شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
راهن القصيدة ، راهن النقد ، وآفاق النص الآخر
الكتاب : شعراء القطيف المعاصرون
الكاتب : عبدالله حسن آل عبدالمحسن
الصفحات : (290) من القطع الكبير
الطبعة : الأولى ، 1414هـ - المملكة العربية السعودية
يتيح كتاب " شعراء القطيف المعاصرون " ممكنات متعددة للحوار، ويثير – كذلك – أكثر من اشكالية تتفرع عنه تفصيلات أكثر ، بفعل كونه جامعاً لأسماء سبعة وعشرين شاعراً ينتمون إلى جغرافيا واحدة ومحددة وزمن واحد ومحدد أيضاً .
فمنذ العنوان تترشح ما يمكن أن اسميه اشتباكات دلالية حفل بها المعجم النقدي العربي الحديث، واشتغلت عليها اكثر من دراسة وأكاديمية وغير اكاديمية وانسحبت بظلالها كذلك على هذا الكتاب. وإذ نسعى إلى مناقشة البنى المتشاكلة – المتشابكة ، فلن تكون على حساب مراجعة الكتاب، بل هي من صميمه وما هذه المناقشة إلا مقترح قرائي يسعى إلى اضاءة جوانب أخرى ظلت كما بدا لي رهينة شيء من العتمة ، لعل الكتاب بمنهجه التاريخي لم يتح له كشفها ووضعها في مدى الحوار والمعالجة ؟
ومع أن الكتاب يعد انطولوجيا رائدة تنطوي على جهد واضح في التدوين لشعراء معاصرين ، بعضهم ما زال في العقد الثاني من عمره ، وهو هنا يتحرر من عقدة ( السلف – أو السفراء الكبار والشعراء الشباب ) وسواها من التصنيفات الساعية إلى تقرير امتيازات لا علاقة لها بالعطاء الثقافي ، أقول: مع أن الكتاب بسعيه الأنطولوجي هذا، أعطى صورة بانورامية جيدة للمشهد الشعري الراهن في القطيف، إلا أنه كان يمكن أن يسجل نجاحاً أكثر رسوخاً وأعمق لو تعرض للاشكالات الشعرية المرتبطة بمشروعي التجديد والحداثة في الشعر العربي عامة وانعكاساتها على مجمل المشهد الشعري في الجزيرة ومن ثم لدى شعراء القطيف وموضوع البحث.
إذن ، ننطلق من عنوان الكتاب لنتعقب بعض البنى المتشاكلة والمتشابكة التي كان مفيداً للكتاب التعرض لها .
ومن حقيقة أن المفردة الإصطلاحية هي بمثابة حوض دلالي تتشابه وتشتبه دلالاته، نبدأ بتفكيك بنية العنوان لقراءة كل مفردة وفك الالتباس الدلالي فيها ومن ثم قراءة الجملة ( جملة العنوان ) كاملة ، وتالياً نتبع ما يتقرر لدينا من اقتراحات مفهومية واختبارها في ما حاول الكتاب والكاتب معاً ، تقديمه ، نصاً وقراءة .
1- ( شعراء ) مفردة ، دلالته تفيد الأخبار عن مجموع متعدد وقد تعني التنوع أو التماثل وبالتالي تثير اشكالية ( الشعر / الشعراء ) .
2- ( القطيف ) تفيد في الإشارة إلى مكان محدد ومحدود ، وبالتالي تثير اشكالية ما اسميه (الجغرافيا الثقافية) .
3- ( المعاصرون ) تفيد الارتباط بالعصر أو الانتماء له ، دون تحديد نوعية هذا الانتماء ، وتشير كذلك إلى علاقة الشعراء بالعصر ، وتثير اشكالية (المعاصرة / الحداثة) .
وسوى هذه الاشكاليات الثلاث، يثير الكتاب، كذلك إشكالية النص / النقد، فهو إضافة إلى تعريفه بحياة الشعراء وأعمالهم ، أعطى – وان سريعاً – انطباعات وملاحظات عابرة عن اداء وخصائص القصيدة لدى عدد من الشعراء ، كما تستدعي اشكالية النص / النقد مراجعة نقدية مزدوجة ، وذلك باعادة قراءة النصوص مقتربات أخرى غير تلك استعان بها الكاتب، واخضاع النقد، ذاته إلى نقد أي نقد النقد .
* الشعر والشعراء
انشغل النقد العربي ، قديمه وحديثه، بقضية الشعر والشعراء ، وقد كان كتاب ابن قتيبة (الشعر والشعراء) رائداً ومهماً في هذا المجال، إلا أن النقد العربي بقي زمناً طويلاً، ولعله يستمر لاحقاً، رهين المنهج المعياري ولم يهتم كثيراً بالمفهوم الوصفي التحليلي ولذلك كانت كتب (عيار الشعر لابن طباطبا وطبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي ونقد الشعر لقدامة بن جعفر وسواها ) كانت تمثيلاً قوياً للمنهج المعياري الذي يضع الشعراء في مراتب وطبقات، ولا يهتم كثيراً في توصيف شعر شامل، له أخلاقياته الكتابية وتمثيلاته الاسلوبية اليت تشكل منه مشهداً خاصاً يمنع اختلاطه بما سواه، سواء من حيث الزمان أو المكان. ووجود عدد هائل من الشعراء في فترة زمنية محددة وفي مكان واحد، لا يعني وجود شعر له سماته الواضحة والمميزة التي تمكننا من قراءة صورة عصر كامل.
و ( شعراء القطيف المعاصرون ) بما حفل به من شعر ومن شعراء ، ينتمي بوجهيه العري والنقدي إلى الأصول التي ترشحت عنها تعبيرات وتحليلات الثقافة العربية والاسلامية وبتاريخها قديماً وحديثاً على السواء .
ففي الجانب النقدي يقدم لنا الكاتب منهجاً تاريخياً يعتمد الزمن في تراتبيته ، للتعريف بشعراء القطيف المعاصرين، فهو يبدأ مع أحمد الكوفي المولود عام 1324هـ فمحمد سعيد الجشي المولود سنة 1338هـ ، وينتهي بحبيب آل محمود ومحسن الشبركة المولودين 1388هـ .
وكأنه بمنهجه هذا يقدم لنا مفاضلة تقوم على أساس ريادة المتقدم على المتأخر بفعل اسبقيته الزمنية، ورغم أنه الكتاب، لم يقدم لنا بدءاً اضاءة نظرية تمكننا من معرفة المنهج الذي اعتمده ، بل اكتفى الكاتب بمقدمة صغيرة عن طبيعة الكتاب، فإننا لا نحتاج إلى كثير جهد لاستخلاص المنهج المعياري القائم على أرضية فضل المتقدم على المتأخر، مع أنه يقرر أن دراسته ( لا تهدف إلى تقديم عرض شامل لموضوعات الشعر في القطيف أو القيام بدراسة لشعر المنطقة وتحليل مضامينها الآن، بل ارادت أن تكون مدخلاً لمعرفة الشعر في هذه المنطقة المعطاءة ) .
إذن فالكتاب تعريف بالشعراء تحديداً دون إثارة اشكاليات ( الشعر ) ومناقشتها، لكن هذا التنبيه من قبل الكاتب لا يمنع هذه المراجعة من الإشارة إلى اشكاليات الشعر التي لا يمكن – برأينا – تجاهلها وعزلها عند الحديث عن الشعراء .
يغترف شعراء القطيف المعاصرون من ذات المصادر التي غرف منها الشعراء العرب في فترة ما بين الحربين، فجميع الشعراء الواردين في هذا الكتاب وعددهم 27 شاعراً يكتبون الشعر العمودي باتجاهيه التقليدي والرومانسي وحتى الشعراء الشباب " المتأخرون " الذين يكتبون الشعر الحر ( شعر التفعيلة ) لا يطيحون بتقاليد العمودي أو يهجرونها بل انهم يكتبونه إلى جانب الشعر العمودي أو بالأحرى على هامشه. وبروحية ونفس تتشابهان حد التطابق، أما أغراض الشعر لدى هؤلاء الشعراء فقد ظلت هي ذاتها، فالغزل والرثاء والمديح موضوعات يضج بها الكتاب مثلما ضجت بها كتب الشعر العربي القديم، إلى ذلك أيضاً، انسحبت على شعر بعضهم الهموم السياسية ذاتها التي انعكست في شعر الشعراء التقليديين العرب في الفترة ذاتها.
داخل هذا التشابه في الأدوات والمصادر الثقافية والبيئية والاجتماعية واسلوب الأداء الشعري ، فإن من الصعوبة بمكان أن نحدد ملامح شعرية واضحة لكل شاعر ! مثلما يصعب أن نشخص طبيعة واحدة وموحدة تجلو راهنية القصيدة في هذه المنطقة، لكن يمكن الاشارة إلى أن هؤلاء الشعراء هم بمثابة الممهدين لوعد شعري جديد ومختلف يؤسس لحركة شعرية لاحقة تحقق انعطافة جديدة للشعر في المنطقة الشرقية التي يعول عليها الكثير .
كما يمكن الإشارة إلى سمات دقيقة وخاصة ترتبط إلى حد ما ببعض الشعراء ، فمن اتضاح اثر الثقافة في قصائد محمد سعيد المسلم ، إلى الجو السوداوي الضاج بصور التشاؤم التي تشكل مناخ القصيدة لدى محمد سعيد الخنيزي إلى الرقة التي ينحو إليها عبدالواحد الخنيزي منحى يذكرنا برقة نزار قباني وقبله شعراء حركة أبولو في مصر، إلى محاولات تأليف صور الحياة والانشغال بأسئلة العصر التي تتضح في قصائد حسن السبع وسواها من القصائد والشعراء التي سنعرض لبعض من أجوائها في متن هذه المراجعة.
* الجغرافيا الثقافية
مع تطور المصطلح العلمي، تعددت الحقول المعرفية لمواكبة هذا التطور، وإذا كانت الجغرافيا مصطلحا علمياً عاماً، فقد أصبحت في العصر الحديث ذات استعمالات شتى ، هناك الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا السياسية، والجغرافيا الاقتصادية وسواها. لأن الثقافة والأدب ارتبطا بالمكان والتصقا به انتاجاً ومفهوماً ، فقد أصبح مصطلح الجغرافيا الثقافية وارداً تماماً، بل أن الكتاب الذي نحن بصدده يحتم علينا استعمال هذا المصطلح عندما يتخذ من ( القطيف ) وشعرائه عنواناً له. ومصطلح الجغرافيا الثقافية يثير كذلك قضية المركز الثقافي والهامش الثقافي. ففي فترة ارهاصات التجديد الشعر العربي التي بدأت مع محمود سامي البارودي وامتدت إلى النصف الأول من هذا القرن مع شوقي وحافظ والزهاوي والحبوبي وعلي الشرقي والجواهري، كانت مصر في تلك الفترة هي المركز الثقافي الذي تتفاعل فيه الآراء وينتج الخطاب الثقافي في مختبراتها بفعل حيازتها على امكانيات وشروط تحقق المركز من حرية التعبير ووجود الصحافة ودور النشر ، والتواصل الحواري بين التيارات الثقافية .
ومع حركة الشعر الحديث التي بدأت مع السياب ونازك وبقية جيل الرواد، صارت بيروت هي الحاضنة لتفاعلات هذه الحركة وانتاجها، واستمرت كذلك، حتى الحرب الأهلية وما أعقبها من غزو اسرائيل لبيروت عام 1982 حيث تفتت بنية المركز الثقافي العربي، وتعددت وتوزعت على عدة عواصم عربية بل وحتى اوروبية.
وخلال هذين الحدثين الثقافيين – ارهاصات التجديد وحركة الشعر الحر – كانت ثمة مناطق غائبة أو بعبارة أدق ( غير مفكر بها شعرياً ) وكان التواصل معها شبه غائب فيما الانقطاع سمة رئيسية .
وأبرز هذه المناطق هي ( المغرب العربي ) و ( الجزيرة العربية والخليج ) ويبدو أن طبيعة علاقتهما بالمركز ليست وحدها السبب في بقائها في دائرة " اللامفكر به " بل أن ثمة أسباباً أخرى أسهمت في تغييب المشهد الشعري في هذه المناطق، ولعل في تقديم الدكتور عبدالهادي الفضلي ما يضيف إلى الأسباب حين يقول " ان حواجز مختلفة ومنها الاجتماعية وقفت منيعة دون أن تدرس أو يكتب فيها ومنها بالمستوى الذي يضعها في موقعها".
وعن علاقة المركز بالهامس يعطينا النمط الثقافي والتثقيفي معاً ، الذي اتجه إليه شعراء القطيف صورة واضحه عن هذه العلاقة وتأثيراتها على كتاباتهم الشعرية، فجميع الشعراء تقريباً نشأوا نشأة دينية، وعدد كبير منهم درس في حوزات ومعاهد النجف بما تمثله من مركزية ثقافية دينية، وقد انعكست طبيعة دراستهم وثقافتهم وتواصلهم مع قصائد الشعراء العراقيين، الجواهري والشرقي والزهاوي وسواهم.. ويمكن تلمس هذه التأثيرات والانعكاسات في قصائد عدد غير قليل من هؤلاء الشعراء، فقصيدة " مأتم في عرس " لمحمد سعيد الجشي تذكرنا بقصيدة علي الشرقي " شمعة العرس" فقصيدة الشرقي تتحدث عن عروسه فوجدها ميتة ، أما قصيدة الجشي فتتحدث عن عريس توفي وهو يستعد للزفاف/ ومع أن صاحب الكتاب يشير إلى أن الجشي متأثر بمدرسة شوقي الاتباعية ، فإن هذه القصيدة بالذات تعطينا ملمحاً لمصادر الشاعر الثقافية وتأثراته، خاصة وأن القصيدتين قد التقيتا في وزن واحد "الخفيف" حيث يقول الشرقي في مطلع قصيدته :-
شمعة العـرس ما أجـدت التأسـي أنت وضـاءة ويطـفأ عرسـي ؟
ويقول الجشي في أحد أبيات قصيدته :-
نـدوة العـرس والصبـايا يغـردن حبــوراً تحــولـت للنـواح
المعاصرة والحداثة
إلى ما تقدم ، ثمة تشاكل مفهومي غالباً ما ينتج عنه التباس فهم . ذلك هو العلاقة بين المعاصرة والحداثة، بل أن كلاً من هذين المفهومين ينطوي بذاته، على التباس دلالي آخر لا تتيح لنا هذه المراجعة كشف تداخلاته وتشابكاته، غير أننا سنكتفي بما يضيء قراءتنا لاستخدامات المفهوم في هذا الكتاب. فالمعاصرة هي انتماء الشاعر لهذا القرن العشرين. ( بهذا المعنى تحديداً استخدم الكاتب المصطلح ) .
غير أن هذا الانتماء لم يكن – بالضرورة – انتماء لروح العصر ، وإخلاصاً للتعبيرات المعاصرة في الشعر العربي المعاصر ، فثمة مفهومان للمعاصرة :
تاريخي : ويعني بالانتماء الزمني ووجود الشاعر في الراهن الحياتي .
وعضوي : ويعني أن يكون الشاعر شاهد عصره وأميناً لعلاقاته العضوية بكل معطيات العصر .
أما الحداثة فهي مفهوم مشتبك ومتداخل أيضاً ، فيكفي أن نشير إلى وجود حداثات متعددة لا حداثة واحدة ، بمعنى أنها ترتبط بالنموذج الفكري والثقافي الذي تتبناه وتنطلق إلى تشخيصه، ومع هذا نستطيع القول أن الحداثة هي سياق حضاري شامل لا يمكن فصله عن شرطه التاريخي، وديمومتها تكمن بوصفها أفقاً شاملاً يتسع للتعدد ويمتد للتجدد، ينطلق من راهنية اللحظة، اللحظة الثرية التي تعتمل في أحشائها خلاصة اللحظة التاريخية متمثلة بالتراث، تنطلق إلى المستقبل وتسعى إلى امتلاكه كأنه حاضر. وبهذا المعنى فليس كل معاصر حديث بالضرورة لكن كل حديث من البديهي أن يكون معاصراً .
وإذا كانت الحداثة مفهوماً مطاطياً وفسحة لحوارية المختلف في النقد العربي الحديث، فإن البحث عن تمظهراتها في هذا الكتاب لن يكون ذا جدوى وسيكون الباحث كحاطب ليل .
لكن مفهوم المعاصرة الذي يبدأ من العنوان ويقدمه لنا الكاتب بصيغته الزمنية التاريخية يمكننا من الاستنتاج أن هذا المفهوم هو صفة أكثر من كونه شرطاً وتوصيفاً عاماً يمكننا من تلمس وجود تيارات واتجاهات متعددة يشتمل عليها.
فإلى جانب التقليدية الكلاسيكية ثمة أيضاً الرومانسية تتجاوران لتمثلا الملامح الواضحة لراهن القصيدة في المنطقة الشرقية كما يقدمها لنا الكاتب .
فالالتزام بإنجاز المعنى واكتماله في البيت الشعري، ثم ارتباط البيت بالبيت الذي يليه من الناحية العضوية، وكذلك الالتزام ( بعمود الشعر ) كما قرره الآمدي وسواه من النقاد العرب، وأيضاً الالتزام ( بالغرض ) أو الوحدة المضمونية، كل هذا تجده في عدد من قصائد الشعراء :
أحمد الكوفي ، ومحمد سعيد الجشي ، والشيخ عبدالحميد الخطي ،وإلى جانب ذلك ومعه أيضا تجد محاولات للاشتغال على الصورة الشعرية ولشحذ المخيلة باتجاه تعبيرات رشيقة تضمنتها قصائد محمد سعيد الخنيزي ومحمد سعيد المسلم، وعبدالواحد الخنيزي وعباس مهدي خزام الذين يمكننا أن نصنفهم بأصحاب التيار الرومانسي المعاصر، وبين الاتجاهين تستشف محاولات هؤلاء الشعراء للخروج بالشعر في الجزيرة العربية من لغته الصحراوية البدوية المستمدة من طبيعة الحياة والمرتبطة بالبيئة الصحراوية، وإضفاء نكهة خاصة إليه ، تميل إلى الرقة والألفة التي لا شك أنهم أفادوا فيها من ثقافتهم وانفتاحهم في تنقية مفرداتهم وجعلها أكثر توافقاً وتواصلاً مع الحياة بإيقاعها الجديد، وبهذا يمكن أن تعد هؤلاء الشعراء رواداً في محاولات فتح الاحتمال الشعري إلى مداه الواسع وانفتاحهم – بشكل أو بآخر – على ثقافات مختلفة ومتعددة.
الشعر الحر
إلى جانب الاتجاهين ، التقليدي والرومانسي، اللذين أشرنا إلى بعض أسماء شعرائهما، يبرز هذا الكتاب أيضاً ، اتجاه ثالث يرسم بتأن ملامح أفق جديد للشعر في الجزيرة .
وإذا كانت التقليدية الكلاسيكية ذات مراجعية ثقافية مرتبطة بالتراث ومتمثلة لأصوله، وخاصة بناء القصيدة العربية القديمة ، والرومانسية تكمن مرجعيتها الثقافية لدى شعراء عصر النهضة العربية ومحاولات البعث والتجديد التي أصطلح عليها بين فترة ما بين الحربين العالميتين ، فيمكننا القول : أن الشعر الحر هو حصيلة هاتين التجربتين ( الرومانسية والتقليدية ) وانفتاحهما على الثقافات العالمية الحديثة .. بعبارة أخرى حصيلة الحوار : الأصالة / المعاصرة .
ونستخدم تعبير الشعر الحر هنا احترازاً عن اللبس مع الشعر الحديث، فالتغيير الذي أجراه السياب في البنية، الشكل والتوزيع البصري والهندسي للقصيدة العربية، لا يعني بالضرورة ولا يشفع لحداثة النصوص المكتوبة على وفق هذا الشكل، فالشكل البصري الجديد الذي جاء به مقترح السياب الشعري الجديد هو صفة من صفات الشعر الحديث وليس شرطاً له، أما حداثة الشعر وجودته فلا تقتصران على انتمائهما للشكل الشعري فحسب، بل تتعديانه نحو ما تجترحانه من مستوى تعبيري مختلف نوعياً عن الموروث الشعري، ومثلما كان مشروع قصيدة الشعر الحر لدى السياب متأتياً من انفتاح حر على الثقافة العالمية إلى جانب امتلاك الثقافة التراثية، فإن الملاحظ في قصيدة الشعر الحر في هذا الكتاب، ولدى شعراء المنطقة الشرقية بشكل عام، أنه صادر عن تعددية المرجعية الثقافية من جهة وانفتاح شعراء هذا الشكل الكتابي على الثقافة العالمية من جهة ثانية، فشعراء قصيدة الشعر الحر هنا، اطلعوا على الثقافات الخارجية بفعل دراستهم في دول أجنبية (أمريكا مثلاً) وبصورة خاصة الشعراء محمد سعيد البريكي ، وحسن السبع ، وحسن أحمد اليوسف ، ونضال محمد حسين .
لكن الكاتب يقع في خطأ مفهومي وذلك بعدم تفريقه بين المصطلحات واستخدام احدها بدل الآخر أو عدم استخدامها بشكل دقيق، فيستخدم مصطلح الشعر المسترسل كناية عن الشعر الحر، لكن الشعر المسترسل أو ( المرسل بصورة أدق ) ليس هو ذاته الشعر الحر، فالأول هو المتحرر من نظام التقفية والسجع، لكنه يظل محافظاً على نظام الشطرين وتوزيع التفعيلات بشكل يحافظ على النظام الموجي العددي للتفعيلة والايقاع معاً وثمة تجارب رائدة في هذا المجال لجميل صدقي الزهاوي، لكن هذا النوع من الشعر لم يجد مريدين يستمرون به ويعبرون معه إلى آفاق أخرى وذلك بفعل انشغاله بتغيير شكل طفيف لا ينعطف بالتعبير الشعري نحو مسالك جديدة.
أما الشعر الحر فهو اختراق للنظام الموجي ونظام الشطرين في الشعر العمودي واستبدالها بنظام التفعيلة ، أي أن نشكل التفعيلة بديلاً عن الشطر في البيت الشعري أي أنه – الشعر الحر – يتحرر من النظام الموجي المتكرر للشطر لصالح نظام التفعيلة المتعدد، والمختلف كما يستبدل نظام التقفية الموحدة والمتكررة بنظام التقفية غير الموحدة وغير المتكررة.
وإذا ما أخذنا الشاعر حسن السبع نموذجاً لشعراء القصيدة الحرة في هذا الكتاب – وهو أبرزهم كما تعلن قصائده عن ذلك – سنرى ان القصيدة لديه نتاج ( تعدد ثقافي ) أملى عليه تعبيراً شعرياً مختلفاً وبناءً آخر للجملة ، ورؤية جديدة للعالم ، وهذا ( التعدد الثقافي ) حصيلة اطلاع وأسفار فقد درس في كل من أميركا وفرنسا وهو يجيد لغتي هذين البلدين ويترجم عنهما، وفي احدى نماذجه المنشورة في الكتاب محطات بعيدة نقرأ :-
مسافرٍ
كمغامرٍ جاب الجهات
يود تفتيت المسافة
أنا في انتظارك..
في انتظارك..
في انتظارك..
في انتظارك..
إلى أن يقول :
المحطات البعيدة
سنة على سنة
على سنة
على سنة.
فهذه القصيدة تعتمد على لغة بسيطة لكنها عميقة، وجملة مكثفة ومقتصدة ومكتنزة في الوقت ذاته، والتفعيلة هنا في جملة قصيرة من الناحية الموسيقية تذكرنا بجملة البياتي، أما التكرار فقد جاء من أجل توضيح البعد النفسي للمعنى ، لاحظ مثلاً جملة ( في انتظارك ) وتكرارها الذي يصور احساس الإنسان في حالة الانتظار أو ( سنة على سنة ) وتكرارها الذي يصور ما يولده التعاقب الزمني من اثر في النفس .
النصوص والنقد
لئن اتجهت توصيفاتنا إلى اجراءات النص عامة ، وما يعقبها أو يترافق معها – أحياناً – من رؤية نقدية، فلا بد لنا من التذكير أننا سبق وأشرنا أن الكتاب بوصفه انطولوجيا مضاءة بتعريفات حياتية وأسلوبية للشعراء يحتم علينا قراءته بمستويين، المستوى الابداعي بما تضمنه من نصوص ، والمستوى النقدي بما حواه من آراء ، وفي هذا الصدد نلحظ أن من الشعراء الذين عرف بهم الكاتب، من لهم محاولات في الاشتغال بالنقد – بقدر أو بآخر – بما يقربهم من التواصل مع التاريخ الشعري لهذه المنطقة ، لكن الملاحظ هو محدودية هذه الآراء – كماً وكيفاً – وتصندقها في حيز صغير لا يمتد كثيراً لدراسة الظاهرة الشعرية بأبعادها الأخرى بما يعزز القناعة بوجود أزمة نقد، وهو ما أشار الدكتور عبدالهادي الفضلي إلى غيابه، في المقدمة. فالشاعران محمد سعيد المسلم، وحبيب المحمود، على سبيل المثال، لهما كتابان نقديان ( واحة على ضفاف الخليج للأول) ومخطوطة بعنوان ( الشعر في القطيف في 40 عاماً للثاني ) ورغم أنهما ينتميان إلى جيلين شعريين مختلفين إلا أنهما يلتقيان على حساسية شعرية متقاربة ويصدران عن ثقافة متشابهة تقريباً – مع فارق التجربة طبعاً – فحبيب آل محمود بعد أن يعدد الشعراء القدامى الذين قرأ لهم ، يذكر اتجاهه لقراءة الشعر "الحديث" ويسمي عدداً من شعراء النصف الأول من هذا القرن وليس بينهم من كتب أو عاش بعد النصف الأول منه، بينما يرتبط مفهوم الشعر "الحديث" في النقد العربي الحديث بجيل الرواد وحركة الشعر الحر التي بدأت مع السياب.
قي قراءة النصوص يمكننا أيضاً، توصيف ظاهرة التجاور للاتجاهات لدى شعراء الكتاب، فإلى جانب النزعة التقليدية المحافظة على القصيدة وبنائها، والرومانسية بسعيها إلى تشفيف وتطرية الجملة وبساطة التركيب.. ثم الحياة النابضة والمعنى الحديث في قصيدة الشعر الحر (التفعيلة) تلمس أكثر من ظاهرة تشي بهذا التجاور للاتجاهات.
فالاستهلال لدى الشعراء يتنوع بتنوع تجاربهم، فهناك الاستهلال التقليدي الذي يستفيد من استهلال قصيدة الشعر الجاهلي، حيث الابتداء بالوقوف على الأطلال، وذكر الحبيبة كقصيدة عدنان العوامي "وقفة على اطلال خولة" :-
سـلامـاً منـازل خـولــة سـلام الخـليـل تـذكـر خـله
تـذكـر مـدرج أحبـابـه ضـفـافاً ومشتى وضـوء و نخلـة
والقصيدة بمجملها – إضافة إلى عنوانها – تنتمي إلى ذاكرة شعرية واضحة المعالم ، يمكن ارجاعها إلى مصادرها بيسر .
هناك أيضاً الاستهلال الذي لا يمهد أو يهيىء بمقدمة لكنه يدخل من عتبة الغرض نفسه، من ذلك قصيدة محمد سعيد الخنيزي " الدمعة الخرساء " :
أنـا دمعة خـرسـاء في الأجفـان كتـبت من الآلام والأشـجـان
لا تنطق السـر الـرهيب ولا تـرى مسـفوحـة في المدمـع الهتـان
وإضافة إلى كون العنوان داخلاً في نبية الاستهلال فإن القصيدة تعرفك بنفسها دون وسيط لتفصح لك عن بنية الشكوى والألم التي تنطوي عليها. وإذا ما اجتزنا بنية الاستهلال ودخلنا في بنية الشكل عامة نجد أن هناك ما يؤكد التجاور في الاتجاهات، فالإيقاع مثلاً، يشير على جانب مهم من هذه المسألة، فأكثر القصائد التي ألحقت بعد التعريف بكل شاعر مكتوبة بالأوزان الشعرية العربية المشهورة: الكامل ، الطويل ، البسيط، الخفيف.. وغيرها. وإذا ما عرفنا أن بحري الكامل والخفيف كان لهما الصدارة في عدد هذه القصائد ( عشرون على الكامل، وست عشرة على الخفيف ) أدركنا ما يعنيه هذا ، خاصة وأن الكامل – إلى جانب الطويل – يمثلان محور الأوزان الشعرية من حيث عدد ما كتب فيه من قصائد الشعر العربي والمعلقات بشكل خاص. أما الخفيف فقد منحه شعراء الرومانسية رقة وألفة خاصتين جعلتاه في طليعة البحور الشعرية. لكن الملاحظ هو تراجع البحر الطويل، واقتصار قصائد لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة ومنها قصيدة للشيخ سعيد أبي المكارم فرضتها طريقة التشطير لقصيدة المقنع الكندي الشهيرة والتي يقول مطلعها :-
يعـاتبني في الـدين قومـي وإنمـا ديـوني في أشيـاء تكسبـهم حمدا
وفي الجانب المضموني لقصائد شعراء القطيف تتمرأى في قراءتنا إشكالية التجربة والأداء الأسلوبي المحايث لهما، وإذا كانت التجربة الحياتية تتلازم شرطياً مع التجربة الشعرية فإننا لا نعثر على تجارب واضحة بهذا المعنى، فبين الشعراء الـ 27 لا يتجاوز عدد من كتبوا عن التجربة الشخصية بما يحايثها من مستوى تعبيري معين. فمحمد رضا الشماسي مثلاً يكتب قصائد غزلية تنطلق من فنية الغرض أكثر من انطلاقها من التجربة الشخصية مع أنه في قصيدة بكاء مدينتين يلامس شغاف تجربة مشتركة بأبيات يقول في مطلعها :-
كـويت بغداد ما غنا الهوى لكمـا إلا علـى ألـم مـر ينـز دمـا
ولدى شعراء قصيدة الشعر الحر، أكثر من علامة تؤكد عمق هذه التجربة لديهم وإمكانية تعميقها أكثر وربطها بمسيرة الشعر الجديد في الوطن العربي خاصة إذا ما أوجدت آفاقاً أكثر لشعراء يتبنون هذا النمط التعبيري، فمن أحمد المعتوق من قصيدة ما بعد الغروب :
ولف الغروب التفات الطريق، وجاء المساء
كوقع السنابك ليلاً على عتبات الشتاء
كما في الخريف ترامت حيارى
واهوت طيوف النداء..
وكما في قصائده الأخرى المنشورة إلى جانب هذه القصيدة نعهد في تجربته تمكناً واضحاً في بناء الصورة الشعرية القائمة على قوة التخييل بما يلائمها من براءة تعبير وكذلك تتضح بؤرة التأمل وتواصله مع المعنى الذي يتناسل داخل قصيدته.
وثمة شعراء شباب عرف بهم الكتاب تنتمي تجاربهم إلى هذه التيارات الثلاثة، التقليدية والرومانسية ، ثم الشعر الحر ، وهي تجارب ما زالت ممكنات امامها مفترق طرق في اختيارات تعبيرية متعددة، وإذا كانت "قصيدة النثر" لم تسجل حضوراً في هذا الكتاب، فهذا لا يعني أنها لم تصل إلى الوعي الشعري للقطيف لكنها قد تكون مقترحاً تالياً في مرحلة لاحقة يتبناها جيل شعري ويعمق بها تجربة الشعر الجديد.
وأخيراً وفي – كل الأحوال – كان الكتاب جهداً واضحاً في التعرف والتعريف بشعراء القطيف المعاصرين.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.