم أشكلوا على كون المنتخبين من عامة الناس. وهذا يخالف انحصار الولاية الحسبية في النواب العموميين. (أي الفقهاء والمجتهدون الجامعون للشرائط) للإمام الغائب.
وبالتالي فانتخاب هؤلاء سيكون بمثابة إغتصاب جديد لمقام الإمامة. لكن الشيخ النائيني يرد هذا الشكال بان «لعموم الملة حق المراقبة والنظارة نظر إلى أن أصل السلطنة شورية» (71) . بالإضافة إلى عدم لزوم تصدي المجتهد لمثل هذه الأمور. انما يكفي إذنه كما يمكن لعدول المؤمنين القيام بذلك، وكذا غيرهم إذا فقدوا. وهذا الرأي نجد قريباً منه لدى فقهاء أهل السنة والجماعة، بحيث لم يشترطوا درجة الاجتهاد في أهل الحل العقد.
وان كان هناك قول به، فالماوردي يرى ان «كونهم بدرجة المجتهدين ليس شرطاً لازماً» (72) . أما الشيخ رشيد رضا «العلم اللازم لأهل الحل والعقد في رأيه، يجب أن يكون بمعناه الواسع، فيدخل فيه علم الدين وعلم السياسة وغيرهما من العلوم، ويكفي ان يكون كل منهم عالماً، بل يكفي توافر العلم في مجموعهم، وإذا توافر الإجتهاد في مجموعهم، فلا بأس ان يكون بينهم غير عالم (73) .
وعليه فقد اتفقت آراء الفريقين تقريباً على عدم اشتراط الأعلمية المرتبطة بالإجتهاد الفقهي. في نواب أو ممثلي الأمة في المجلس النيابي.
وتبرز هنا مشكلة معتبرة، مفادها ان من مهام المجلس وواجباته ان يقدم ويصدر الحلول للقضايا المستحدثة التي تواكب تطور المجتمع الإعلامي.. لكننا نجد أن الشيخ النائيني سبق له أن أجاب على مثل هكذا إشكال، عندما اشترط وجود فقهاء مجتهدين داخل المجلس مهمتهم مراقبة شرعية القوانين الصادرة. بل ان هذه المراجعة يمكن أن تتحقق من خارج المجلس نفسه، إذا كان للفقهاء أو المجتهدين سلطة معينة تخول لهم مراجعة القوانين الصادرة والتعليق عليها قبولا أو رفضا.
ومن ثم فشرعية اعمال المجلس النيابي تكون متحققة بهذا الشرط فقط لا غير. لكن هناك فكرة مهمة تعرض لها البعض ومنهم الماوردي، وفصل فيها العاصرون. وتخص صفة العدالة التي اشترطها الماوردي مثلا في أهل الحل والعقد. وشرح العدل بأن «يكون مجتنبا للكبار، ولا يكون مصرا على الصغائر، ويكون صلاحه اكثر من فساده، وصوابه اكثر من خطأه» (74) . الحقيقة ان صفة العدل مهمة جداً في نواب الأمة، يظهر ذلك جلياً في ممارسات هؤلاء المنتخبين وعملهم داخل المجلس ونشاطهم لتحقيق الصالح العام تشريعاً وممارسة.
فانتفاء صفة العدالة، تعني حصول ما نشاهده اليوم من تلاعب بإرادة الأمة، وتقديم المصالح الشخصية ــ والدخول في مزايدات تخدم المنفعة الشخصية، وصولا إلى تمكين الإستبداد السياسي من جديد، وافساح المجال له للظهور من جديد، أقوى وأخطر من ذي قبل. أي قبل انشاء المجلس النيابي للمراقبة والتحديد.
ونماذج هذه الممارسة اكثر من ان تحصى في واقع العالم الإسلامي. حيث المجالس المنتخبة والنواب في خدمة الإستبداد السياسي الجديد. وذلك لأن من تنتخبهم الأمة لا تتوفر فيهم صفة العدالة. وإذا أضفنا إلى ذلك التهاون في تحقيق الأعلمية بالشؤون السياسية بشكل عام، تكون الكارثة مفجعة. فهناك من النواب من لا يعرف الكتابة أو القراءة ولا يعرف أين تقع بلده على الخارطة السياسية أو الجغرافية العالمية. ناهيك عن الجهل المطبق بقضايا الإقتصاد والعلاقات الدولية والقوانين الحاكمة والمنظمة لها عالميا ومحليا. وبالتالي لا نستغرب عندما يصادق مثل هؤلاء على مشاريع أو قوانين في غير مصلحة الأمة. بل ربما كانت وسيلة مخطط لها بدقة من طرف الدوائر المعادية لتخريب مكتسبات المجتمع ونهب ثرواته. وهذا مما لا يحتاج إلى دليل، فالواقع الإسلامي أصدق إنباء من الكتب.
على أن الشيخ النائيني لم يعترض بتاتاً على كون النواب من المجتهدين، لكنه يرى استحالة ذلك في ظروفه التاريخية آنذاك فجر هذا القرن. اذ كان متعسراً جمع الفقهاء والمجتهدين في مجلس خاص، يكون بمثابة مجلس نواب الأمة. بالإضافة إلى تخوفه من تعرض الفقهاء إذا ما راموا انشاء مثل هذا المجلس إلى المضايقات والإهانات، لأنهم سيدخلون في صراع سياسي مفتوح مع السلطة الزمنية القائمة. والشيخ النائيني كفقيه شيعي إمامي يعرف كيف يدار الصراع السياسي في العالم الإسلامي قديماً وعلى عهده. فليس هناك سوى الإنتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان أقلها القتل. بل ربما تعدى الأمر إلى القضاء على المذهب نفسه أو الإسلام بشكل عام.
فالملك في العالم الإسلامي عقيم كما عبر عن ذلك أحد ملوك بني العباس، وحذر ابنه من مغبة الأعتراض أو التمرد، فلو نازعه الملك لأخذ الذي فيه عيناه؟!
وغاية ما يمكن الوصول إليه في هذا المقام حسب الشيخ «هو تكوين أصل الانتخاب ومداخلة المنتخبين بإذن المجتهد النافذ الحكومة، بعد أن تكون الهيئة المنتخبة مشتملة على عدة من المجتهدين العظام على وجه الأطراد والرسمية لتنفيذ وتصحيح الآراء الصادرة» (75) .
ثالثاً: شبهة ان الوكالة الشرعية لا تنطبق على الهيئة الناظرة. طبعاً إذا صح عنوان الوكالة على عمل المنتخب، مع أنها منطبقة على الجهة المالية. وهذا الأشكال عند النائيني لغوي لفظي ليس إلا.
رابعأً: ان أساس الشورى الإسلامية هو الأخذ برأي اكثرية العقلاء، وترجيح ما اتفقوا عليه عند التعارض فمن «الماثور عند تواتر نقل الرواة من الفريقين (السنة والشيعة) موافقة النبي(ص) لأكثرية آراء أصحابه في مواقع عديدة..» (76) ، وكذا الإمام علي في قضية التحكيم مثلاً. وهذا مما يفند القول بأن النباء على رأي الأكثرية بدعة كما يدعي خصوم الشورية والديمقراطية.
إن أكثر هذه الشبهات التي عرض لها الشيخ بالنقض والرد. إنما أوردها أصحابها للحيلولة دون انتشار قيم المساواة والعدل وممارسة الشورى السياسية والتحرر من الاستعباد والرقية.
ووقوفاً أمام رياح التمدن الغربي التي ستجتاح بشكل سلبي واقع الأمة الإسلامية، إذا لم نحسن التعامل معها بشكل إيجابي، بأخذ ما يصلح لنا لدعم وترسيخ رقينا الحضاري وتفعيل انطلاقنا الحيوي من جديد نحو بناء مستقبل اسلامي واعد. مادامت الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها، قاعدة إسلامية قد تحدد لنا طريقة التعامل مع المعارف والمتغيرات الجديدة والمتجددة.
لقد كان الاستبداد السياسي ومازال يشكل أساس تخلف الأمة، يدعمه ويقويه الإستبداد الديني الذي يبرر الظلم ويوجد الإشكالات الواهية للتغدير بالعامة. وإذا لم تتخد المبادرة المطلوبة في هذه القضية. فإن أمرنا صائر للتهلكة والإنغماس في التخلف والتشرذم وهذا مالاحت تباشيره على عهد النائيني فجر هذا القرن. أما الآن فهو حقيقة تعايشنا معها، وأصبحت جزءاً من واقعنا العربي والإسلامي اليومي؟ .
ــ شروط التدخل:
لقد خص الشيخ لهذه القضية الفصل الخامس بأكمله، وذلك لأهميتها، بالرغم من أنه سبق وأن تحدث عن هذه المشروعية بشكل عام. لكنه هنا سيتحدث عن قضايا دقيقة انتبه لها هذا الفقيه الإمامي فجر هذا القرن. والتي لو عمل بها الآن لتم تصحيح مسيرة الديمقراطية في العالم الثالث برمته.
فهو بعد ان أكد على ان الشرط الوحيد لمشروعية تدخل النواب في الحكم أو الوظائف الحسبية، هو اذن الفقيه المجتهد أو وجود عدد من المجتهدين داخل المجلس النيابي لتسديد آرائه، وجعلها موافقة للشريعة الإسلامية. سيتكلم بالتحديد عن الصفات النفسية والكمالات المعتبرة في اشخاص النواب والمنتدبين فيذكر مثلاً:
1 ــ ان يكون النائب مجتهداً على المستوى السياسي إلى حد ما، يجعله عارفاً بأسس العلاقات مع الأمم الاجنبية مثلا، من حيث الخطورة أو المصلحة. فلو إجتمعت الفقاهة السياسية بالإجتهاد الديني فإن مصلحة الأمة الإسلامية ستتحقق دون شك، وهذا مطلب شرعي وعقلي. وقد ذكرنا قبل قليل كيف انتبه بعض المفكرين الإسلاميين لهذه الصفة أو الميزة، بعد النائيني بسنين عديدة.
2 ــ التلبس بالنيات السليمة البعيدة عن تقديم المصالح الشخصية. لأن عكس ذلك سيعني فسح المجال من جديد للظلم والاستبداد السياسي.
3 ــ الوطنية الحقيقية والرغبة الصادقة في خدمة الأمة والوطن، وإعتبار، كما يقول النائيني: «أن جميع أموال آحاد الأمة وأعراضهم ونواميسهم كماله وعرضه وناموسه» (77) ، والدفاع عن الإسلام والحرص عليه. أمام الفرق الغير إسلامية كأهل الكتاب وغيرهم ممن لا يدينون بالإسلام، لكنهم مواطنون في دولة الإسلام، ولهم من يمثلهم في المجلس النيابي. فإن الدفاع عن الإسلام بالنسبة لهم يفسر أو يترجم بالدفاع عن الوطن والحفاظ على كيانه وهذا معلوم بالضرورة العقلية.
ان عمل النواب منحصر في السهر على تطبيق وترتيب القوانين المنظمة للإجتماع الإسلامي، ولا علاقة لهؤلاء النواب بالأمور الفتوائية الخاصة بالشريعة الإسلامية كالصلاة والزكاة وباقي الأمور التعبدية. فالمجلس النيابي يعتبر أجنبياً عن هذه الوظائف الدينية الخاصة. أما أعماله فهي مقيدة بعدم مخالفته للشريعة الإسلامية نصا أو عملاً. وهذا مما يكلفه وجود مجتهدين بين أعضائه.
لكن هناك قضية مهمة لم يتغافل عنها الشيخ النائيني. وتخص الجماهير أو الأمة التي ستختار هؤلاء النواب. فلا بد من وجود وعي سياسي لديهم يجعلهم يحسنون اختيار أفضل من يدير شؤونهم. وهذه قضية متفرعة وذات شجون في العالم الإسلامي.
فكيف يتحقق ذلك والأمية ضاربة بأطنابها في جميع الطبقات الشعبية. أما الوعي السياسي فهو أبعد من الثريا في كبد السماء. وعليه فإن شروط الديمقراطية الصحيحة لا تنفك عن وجود مجتمع واع سياسياً. يستطيع ان يقرأ ويتابع وسائل المعرفة، من كتاب وصحيفة، ويتمكن من معرفة الخطأ من الصواب في عدد كبير من المشاريع والشعارات والدعوات، المرتبطة والمؤثرة في حياته ومصالحه وأهدافه. فكم رأينا في العالم الإسلامي من مهازل انتخابية، حيث يساق الرجال والنساء للتصويت على مشاريع سياسة فيها هلاك الحرث والنسل. ومع ذلك يصوتون وتحصل المشاريع المقدمة على نسبة عالية من الموافقة قد تتجاوز 100%. كما أن الجهل السياسي يمكن كل صاحب مصلحة من الوصول إلى البرلمان بطرق مختلفة بعيدة عن الحقيقة. كالمال أو القرابات العائلية والعشائرية أو الميول الطائفية. دون اعتبار للكفاءة أو الاستحقاق، وهكذا يصل إلى مجلس النواب مثلاً تجاراً لاهم لهم سوى فتح الطريق أمام مشاريعهم الشخصية ومصالحهم الذاتية، بعيداً عن أي مصلحة إستراتيجية أو آنية للأمة.
والنائيني عندما يلتفت إلى هذه القضية الخطيرة لا يشرح لنا كيف نواجه هذه العقبة التي تقف دون تمثيل حقيقي يخدم الأمة ككل. إلا انه يؤكد على ضرورة تجاوز القرابات والانفعالات العاطفية من قبيل الحب والكراهية. واعتباران الانتخاب مسؤولية أمام الله سنحاسب عليها. «هذا وليقدموا حفظ ناموس الدين المبين والتحفظ على استقلال دولتهم وقوميتهم، وحراسة الممالك الإسلامية، وحراسة المسلمين. على كل غرض آخر كما نشاهده اليوم في سائر الملل الأخرى» (78) .
وهذا التقديم لتحقيق هذه المصالح الكبرى التي ذكرها الشيخ، لابد له من وعي سياسي مسبق، وهذا الوعي لا ينفك عن الوعي العام الاجتماعي والاقتصادي. فهل يمكن ان نتحدث عن وعي سياسي في مجتمع غارق في الجهل والأمية والتخلف والانحطاط العام؟! هذا ما سينتبه له المفكرون الإسلاميون بعد ذلك، وبدأوا يوجهون جهودهم لخلق وعي شامل ومتكامل يمكنه أن يخدم ويطور الجانب السياسي إذا ما تحقق.
ــ وظيفة المندوبين:
لم يتكلم الشيخ النائيني بتفصيل في هذا المقام، لأن عمل المندوب قد يكون متفرعاً جداً. لكنه تكلم عن ضبط الخراج أو مالية الدولة الإسلامية، وتعديلها وتصريفها لأنها جزء من تنظيم كيان الأمة، بل أهم جزء مقوم لها. كما أن من أهم المسؤوليات المنوطة بهم، تشخيص السبل لوضع الدساتير وتقنين القوانين وطرق تطبيقها ومراعات الثابت والمتحول. حيث يرجع إليهم الفصل والاجتهاد في القضايا المتغيرة بتغير الدول والأزمان والروابط المصلحية التي تحكم ذلك.
بالإضافة إلى مراقبة القوانين والوظائف الإجرائية أو التنفيذية. على أن تكون تطبيقاتها وما تسفر عنه ملزمة للجميع فــ «ترجيحات النواب العموميين أو المأذونين من جانبهم في عصر الغيبة لا محالة ملزمة شرعياً بمقتضى نيابتهم الثابتة القطعية» (79) .
إن أغلب السياسات النوعية متغيرة ويرجع الفصل فيها لولي الأمر (الحاكم أو الإمام)، أو نائبه الخاص أو العام. وانما شرعت الشورى لتقوم مقام التسديد والبعد عن الخطأ والشطط. فلا بد اذن من تدوين السياسات والقوانين وترتيبها ضمن دستور، لتحول عند تطبيقها والالتزام بها دون ظهور الإستبداد السياسي أو استفحاله. وليست وظيفة المجلس ومندوبيه إلا إحدى الطرق والصيغ العملية المتوصل إليها حديثاً لتقوية هذا الإجراء الداعم للحريات العامة والمحافظ على كيان الدولة الإسلامية والمدافع عنها أمام الأخطار وعلى رأسها الاستعمار المتربص.
ولايخفي الشيخ النائيني أسفه وتحسره ــ وهذا مما يشاركه أغلب المفكرين الإسلاميين المعاصرين ــ على تخلف المسلمين وانحطاطهم، وكيف ان الملل الأجنبية وصلت إلى هذا المقام المحدد للسلطة، والذي هو مطلب من أعز المطالب الإسلامية، في نفس الوقت الذي تغافلنا نحن عنه. بل ندعو لمخالفته ونقض بنيانه. اذن لا عجب ان تقدم غيرنا وارتكسنا نحن أبناء الإسلام في مستنقع التخلف والخمول الحضاري .
الخاتمة:
حاول الشيخ النائيني في خاتمة كتابه ان يستقصي ما أسماه «بالقوى الملعونة» في دولة الإستبداد والتي أجملها في سبعة قوى:
الأولى: جهل الأمة بالقضايا السياسية ووظائف الحكم. والحقيقة ان هذا الجهل يرجع لقرون طويلة وما زال مخيماً كليل طويل لا فجر يلوح له في الأفق القريب. وهذا الجهل هو المسؤول عن شيوع الحاكمية المطلقة للطغاة والمستبدين. بل ان ضعف الوعي السياسي لدى الجماهير الكبيرة يجعلها تسعى حثيثاً لترسيخ عبوديتها، وعدم التحرك لتحرير رقابها من الإسترقاق والعبودية السياسية. ولذلك يؤكد الشيخ النائيني بأن «كل بلاء وقع على رأس أمة أو يقع من ابتداء العالم إلى انقراضه إلا وهو متولد من هذه الأم الخبيثة، ناشئ عن هذا الداء العياء» (80) .
الثانية: شعبة الاستبداد الديني. يعتقد النائيني ان هذه الخصلة يصعب علاجها، لانها راسخة في نفوس الجماهير وذلك لارتباطها بالدين. وحرص الاستبداد السياسي على صنع طائفة من الفقهاء والعلماء الذين يجعلهم في خدمته يررون تصرفاته ويجدون لها المخارج الشرعية. بل يضفون عليها الصفة الشرعية. وينادون بالويل والثبور على من خالفهم في ذلك.
لقد كان سلاح الفتاوى المكفرة للخصوم السياسيين والدينيين أمضى من الحسام المهند على رقابهم، عبر تاريخ الإسلام، لأن تفكير المعارضين وترويج ذلك في الأوساط الإجتماعية، يجعلهم محاصرين ومضطهدين من طرف المجتمع قبل المستبد وزبانيته. فهم خارجون عن الملة، راغبون في تفريق جماعة المسلمين والكيد لها. وكم من دماء بريئة سفكت بفضل هذه الفتاوى.
ان بعض رجال الدين قد اصطنع وسائل تخذيرية كما يقول الدكتور أسعد السحمراني، لترويج «الفهم الخاطىء للإسلام بين الناس، وجل هم هذه الطبقة ممن يسمهم الكواكبي العلماء المندسين، أن يصطنعوا الأعذار والتبريرات للحكام، ويعطوا لكل أفعالهم الغطاء الشرعي، حتى صح ان نطلق عليهم تسمية «وعاظ السلاطين»، ليس هذا فحسب بل كانوا يشجعون الأمراء على الفردية والتسلط، بتحميل نصوص الشرع أكثر من مضامينها، كأن يشيعوا وسط الناس ضرورة الالتزام بحرفية الآية {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم} (سورة النساء: آية / 59)، متناسين القول المأثور: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» وأي معصية أكبر من استبدال الشورى بالتسلط؟ فأمر الله تعالى صريح في هذا المجال: {وشاورهم في الأمر}، {وأمرهم شورى بينهم}...الخ (81) .
لذلك لا يبدي الشيخ النائيني تفاؤله بإيجاد علاج سريع وفعال للقضاء على هذا الداء العضال، الذي ينخر كيان الأمة. ونعتقد ان عدداً كثيراً من مفكري الإسلام اليوم ومثقفيه قد يشاطرون، الشيخ رأيه وتشاؤمه هذا حول صعوبة إيجاد علاج لهذا المرض المزمن. فقد أصبح ــ يقول النائيني ــ الأتحاد مع الظلمة والطواغيت سبباً لنفوذ الكلمة والمطاعية الكاملة، كما أصبحت مساعدتهم بالسكوت وعدم الإمانة على رفع الظلم، رأس مال يُشترى به ويباع، فيضل به العوام الذين هم كالأنعام أو أضل سبيلا» (82) ، وهذا مصداق قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم} (83) .
الثالثة: النفوذ والامتيازات التي تنشأ عن معبودية السلطان أو الحاكم داخل الدولة. بحيث يُصبح الأعلان عن هذه المعبودية والتشبت بها وسيلة من وسائل التقرب للسطان، وشفاعة نافذة لتحصيل المنافع داخل المؤسسات العامة. وكلما ترسخت هذه المعبودية وانتشرت إلا وتقلص سوق العلم والإجتهاد وتحصيل المنافع عبر الكفاءات الحقيقية، بل تسود المحسوبية ويشيع الفساد الاداري، ويكثر النصب والاستحواذ على مالية الدولة وحقوق الشعب. فتنتكص راية العدل وترفع أعلام الجور والظلم.
ويتعمق المشكل ويستفحل خطره فــ «رسوخ معبودية السطان في جذور الأمة وعروقها، هو ما جعل حتى المنسلكين في زي أهل العلم، يزينون للناس ويحبذون لهم مشاركتهم في هذه الأعانة..» (84) . مع أن الدخول في طاعة المستبد أو العمل من أجل ترسيخ معبوديته غير جائزة شرعاً، لأنها أحدى مراتب الشرك بالله، وهذا معلوم شرعاً دون شك أو إختلاف. تدعمه الآيات والأحاديث الناهية عن الظلم أو الدخول في عمل الظلمة ومساعدتهم على اقتران كبيرة الجور والظلم الدوم.
الرابعة: «إلقاء الخلاف فيما بين الملة وتفريق كلمة الأمة» (85) ، وهذه أحدى أهم لوسائل التي يركبها المستبد للوقوف امام أي تكتل أو وحدة اجتماعية قد تستنجد بالحقيقة. ومن ثم تقوم بالتغيير المطلوب. إلا أن هذا العمل أو السلوك لا يتأتى له النجاح إلا إذا لقي الدعم الكامل من القوى المعلونة المذكورة سابقاً، وعلى رأسها شعبة الاستبداد الديني. مصداق ذلك قوله تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهله شيعاً} (86) . وقد حذر الإمام علي عليه السلام من هذه الخصلة في خطبته القاصعة حين قال: «واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال وذميم الأعمال. إلى ان قال: اتخذتهم الفراعنة عبيدا فساموهم سوء العذاب. وجرعدهم المرار... وتشعبوا مختلفين وتفرقوا متحاربين. قد خلع الله عليهم لباس كرامته وسلبهم نضارة نعمته..» (87) .
الخامسة: من تلك القوى الملعونة هي قوة الإرهاب والقدرة على التنكيل والمضايقة، وهذه سيرة معلومة، تشهد عليها حقب التاريخ الإنساني برمته ويوميات الصراع بين الطغاة والمستبدين وبين المصلحين والأنبياء ودعاة الحرية والعدل.
السادسة: تلبس قلوب الأكابر وأشراف المجتمع برذيلة الاستبداد بحيث أصبحوا يشكلون فروعه وأغصانه. فالإستبداد أصبح يشكل كما يقول الدكتور أسعد السحمراني «نوعاً من المحيط أو البيئة التي تنتقل آثارها إلى كل من تربى فيها، يألف الاستبداد ويعايشه، فيصبح عنصراً فاعلاً في شخصيته، يعطيها طابع الهروب والاتكالية والميل إلى التسفل بذل الترقي، وتصبح والحالة هذه، الحرية حدثاً غير مألوف، تناقض النمط السائد في حياة الفرد» (88) .
وقد اعتقد بعض التجار وأدعياء العلم كما يصفهم الشيخ النائيني في بداية المطالبة بالمشروطة أن تحديد السلطة يختص بالحاكم فقط، ولما علموا أن الشورية تشملهم، وان الرفض سيطال كل استبداد أو جور مهما كان نوعه أو الجهة التي تقف وراءه، إرتدوا على اعقابهم واستنجدوا بشعارات دينية أو وطنية لمحاربة الديمقراطية. والأنتصار للإستبداد السياسي من جديد.
والحق ان هذه الفئات دائمة التواجد، وهذا ديدنها دائماً. فهي مع التغيير إذا ما هبت رياح، لكن شريطة ألا يمس بمصالحها، لأنها غير مستعدة للتنازل عن شبر واحد من امتيازاتها للصالح العام، ولو كان ذلك حقا من حقوق الأمة المغتصبه أو المنتهك؟!
السابعة: الاستحواذ على جميع المنافع الحافظة للأمة من مالية وعسكرية، وتسخيرها للقضاء على هوية الأمة وهدم مكوناتها الذاتية وذلك بالإستعانة بالأجانب ووضعهم في المراكز الحساسة في الدولة ليسهل عليهم تمرير السياسات والمشاريع المخالفة لمصلحة الأمة وتوجهها العقائدي، وهذا ما لاحظة الشيخ النائيني وهو يرى الشاه الإيراني ينصب بعض العسكرين الروس والأجانب ويعتمد عليهم، لضرب حركة المطالبة بالديمقراطية.
وبعد ان يعرض الشيخ النائيني هذه القوى المعلونة بشكل مفصل ودقيق قل تواجده في الكتابات الإسلامية التي عالجت الاستبداد السياسي سواء قبل الشيخ أو بعده. وان وجدت في كتابات المعاصرين متفرقة. لكن ذكرها وتشخيصها بدقة في بداية هذا القرن ومن طرف فقيه إسلامي. يعتبر بحق شيئاً نادر الحدوث، ويفضي إلى النظر بعين الإكبار والإحترام للوعي السياسي المتكامل الذي كان الشيخ النائيني يتحلى به ويحتضنه.
بعد ذلك يقدم محاولات أو اشارات اجمالية لمعالجة هذه القوى المعلونة التي ذكرها:
ــ خطوات على طريق العلاج :
أولها: «وهو علاج ذلك الجهل المستولي على طبقات الملة» (89) .
وذلك يشرح حقيقة كل من الاستبداد السياسي والديمقراطية. وايصال ذلك للطبقات الشعبية المختلفة. وهذا ما اشار إليه الكواكبي بعد ذلك عندما اكد على ان «الدواء هو أولا تنوير الأفكار بالتعليم..» (90) ، على ان يكون أسلوب الدعوة والتبليغ مصداقاً لقوله تعالى {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (91) . أي الدعوة إلى الديمقراطية بأسلوب ديمقراطي. حيث حرية الإعلام والحوار، دون الالتجاء إلى العنف أو الغاء حق الآخر في التعبير أو الرد أو حق التعرف والمعرفة.
وقد كان النائيني منتبهاً جداً وهو يحدد أسلوب الدعوة لهذه الفضيلة السياسية. حيث أشار إلى التركيز على المطالبة بالحرية كمطلب انساني، دعا له الأنبياء والأولياء. ولا يخفي أن هذا المطلب سيلقى دعما وتأييداً واسعاً من طرف الجماهير. خصوصاً إذا ما تجنبنا الأساليب الغوغائية أو السقوط في المشاحنات الإعلامية والمهاترات الأنتقادية الغير موجهة، والتي ينقصها الشعور بالمسؤولية بل وخطورة ما ندعوا إليه.
ان صنع الحرية ومقاومة الاستبداد كلها أمور يجب أن يسبقها ــ كما يقول الدكتور السحمراني ــ وعي الأمة بخطر الاستبداد، ومعرفة الآلام والمآسي الناتجة عنه. لأن أمة لم تع بعد مخاطر الاستبداد، لا تستحق الحرية لأنه من الطبيعي ألا تعرف قيمتها، وإذا ما توفر الوعي والشعور بسلبيات الظلم، وأثره في الفتور والتخلف، وتمت تهيئة البديل، وبدأت المقاومة، فيجب ذلك براي الكواكبي باللين والتدرج، لا بالشدة..» (92) ، وهذا الكلام يكاد يكون مطابقاً لما قاله الشيخ النائيني.
ثانيها: علاج الاستبداد الديني: وهو من أصعب القوى المعلونة، تمنعا لأي علاج سريع، لكن الرجوع للأحتكام إلى ميزان الشرع الذي عدد مواصفات العلماء والفقهاء، وذكر صفاتهم، وما يجب ان يتحلوا به من مكارم الأخلاق، وتقديم الحق وطلب النجاة لهم، ولمن يتبعهم في الدنيا، ونشدانا الحق والفضيلة في كل أمورهم، قد يكون فيصلاً يمكن من التمييز. وبالتالي توجيه ضربة قاسمة لهذا الاستبداد الديني.
لكن: المشكل يضل قائماً، وذلك لأن أغلبية العوام لا يستطيعون التمييز ومعرفة حقيقة تلبس هؤلاء بالفضيلة والحق أم لا، وذلك لإستغراقهم في التقليد الأعمى، واعتباره جزءاً من الطاعة التي أمربها الشرع، وحثهم على الأمتثال لها. «ولهذه الجهة ــ يقول النائيني ــ وأشباهها أصبح طريق العلاج مسدوداً والتلخص من هذه الورطة في مبادئ الأمر صعباً غير ميسور» (93) .
لكن ليس هناك من طريق سوى زيادة الوعي الديني والسياسي معا، حتى ينقشع ضباب الجهل على عقول المسلمين عامة، ويتبين لهم ان الحرية وكسر قيود العبودية لغير الله، مطلب إسلامي يصب في تحقيق عقيدة التوحيد الإسلامية. ان الاستبداد السياسي والديني يخاف أشد الخوف «أن يفهم الناس، حق الفهم، معنى كلمة لا إله إلا الله). فهي هدى للمستضعفين تحضهم وتحذرهم من الوقوع في ورطة الخضوع، وتفتح لهم باب التحرر على كل سلطة طاغية. والأذعان فقط لسلطة الله تعالى، ولهذا ما انتشر نور التوحيد في أمة قط إلا وتكسرت فيها قيود الأسر» (94) .
ثالثها: قلع جذور عبادة السلطان من الدولة أو المملكة و «قطع أولائك الذين طالما باعوا المملكة وأهلها بقدر من الطمع والجشع. وترويج سوق العلم والمعرفة، وتقرير كون الأمور النوعية تابعة لمقدار اللياقة والكفاية والدراية» (95) .
لابد إذن من العمل على تعريف الأمة بحقوقها، وتعريف الحاكم أو السلطان بحدود سلطانه ومسؤولياته بعيداً عن كل إدعاء أو تلبس بالصفات الإلهية. وان الحرية السياسية ليست تمرداً على السلطة، كما ان محبة السلطان والولاء لشخصه ولذاته، ليست إخلاصاً للوطن أو الأمة.
«وبالجملة فعلاج هذه القوة الخبيثة ــ كما يقول النائيني ــ مع وجود الإستبداد السياسي والديني في البين من الممتنعات المسلمة الأمتناع» (96) ، إلا إذا إلتزمنا بأصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطبقناه كما دعت الشريعة وحثت عليه، وعملنا على أساس إحكام العدل الذي به وحده نضمن استمرارية وحدة الأمة وازدهارها العمراني والحضاري.
رابعاً: علاج مرض التفرقة والاختلاف المفضي إلى الانتقام والتنازع والعمل على تحقيق الوحدة الاجتماعية للأمة. انطلاقاً من صيانة حقوق الأفراد وتطبيق الشرائع المنظمة لهذا الاجتماع البشري، حتى يسود التساكن والتكافل وتلتحم فئات المجتمع مع بعضها البعض في حركة تصاعدية نحو رقي الأمة الإسلامية.
وأخيراً يرفع الشيخ صوته عالياً يطالب فيه «دعاة الحرية والتوحيد وحماة الدين والوطن ورافعي منار العدل ومخمدي نار الظلم، أن يوجهوا نظرتهم بعد رفع الجهل وشرح حقيقة الاستبداد والمشروطية والمساواة والحرية، إلى تهذيب أخلاق الأمة من هذه الرذائل والملكات الخبيثة. وأما علاج بقية القوى المعلونة. فلا يتم إلا بقلع شجرة الإستبداد الخبيثة وسلب فعالية ما يشاء وانتزاع القوى الفعالة المغتصبة من غاصبيها..
يجب أن ينشر الدستور العادل في الأمة ليستأصل تزوير الأقوياء على ضعفاء الأمة، ويجب على الشعب أن يحافظ على ماليته وعسكريته لأنها عليها يقوم كيانه المادي والمعنوي» (97) .
لقد قدم هذا الفقيه الشيعي الإمامي شرحاً مفصلاً للنظام المشروط أو الديمقراطية، وأظهر فهماً عميقاً واطلاعا واسعاً على النظم السياسية الغربية. كما توفق إلى حد بعيد في عمله التأصيلي لهذه الديمقراطية أو الشورية، وعالج قضاياها في نفس الوقت الذي حاول فيه تشريح مرض الاستبداد السياسي، وتعرية جذوره بشكل لم يسبق له مثيل على حد علمنا، خصوصاً في العصور الحديثة. كما تخلو الأدبيات السياسية الإسلامية المعاصرة من مثل هذه المتابعة التأصيلية المتكاملة والشاملة لنظام الحكم في الإسلام وعلاقته بالديمقراطية.
لقد تعودنا من الفقهاء الرفض لكل ما هو أجنبي عن الإسلام شكلاً أو مضموناً، دون اطلاع أو استيعاب لكننا مع الشيخ النائيني نلاحظ عرضا رصيناً، ونقاشاً علمياً متيناً، ومقارنات متميزة بعيدة عن السقوط في أي استيلاب فكري أو حضاري.
لقد سلط الشيخ النائيني الضوء كاشفاً ومعرياً واقع الاستبداد الديني، ودعى لنقض أسسه، وهدم بنيانه. وتحدث بمرارة ويأس من علاجه، لأنه كان أعلم الناس به، فهو فقيه بل سيصبح في مقدمة الحياة العلمية والدينية، عندما سيتولى مرجعية التقليد والاشراف الديني على الحوزة العلمية. وإذا كان قد حذر منن الإستبداد، وحمل عليه، فإنه سرعان ما سيكون ضحية له، لأنه سيُدفع بقوة لسحب كتابه هذا من الأسواق والذي شرح فيه سلبيات الاستبداد الديني، ودعا للتحرر منه بموازاة مع التحرر من الاستبداد السياسي!!.
من هنا ندرك جيداً سمة التشاؤم التي ما فتئ يذكرها وهو يتعرض لعلاج هذا الداء العضال؟! ان كتاب النائيني يستحق اكثر من دراسة مطولة ــ وقبل ذلك يحتاج ان يطبع طبعة جديدة وأن يوزع في الأسواق لأنه غير متوفرة فيها ــ لعرض افكاره والتوسع في نقاشها وتحليلها. وقد حاولنا جهدنا ان نعرض لمجمل ما احتواه كتابه من أفكار. محافظين على تسلسل أو هيكل المعالجة كما هي عليه في الكتاب بخلاف بعض العناوين ورؤوس الموضوعات الجديدة. وان كنا قد حالونا اثراءه بمجموعة من النصوص المعاصرة لمفكرين اسلاميين لتبيان حجم التقارب والاتفاق بين الآراء الإسلامية الشيعية والسنية في هذا المجال. وللتدليل على مدى التطور الذبي عرفه التنظير في الحقل السياسي الإسلامي.
لكن غرضنا الأساس كان في محاولة عرضه. وتسليط الضوء على طرقة معالجة صاحبه لقضية الديمقراطية وتفرعاتها، ومعضلة الحكم في الإسلام التي استمر النقاش حولها بدءاً من الفرق الكلامية والسياسية والى الاجتهادات الفردية المعاصرة.
1) انظر للمزيد عن حياته وسيرته: أعيان الشيعة ج6 ص54.
2) أي بعد ان تقلد منصب المرجعية والتقليد.
3) ما يقل عن ليرتين ذهبيتين على ما قيل واشتهر.
4) أعاد الطالقاني طبع كتاب «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» الذي نفذت طبعته الأول سنة 1909م. وكتب مقدمة دعا فيها إلى أهمية دور الفقهاء في الحياة السياسية العامة.
5) السيد محسن الأمين، اعيان الشيعة. دار التعارف للمطبوعات بيروت ط 1983 ج6 ص54.
6) علي الوردي، المشروطية في إيران واثرها في العراق. مجلة الموسم. عدد 54 مجلد 2 س (1990 ــ 1410) ص51.
7) المرجع السابق ص51.
8) قتل في عام 1896م، وتولى بعده ابنه مظفر الدين السلطة. وهو الذي ستكتمل على يده فصول المشروطة.
9) المشروطية كما عرفها الدكتور علي الوردي هي «حركة المطالبة بالدستور التي ظهرت في تركيا وإيران» انظر مجلة الموسم (م. س) ص50.
10) الموسم ص51.
11) نفس المرجع ص53.
12) الالتجاء من التقاليد الإيرانية القديمة، حيث يذهب الناس إلى أماكن معينة كالمساجد والاضرحة وبيوت العلماء، فيجتمعون فيها. فلا تستطيع الحكومة إلقاء القبض عليهم، ومن ثم يعلنون مطالبهم.
13) الموسم ص54.
14) حسن الدجيلي، الفقهاء حكام على الملوك: علماء إيران من العهد الصفوي إلى العهد البهلوي. دار الهدى ط1، 1986م ص111.
15) كان الشعار الذي رفعه في ذلك هو أن الدستور بدعة مخالفة للشريعة الإسلامية، وأيده بعض العلماء كالشيخ فضل الله نوري الذي كان من انصار المشروطة، ثم انقلب عليها تخوفاً من تكرار تجربة كمال أتاتورك في إيران وقد قتل بعد انتصار المشروطة وقيل بفتوى مجتهد.
16) الموسم ص41.
17) ترجمها عن الفارسية وأخذ ينشرها في مجلة العرفان الصيداوية. وقد تعرض لأغراءات مادية كبيرة لثنيه عن نشرها.
18) عبد الحميد اسماعيل الأنصاري. نظام الحكم في الإسلام، دار قطري بن الفجاءة. الدوحة قطر 1985 ص103.
19) تنبيه الأمة وتنزيه الملة ص72.
20) أحمد محمود صبحي. النظريات السياسية لدى الفرق الإسلامية. مجلة عالم الفكر. مجلد 22 عدد 2 / اكتوبر / 1993م. ص135.
21) تنبيه الأمة ص73.
22) الموسوعة الفلسفية العربية. معهد الإنماء العربي مادة استبداد ج1 ص54.
23) محمد جمال طحان، نشأة الإستبداد ودعائمه: رؤى الكواكبي. مجلة المعرفة عدد 352 السنة 31 يناير 1993 ص48.
24) أم القرى ص49 عن المرجع السابق ص40.
25) تنبيه الأمة ص74.
26) الشيخ محمد مهدي شمس الدين. نظام الحكم والإدارة في الإسلام. المؤسسة الدولية. بيروت ط4 ــ 1995 ص393.
27) يقول الإمام الايجي صاحب المواقف: وللأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه. أضاف الشارح: مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين، وانتكاس أمور الدين. أنظر مجلة المستقبل العربي عدد 166 (12 / 1992م) الإسلام الديمقراطية ص19.
28) تنبيه الأمة ص74.
29) نفس لمرجع ص75.
30) نظام الحكم والإدارة في الإسلام م. س ص402.
31) حسن عباس حسن. الفكر السياسي الشيعي: الأصول والمبادىء. الدار العالمية بيروت ط1 ص1988 ص270.
32) تنبيه الأمة ص76.
33) سامي ذبيان وآخرون، قاموس المصطلحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. دار رياض الريس. لندن ط1 ــ 1990 ص226.
34) تنبيه الأمة ص76.
35) تنبيه الأمة ص77.
36) محمود غازي، مؤسسة أهل الحل والعقد في الفكر السياسي والدستوري الإسلامي. ضمن «الشورى في الإسلام»، مجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية ج3 ص1021.
37) المرجع السابق ص1023.
38) فهمي هويدي، الإسلام والديمقراطية. مجلة المستقبل العربي، عدد 166 (12 / 1992) ص18 نقلاً عن ضياء الدين الريس، النظريات السياسية الإسلامية ص339.
39) تنبيه الأمة ص78.
40) تنبيه الأمة ص80.
41) سورة التوبة: آية / 31.
42) تنبيه الأمة ص82.
43) أبي الحسن علي بن محمد البغدادي الماوردي. الأحكام السلطانية والولايات الدينية. دار الكتب العلمية بيروت (د. ت) ص450.
44) المرجع السابق ص300.
45) نفسه ص300.
46) نظام الحكم والإدارة م.س ص442.
47) المرجع السابق ص442.
48) مهدي فضل الله. الشورى طبيعة الحاكمية في الإسلام. دار الأندلس. ط1/ 1984 ص53.
49) سورة الشورى: آية / 38.
50) تنبيه الأئمة ص97.
51) مهدي فضل الله م.س ص52.
52) تنيه الأمة ص97.
53) عبدالمجيد اسماعيل الأنصاري. الشورى وأثرها في الديمقراطية، دراسة مقارنة. منشورات المكتبة العصرية. لبنان صيدا ط3 (د. ت) ص6.
54) تنبيه الأمة ص98.
55) فهمي هويدي، الإسلام والديمقراطية. مجلة المستقبل عدد 166 ــ (12/1992) ص28.
56) المرجع السابق ص30.
57) تنبيه الأمة ص98.
58) تنبيه الأمة ص99.
59) كانت بعض الدول الإسلامية ومنها إيران لم تقع بعد تحت سيطرة الاستعمار المباشر. والشيخ النائيني يكتبه تنبيه. لكنه أشار إلى ذلك كاستشراف للمستقبل بدأت تباشيره تلوح في الأفق.
60) تنبيه الأمة ص101.
61) تنبيه الأمة ص103.
62) أحمد عنايت ــ الفكر السياسي الإسلامي المعاصر. ترجمة عن الفارسية د. إبراهيم دسوقي شتا. مكتبة مدبولي القاهرة (د. ت) ص233.
63) المرجع السابق ص333.
64) تنبيه الأمة ص105.
65) نص البيان، انظر مجلة منبر الحوار، عدد 9 السنة 3 ربيع 1988 ص95 ــ 96.
66) تنبيه الأمة ص107.
67) تنيه الأمة ص108.
68) أحمد عنايت، م . س ص339.
69) فرقة شيعية تقدم النص والحديث عن كل اجتهاد عقلي.
70) تنبيه الأمة ص110.
71) المرجع السابق ص110
72) اللواء محمد شيت خطاب. الشورى العسكرية في الإسلام. ضمن والشورى في اسلام المجتمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية ج3 ص1028.
73) المرجع السابق ص1027.
74) نفسه ص1027.
75) تنبيه الأمة ص111.
76) تنبيه الأمة ص113.
77) نفسه ص117.
78) نفسه ص118.
79) تنبيه الأمة ص122.
80) تنبيه الأمة ص126.
81) أسعد السحمراني، الاستبداد والاستعمار وطرق مواجهتهما عند الكواكبي والإبراهيمي. دار النفائس ط2 / 1987 ص60.
82) تنبيه الأمة ص127.
83) سورة التوبة: آية / 31.
84) تنبيه الأمة ص128.
85) تنبيه الأمة ص129.
86) سورة القصص: آية / 4.
87) تنبيه الأمة ص130.
88) أسعد السعمراني م. س ص67.
89) تنبية الأمة ص133.
90) أسعد السحمراني ص51.
91) سورة النحل: آية /125.
92) أسعد السحمراني ص 74.
93) تنبيه الأمة ص135.
94) أسعد السحمراني ص 54، نقلاً عن طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ص36.
95) تنبيه الأمة ص136.
96) تنبيه الأمة ص137.
97) تنبيه الأمة ص 141.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.