تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

مالك بن نبي ومشكلات الحضارة

هاني إدريس

الكتاب: مالك بن نبي ومشكلات الحضارة – دراسة تحليلية نقدية

المؤلف : زكي الميلاد

الصفحات : 160 من القطع الكبير

الناشر : دار الصفوة – بيروت

الطبعة : الأولى 1993 م

 

في الجديد الذي تشهده حركة التأليف والكتابة العربية والاسلامية – في الآونة الأخيرة، يتحفنا الكاتب والمثقف السعودي زكي الميلاد بمؤلف قيم ، وشيق ، جدير بالاحتفال ، حول فكر مالك بن نبي . يتناول فيه بالبحث والدراسة والتحليل مشكلات الحضارة عند مالك بن نبي. بأسلوب ولغة متميزين. ولعل الجديد في هذا المنتوج الفكري، أن الصوت الذي سينطق بفكر مالك بن نبي هذه المرة، سيكون من أرض الجزيرة العربية. وليس من الصدفة بمكان أن يكون جودت سعيد هو صاحب مقدمة الكتاب. إذ أن الولع بفكر مالك بن نبي قد تملك الاثنين. فليس اتفاقاً أن يكون الكتاب ذو حيوية خاصة، وممتعة إذا علمنا أن الذي كتبه والذي قدم له. من أنصار مالك بن نبي. يقول جودت سعيد : " فحين تحدث إلي - أي زكي الميلاد حديثه ذكرني بحالي وما جرى لي مع أفكار مالك بن نبي . وشعرت هناك توافقات عجيبة وطباع غريبة في التوافق والتشابه فسررت سروراً بالغاً وتمتعت بحديثه الرصين الواثق " .

في مقدمة الكتاب ، يطرح زكي الميلاد تصوره لواقع الصحوة التي يشهدها العالم الاسلامي المعاصر في نموها وتطورها. انطلاقاً من طنجة إلى جاكرتا. وبأنه يتوجب ربط هذه الصحوة بجذورها لضمان اصالتها وارشاد مسيرتها والحفاظ على ديناميكيتها. وتوفر مقومات النمو والاستمرار لها. وجذور الصحوة هذه هي "فكر النهضة" الذي يؤرخ له انطلاقاً من السيد الأفغاني. "الربط بين الصحوة الاسلامية وفكر النهضة، هو العمق التاريخي لهذه الصحوة ".

بعد هذه المقدمة يدخل المؤلف في تفاصيل الكتاب. حيث هندس مؤلفه بشكل متوازن جعله يستوعب بالدراسة كل الموضوعات التي تتصل بشخص مالك بن نبي ، سيرة وأفكاراً. وكان الفصل الأول مفرغ لسرد بعض المحطات الأساسية في حياة مالك بن نبي الشخصية،والظروف الاجتماعية التي واكبت نموه من مرحلة المسجد إلى الدراسة إلى أوربا وإلى مصر. معتمداً في ذلك على مذكرات مالك " مذكرات شاهد القرن" . وجعل المؤلف الحقب التي مر منها مالك بن نبي أربع مراحل :

1- معايشة الإستعمار في الأرض المستعمرة ( 1905 – 1930م )

2- معايشة حضارة الاستعمار وفهمها من الداخل ( 1930 – 1956م )

3- الهجرة إلى العالم العربي ونمو الانتاج الثقافي ( 1956 – 1963م )

4- عهد الاستقلال والتفرغ الفكري ( 1963 – 1973 )

في ضوء هذه المراحل الأربعة ، أجرى المؤلف تفصيلاً عن بعض المحطات من سيرة مالك بن نبي ، مسلطاً عليها الأضواء ، كتمهيد لإدراك قيمة المخاض الاجتماعي الذي ساهم في صياغة مالك بن نبي المفكر ، المتميز ، ذي التطلع البعيد ..  يستعرض في خضمها مجمل مؤلفاته والتأريخ لها وجغرفتها أيضاً.

في الفصل الثاني من الكتاب " نظرات حول فكر مالك بن نبي " تعرض الكاتب إلى مكانه فكر مالك ، والمستوى الذي تبوأه هذا الفكر من حيث تميزه وعمقه في تحديد المشكلة العاصفة بالعالم الاسلامي، بل ومدى تأثير هذا الفكر في الأوساط الاسلامية. وكمثال على ذلك، الحركة الاسلامية في السودان ،والاتجاه الاسلامي في تونس. ويرى الكاتب أن مالك بن نبي يتمتع بفكر فريد من نوعه. وبطروحات ابتكارية جديدة. وذلك بسبب انفتاحه على مختلف الأفكار وضمن مختلف الأبعاد. ولا بد من الإشارة إلى أن اختصاصه في الهندسة الكهربائية وإن لم يكن قد شغل منصباً بهذا التخصص في حياته، إذ تفرغ طوالها إلى الإنتاج الفكري – ساهمت في بلورة قدراته التحليلية والنقدية " والشاهد أن هذه الدراسة العلمية قد ساهمت إلى حد كبير في تكوين عقله النقدي والتحليلي " ثم يرى أن هذه الخصائص التي تطبع فكر مالك بن نبي هي التي جعلت "قياسات الرأي" تتباين حول فكر هذا الأخير. إذ حاول البعض تصنيفه ضمن المدرسة السلفية. ورفض الكاتب هذا النوع من التصنيف ودخل في مناقشة دقيقة لعنوان السلفية كمصطلح ومفهوم. " وهنا ندخل في اشكالية " اصطلاحية لمعالجة هذا الرأي. وما هو المقصود من كلمة "السلفية" ؟ " ظل مصطلح السلفية من أكثر المصطلحات غموضاً واضطراباً في التحديد داخل الفكر العربي والاسلامي ". وفي مناقشة للمصطلح قدم نماذج من التعاريف بخصوص مفهوم السلفية ، فالأول هو الذي يقصد بالسلفية فكر " محافظ جامد في حياتنا الفكرية " ( التراث في ضوء العقل – محمد عمارة ) وأخرى ترى في السلفية تحرراً من الخرافة والبدع ( السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب اسلامي : سعيد رمضان البوطي ) ثم رأي آخر يرى أن السلفية تعني العهود الثلاثة : عهد الرسول والذين يلونه ثم الذين يلونهم طبقاً لنص الحديث .. إلا أن الكاتب رأى أنه ليس من الواقع في شيء تصنيف مالك بن نبي ، ضمن المدرسة السلفية. ذلك لأن المنهج العقلي في فكر مالك، له سلطته الكبيرة. ثم يرد على الذين صنفوا فكر مالك بن نبي إلى مدرسة الامام حسن البنا ( أنوار الجندي ) واعتبر ذلك محض مغالطة لا يستقيم لها دليل، " ومع احترامي الكبير وتقديري الفائق لشخصية الأستاذ الشيخ – حسن البنا – ولخدماته الكبيرة للدعوة الاسلامية ، ونموذجه المتميز في العمل الاسلامي، إلا أن هذا الرأي مغالطة علمية لا تستند على أي أساس موضوعي " . ومناط رده على هذا الادعاء ، أن مالك بن نبي لم يتتلمذ على يد الشيخ البنا فهو من جهة لم يأت إلى مصر إلا في سنة 1956 فيما استشهد حسن البنا في 1949م . أما لو أريد بذلك التعليم بالمنهج، فيرى الكاتب على ذلك " وأما بالمنهج فإن بن نبي في تقديري لم يتبع أو يقلد منهج أي كاتب أو مفكر أو قائد عربي أو اسلامي. بل كان له منهجه الخاص به هذا وإن كان الكاتب يرى أن القاسم المشترك بين الرجلين قد يكون هو " المسلك الاصلاحي في التغيير والنهضة مع مفارقات الأسلوب والمنهج " .

وبعد ذلك وفي عملية تفصيلية لاتجاهات الرأي حول فكر مالك بن نبي ، يعتمد الكاتب استقراء شخصياً " للمادة المكتوبة " .. ويعكس ثلاث اتجاهات، ثم يعاود مناقشتها مبرزاً وجهة نظره اتجاه كل واحدة منها. وتتلخص اتجاهات الرأي في ثلاث نقاط :

 أولاً : مفكر لم يقرأ .

ثانياً : مفكر نضبت طاقته .

ثالثاً : ضرورة العودة إلى فكر مالك .

ينتهز هنا الكاتب الفرصة للرد على الأستاذ " غازي توبة " من خلال مؤلفه " الفكر الاسلامي المعاصر دراسة وتقويم " ، واعتبر منهجه في التقويم خاطىء ، نظراً لتحامله الشديد على فكر مالك بن نبي ، مبرزاً أن فساد التقويم هنا يكمن في التعامل السلبي مع هذا الفكر، والنظر إلى الأخطاء ، واغفال تراث ايجابي ضخم خلفه مالك بن نبي – ويرى على عكس " غازي توبة " أن هذا الفكر – يحتاج أن نوجه إليه شبابنا . ويذكر الكاتب د. عمار الطالبي ود. سعد السمحراني ضمن دعاة هذا الاتجاه. ويورد فيما أورد كلمة للدكتور السمحراني من كتاب " مالك بن نبي مفكراً إصلاحياً " : " لم يلق مالك بن نبي الاهتمام الكافي من الدارسين مما حرم جيلاً من شعبنا من الاستفادة بفكره ومشروعه الاصلاحي أنه من الصعب لا بل النادر أن نجد ذكراً له في الكتابات المتنوعة ( ... ) " .

وبخصوص الاتجاه الثاني ، فلم يكن هناك سوى مثال آحاد ، أورده الكاتب علي سبيل التدليل على هذا الاتجاه، مستقرءاً إياه من مقالة لمجلة المجتمع ، جاءت على صيغة سؤال، يحاول من خلاله التشكيك في انتاج مالك بن نبي " ومع أنه لم يقم باختراع مفاهيم جديدة " ( المجتمع ) .

أما حول الاتجاه الثالث – أي العودة إلى فكر مالك – ويمثل هذا التصور " وجيه كوثراني " يفرغ بعد ذلك الكاتب ، ليباشر في عرض وجهة نظره حول اتجاهات الرأي هذه. وانطلاقاً من المكون الثقافي " الذي بلوره مالك بن نبي " من أول كتاب له – الظاهرة القرآنية – إلى آخر مؤلفه – مذكرات شاهد للقرن.. ومن ثم يسجل الكاتب وجهات نظره. متعرضاً بالتقييم والتقديم لمجمل ما ذكر فيها. فهو من جهة يعتقد أن الاتجاه الأول ذو رأي سليم. ذلك أن تراث مالك بن نبي لم يقرأ حقيقة من قبل الجمهور ولا حتى بعض المثقفين ، قوميين واسلاميين. غير أن الكاتب لم يقف هنا ، بل حاول سبر أغوار الأسباب التي جعلت فكر مالك بن نبي غير مقروء لدى هذه الشرائح ، ويصنف تلك الأسباب إلى ذاتية وموضوعية ، فيرجع السبب الذاتي إلى صعوبة التعامل مع فكر مالك ، من حيث " نخبويته " " نخبوية الفكر والتعامل مع الأدب الصعب الذي يعطي القيمة للدلالات العقلية، وإن كان على حساب الوضوح والبيان .. " ويعزو الكاتب ذلك ، للخلفية الثقافية الفرنسية التي تعتبر احدى مكونات فكر مالك. وكذا مشكلة الترجمة. أما الأسباب الأخرى – الموضوعية – تكمن في عدم مأسسة فكر مالك بن نبي ، وعدم دخوله في التشكيلة المؤسسية والحركية. أي بعده عن حركة الفعل الاجتماعي. وهنا يضطر الكاتب إلى مراجعة " غازي التوبة " حيث اعتبر مؤلفه السابق فاقداً للقيمة العلمية من جهة التعامل مع فكر مالك . ويأخذ على الكاتب طريقته اللامتكافئة في التقييم النقدي. إذ في الوقت الذي تعرض لأخطاء وسلبيات الكثير من المفكرين والعلماء " كالشيخ النبهاني " لم يذكر ولول ملاحظة واحدة عن " حسن البنا " فالكاتب على هذا الأساس لم يكن مقبولاً لدى الكثير من التيارات – كحزب التحرير الاسلامي – وإن كان معتمداً لدى الأخوان المسلمين . أما بخصوص الاتجاه الثاني. فيسترسل الكاتب في تقييمه حيث اعتبر هذا الرأي يخلو من الدقة والعمق ويعتقد أن هناك "احتياطي ثقافي " لمالك بن نبي لم يقرأ بعد فكيف نحكم بالنفاذ على فكره. أما بخصوص الاتجاه الثالث. فيرى أن الدراسة جاءت في نسقه. ولعله يريد القول أنه ليس فقط من أنصار الدعوة إلى العودة إلى فكر مالك بن نبي. بل لعله سيقتحم زحمة ذلك التراث بالنقد والنظر. الشيء الذي سيباشره في الفصل الثالث : مرتكزات النظرية الفكرية عند مالك بن نبي .

هنا يتعرض الكاتب إلى البعد النظري في التراث الفكري لمالك بن نبي . ويرى هذا الاختيار " معلولاً بلحاظ أن التراث الفكري التزم نسقاً محدداً وتكامل مع الانعطافات التاريخية " وما يميز مالك بن نبي بهذا الصدد هو قدرته على ضبط ايقاع العملية الفكرية في اتجاه معين بتكامل. وكل ذلك راجع إلى عمق التجربة التي خاضها مالك بن نبي ، متشبثاً رغم الظروف التاريخية القاسية، أن يحافظ على توجهه واحساسه اتجاه ما يصلح للأمة، واتجاه خطر الاستعمار، الذي عاش الكاتب أهواله في الجزائر وفكرة من الداخل .

وتتحدد أهم وأبرز معالم النظرية في فكر مالك بن نبي –  وفق –  ما يعرضه " الكاتب " في :

-       مشكلة الحضارة .

-       مشكلة الاستعمار ( القابلية للاستعمار ) .

-       نظرية الثقافة أو مشكلة الثقافة .

-       النظرية الاجتماعية .

في عرض مسهب ، يرافقه بنقد دقيق للنظرية. حاول الكاتب أن يقدم خلاصة ابداعه في التأسيس والقراءة لمالك بن نبي ففي استجلاء المفهوم في النظريات الأربعة وتحديدها أورد محاور كثيرة يمكن من خلالها تلخيص مجمل تفصيله فيها .

في مشكلة الحضارة، تكمن قاعدة فكرية منها تنطلق النظرية وتتفرع باقي المفاهيم . إن "مشكلة كل شعب هو في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الانسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها " .

انطلاقاً من هذا الرصد ، للقاعدة النظرية التي تتشعب من خلالها نظرية أو مشكلة الحضارة يطرح الكاتب مجموعة موضوعات متصلة بالنظرية ، وهي :

-       مفهوم الحضارة

-       الحاضرة لا تستورد

-       مراحل الحضارة :       - مرحلة المجتمع قبل التحضر

 - مرحلة المجتمع المتحضر

                                - مرحلة المجتمع بعد التحضر

يتطرق إلى التقسيمات الأخرى لمراحل الحضارة :

1-              مرحلة الروح

2-              مرحلة العقل

3-              مرحلة الغريزة

وشروط الحضارة :

الانسان

التراب

الوقت

في نقده للنظرية ، يضطر زكي أحمد إلى الالتقاء مرة أخرى مع الأستاذ غازي التوبة ، في نقد هذا الأخير لمالك بن نبي بخصوص عنصر " التراب " كمكون للنظرية الحضارية عند مالك بن نبي . يقول " وقع مالك في خطأ فكري نتج عن تحريك " القابلية للاستعمار لذهنيته ، فأعطى التراب قيمة زائدة عن حدوده ، إذ وضع هذه المعادلة انسان + تراب + وقت = حضارة . ثم يستطرد غازي التوبة " ليس من شك أن الانسان هو مقياس الحضارة " ويعتبر أن إنسان متوازن = حضارة " ولما كان المسلم – حتماً متوازناً ، تصبح صورة المعادلة كالآتي : انسان مسلم = حضارة " .

هنا يتدخل زكي أحمد ، ليطرح وجهة نظر في الموضوع. سيحاول لمس الجرح في نظرية بن نبي حول عناصر الحضارة. فهي في رأيه وإن كانت اتصفت بنضج حضاري كبير ، إلا أنها تعتقد تحديد المراحل وخطواتها، كما " وأغفلت دور القيادة والنظام السياسي في المجتمع والذي يشكل منطقة القلب في الأمة " .

أما عن " غازي التوبة " فإنه في تقدير الكاتب ، قد نسي عنصر " المركب الحضاري " الذي يقوم بتنسيق كل تلك العناصر ، وهو العقيدة الدينية = أي الاسلام – ستكون إذن ، اشكالية غازي التوبة مجرد " رأي مبسط جداً جداً " كما يقول الكاتب . ولهذا فالحضارة توجد في التاريخ بالجهاد الطويل وبناء مستمر " لا ينقطع حبله مع التاريخ " هنا في الواقع أرى أن غازي التوبة قد وقع في سوء فهم خطير لنظرية العناصر المكونة للحضارة عند مالك بن نبي. ذلك أن الإنسان وحده لا يشكل سوى محور لهذه الحضارة وموضوعها. بينما عملية البناء الحضاري تحتاج إلى مكونات أخرى غير الإنسان . لعلني أضيف أن " التوبة " لم يفرق بين غاية الحضارة ، وميكانيزمات التأسيس الحضاري، فهو – كأنه _ يجعل من الانسان موضوعاً وشرطاً لكل عملية حضارية. وفي ذلك تكمن نزعة " انسانوية " خانقة لمواصفات العلم بنشأة الحضارات ومكوناتها. وهي نظرة تفتقد للتاريخ، ولعمق التأمل العلمي لمسار عشرات الحضارات التي انوجدت في تاريخ الانسان. ثم لا ارى حرجاً من أن إضافة " ملتزم " على " انسان في نص التوبة " واستقراء مسلم = حضارة ، سوى الخروج بالموضوع عن مناطاته الحقيقية ، لتأسيس وجهة نظر ناقدة ، لمفهوم وهمي مسقوط على مالك بن نبي من الأساس . فعلاج الحضارة من ناحية المبدأ ، يختلف عنها من ناحية التكوين ومراحله ومتطلباته وعناصره. وأرى أن مالك بن نبي كان يهتم بالشق الثاني من الموضوع .

في المحور الثاني من نظرية مالك بن نبي ، يتطرق الكاتب إلى مشكلة الاستعمار والقابلية له. فيرى أن بن نبي كان قد أبدع في دراسة الاستعمار ويعزو ذلك الابداع المصحوب بدقة في بلورة النظرية إلى خاصية المواكبة التي جعلت بن نبي يدرس ظاهرة الاستعمار دراسة متكاملة وشمولية من أكثر من موقع. سواء من الداخل حيث عاش الشعب الجزائري محنة الاستعمار ومضاعفاته. ومن جهة أخرى دولة الاستعمار نفسها من خلال المعايشة الداخلية لبلاد الاستعمار – فرنسا – والثالثة هو المجتمع المصري الذي تبلورت فيه نظريات بن نبي ، وتكاملت بحكم الظروف التاريخية التي عاشتها مصر، كبلد متحرر من الاستعمار. ويمكن إضافة الرابعة، وهي المجتمع الحزائري الذي عاش فترة ما بعد الاستعمار نشوة التحرر وتذوق " أروع مثل التحرر والاستقلال " ستكون النتيجة أن خرج مالك بن نبي بنظرية " القابلية للاستعمار " التي سوف تواجه من قبل اتجاهين : رافض وقابل. ومن الرافضين " غازي التوبة " حيث اعتبرها مبرراً للاستعمار، في حين اعتبرها الآخرون صواباً وابداعاً .

أمام هذين الاتجاهين ، يحاول الكاتب الخروج بموقف ذاتي، هو على حسب ما يبدو الميل إلى نظرية بن نبي .

يبقى أن نشير إلى أن مسألة " القابلية للاستعمار " لم تلق قبولاً عند الكثير من المفكرين والكتاب وهي من بين الثغرات التي عانى منها فكر بن نبي. وصنفته ضمن النخبة. فالجو الذي طرحت فيه القابلية كان جو مشحون بقيم التعبئة النفسية ضد الاستعمار. وكانت عفوية المقاومة الشعبية، هي القائد البارز في كل هذه العمليات. إذ لم يكن فكر النخبة قادراً على صنع واقع للمقاومة ضد الاستعمار. لم يكن في زمن الطرح تحليل بقدر ما كان هناك تعبئة . ولم يتوجه المفكر العربي بصفة عامة إلى التحليل إلا بعد أن خمدت الشكوك في نفوسهم تجاه الاستعمار . حاءت نظرية مالك بن نبي في وقت كان ذلك الجو – النفسي – هو المسيطر والقائد للكفاح ضد الاستعمار. ومن ثم رؤية من زاوية مضببة، غير قادرة على فرز نوعين من الخطاب ضروريين لكل نهضة. خطاب الفكر والعلم الذي يموضع الظاهرات ، ويبحث في أسرارها ويحدد مشكلات المجتمع ويصنع علاجاته. وخطاب عاطفي تحريضي للتعبئة النفسية. كان مالك بن نبي ممن لم تؤثر عليه أهوال الاستعمار ومل تفقده الرؤية الصحيحة والواقعية، للنظر في المشكلة من زاوية علمية بحتة لا تميعها الحالة العاطفية لابن المستعمرات. وقد نقول هنا أن بن نبي لم يكن الوحيد الذي طرح مفهوم القابلية للاستعمار. إنه لم يفعل سوى أن بلورها، وأعطاها بعدها العلمي الدقيق. مما أضفى عليها جدة، وبلورها في شكلها النظري القائم. لقد سبق أن تعرض رواد الحركة السلفية أمثال محمد عبده إلى هذا النوع من القابلية، إذ أن الاستعمار ككل النكسات التي أصابت الأمة في حضارتها كان بسبب فقدان التربية، ووجود الأعطال الحضارية في الأمة. الشيء الذي جعلها قابلة للتخلف وبالتالي للإستعمار. إن التركيز على أعطال الداخل، كان هو هم الكثير من رواد الحركة السلفية. غير أن مالك بن نبي استطاع أن يخرج النظرية من شكلها الوعظي، البسيط، الممل. ليعطيها قيمتها العلمية. وفي ذلك – حقاً – يكمن نبوغ مالك بن نبي.

يتطرق مرة أخرى الكاتب إلى أهمية الثقافة، خصوصاً في عالمنا المعاصر. وقد زاد هذا العنصر قيمته، سقوط احدى أكبر الايديولوجيات في العالم وهي " الشيوعية " غير أن ما يدعى اليوم بنظرية – نهاية التاريخ – لا يمكن الأخذ به، لأن الايديولوجيا بما هي علم الأفكار لن تخرج من تلك الحلبة – حلبة الصراع.. ومالك بن نبي من الذين أعطوا هنا الجانب حقه من البحث. وبعد أن عرض الكاتب نظرته للثقافة وكشف عن توجهه الاسلامي الذي يرى في القرآن منظاراً للكشف عن الواقع، ودليلاً لمناقشة الموضوعات، يحاول أن يحدد المادة الثقافية في كتابات بن نبي تلك التي تعرض فيه لمشكلة الثقافة. و " مشكلة الثقافة " و " مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي " و " الصراع الفكري في البلاد المستعمرة " .

وعلى ذلك الأساس سيحاول المؤلف رصد مكونات النظرية الثقافية عند مالك بن نبي ، وقبل ذلك سيحاول الحديث عن المنظور الثقافي عند مالك بن نبي . ثم المعالجات التي قدمها هذا الأخير لمشكلة الثقافة. والمشاكل الثقافية كما رصدها مالك بن نبي ، دقيقة جداً. ويزيدها دقة أنها وجدت في مرحلة متقدمة، وسابقة لتطور النظرة التحليلية – في الفكر العربي. لقد تطرق إلى مشكلة " الحرفية في الثقافة " . إنها ملاحقة تقييمية – لحالة يمكن اعتبارها راقية بالقياس إلى واقع المجتمع العربي يومها. فالأمية كانت هي محور الاهتمام. غير أن مالك تقدم شأواً بعيداً، ليسجل ملاحظات حتى على أولئك الذين خرجوا من طور الأمية، ليسقطوا في نمط من " التعامل " يمكن اعتباره هجيناً ، " ظهور نموذجين من الأفراد في مجتمعاتنا : حامل المرقعات ذي الإطمار البالية ، وحامل اللافتات العلمية " .

ومشكلة أخرى من تلك المشاكل التي تعانيها الثقافة عندنا، وهي " الفكر والشخص " أي العلاقة التي تربط بين الفكر والشخص، ولعل هذه ضمن تلك الثغرات في نظريات بن نبي التي منيت بسوء فهم. أثار عليه اعتراضاً من قبل الكثير ممن ترتبط عندهم الثقافة بأشخاصها. والواقع أن مالك بن نبي كان يرصد حالة أخرى متجسدة في الواقع. هي عندما تزج الأفكار بعلاقتها مع الأشخاص من ذلك المستوى المتوازن، لتنحو مناحي متطرفة على غرار الهتلرية ( النازية ) غير أن العلاقة بين الفكرة والشخص، إذا كانت تمثل نموذجاً سليماً. فإنها تضحى ذات حس إيجابي مقبول.. يقول الكاتب هنا: " هذه الجدلية لها بعد إيجابي حين يكون الشخص تجسيداً حياً وسليماً للفكرة، كما كان الرسول – ص – تجسيداً حياً وصادقاً لفكرة الوحي. والبعد السلبي حين يصبح الشخص هو محور ومقياس الفكرة " هناك مشكلة أخرى تواجه الثقافة. هي الفكرة والشيء .

فالفكر قد يواجه حالة تنعكس فيها الأوضاع وتختل فيها التوازنات، فيصبح "الشيء" موجهاً ومسيطراً على الفكر. وهناك أشكال كثيرة تحدد هذه المشكلة في العالمين الثالث والمتطور. "ففي البلد النامي يفرض الشيء طغيانه بسبب ندرته، ويولد مركب الحرمان والميل إلى التكديس الذي يصبح في المجال الاقتصادي صورة من صور التبذير والاسراف. أما في البلد المتقدم وبحسب درجة تقدمه، فيسيطر الشيء بوفرته الكبيرة ويخلق نوعاً من التشبع، ويفرض الاحساس الثقيل من المألوف الذي يتولد عنه الميل إلى الهروب الذي كثيراً ما يدفع الرجل المتحضر إلى تغيير إطار حياته وعاداته أو إلى البحث عن مكان يتنسم فيه الهواء .. "

وبعد كل ذلك يدعو مالك بن نبي إلى عالمية الثقافة والانفتاح الرحب على الأشياء والنظر إليها من زاوية انسانية كونية " فالمثقف المسلم نفسه ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الانسانية الرحبة، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الاطار العالمي ".

هناك في نظري، ما يمكن عرضه في سياق الملاحظات التي تعرض لها مالك بن نبي ورصدها الكاتب في مؤلفه القيم، من تلك العناصر وتلك المشكلات. فهذه الأخيرة لم تكن – بحق – من ابداعات بن نبي . إنما انفتاحه على الفكر الغربي – والفرنسي بالذات – جعله ، يكسب تجربة كبيرة في معالجة المشكلات الاجتماعية، والمعرفية. قد نقول، أن الساحة الثقافية الفرعية قد شهدت خلال القرنين الاخيرين مواجهة لمشاكل كثيرة كانت سبباً في تطوير علم الاجتماع الفرنسي، ومناهج المعرفة. وفي الثقافة الغربية هناك من تعرض لمشاكل المعرفة وعوائقها مثل " غاستون باشلار " فعلى سبيل المثال، اعتبرت مشكلة العلاقة بين الفكر والشخص، من المشاكل الدارجة في عرف الثقافة الاوروبية منذ النهضة، وإن عاودت هذه الحالة نفسها في بعض المناطق الأوروبية في أشكال مختلفة: المانيا ، ايطاليا ، اسبانيا .. إنها مشكلة عبادة البطل وما ثار حولها من ردود أفعال مما أدى إلى انتصار للفكرة والغاء الشخص في ثقافة الغرب. ولعل الغرب نفسه قد خرج من تلك المشكلة ليقع في مطب "الشيئية" Fitishisme ، حيث ستتغاول الأشياء لتهيمن على الفكر. ونجد هذه المشكلة في إطارها الاقتصادي قد عولجت في " رأس المال " – ماركس – التي اعتبرها ضمن افرازات الواقع الرأسمالي ، وأوضاع السوق. وهي سيطرة البضاعة على السلوك الاجتماعي، بل قد نجدها لدى المدرسة اللاشعورية الفرويدية في نطاق الدراسات النفسية والعقلية، حيث "الشيئية" تطغى على السلوك النفسي للانسان ، وتنعكس على ممارسته، وأحياناً تتشكل افكاره على غرارها.

فمشكلة "الشيئية" مما نوقش في الغرب. بسبب التحديات التي واجهت الغرب في هذا الاتجاه، ومالك بن نبي لم يكن ناقلاً لها فحسب، بل لا يمكن اتهامه بأنه مجرد ناسخ لها. فهو لم يدع انها من انتاجه إلا أنه جاد في استيعابها – وهذا يكفيه فخراً – وقدرته على تطبيقها على واقع ثقافتنا .

واعتماد الآلية التحليلية الغربية في نقد الواقع ومعالجة مشاكله، ليست عيباً ولا نقيصة في فكر مالك بن نبي ، ما دام أنه قد اعتقد بأهمية " عالمية الثقافة " التي هي في الأساس إحدى المشاكل التي يواجهها الباحث المسلم في بلاد الغرب. الجانب الموضوعي، العلمي في ثقافة الغرب التي تفرض اقناعها على الكثير ممن ينظر إلى الغرب نظرة – فوق عاطفية – من دون أن يؤدي هذا النزوع إلى الوقوع في الجانب الهدام من هذه الثقافة، التي هي موضوع المواجهة في ثقافتنا.

ينتقل بعد ذلك الكاتب إلى النظرية الاجتماعية عند مالك بن نبي – حيث يؤكد : "لم يكن صاحب اختصاص في علم الاجتماع من الناحية الاكاديمية العلمية". غير أنه مع ذلك يمكن اعتباره – بل وفي نظر خبراء الاجتماع – صاحب " رؤية تحليلية في الاجتماع الاسلامي" ويعتقد الكاتب أن علم الاجتماع له أهميته الكبيرة بالنسبة للانسان ومستقبله. ويرى أن الانكماش يعانيه التخصص الاجتماعي في مجتمعنا – رغم الخلفية الموجودة في تراثنا من خلال بن خلدون – هذا الذي لم يؤد بالفكر الاجتماعي الاسلامي إلى " المستوى المطلوب " .

ويؤكد زكي أحمد على المنحى الرافض للتطبيق الحرفي لمناهج الغرب على مجتمعاتنا ومن هنا يستعرض زكي أحمد بعض الرؤى في كتابات مالك بن نبي حول المشكلة الاجتماعية والتغيير. مما أفضى في النهاية إلى طرح مشروع علم الاجتماع لمرحلة الاستقلال. ينبغي أن ينشأ علم الاجتماع خاص بمرحلة الاستقلال. ليكون بين أيدي من يشرف على أجهزة الدولة أداة رقابة لا ينفصل عن جهاز التخطيط...

بعد ذلك وفي الفصل الرابع من الكتاب، يتطرق المؤلف إلى "مكونات القوة في فكر مالك بن نبي ". كان لهذا الفصل ميزته الخاصة في هذا المؤلف، لقد حاول الكاتب استكشاف مواطن القوة في فكر بن نبي ، والعناصر التي ميزت فكره، ويلخصها المؤلف في مجموعة نقاط :

1- " التركيز على القضايا الاساسية في العالم الاسلامي" من خلال تجاوز مالك بن نبي لحدود القطرية، لينظر للعالم الاسلامي ككل، ذلك أن " مشكلة الحضارة" و " النهضة " و "الاستعمار" و "التبعية"... لم تكن من مختصات القطر الجزائري ، بقدر ما هي ظاهرة، يمكن اعتبارها أوسع من حدود العالم الاسلامي نفسه. إذ تتصل بشكل عام بالعالم الثالث وأحياناً أخرى بالعالم المتقدم نفسه.

2- " تجاوز الحساسية الطائفية " .

ويشير هنا زكي أحمد إلى أزمة الخطاب والفكر الاسلاميين المعاصرين. هما الحس الطائفي الذي يسيطر على الكثير من المفكرين الاسلاميين والمصلحين. باعتبار أن الحس الطائفي قاتل للفكرة ومانع للانتشار. وخلو فكر مالك من هذا الحس هو الذي جعل فكره قابل للانتشار بضمن كل الطوائف والمذاهب الاسلامية.

3- "التخصص في العمل الفكري" فميول مالك بن نبي إلى التخصص الفكري – وهو مهندس الكهرباء – له دوافعه التي يقول عنها زكي أحمد " دافع الاحساس بالوعي وإدراكاً في تقدير أولوية العمل الفكري على العمل المهني، لاتصاله بمستقبل الأمة ومصيرها الحضاري". غير أن مالك بن نبي استفاد من خبرته تلك في تقريب الكثير من المفاهيم الفكرية وصياغتها صياغة رياضية، مما اكسبها دقة علمية راقية.

4- "الفاعلية والديناميكية" : وهو الطابع المميز لثقافة مالك بن نبي ، حيث يستعرض المؤلف مجموعة من النصوص الدالة على ذلك، وخصوصاً تلك التي يؤكد فيها مالك بن نبي على ضرورة الفعل كـ " المنطق العملي " .

5- " غلبة فكر البناء على الهدم " . يرى هنا المؤلف أن الطابع الذي غلب على المنظومات الفكرية في العالم الاسلامي هو طابع الهدم، ويقدم لذلك أمثلة كثيرة، كجمال الدين الأفغاني الذي ركز على الاستبداد السياسي في الداخل ومواجهة الاستعمار في الخارج، وكذلك الكواكبي وسيد قطب وشريعتي.. بعكس الذين وازنوا في فكرهم بين عنصري الهدم والبناء كأبي الأعلى المودودي.

في الواقع يكون في عرض زكي أحمد لهذه النماذج بعض الاشكال. ذلك أن هنالك شروط وظروف تاريخية لها تأثيرها على هذه الظاهرة. ولعل ذلك في مدى اختبارات هؤلاء في مواجهة مشاكل المجتمع الاسلامي.

اعتقد أن أمثال شريعتي لم يكونوا هدامين، بنفس مستويات الآخرين، ذلك أن هذا الأخير استطاع أن يبني رؤى ومعالم كثيرة في أثناء نقده للواقع الاجتماعي المعاش وللفكر الغربي المعاصر. ان تخصص هذا الأخير في علم الاجتماع الديني، ساهم في تمكين هذا الأخير من إدراك مواطن الخلل في المجتمعات الاسلامية، وكذا العالم الثالث، ورأيي أن الظرف الذي عايشه علي شريعتي كان يتطلب منه تغليب عنصر الهدم على البناء. لأن أرضية البناء لم تخلو آنذاك من ترسبات وانقاض جاهزة من المشاكل الموروثة والمزمنة في مجتمعاتنا. إنها مقدمة ضرورية للبناء في فكر شريعتي.

ومع ذلك لم يكن هذا الفكر خال من البناء، هذا إذا ما أضفنا أن تجربة شريعتي، ومدى استيعابه للفكر الغربي، ومشاكل مجتمعات العالم الاسلامي والعالم الثالث، تبقى أوسع بكثير من تجربة مالك بن نبي .

ونفس الشيء بالنسبة لسيد قطب، هذا الأخير غلب عنصر الهدم في فكره، ويظهر هذا الهدم في الجو الفكري القطبي، وبالمنطق القطبي، على أنه "البناء" لأنه موقف في الاختيار الفكري والمنهجي لدى سيد قطب، هو الانطلاق من الذات إلى الذات، وغلق النافذة على الغرب بصورة ما ، ولأنه تحرك من خلال تأملاته القرآنية – شبه الباطنية – لقياس حركة المجتمع الاسلامي، من دون اجهاد في كشف سننه من خلال المعاينة، أي الانطلاق من الواقع بالدراسة إلى القرآن بالحلول، كان الخطر عكسياً في نظر سيد قطب مما أسبغ على بناءه طابع الهدم.

وعلى هذا يكون مالك بن نبي صاحب ميزة الاتزان والموازنة بين الهدم والبناء في مواجهة مشاكل العالم الاسلامي، غير أن المسألة يحتاج النظر إليها من زاوية أخرى. فمالك بن نبي لم يعش تحديات الاستعمار حركياً. والنزول بالفكر إلى ساحة الفعل يغير الكثير من الاتزانات، التي لن تبدو كذلك سوى في أفقها المنعزل عن ساحة المعركة. وسيد قطب وشريعتي كانا من اولئك الذين واجهوا المجتمع واحتكوا بمشاكله بالمحايثة.

6- " إضافة مصطلحات جديدة " يؤكد الكاتب على دور المصطلح في تطور العلوم، وبن نبي كان قد أدخل مجموعة مصطلحات كـ " القابلية للاستعمار " " الحضارة الشيئية " وأظن أن مالك هنا لم يفعل سوى أن صاغ المفاهيم والأفكار الغربية في قالب عربي ، والحال ، أنها مصطلحات متوفرة ، وإن بصيغ أخرى، في الثقافة الغربية.

7- " والعمق والابداع " : فالرؤية الجديدة، والعمق في التحليل، وتوظيف المصطلح الدقيق لتحديد المفاهيم ، كل هذه يمكن اعتبارها مظاهر ابداعية في فكر مالك بن نبي .

بعد هذا العرض السريع لمكونات القوة في فكر مالك بن نبي ، والتي ليست سوى بعض من تلك المكونات الكثيرة التي رأى الكاتب أنه ربما قصر عن رصدها، مما يؤكد فعلاً. على ضرورة الرجوع إلى فكر مالك بن نبي .

في النهاية، يكون الفصل الخامس حول نقد الفكر المنهجي لمالك بن نبي . فإذا ما انتقلنا إلى هذا الفصل نلاحظ أن الكاتب دخل في عملية نقد مباشرة لفكر مالك بن نبي ، وقد يبدو للوهلة الأولى أن زكي أحمد الذي التزم قدراً من الموضوعية يقل وينذر توفرها في كثير من الكتاب الذين اهتموا بتراث المفكرين. إذ لم يعميه ولعه بفكر مالك، إلى حد الانبهار الذي يفقده موضوعيته، لقد رصد مجموعة ظاهرات تمثل خللاً في التراث الفكري لمالك بن نبي ، وأحصاها في خمسة ملاحظات، في رأيي أنها صائبة وحقيقية .

الأولى : هي نخبوية الفكر، التي طبعت فكر مالك بن نبي وخلقت تلك المسافة بين أعماله والجمهور، وإن كان لتلك النخبوية ما يبررها، فيما ذكره زكي أحمد من تركيز مالك " على الأدب الصعب " والكتابة بالفرنسية ومشكلة الترجمة .

ثانياً : تقدم في الحركة الفكرية وتعثر في الحركة السياسية، حيث يعتقد بأن مالك بن نبي استطاع صنع فلسفة اصلاحية ، لكنه أخفق في حركة اصلاحية، وعلى الرغم من أن مالك قد أخذ على جمال الدين الأفغاني بأنه لم ينتج فكراً عميقاً بسبب كونه مجاهراً، تحلى بحدة المزاج... إلا أنه يمكننا القول " يؤخذ على بن نبي من الوجهة المعاكسة " إذا أجاد في رصد المشكلة وفي نفس الوقت أخفق في خلق حركة اصلاحية .

ثالثاً : " جانب التوفيقية في بعض الأفكار " أي أن مالك بن نبي لم ينته به الأمر إلى خلق نظرية للدولة الجزائرية المستقلة يتم في ضوءها طرح البديل المنسجم، بل عمد إلى تلفيق نظريته انطلاقاً من ثلاث مقومات، اشتراكية ، قومية ، اسلام ، مشيداً بالطرح السياسي لبن بلة. والمشكلة تبقى عالقة في إطار " المفهومية " التي طالما عالجها مالك بن نبي، إلا أنه لم يعمل أبداً على فرز وتحديد مفهوم الاشتراكية والعروبة " وعلاقتهما بالاسلام " ويسرد الكاتب نموذجاً آخر لهذه التوفيقية، التي تجلت في محاولة مالك بن نبي التوفيق بين الاسلام وتقاليد الهندوس، تأثراً بشخصية غاندي.

رابعاً: إن فكر مالك بن نبي لم يتحول إلى مؤسسة على غرار الأفكار الاصلاحية التي عرفتها الساحة الاسلامية كفكر "حسن البنا" أو " المودودي " بل بقى حبيس الإطار النظري وحدود الخطاب الثقافي .

خامساً : تاثير الثقافة الاوروبية ، فالكاتب يعتقد أن مالك بن نبي لم يتأثر كثيراً بالثقافة الاوروبية كباقي المثقفين العرب الذين بالغوا في تأثرهم بالفكر الاوروبي، لكن الكاتب يعرض نماذج من المعارضين لهذا الرأي "كأسعد السمحراني" الرأي الذي يرى في فكر مالك حساً أوروبيا وآثار من فكر الغرب، رغم " هجومه المستمر على التغريب وظاهرة الاستيلاب" .

* ملاحظة حول مالك بن نبي

أجد نفسي دائماً حائراً أمام هذا اللغز الذي تختفي بين دروبه المعتمة ودهاليسه المظلمة، ما يثير انتباهي ويشد فضولي، فمالك بن نبي بلا شك يشكل حلقة من حلقات الفكر الاصلاحي، وجزءاً من مسيرة التفكير الاسلامي المعاصر. غير أن ثمة أسئلة تبقى مطروحة باستمرار وتجر خلفها كوكبة من التساؤلات. ليست المشكلة فيما انتاب فكر مالك بن نبي من قسور على مستوى العمل الاصلاحي المؤسساتي. وإنما المشكلة في الأسباب التي جعلت هذا الفكر يبقى خارج هذه الدوائر. محاصراً في إطار نظري بحت، في تقديري هناك تأثير غربي على فكر مالك بن نبي. ولست هنا أعني ما ذهب إليه " أسعد السمحراني " فيما ذكره عنه الكاتب، بل أعني التأثير الذي لا يقع في صميم المنظومة المعرفية للغرب. فأن يقرأ مالك بن نبي الغرب أو يستوعب ثقافته ويستثمر نتائجها. أمر لا يجوز الاعتراض عليه. إنما القضية الكبرى تكمن في كيفية قراءة الغرب وتحديد جغرافية المعرفة الغربية، وفرز خطاب المؤسسة الاستعمارية حتى لو كانت تأخذ طابعاً أكاديمياً. مالك بن نبي في تصوري وقع في هذا المأزق. وسوف أحصر وجهة نظري في هذا الموضوع في نقطتين :

1- مالك بن نبي تفتحت عيناه منذ الشباب على الثقافة الفرنسية، وانتقل إلى فرنسا وهو لا يحمل في جعبته إلا بقايا من التعاليم الدينية البسيطة التي كان يتولاها "المسجد" وبعد ذلك كانت الثقافة الفرنسية تشغل حيزاً كبيراً من تجربته، وطبعاً استخدم الثقافة الفرنسية لأن هذه الأخيرة مرت من طور ، غدت فيه خطاباً رسمياً للمؤسسة الاستعمارية .

2- طرح مالك بن نبي فكرة " القابلية للاستعمار " في ظروف لم تكن تسوغ أبداً هذا النوع من الطروحات ، وقبل ذلك لا بد من أن نؤكد على جانب العلاقة الزمنية بين فكرة مالك بن نبي وواقع الاستعمار الفرنسي.

لقد عاش مالك بن نبي في الجزائر مدة قصيرة لو أردنا مقرنتها مع مكوثه في فرنسا. في الجزائر مكث من 1905 إلى 1930م. أي 25 سنة ، بينما بقي في فرنسا فترة تتجاوز هذا العمر بسنة كاملة ( 1930 – 1956 ) وطبيعي جداً أن يكون حجم الاستفادة في الثانية أكثر نظراً لمستوى النضج العقلي لمالك بن نبي ، بينما العمر السابق الذي قضاه بالجزائر كان يجمع بين الطفولة وعدم اكتمال النضج. هذه المدة من النضج كلها قضاها في فرنسا، وخرج منها بعد أن استشف كامل معارفه. في هذه الأثناء نشر كتابه " وجهة العالم الاسلامي " الذي تعرض فيه لفكرة " القابلية للاستعمار " وكان ذلك في سنة 1954 أي قبل سنتين فقط من مغادرته لفرنسا. وهو يشكل قمة ما استفاده مالك بن نبي من الجو الثقافي الفرنسي. ان تصاعد المقاومة في داخل الجزائر وتصاعد موجة الاحتجاج على المؤسسة الاستعمارية، جعل هذه الأخيرة تروج لهذه الفكرة. فكرة القابلية للاستعمار. وبأن هذا الشعب ( أي الجزائري ) يستحق الاستعمار. هذا الجو المشحون بالخطابات الاستعمارية كان بلا شك له أثر في ذهنية مالك بن نبي ، سرعان ما قادته إلى البحث في حقيقتها، والامساك بمسوغاتها في الواقع الاسلامي. إن مالك بن نبي كان ينظر في تلك الحقبة إلى العالم الاسلامي من موقع الثقافة الاوروبية والأجواء التي كانت تتحكم في الذهن الفرنسي الاستعماري.

ونحن نلاحظ أن رجلاً لا تقل معرفته بالغرب، بل في رأيي يبقى على جانب كبير من الفهم للفكر والوعي الاوروبي ، وهو الطبيب النفساني "فرانزفانون " كان واقفاً إلى جانب الشعب الجزائري، فاضحاً للمؤامرة الاستعمارية الفرنسية، ورد على كل خطابات المستعمر. وكانت طريقة " فانون " نابعة من عقلية منظر ومبدع ينطلق من موقف معين مستقل عن كل ايحاء ثقافي للغرب.. واستطاع هذا النوع من التحليل أن يثير اهتمام مفكري الغرب أنفسهم، ولا أدل على ذلك من المقدمة التي أسهب فيها " جون بول سارتر " لكتاب " معذبو الأرض " .

أقول هذا وأعتبره وجهة نظر يمكن أن يقبلها الأخرون أو يرفضونها، وأني مع ذلك أرى الكاتب زكي أحمد ملم أكثر بما كتبه مالك بن نبي وما قيل عنه. وأتمنى أن يكون مؤلفه بادرة حسنة. تعيد لفكر مالك بن نبي بعض الاعتبار الذي طالما حاول الكثيرون تجاوزه بصورة أو بأخرى . ولعلها بداية في قراءة افكار وتجارب من سبقونا بالاهتمام بهذه الأمة التي لا تزال تعيش أسوأ حالاتها، قراءة تجعل الفكر يمتد إلى الأمام مستفيداً من معطيات الحاضر، وفي ذلك يكمن جهاد المعرفة.   

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة