تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

حقوق الإنسان بين الكونية والخصوصية: نموذج الأقليات الإسلامية

محمد بشاري

تمهيد

يتزامن تحرير هذه الدراسة مع صدور التقرير السنوي الذي تصدره وزارة الخارجية الأمريكية حول حقوق الإنسان، ومرة أخرى حظيت أغلب الدول العربية والإسلامية بحصة كبيرة من الانتقادات والتحذيرات، بل إن أغلب وسائل الإعلام العربية أجمعت على أن ميزة التقرير السنوي لهذا العام كونه جاء بما سمي (انتقادات قاسية للسعودية ومصر وخجولة للدولة العبرية).

ولا نريد التوقف عند أسباب خجل التقرير من توجيه انتقادات للكيان العبري، ولن نتوقف أيضاً مع طبيعة الانتقادات التي وجهت إلى أغلب الدول العربية والإسلامية، بقدر ما يهمنا إثارة مجموعة من الملاحظات والأسئلة التي نرى أنها غائبة فيما نحرره كفاعلين عرب ومسلمين حول مفهوم حقوق الإنسان.

فالواضح أننا أصبحنا نترقب صدور مثل هذه التقارير، وكذلك التقارير التي تصدر عن منظمة العفو الدولية أو منظمة (هيومان رايت واتش) وغيرها من المنظمات، ولكن مع مرور السنوات، أصبحت هذه التقارير بمثابة مراجع شبه مقدسة في قراءة وتقييم الأداء الحقوقي للدول العربية والإسلامية، وهو ما نخشى أن يتم تكريسه قسراً مع الزمن.

حقوق الإنسان وسؤال المرجعية

إنها أزمة المفاهيم والمرجعيات: هذا ما نود التنبيه إليه والتحذير من السقوط في فخ التقزيم من شأنه.

إن توجيه النقد العربي والإسلامي لطبيعة المرجعيات الفكرية والإيديولوجية لمفهوم حقوق الإنسان كما هو جارٍ به العمل في الغرب، لا يعني إطلاقاً دفاعاً مباشراً أو غير مباشر عن أوضاع حقوقية عربية وإسلامية لازالت في حاجة إلى الكثير من المراجعة التي تهدف إلى رد الاعتبار لكرامة الإنسان كما تم تكريمه في القرآن الكريم، وإنما يهدف هذا النقد إلى ضرورة أخذ المؤاخذات بعين الجد والرصانة، حتى لا تختلط المفاهيم علينا، وحتى لا نصبح، مع مرور الزمن، مجردين -بالقهر والضغوط- من مرجعياتنا الدينية والمذهبية والثقافية، بحجة الامتثال لكونية مفهوم حقوق الإنسان.

وحتى نكون عمليين أكثر، لنتذكر أنه في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1948، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وأصدرته، مطالبة البلدان الأعضاء في المنتظم الدولي، أن تدعو لنص الإعلان وأن تعمل على نشره وتوزيعه وقراءته وشرحه، ولاسيما في المدارس والمعاهد التعليمية الأخرى، دون أي تمييز بسبب المركز السياسي للبلدان أو الأقاليم.

حدث ذلك في عام 1948، ثلاث سنوات فقط بعد نهاية الحرب العالمية الثانية(1)، وهذا يتطلب مجموعة من الملاحظات والتي يمكن اختصارها في نقطتين اثنتين:

ـ معلوم أن أغلب الدول العربية والإسلامية كانت خاضعة للاستعمار الغربي في تلك الحقبة، وبالتالي لم تكن أصلاً منتمية أو منضمة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة.

ـ ترتبط الملاحظة الثانية بسابقتها، فإذا كانت أغلب الدول الموقعة على المسودة الشهيرة التي أطلق عليها ما سمي بـ(الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) (في أواخر 1948)، فكيف لنا أن نتوقع أن تأخذ الدول الأعضاء الموقعة على نص الميثاق، الخصوصيات المميزة لدول كانت في عداد المستعمرات، وكان ينظر إليها بعين الاحتقار والتقزيم والاستكبار؟

ولعل الاستثناء المحتشم حول تقدم مبادئ حقوق الإنسان برضا عالمي عام، هو ما قد نلخصه في اتجاهين اثنين:

ـ اتجاه المصادقة على اتفاقيات ومواثيق إقليمية لحقوق الإنسان، والتي تعتبر الأساس الأهم لقيام نظم إقليمية لحقوق الإنسان. فمع بروز توجه الأمم المتحدة بإصدار الاتفاقيات والمواثيق الدولية توالى ظهور الاتفاقات والمواثيق الإقليمية، فظهرت الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التي اعتمدها مجلس أوروبا في الرابع من نوفمبر سنة 1950 ودخلت حيز التنفيذ سنة 1953. ثم الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان التي أقرتها منظمة الدول الأمريكية. ثم جاء بعد ذلك الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب من جانب منظمة الوحدة الإفريقية . سنة 1981 ليدخل حيز النفاذ في 21 تشرين الأول (أكتوبر) 1986، ثم إصدار منظمة المؤتمر الإسلامي إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام سنة 1990(2).

ـ اتجاه يهدف إلى الأخذ بعين الاعتبار بعض الخصوصيات، وهذا ما تم في مؤتمر فيينا الذي انعقد فيما بين 14 و26 حزيران (يونيو) 1993، عندما توج بإصدار إعلان فيينا الذي يعد وثيقة تاريخية وبرنامج عمل دولي يرسخ احترام حقوق الإنسان لصالح البشرية لوضع حد لمعاناة ضحايا انتهاك هذه الحقوق. وقد عُقِد اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السابعة والأربعين بجلستها العامة المنعقدة في يوم 18 كانون الأول (ديسمبر) 1992، حيث أصدرت القرار رقم 47/135 بشأن إعلان حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية أو دينية أو لغوية، وهو ما سيتم استغلاله بشكل ممنهج في التقارير الحقوقية التي تطرقنا إليها من قبل.

وينطبق الأمر نفسه على خلفيات توقيع الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية (1966) والاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966) والبروتوكول الاختياري الملحق بالاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية الذي قرر حق الأفراد في أن يتقدموا إلى لجنة حقوق الإنسان بشكاوى عن دعواهم بأنهم "ضحايا انتهاك أي حق من الحقوق المقررة بالاتفاقية"، وفي أغلب هذه الحالات، كان تقزيم الخصوصية الإسلامية قاسماً مشتركاً، وسوف نأخذ نموذجاً تطبيقياً لإشكالية احتقار هذه الخصوصيات.

فأغلب الدراسات الغربية ترى في تحريم الإسلام زواج المسلمة من غير المسلم تقييداً لحق المرأة بل وإهداراً لحقوق الإنسان، على عكس رؤية النص القرآني للموضوع، والذي يرى الأمر حفاظاً على الشكل الإسلامي للأسرة وحماية لعقيدة الأطفال وصوناً للمرأة المسلمة من أن يكون صاحب القوامة عليها غير مسلم.

نأتي لنموذج آخر أكثر بشاعة، ففي بعض الدول الإسكندنافية، أصبحت عقود النكاح تتم حتى بين الشواذ جنسياً، وتندرج هذه القفزة الإنسانية ضمن الانتصارات التي حققها توسيع ماهية مفهوم حقوق الإنسان، والذي يكاد يكون خاصاً بحقوق الإنسان الغربي الأبيض بالدرجة الأولى، لأن هذا الأخير كان يجسد الأغلبية المطلقة ضمن الموقعين على نص الميثاق العالمي لحقوق الإنسان.

بل إنه في أغلب الدول الأوروبية اليومية، لم يعد مسموحاً الحديث عن الشذوذ الجنسي، وإنما عن مثليي الجنس، وإلا اعتبر الأمر عنصرية لفظية تستوجب العقاب! فكيف يمكن أن نتحدث عن كونية مفهوم حقوق الإنسان في هذه الحالة بالذات؟

وكما أشارت الباحثة هبة رؤوف عزت في دراسة لها حول الموضوع، فقد حاولت العديد من الأدبيات العربية إضفاء الصبغة الإسلامية على المفهوم، فبرزت كتابات تتحدث عن (حقوق الإنسان في الإسلام)، بل صدر بالفعل عن أحد المؤتمرات الإسلامية الدولية (بيان عالمي لحقوق الإنسان في الإسلام)، واحتفظ بنفس مفردات الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة مع محاولة إثبات عدم تعارضه مع الإسلام بعرض الأدلة الشرعية التي تساند هذه الحقوق، وهو ما يجعل الإطار الغربي للمفهوم في التحليل الأخير هو المرجعية. وهذا ما أشرنا إليه في مطلع هذا العرض: إنها أزمة مرجعية، قبل أن تضيف مجموعة من التحفظات نعتقد أن أهمها يتعلق بعلمانية الخصوصية الحضارية للمفهوم(3).

فالتطور التاريخي لفكرة حقوق الإنسان في الغرب يؤكد أن المعنى المقصود في تشريع الحقوق الإنسانية هو تحقيق الأهداف والقيم الغربية والتي ترتبط بالخبرة التاريخية لسياق حضاري معين، فالانطلاق الفعلي لفكرة حقوق الإنسان جاء مع الثورة الفرنسية، وهدف إلى التخلص من استبداد الملوك، وتزامن مع كتابات مفكري تيار الإصلاح الديني البروتستانتي في أوروبا والتي سعت لإزالة سلطان الكنيسة وكتابات الوضعيين، وهي التي أكدت على فكرة المجتمع المدني وكون الإنسان ذا حقوق طبيعية لا إلهية، (فالطبيعي) يحل محل (الإلهي) أو (الوحي).

مفهوم حقوق الإنسان إذن هو تركيز للقيم والمبادئ التي انتهى إليها الفكر الأوروبي والرأسمالي في تطوره التاريخي، كما أنه نموذج للمفاهيم التي يحاول الغرب فرض عالميتها على الشعوب الأخرى في إطار محاولته فرض سيطرته ومصالحه القومية، بل ويستغل ذلك سياسياً في كثير من الأحيان، كما يحدث في العلاقات الدولية وفي الدفاع عن حقوق بعض الأقليات بهدف زعزعة وضرب النظم السياسية المخالفة والخارجة عن (الشرعية الدولية) و (النظام العالمي الجديد). وإذا كانت بعض الكتابات الغربية تحاول تأكيد هذه (العالمية) للمفهوم، فإن دراسات أخرى، خاصة في إطار علم الأنثروبولوجيا، تؤكد على نسبية المفهوم وحدوده الثقافية مؤكدة أهمية النظر في رؤية حضارات أخرى للإنسان وحقوقه انطلاقًا من الفلسفة التي تسود الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة، وهي التأكيد على التباين والتعددية في الثقافات والخصوصيات الحضارية لكل منطقة. وهذا ما ينطبق بالدرجة الأولى على حالتنا نحن العرب والمسلمين، اللهم إن كنا نتعمد صرف النظر عن هذه الخصوصية في زمن إكراهات ما بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن، لأغراض لا علاقة لها أصلاً بتلك الخصوصية.

إن منطلق حقوق الإنسان في الخطاب الغربي، حتى نكون صرحاء مع الذات العربية والإسلامية، وكما تضيف الباحثة، هو الحق الطبيعي المرتبط بذاتية الإنسان من الناحية الطبيعية، بينما الحق الشرعي للإنسان في الإسلام يستند إلى التكريم الإلهي ويرتبط بمفاهيم الأمانة والاستخلاف والعبودية لله وعمارة الأرض، ولا ينفصل عن حقوق الله لارتباطه بالشريعة التي تنظمه، وهو ما يجعله غير قابل للإسقاط بعقد أو صلح أو إبراء، فحقوق الإنسان الشرعية ليس من حق الفرد أو الجماعة التنازل عنها أو عن بعضها، وإنما هي ضرورات إنسانية توجب الشريعة الحفاظ عليها من قبل الدولة والجماعة والفرد، فإذا قصرت الدولة وجب على الأمة أفراداً وجماعات تحملها؛ لذا كان مدخل (الواجب الشرعي) في الرؤية الإسلامية هو المدخل الأصح لفهم نظرة الإسلام للإنسان ومكانته وحقوقه، خاصة السياسية منها، تحقيقًا للمنهج الذي يربط بين الدراسة الاجتماعية السياسية والمفاهيم الشرعية من أجل بلورة رؤية إسلامية معاصرة.

أي دور للأقليات الإسلامية في تقريب الرؤى؟

لعل إثارة مشكل الحجاب بين الفينة والأخرى في مختلف القنوات الإعلامية الغربية، وطبيعة تناول هذه القنوات للموضوع، يجسد نموذجاً تطبيقياً عملياً حول ضخامة المشاكل التي تعيش على إيقاعها هذه الأقليات، ويترجم أيضاً واقعاً ملموساً حول طبيعة التوفيق بين كونية مفهوم حقوق الإنسان من جهة، واحترام خصوصيات ثقافات كونية هي الأخرى، ولكن تختلف في مجموعة قيم وأفكار حول القيم الكونية التي يتحدث عنها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان.

ولسنا في حاجة كذلك إلى سرد لائحة عريضة من الانتهاكات التي مست العديد من أفراد الأقليات الإسلامية مباشرة بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن، ويكفينا دلالة تصريح صدر عن أحد المحامين الأمريكيين، وجاء فيه بالحرف: "لقد أمضينا ستين عاماً نقدم فيها الاعتذار بسبب اعتقال الأمريكيين من أصول يابانية، وسنمضي الستين عاماً المقبلة في الاعتذار للأمريكيين من أصول عربية وللمسلمين، ما لم توقف هذه الحملات الاعتقالية الآن"، أو حديث السيدة ليلى شرف عضو مجلس أمناء المنظمة العربية لحقوق الإنسان عندما سئلت عن هذه الانتهاكات، فقالت: "عندما تدخل السياسة والقوة في موضوع حقوق الإنسان تنتصر القوة على حقوق الإنسان. فبعد أحداث نيويورك وواشنطن نجد أن هناك انتهاكاً بشكل كامل لحرمة حقوق الإنسان وعدم إدانته، قبل إثبات التهمة عليه، وعدم تحدث منظمات حقوق الإنسان يعود إلى أنها أصيبت بالرعب والخوف الذي أصاب الدول نفسها من خوف أن ينالها الاتهام لما حدث".

فأين هي الخصوصية الكونية وسمو الحقوق الإنسانية في هذه النماذج العابرة؟

وقد يكون واقع الأقليات الإسلامية هو الأكثر حاجة إلى تفعيل خطاب التجديد والاجتهاد، على اعتبار أن أبناء الأقليات الإسلامية يعيشون على إيقاع إكراهات الانصياع لقوانين غربية، وغالباً ما تقرأ على أنها غريبة عن المميزات الهوياتية (identitaire) لكينونتهم وبين هذه المميزات، والتي تقول بأنهم مسلمون قبل أن يكونوا أوروبيين أو عرب أو أفارقة؟ كيف يتم التوفيق بين حقوق مدنية وحقوق إسلامية؟ وما هو موقع ودور هذه الأقليات في كونية الحقوق التي تزعم الدول الغربية إسقاطها على باقي دول المعمورة؟ وما هي القواسم المشتركة التي يمكن أن تجمع بين سكان المعمورة، مسلمين كانوا أم مسيحيين أم يهوداً، انطلاقاً من الآية الكريمة {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}، أو الآية الأخرى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}؟

أسئلة عديدة لازالت معلقة ولازالت في حاجة إلى الاجتهاد والصراحة والتطبيق.

 

الهوامش:

* الأمين العام للمؤتمر الإسلامي الأوروبي، ورئيس الفيدرالية العامة لمسلمي فرنسا، ونائب رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية.

(1) نحن نرى أن الحديث عن حرب عالمية أولى أو ثانية يعتبر في حد ذاته تمييزاً خطيراً في المفاهيم، وقد كان من المطلوب أن نتحدث عن الحرب الغربية بالدرجة الأولى، أو حرب الرجل الأبيض ضد نفسه، وليس التأكيد على أنها كانت حرباً عالمية!

(2) حقوق الشعوب اليوم: الأسئلة والتحديات. نحو منظومة عربية لحقوق الإنسان. منية عمار الفقي. ضمن أوراق محاضرة أشرف على تنظيمها المعهد العربي لحقوق الإنسان على هامش دورة عنبتاوي. تونس. في 29/07/2004 .

(3) إشكاليات مفهوم (حقوق الإنسان). هبة رؤوف عزت. عن موقع (الخيمة) الإلكتروني.

http://www.khayma.com/almoudaress/takafah/hkokinss.htm.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة