تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

شعر مصطفى جمال الدين: دراسة فنية

عبدالله فيصل آل ربح

 

- شعر مصطفى جمال الدين: دراسة فنية

- رسالة ماجستير

- إعداد الباحث: عبدالله فيصل آل ربح

- تحت إشراف: د. حافظ المغربي

- الموسم الجامعي: 2005 - 2006م

- جامعة الملك سعود - كلية الآداب

 

موضوع البحث وأهميته:

موضوع هذا البحث هو شعر الشاعر العراقي السيد مصطفى جمال الدين: دراسة فنية.

وتتأسس هذه الدراسة على ديوان الشاعر الذي ضمَّ جزءًا من نتاجه الشعري (61 قصيدة) إضافة إلى ما وقعت عليه يدي من قصائد له في كتاب >سيد النخيل المقفى - كتاب مؤلف من مجموعة مقالات لعدد من الكتَّاب< وقد احتوى على (13 قصيدة) فيكون المجموع لدينا أربعاً وسبعين قصيدة هي كل ما استطعنا جمعه للشاعر.

أمَّا سبب اختيار الموضوع فهو تميُّز تجربة الشاعر الذي حمل قضية الشعب العراقي الذي يحاول التخلص من محنة النظام البعثي الذي يطبق على حريته ويسومه الخسف والعذاب، ووظَّف جزءًا غير يسير من شعره في هذا الإطار.

ولعلَّ أبرز ما دفعني لدراسة هذا الشاعر أنَّه لم يحظ -فيما أعلم- بدراسة مستقلة لشعره، وبالتالي فإن هذا البحث يهدف إلى تسليط الضوء على تجربة هذا الشاعر ممَّا سيوفِّر مصدرًا مستقلاً لدراسة شعره.

منهج البحث:

المنهج الوصفي التحليلي.

محتويات الرسالة:

المقدمة:

تحتوي على أهميّة الدراسة ونطاقها وأهدافها وأبرز تساؤلاتها.

التمهيد:

يحتوي على نبذة عن حياة الشاعر وأبرز مراحلها، وبيئته وسياقه العام، هذا بالإضافة لمؤلّفاته وأبرز أساتذته. كذلك عرض سريع لأهمّ الدراسات السابقة وأبرز الأسباب -في وجهة نظري- التي أدّت إلى إهمال دراسة شاعر بمثل هذا المستوى دراسة تتناسب مع مكانته الشعريّة.

وأخيراً المنهج الذي اتبعته في فصول هذه الدراسة.

الفصل الأول:

خصّصته لدراسة أبرز الروافد التي شكّلت شاعرية مصطفى جمال الدين، وقد قسّمتها إلى أربعة روافد رئيسة تناولت كلاًّ منها على حدة؛ وهي:

(1) البيئة النجفية المحتفية بالشعر: نركز هنا على مزيتين من مزايا النجف الأشرف، طالما ركَّز عليها الشاعر نفسه في حديثه عن هذه البيئة. وهما:

1- القراءات المتنوعة:  فالنجف كانت ولا زالت من أكثر المدن القارئة والمنفتحة على نتاج الأمَّة العربية، وما يصل مترجمًا إلى العربية في مجتمع كان يعيش الانغلاق ومواجهة أي مدٍّ يأتي له من الخارج

2- مدينة الوافدين: من المعروف أنَّ النجف الأشرف مدينة علمية يقصدها الكثير من الطلبة المسلمين الشيعة من شتى أنحاء العالم لتحصيل العلوم الشرعية. وبالتأكيد فإنَّ هؤلاء الطلاب يمثلون ثقافات متنوعة جاؤوا بها من بلادهم تفاعلت مع بعضها لتولّد نوعاً من التنوع داخل المجتمع الطلابي.

وإذا أضفنا إلى هذا أنَّ طالب العلوم الدينية يركِّز في مرحلة المقدِّمات(1) على اللغة العربية وآدابها، وذلك بدراسة عدة كتب في النحو والصرف والبلاغة ليتمكن من التعامل مع النصِّ الديني؛ لذا فإنَّ الذائقة اللغوية والأدبية للطالب النجفي ترتفع وتزهو مع دراسته.

نضيف لذلك المكتبات الضخمة -والتي أسست بجهود فردية- التي أوقفها أصحابها بعد وفاتهم على طلبة العلم، خدمت الكثير من الطلبة ووفرت لهم الكتاب في ظلِّ شظف العيش وندرة الموارد المالية.

في هذا المجتمع ينشأ طالب العلوم الدينية، في جو من الجدية لا يدع وقتًا لمن أراد التحصيل العلمي إلا للدراسة، كذلك؛ فإنَّ طبيعة النجف المحافظة التي لا تحتوي على >ما يلهي الشباب عن دراستهم أو يخرجهم عن تحفظهم<(2) من مقاهٍ، أو مسارح، أو سينما، و>محيط النجف الضيِّق، ومناخها الصحراوي القاسي، وجدية العمل الدائب في تحصيل العلم ومذاكرته ليل نهار، كلُّ ذلك جعل رجال العلم وطلابهم يبتدعون أساليب مختلفة، ويفترعون مناسبات عديدة لتطرية جفاف حياتهم اليومية، والترويح عن أنفسهم المكدودة المتعبة، وتناسي فقرهم المدقع<(3).

وعن تلك المناسبات يقول مصطفى جمال الدين: >فكانت تلك الحفلات هي المتنفس الوحيد الذي يجد الشاب فيها ولعه المفضل<(4).

هذه الحفلات الشعرية تنقسم إلى قسمين: عام وخاص، فالأول يكون مفتوحًا في المناسبات العامة لاسيما المآتم والأفراح، وما أكثر هذه المناسبات في بيئة كالنجف الأشرف.

وهذه المحافل -خاصة كانت أم عامة- قد تتطور لتتحول إلى معركة أدبية تطرح فيها الأفكار المتخالفة حول أهمِّ الموضوعات السياسية والاجتماعية، فيتسابق الشعراء كلٌّ لإبداء موقفه من هذه المعركة منتصرًا لهذا الشاعر أو ذاك، فتنشأ معارك أدبية ونقائض شعرية، تستمرُّ حسب أهميتها وأهمية هذا المحتفى به وكثرة المحتفين به(5).

في هذه البيئة نشأ مصطفى جمال الدين؛ وشارك في تلك الاحتفالات بقصائد ضاع معظمها. فقد كان يشارك في المناسبات العامة بقصائد في ولاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، مثل قصيدته الشهيرة في ذكرى المولد النبوي الشريف:

عوديْ لأمْسِكِ يَنْطَلِقْ منكِ الغدُ

ما شعَّ في دمكِ النـيُّ محمـدُ

يا أمَّـةً يبسَ الزمانُ وعودُهـُا

ريَّانُ منْ نبعِ النبـوةِ أمـلدُ(6)

 

(2) الدراسة (دينية، أكاديمية): تخصص الشاعر في دراسة العلوم الدينية، وللغة العربية أهمية بارزة في هذا الحقل من العلوم مما يزيد من اهتمامات الطالب بالشأن الأدبي، كذلك تخصصه في دراسته الأكاديمية في مجال الشريعة (مرحلة الماجستير) وفي مجال النحو واللغة (مرحلة الدكتوراة) إضافة لتدريسه لمقررات تابعة لهذين الحقلين وما يتعلق بهما، مما ترك أثرًا واضحًا على جوانب تفكير الرجل بشكل عام، ونتاجه الشعري بشكل خاص. وهذا ما نتاوله بشكل مفصل بين طيات الدراسة.

(3) الجـذر التراثـي:  نعلم تمامًا أنَّ الدراسة الدينية التقليدية في الحوزة العلمية تسهم في رسوخ حبِّ التراث عند الطلبة، فشعراء الحوزة غالبًا ما يتعلقون بشعر التراث -لاسيما العصر العباسي منه- ويعتبرونه النموذج الذي يسعى الشاعر لأن يرتقي إلى مستواه. ويضاف لعنصر الشعر التراثي عنصر آخر يلحق بالدراسة الدينية وهو التاريخ الإسلامي مما يولّد رصيدًا ثقافيًّا يستقرُّ في ذاكرة الشعراء ليرفد إبداعاتهم بشكل واضح.

ونستطيع إجمال مؤثرات الجذر التراثي التي رفدت شعر مصطفى جمال الدين في أربع ظواهر تناولناها كلًّا على حدة، وهي:

1- استلهام الأحداث التاريخية.

2- العلاقة مع النصوص التراثية.

3- رمزية كربلاء.

4- الأسطورة.

(4) الأفكـار السياسيَّة: النجف الأشرف مدينة علميَّة بالدرجة الأولى، عني سكَّانها -ولاسيَّما زعماؤها- بالعلم الشرعي وتحصيله. ولم يكن للنَّجفيين اهتماماتٌ بالسياسة!

إلا أنه من المسلمات أنها من أهم مدن العراق، ويوجد على أرضها الزعماءُ الروحيون ليس لمعظم العراقيين فحسب؛ بل لكثيرٍ من المسلمين الشيعة في العالم. فلابدَّ أن تستجيب لمتغيِّرات العصر الذي أصبح العربي معه يُتابِعُ الأحداث السياسية ويتفاعل معها رغم أنفه!

ومن هنا انطلق معظم الشعراء -على اختلاف توجهاتهم- يعبِّرون عن أفكارهم السياسية المتباينة.

وأبرز من تحمَّس مع تيَّارات الشعر السياسي هم أبناء مدرسة (الكلاسيكية الحديثة) "وقد تميَّز شعر هذه المدرسة، برصد المواقف السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة وتضمينها الشعر"(7). وتتشكل النظرة السياسية لشعراء هذه المدرسة في دائرة صغرى سرعان ما تنداح على شكل دوائر الماء إلى دوائر أكبر فأكبر. هذه الدوائر هي على التوالي:

(1) الوطن "العراق".

(2) القوميَّة "الوطن العربي".

(3) الدين "العالم الإسلامي".

(4) الإنسان "قضايا الحرية في العالم".

وإلى هذه المدرسة ينتمي شاعرنا الذي دفع ثمن مواقفه غاليًا، وذلك بالبعد عن الوطن تجنبًا لقمع النظام القائم في بلاده.

الفصل الثاني:

ارتأت الدراسة تصنيف شعر جمال الدين إلى المضامين المستخلصة من شعره بغض النظر عن الغرض التقليدي الذي انضوى المضمون بين طياته، لذلك كان تصنيف مضامينه الشعرية إلى أربعة مضامين رئيسة على النحو التالي:

أولاً: شعر المناسبات: كما أسلفنا فإن النجف بيئة للمناسبات الدينية، وكلُّ مناسبة غير دينية في الأساس لا بدَّ وأن تصطبغ بالجانب الديني؛ فالزواج يُرْبط بمناسبات المولد النبوي الشريف والمدائح في أهل البيت (عليهم السلام)، والجنائز تُرْبط بمناسبات وفاة واستشهاد أفراد أهل البيت كذلك.

وبشكلٍ عام؛ انقسم شعراء المناسبات في النجف إلى قسمين:

الأول: قسمٌ لم يتعدّ إطار المناسبة بل ظلَّ حبيس موضوعها.

الثاني: قسمٌ استغلَّ المناسبة لبثِّ القضايا التي تشغل ذهنه؛ سياسية كانت أو أدبية أو دينية أو اجتماعية، ولم يفوِّتوا أي مناسبة إلا واستغلوها لإيصال أصواتهم إلى أنحاء العالم الإسلامي.

ومن أبرز شعراء القسم الثاني هو شاعرنا مصطفى جمال الدين الذي يشارك في المناسبات والاحتفالات الشعرية يستغلُّ تلك المناسبات لطرح قضيَّة يؤمن بها أو موقف يتبنَّاه؛ غالبًا ما يتصف بالحساسيَّة والتوجُّس من الأجواء العامة حوله، ولكنَّه يقوم بطرحه بكلِّ جرأة، ونجد مساحة القضيَّة أو الموقف الذي يطرحه في النصِّ أكبر من مساحة موضوع المناسبة نفسها على الأغلب. وفي هذا دليلٌ ناهضٌ على أنَّ هدفه الأساسي من المشاركة هو طرح أفكاره قبل إحياء المناسبة التي من الممكن أن يقوم غيره بهذه المهمَّة ويفي بالغرض!

ونجده يثبت في (الديوان) القصائد التي من هذا النوع، أمَّا القصائد التي لم تتعدَّ المناسبة فغالبًا ما نجده قد استبعدها؛ وضاعت في طيِّ النسيان.

ومن خلال دراسة شعر المناسبات عند مصطفى جمال الدين نجد أنَّه قد استغلَّ تلك المناسبات وخرج بها من إطار المدح والرثاء... وغيرهما من الأغراض التقليدية إلى موضوعاتٍ تمسُّ واقع جيله وقضاياه، وأبرز تلك الموضوعات التي حلَّق فيها جمال الدين فوق سماء المناسبة هي:

1- الصراع بين المحافظة والتجديد في الأدب: من المعروف أنَّ العراق كان من أوائل البلاد العربية التي بادرت إلى التجديد في الشعر العربي الحديث، ولاسيَّما في مجال الشعر الحر.

ولكن البيئة النجفية المحافظة تختلف في استقبالها لهذا النوع من التجديد، بالتالي فقد نشأت الخلافات بين أدبائها حول تقبل التجديد في الشعر العربي!

وبالنسبة لشاعرنا جمال الدين؛ فبالرغم من أنَّه لم يخرج على القصيدة العمودية، فإنَّ موقفه من التجديد في شكل القصيدة العربية قد اتَّسم بالاعتدال. فهو لم يهاجم الجديد لمجرَّد كونه جديدًا، ولم يزدرِ القديم لمجرد قدمه، فموقفه واضح وصريح بأنَّ الإبداع/ الشعر موحَّد في صفة الجمال والعذوبة فيقول:

إنَّ عـودًا غنَّى عليهِ  جريـرٌ

فانتشتْ خيمـةٌ وتاهَ  خبـاءُ

هوَ ذاكَ العودُ الذي نازعـتْ

(جيكورُ) في مجدِ كوخهِ الأبهاءُ

وترٌ واحدٌ، تغيَّرَ فيـهِ اللـحنُ

والسحرُ، والرؤى، والعطاءُ(8)

 

2- نقد الحوزة العلمية: حينما يوجِّه مصطفى جمال الدين النقد أو حتى الانتقاد للحوزة -وهو نفسه من نتاجها- إنَّما يوجِّههُ من باب الحرص على أنْ تظهر بالشكل الملائم لمكانتها، وتؤدي واجباتها على أتمِّ وجه.

ونقده للحوزة كان من خلال وجهتين رئيستين، هما:

( أ ) موقفها العملي من قضايا الأمة.

(ب) نظامها وآلية سير التعليم فيها.

3- المواقف السياسية: التركيز في هذه النقطة على استغلال جمال الدين للمناسبة في طرح الموقف السياسي الذي يتبنّاه، وليس على الموقف السياسي نفسه الذي سنتناوله في النقطة القادمة.

نجد الشاعر في أكثر من مناسبة ينتقل من مضمون المناسبة (مدح، رثاء،....) إلى طرح قضية سياسية مهمة يعرض فيها موقفه السياسي الذي يتبناه محلِّقًا بها فوق المناسبة التي جاء ليحتفل بها مع الحاضرين.

ولعلَّ أبرز الأفكار التي طرحها جمال الدين في هذا المضمار، هي:

 أ - الظلم الواقع على الشعب العراقي في ظل نظام صدَّام حسين.

ب- القضايا العربية والإسلامية.

ثانيًا: القضايا الوطنيَّة والقومية: بما أن الأفكار السياسية تعتبر من أهم الروافد المشكلة لإبداع شاعرنا، فمن الطبيعي أنْ يطغى هذا الرافد على سطح شعره، فنجده يتناوله في مختلف نصوصه. وهذا ما يجعل البعض يصنِّف (الديوان) ضمن دائرة "الأدب الإسلامي الثائر"(9).

لكنَّه لم يكن يسيِّر الشعر في خدمة السياسة بمقدار ما كان يطرح رؤاه الشخصية التي لا تتصل بتنظيمٍ سياسيّ بعينه، فهو يظلُّ شاعرًا حرًا يطبِّق أفكاره في شعره.

ومضامين القضايا الوطنية في شعره نجدها تنقسم إلى قسمين رئيسين:

 أ - قضايا الوطن/ القطر (العراق).

ب- قضايا الأمة العربية/ الإسلامية في صراعاتها مع العدو الصهيوني والغرب.

ثالثًا: الاغتـراب: ومصطفى جمال الدين واحدٌ من شعراء العراق الذين عانوا من التشرُّد خارج البلاد، وواحدٌ من الشعراء الذين نجد مضمون الاغتراب موجودًا بقوة في نصوصهم. غير أنَّه يصعب علينا اكتشاف ملامح الاغتراب في شعره، وذلك لأنَّه قد حجب الكثير من نصوصه عن النشر، بالذات في الفترة الأخيرة التي هاجر فيها والتي تمثِّل فترة الاغتراب في حياته، فكلُّ ما حصلنا عليه من نتاجه في فترة الاغتراب التي امتدت من مطلع الثمانينات حتّى وفاته عام 1996م ثماني عشرة قصيدة فقط.

بالتالي فإنَّ تتبع التغيير في تشكُّلات مفهوم الاغتراب في شعره لن يكون بذلك الوضوح المنشود!

ونتناول هنا الاغتراب من البعدين الزماني والمكاني، إضافة للمعجم الشعري للاغتراب لديه.

(أ) الاغتراب المكاني: وعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أن جمال الدين يحنُّ لكل الأشياء الموجودة في وطنه -مهما كانت صغيرة- خرير السواقي، عزف الرعاة، القرية، مدارج الصبية، ثغاء الماشية،...(10)، ويقارن بين أشياء وطنه وأشياء الآخرين، لكنَّ الغلبة تكون دائمًا للوطن وأشياء الوطن:

(بردىْ) يـرفُُّّ فأجتويـهِ لأنَّنيْ

ضيَّعتُ في عينيكِ عذبَ فراتيْ(11)

... ورأيتنيْ وأنا (بجلَّـقَ) مالئًـًا

سوقُ الشيوخِ عليَّ ستَ جهاتي(12)

 

وفكرة الأنهار والمقارنة بينها وبين نهري العراق (دجلة والفرات) تسيطر على كثير من مجريات تفكير الشاعر، فأينما رأى نهرًا وقف ليتذكَّر دجلة أو الفرات!

(ب) الاغتراب الزماني:  مصطفى جمال الدين الشاعر صاحب الحس القومي الشديد، ورجل الدين المعمَّم الذي يرى الزمان يتجاوز أبناء أمّة العروبة والإسلام؛ بعدما كانوا يصنعون تقدَّمه، يقف متذكرًا تارةً ومتفجِّعًا أخرى على زمنٍ ولَّى ومن الصعب أنْ يعود.

فلو رجعنا لقصيدته الشهيرة (بغداد) ورأينا كيف يسرد ماضي بغداد العلمي والأدبي والحضاري الخالد (إصراره على بقاء هذا الماضي الجميل ولو كان مجرَّد تاريخ):

بغدادُ ما اشتبكتْ عليكِ الأعصـرُ

إلا ذوتْ ووريقُ عمـركِ أخضـرُ

مرَّتْ بكِ الدنيا وصبحكِ مشمسٌ

ودجتْ عليكِ ووجهُ ليلكِ مقمرُ(13)

 

كذلك نجد لديه فكرة اللوذ بالماضي من مآسي الحاضر حاضرة بقوة في شعره، وقد تناولناها بشكل مفصل بين طيات الدراسة.

(ج) معجم الاغتراب في شعره:  نقصد بمعجم الاغتراب هنا: الألفاظ التي تكرَّرت في شعره ودلَّت على الاغتراب أو الشعور به. ولن نتطرق لألفاظٍ مثل: الغربة، المنفى،... وما أشبه، بل إلى ما يفضي إليها مثل: الطيور المهاجرة، البحر والإبحار، الأحلام الضائعة، البريد والرسائل. وقد تناولنا كلًّا على حدة.

رابعاً: المـــرأة: تنوعت تشكلات صورة المرأة في شعر جمال الدين بين المرأة/الجسد، والمراة/ الحب، والمرأة/ المثال، كذلك فإنَّ الحواريَّةَ لم توجد في شعره إلا مع المرأة، وهذه ظاهرةٌ تستحقُّ التوقف، فهو لا يحاور غير المرأة، ولا يحكي قصصًا إلا لها وفي معيَّتِها!

ومن خلال تحليل الشواهد تظهر التشكلات مدى فاعلية حضور المرأة في نصوصه الشعرية.

الفصل الثالث:

ويحمل هذا الفصل عنوان الرسالة الرئيس (الخصائص الفنية) وأتناول فيه أبرز الخصائص الفنيّة في شعر مصطفى جمال الدين وذلك على عدّة مستويات هي: الصورة الشعريّة، التناصيّة، موسيقى الشعر وإيقاعه. مفصّلاً في كلٍّ منها بحسب ما تقتضيه الدراسة. وبنظرة خاطفة لمحتويات هذا الفصل:

أولاً: الصورة الشعرية: وقد تناولت فيها أبرز وسائل التشكيل بالصورة الشعرية عند الشاعر، وهي:

1- التشخيص والتجسيم والتمثيل والتجريد: ولكل منها تعريفه وحيثياته وشواهده التي تناولناها بالتحليل، وسنكتفي في هذا الملخص بمثال واحد حول التشخيص الذي نعرفه في هذه الدراسة بأنّه: "نسبة صفات البشر إلى أفكارٍ مجرَّدة أو إلى أشياء لا تُوصَفُ بالحياة.. ومثاله مخاطبتها كأنَّها شخصٌ تسمع وتستجيب في الشعر والأساطير"(14)، ويعرَّفُ كذلك بأنَّه "إكساب الجمادات أو قوى الطبيعة أو المعاني شخصياتٍ، بمعنى تخيُّلها أشخاصًا أحياء قائمين بأنفسهم"(15). فهو بالتالي: أنسنة غير الإنسان.

والمثال هنا للوحة بغداد/ الوطن:

ارتبط جمال الدين بوطنه أيَّما ارتباط، لاسيَّما بالعاصمة بغداد، ولنْ نتدخَّلَ هنا للحديث عن علاقته بالعراق وببغداد، بل سنترك المجال للشعر ليقول كلمته.

حين يؤنسن جمال الدين بغداد؛ فإنَّه يُسبغ عليها مِن الصفات المعنويَّة أضعاف ما يُسبغ عليها مِن الصفات الجسديَّة الماديَّة؛ ليؤكِّدَ أنَّ بغداد/ الأنثى معشوقة تسمو على عالم المادة إلى عالم الروح.

وإذا أردنا البدء بالصفات الجسديَّة؛ سنجده يقول:

مرَّت بكِ الدنيا وصبحكِ مشمسٌ

ودَجَتْ عليكِ ووجْهُ ليلكِ مُقْمِرُ(16)

 

فالقمر ودلالته على تهلُّل الوجه وسعادته يؤسِّس هنا لفكرة الشاعر حول بغداد؛ وهي: التألق الدائم. وقد شخَّص الشاعر بغداد بمخاطبته إيَّاها بضمير المؤنَّث، وإسباغ صفة/ عضو الوجه عليها.

هذا التألُّق لا يعكِّره شيءٌ؛ حتَّى وإنْ توقَّف فترةً فإنَّه سرعان ما يعود، فكأنَّما بغداد أميرةٌ متألقةٌ تعبت قليلاً فأخذت قسطًا من الراحة ينتهي فتعود متألِّقةً بعده:

فكأنَّ نومـكِ إذْ أصيلُكِ هامـدٌ

سِِنَةٌ على الصُبْحِ المُرَفَّهِ تخْطُـرُ(17)

 

فالنوم -الذي يكون للبشر- تُعادله فترة الركود التي تمرُّ بها بغداد لكنَّه يظلُّ شيئًا طارئًا، فكما أنَّ الأصل في الإنسان الاستيقاظ وليس النوم، فالأصل في بغداد هو التألق، وما سِنةُ الركود التي تمرُّ بها بغداد سوى شيءٍ طارئٍ؛ وذلك بقرينة الفعل (تخْطُر) نهاية البيت.

ويكثّف التشخيص الجسدي لبغداد بقوله في القصيدة نفسها:

للهِ أنتِ فـأيُّ  سـرٍّ خالـدٍ

أنْ تسمني وغذاءُ روحكِ يُضْمَرُ

أنْ تشبعي جوعًا وصدركِ ناهدٌ

أو تُظْلِمِي أفقًا وفكْرُكِ نيِّرُ(18)

 

ولعلَّ صفة (الصدر الناهد) هنا قد أنقذت التشخيص مِن أن يُفهم على أنَّه مجرد صورة تمثيلية بين محسوسين (بغداد وكائن حي بشكل عام)؛ لأنَّ هذا الوصف لا يكون إلا للإنسان/ المرأة.

فالشاعر يقف هنا متألمًا لحالة بغداد التي طالما أعالت غيرها، واليوم تعيش الفقر المدقع -على الصعيد المعنوي- رغم أنَّها مليئةٌ بالخيرات إذْ هي صاحبة (الصدر الناهد) الذي لا تملكه الجائعة؛ بل الشبعى المرضعة لغيرها؛ وهنا تتجلّى المفارقة!

2- التشكيل بالحواس في الصورة الشعريّة: الحواس البشريِّة هي الواسطة بين الإنسان وبين أغلب ما حوله في الحياة، لذلك فهي التي تشحذ ذهنه بالخبرات التي تجعله قادرًا على فهم ما حوله مِن الأمور الحسيّة عن طريق تصورّها الذهني مِن خلال الحاسّة.

فذِكر اللون أو الرائحة أو الصوت أو ما شابه ذلك يستفزُّ الخبرة الذهنيّة التي يختزنها العقل البشريّ فيستطيع الإنسان بالتالي التفاعل مع تلك الصورة مِن خلال (تصوّره) لها عن طريق الحاسّة! ولكن -كما أسلفنا- بغير ابتذال وسطحيّة في التصوير يفضي في نهاية الأمر إلى تصوّرٍ مبتذلٍ للصورة.

ونتناول هنا الصور الحسيّة في شعر مصطفى جمال الدين؛ والتي يغلب عليها تأثير إحدى الحواس الخمس، وذلك مِن خلال وجود ما يشير إلى حضور تلك الحاسّة بفعاليّة في بناء الصورة الشعريّة، من خلال خمس نقاط تتعلق كل نقطة بحاسة بعينها.

وسنكتفي بمثال حول هذا النوع من الصور، وهو:

- اللون الأبيض في الصورة البصرية: انتشر اللون الأبيض بين ثنايا أبيات مصطفى جمال الدين بدرجةٍ كبيرةٍ، حتّى أنّنا نستطيع الجزم بأنَّهُ -إضافةً للون الأحمر- أكثرُ الألوان انتشارًا في شعره. وقدْ تنوَّع استخدامه للون الأبيض ما بين تصريحٍ به أو كناية عنه. لكنَّ أكثر الكنايات انتشارًا كانت (النور) أو ما يؤدي معناه.

فالنور هو الأمل الذي يخشى عليه من التوقُّفِ(19)، وهو الفكر والعلم الذي لا يمكنُ أنْ يضمحلَّ وإنْ غاب لفترة(20) وهو الأمل الذي يجدِّدُ الحياة كالشمس:

ويغذِّيْ اللهيبَ جُـرْحٌ، لكـيْ يُشْـ

ـرِقَ في عُتْمَةِ السُرىْ منهُ نـورُ(21)

 

فالنور المشرق هنا ما هو إلاّ بارقةُ الأمل التي تُبْقيْ الحياةَ لهذا المجروح. وقدْ وردَ هذا المعنى عند الشاعر غيرَ مرَّةٍ(22). هذا الأمل الذي يُبَدِّدُ اليأسَ/ الظُلْمةَ:

حتّى طلعتَ طلوعَ الفجْرِ فانكشَفـَتْ

بكَ الدروبُ، وذابتْ دونكَ الظُلَمُ(23)

 

هذا التشبيه البليغ الذي استوفى طرفيه؛ شبَّه فيه الممدوح بالفجر المنير لأنَّه يجسّم الأمل إضافةً إلى الصورة البصريَّة (اللون) أضفى هنا تجسيمًا للظلام -بدلالة الفعل (ذابتْ)- ممَّا يُدلِّلُ على أنَّ النور يبدِّدُ الظُلْمةَ بعزْمٍ وكفاحٍ، وليس مجرَّدَ تجلٍّ أورثَ خفاءً للظلمة.

أمَّا الدلالة المشهورة للنور وهي (الوضوح) فقد استخدمها الشاعر غير مرَّةٍ؛ وللمعنويات مثلما استخدمها للمحسوسات، مثل:

أينَ منَّا رأيٌ كمنبلـجِ الصُبْـ

ـحِ، وعزْمٌ كالزعزعِ النكباءِ(24)

 

فالرأي الواضح الذي لا لبْسَ فيه، ولا يكدِّرهُ شيءٌ يُعَبِّرُ عنهُ بمنبلج الصبحِ.

ويشاطره المعنى البيت التالي:

ومنابرًا طَلَعَـتْ على آفاقـها

خُطَبٌ مِنَ الصُبْحِ المُنَوَّرِ أنْصَعُ(25)

 

في هذه الصورة الجميلة تتحول المنابر إلى عالمٍ خاصٍّ له آفاقه الرحبة، خاصّة وأنّ كلمة منابر جاءت صفة لـ(الدين عندَ محمدٍ)(26)، ليأتي تصوير خُطَب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه (رضي الله عنهم) بالشمس التي تطلع على ذلك العالم (الدين/ المنابر) على خير هيئة يكون فيها الطلوع، ذلكَ أنَّ النُّصُوعُ هنا يساوي الوضوحَ، سواءٌ كان الوضوحُ بمعنى عدم اللبْسِ أو بمعنى الجودة. وهو المطلوبُ في كلا الأمرينِ: (الآراء والخُطَب).

لذلك فكلُّ ما يُعكِّرُ هذا الوضوح سينتمي للظلمة/ الليل (الدُجى):

والصُبْحُ ثوبٌ جميلُ الوشيِّ تَلْبَسُهُ

لَكِنَّهُ مِنْ فُجَاءِاتِ الدُجَى كَدَرُ(27)

 

إذن فقدْ ظلَّ الصبح وتوابعه (الفجر/ النور/ السنى/ الوهج/ الشعاع/ الضوء/....) يمثِّلُ دلالتين مهمَّتين في الصورة الشعرية عند جمال الدين؛ وهما: الوضوحُ والأملُ. ولم يخرج مِنْ إطارهما كما يتضحُ مِن خلال الأبيات(28).

وإذا جئْنا للون الأبيض في بقيَّة صوره الشعرية نجدُ أنَّه غالبًا مرتبطٌ بالدلالة الإيجابية: فالشعار ناصعٌ(29) والثورة بيضاءُ(30) وكذلك المواثيقُ(31) والليالي(32) والأحلام(33). فالبياض هو الدلالة الإيجابيّة التي لا خلاف عليها:

فقدْ رأينا بياضَ الصُبْـحِ يأْلفُـهُ

طرفُ السليمِ، ويعْشَى فيهِ أرْمَدُهُ(34)

 

هنا يُصبح البياضُ/ النور مقياسًا لسلامة البصر، فهو مألوفٌ عند السليم مُزعجٌ عند السقيم/ الأرمد، وهنا حكمٌ قطْعيٌّ لصالحِ الدلالة الإيجابية للون الأبيض، فحتَّى لو كان هناك مَنْ يرى عكس ذلك، فإنَّ هذا سيؤدِّي إلى الحكم بالسلب عليه وليس على البياض!

وإنْ حاول في أحد أبياته أنْ يقلّل مِنْ قيمة اللون الأبيضِ بإعطائه دلالة سلبية، وذلك حينما قالت له (ليلى):

قالـتْ: فليلاكَ ملاكٌ إذنْ

قُلْتُ: وهذا القدْرُ يكفـيها

لكنَّها لم تكُ مِنْ  جنْسِـهِ

وليسَ بالحُسْنِ يُجاريها(35)

 

فما الذي ميَّزها عن الملاك؟!

فيهِ مِنَ النورِ بياضٌ وكَـمْ

في البيضِ ما يُزْعِجُ رائيها(36)

 

إذن فقد أصبحت السلبيَّةُ التي نَفَتِ التميُّز هنا هي: (اللون الأبيض).

ولكن ليس لأنَّ اللون الأبيض سلبيّ في حدِّ ذاته؛ وإنَّما السببُ -في رأي الشاعر- أنَّه لا يكون سببًا لجمال المرأةِ وحده إنْ لم يخالطه اللون الأحمر، إذْ يقولُ في البيتين التاليين مباشرةً:

والحُسْنُ إذْ تمتزجُ النارُ في الـ

ـوَجْنَةِ بالنـورِ فتُذكيـها

وخيرُ أنـواعِ الزهورِ  الـتي

رُكِّبَ في الوردِ أقاحيها(37)

 

هذا على الرَّغْمِ مِنْ أنَّه شيءٌ رائعٌ في منطقةٍ أخرى مِن الوجْه:

وغُـرَّةٌ شعـَّتْ بها نجْمـةٌ

مِنْ خُصَلِ الشَّعْر دياجيها(38)

 

فبياضُ الجبين يزدادُ جمالاً بسبب تمُّيّزه الواضح مِنْ سوادِ الشعر ليتحوَّل اللون الأبيضُ هنا إلى نورٍ مشعٍّ عن طريق الصورة: غرَّةٌ شعَّتْ بها نجمةٌ.

لكنَّ اللون الأبيض يتحوَّلُ إلى شيءٍ مُزعجٍ حينما يتعلَّقُ الأمر بشعر الرأس!

هذه الدلالة التي اتَّفق الشعراءُ العربُ مِنْ سالف العصور على وصفها بالمزعجة لأنَّها إيذانٌ بأفولِ زمنِ الشباب وميلاد زمن المشيب الذي يمهِّدُ لنهاية وشيكة:

حتَّى إذا (السّتّونَ) أثْقَلَ جِذْعُهَا

ثلْجَ الشتاءِ وباخَ ذاكَ الموقدُ(39)

 

نُشاهدُ كيف أنَّ الشاعر قد شخَّص السِّنَّ (السِّتُّون) في نفسه ثمَّ انتقل ليُمثِّلها بكونها شجرةً عن طريق التصوير: (أثقل جذعها)، في صورة جميلةٍ لشجرة مثقلة بثلج الشتاء تُمثّل إنسانًا مُثْقلاً بالشيبِ، فكأنَّما أصبح الثلجُ معادلاً للشيبِ، ويصبح الشتاء معادلاً للبرودِ وأفول حيوية الشباب!

يقول الشاعر في قصيدة أخرى (في حضن الأم):

واستـحالَ الثلـجُ في فُـوْ

دَيـهِ  جمْـرًا  يتضَـرَّمْ(40)

 

فالمسألة هنا تتعدى مجرَّد المشابهة في اللون بين الثلج والشعر الأبيض إلى حماسة الإنسان وحيويته وقُدرته على العطاء، فنجده يقول:

ونديفُ الثلْـجِ المبكِّرِ غطـَّا

ها فأضْحى نيسانُهَا كانونا(41)

 

تعود الدلالة نفسها: البياض الذي يغطي ساحة الرأس؛ فهو وإن رمز للشباب المنصرم بشهر الربيع (نيسان) وللمشيب القادم بشهر الشتاء (كانون) فإنَّه أصرَّ أنْ يُصرِّح في استعارته بالثلج ليأتي بَعْدَهُ بِعِدَّةِ أبيات مصرِّحًا بالشعر الأبيض:

ودماءُ الشبابِ في الشـعرِ الأبـْ

ـيضِ يجلو بريقهَا الخمسينا(42)

 

ولن نتناول هنا الفكرة التي يطرحُهَا الشاعر في قصيدته؛ والتي تُنادي الحبيبة لتخرجه مِن عالم المَشيب إلى عالم الشباب، ولكن ننوِّهُ إلى كيفيَّة تصريح الشاعر بـ(الشعر الأبيض) بل وببريقه الناتج عن سنِّ (الخمسين) في تكثيفٍ واضحٍ للون الأبيض الذي يشير إلى كِبَرِ السنِّ ومِنْ ثمَّ أُفول الشباب ودنوّ الأجل!

3- التشكيل بالصور المتناقضة والمفارقة التصويريّة: يعرَّف الدكتور علي عشري زايد المفارقة التصويريّة بأنَّها: >تكنيك فنّي يستخدمه الشاعر المعاصر لإبراز التناقض بين طرفين متقابلين بينهما نوعٌ مِن التناقض... والتناقض في المفارقة التصويريّة فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاعٍ كان مِن شأنها أنْ تتفق وتتماثل، أو بتعبيرٍ مقابل تقوم على افتراض ضرورة الاتفاق فيما واقعه الاختلاف<(43).

وهذا بابٌ واسعٌ جدًّا في شعر جمال الدين، وسنكتفي هنا بضرب الأمثلة لأنَّ تقصِّي هذا النوع مِن الصور في شعره يحتاج إلى بحثٍ مستقلٍّ.

ونكتفي هنا بمثال حول هذا الموضوع وهو حينما يحوّل المفارقة إلى تعاقبٍ بين تلك المتناقضات؛ كقوله مخاطبًا بعض المعارضين المغتربين الذين يتعاملون مع الغرب:

قدْ نجوتمْ والأهلُ صرعى وبُعْـثِرْ

تُمْ وقدْ شدَّهمْ لحتفٍ نِطاقُ(44)

 

نرى أنَّه قد بدأ بـ(نجوتم/ الأهل صرعى) ثم انتقل إلى (بُعْثِرْتُمْ/ شدَّهمْ لحتْفٍ نطاق)، ولن نتحدّث عن الصورة الأولى لوضوحها الشديد؛ ولكنَّنا سنتحدَّث عن الثانية التي تبدو فيها المفارقة الغريبة؛ فكيف يكون الناجي مُبعثرًا بينما يشدُّ النطاق الصريعَ؟!

تتضحُ الصورة إذا علمنا أنَّ مجرَّد التبعثر في دول الغرب ليس هو المشكلة، بلْ هم في مأمنٍ إذا ما قُورنوا بِمَن هم في الداخل؛ الذين يجمعهم/ يشدُّهم نطاق الموت/ الحتف على يد نظام صدَّام!

في هذه المفارقة تتحوَّل دلالة البعثرة مِن السلب إلى الإيجاب، والعكس صحيحٌ، في صورةٍ مِن الواضح أنَّ الهدف منها هو الردُّ على بعض أقطاب معارضة الخارج التي تنادي بأنَّها قد دفعت ثمنًا باهظًا باغترابها وتشرُّدها في مختلف البلاد، بأنَّ هذا التشرُّد/ التبعثر كان منقذًا لهم ممَّا يلقاه معارضو الداخل مِن الخسف والعذاب!

4- التشكيل بالرمز: وهو محدود وبسيط جداً في نصوص جمال الدين.

5- التشكيل بالتناص، وعلاقات التأثر بالنصوص الأخرى سواء كانت نصوصًا مقدسة (القرآن والسنة النبوية) أو نصوص أدبية لمبدعين آخرين، أو أحداثًا تاريخية.

الموسيقى والإيقاع الشعريّ:

ونتناوله على مستويين:

1- الموسيقى الخارجية: ونُعنى فيها بالأوزان والقوافي التي سار عليها الشاعر.

2- الموسيقى الداخلية: ونتناول فيها تشكلات الإيقاع الداخلي للبيت الشعري وذلك من خلال: التكرار بأنواعه، الكتابة بالتوزيع الموسيقي المغاير للتوزيع العروضي، التقسيم الداخلي للأبيات إلى جُمَل، التدوير، التشكيل بالبديع.

وأخيراً كان الختام بأبرز النتائج التي توصلت إليها الدراسة.

 

الهوامش:

* باحث - السعودية.

(1) أوضحنا مراحل الدراسة الدينية في النجف في التمهيد من الدراسة.

(2) الديوان، ص17.

(3) عبدالصاحب الموسوي (حركة الشعر في النجف الأشرف )، ص116.

(4) الديوان، ص17.

(5) الديوان ص19.

(6) الديوان، ص233.

(7) علي ماضي (مواقف في الشعر والأدب) >سيد النخيل المقفى< ص476.

(8) الديوان، ص198.

(9) محيي الدين اللاذقاني (سموت فكيف يلحقك القصيد)، >سيد النخيل المقفى<، ص536.

(10) نفسه، الأبيات ص207.

(11) نفسه، ص206.

(12) نفسه، ص208.

(13) الديوان، ص101.

(14) مجدي وهبة وَكامل المهندس (معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب)، مكتبة لبنان، بيروت1979م، ص398.

(15) محمدالنويهي (ثقافة الناقد الأدبي)، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ط1، القاهرة1949م، ص248-249.

(16) نفسه، ص105.

(17) نفسه، ص105.

(18) نفسه، ص106.

(19) الديوان، ص255، يقول:

وإذا ما هممتُ سدَّ طـريقِ الـ

ـنورِ خوفٌ وراءَ هدْبِكِ يبدوْ

 

(20) نفسه، ص255، يقول:

نضبتْ زُجاجتُهـُ ولكنَّ  السـنىْ

مازالَ أحْفلَ بالعيونِ وأحشدا

والفكرُ تِرْبُ الشمسِ يغربُ وجههُ

حينًا فتطْلعهُ المواهبُ  فرقـدًا

 

(21) نفسه، ص134.

(22) يقولُ مثلاًً (من قصيدة بغداد):

بالشاطئِ المسحورِ يحضنُهُ الدُجى

فيكادُ من حُرَقِ الهوىْ يتنـوَّر

 

(23) نفسه، ص533.

(24) نفسه، ص214.

(25) نفسه، ص368.

(26) نفسه، ص368، البيت السابق مباشرةً.

(27) نفسه، ص355.

(28) راجع الديوان، مثلاً الصفحات: 119، 125، 126، 135، 165، 166، 179، 180، 188، 215، 225، 238، 233، 237، 302، 355، 368، 403، 410، 457، 533، 551، 572،...إلخ، والأمثلة أكثر مِن ذلك.

(29 )نفسه، ص313.

(30) نفسه، ص510.

(31) نفسه، ص456.

(32) نفسه، ص518.

(33) سيِّد النخيل المقفّى، ص301.

(34) الديوان، ص521.

(35) نفسه، ص333.

(36) نفسه، ص334.

(37) نفسه، ص334.

(38) نفسه، ص331.

(39) نفسه، ص241.

(40) نفسه، ص245.

(41) نفسه، ص251.

(42) نفسه، ص251.

(43) علي عشري زايد (عن بناء القصيدة العربيّة الحديثة) مكتبة دار العلوم، ط2، مصر1979م، ص89.

(44) نفسه،ص304.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة