تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

التعددية المذهبية في السعودية: رؤية في الآفاق

محمد بن صالح الدحيم

مسألة التعددية المذهبية في السعودية أو في غيرها قد تناولها الكثير من العلماء والمفكرين عبر وسائل البحث المتنوعة، وبأساليب مختلفة، ومن مواقع ومنابر متغايرة. وأيًّا كانت المنطلقات فقد كسرت تلك المحاولات الجمود، ونقلت البحث إلى طاولة مستديرة بدل حالة الانعزالية التي شكلت الرأي خلال عقود مضت، واكتفت بوسيلة المنجنيق للرد، ولم يكن هناك أية نية للحوار أو التقارب بحجة امتلاك الحق وحصرية الحقيقة. وبحكم الانفتاح الإعلامي في ظل عولمة بدأت آثارها قبل الإعلان السياسي عنها، وقبل الحديث الثقافي حولها؛ استجابت كثير من المذاهب إلى خلق نوايا -حسنة أو غير حسنة- لحوار مع المختلف، يهدف مسبقاً إلى الانتصار عليه وكشف زيفه! أو إلى هدايته وتتويبه من ضلاله المبين في حال كان الأفق أوسع والنية أحسن.

والمملكة العربية السعودية وضعها التكويني ذو حساسية؛ حيث إن الحالة العلمية السائدة في كل مناحيها (الدرس والإفتاء والقضاء والتأليف والخطابة) له نَفَس واحد، تقليدي مكرور في أغلبه إلى درجة تلغي في الأعم الأغلب الرأي الآخر والحق الآخر، وهذا المنهج ربما كان مفيداً سياسياً حال توحيد البلاد حيث سيخلق مرجعية متمركزة يمكن إدارتها بجدارة، إلا أنه مع مرور الزمن وتحديث الحالة السياسية وفقاً لطبيعة السياسي ووفقاً لمتطلبات المراحل والتغيرات العالمية، كل ذلك والحالة العلمية تتحرك مكانها وتعيش حالة انعزال ليس فقط عن السياسي أو عن المذهب والرأي المختلف بل حتى عن المجتمع الذي هي منه وفيه وتمطره فقهاً ودعوة ووعظاً و... لكن القوة كانت للأحداث حيث فرضت حالات جديدة، وأضافت ظروفاً تجمع المختلف وتجعل الحوار ثقافة والحقَّ متعدداً. وكان العلماء والمثقفون الإسلاميون تجاه الأحداث منقسمون، منهم:

1- من اتخذ الممانعة والتأبي على التغيير منهجاً، وهؤلاء منهم من حاول الاستجابة بأثر رجعي مع فارق التوقيت فهو يعيش حالة الأمل في اللحاق، ومنهم من تكرَّست لديه حالة العناد، فتحول بفعل الزمن والأحداث إلى مجهول. وهؤلاء هم ضحايا الظروف.

2- الذين استعجلوا الأحداث واستبقوا المتغيرات أكثر مما ينبغي، في استجابة متهورة، مغادرين الأصول، متخلِّين عن كل المنهجيات وتنكروا لها أحياناً، وهؤلاء دائماً يعيشون ردود الأفعال ولا يصنعون الأحداث ولا يستثمرونها، فهم يعالجون الخطأ بالخطأ، ولا يمكن أن يكونوا إضافة في سياق الإصلاح وإن بدا لهم ولمشجعيهم كذلك. لأنهم لا ظهراً أبقوا ولا أرضاً قطعوا.

3- المقتصدون الفاعلون المتفاعلون مع الأحداث بقراءة منهجية واضحة، وبآفاق واسعة، ينطلقون في ذلك من مقاصد سامية وأهداف كبيرة، ولا يسمحون لبنيات الطريق وفروع المسائل أن تقطع سبيلهم، وهم وإن كانوا قلة فهم الكثرة الفاعلة إذا تسمع من غيرهم (جعجعة ولا ترى طحناً)، ومع حداثة التجربة الإصلاحية لدى كثير منهم وما يلاقونه من عقبات فقد أثبتوا مواقف مشرفة، وخطوا خطوات واثقة، وأسسوا للأجيال المقبلة مدرسة متمثلة لروح الشريعة (رحمة للعالمين).

هذه المقدمة ليست من قبيل الترف الثقافي ولكنها مقصودة لذاتها، فهي مدخل لحديث آت لا يحسن فهمه معزولاً عن سياقها.

* رؤية في الآفاق

في ظل الأحداث والمتغيرات لابد من رؤية متجددة لآفاق التعددية في المجتمع السعودي، ويأتي في مقدمة المتحركات:

1- إرادة السياسي وفقاً لمخرجات الأحداث الأمر الظاهر في لغة خطابه وتوجهاته التعليمية، والتأسيس لثقافة الحوار.

2- الثورة المعلوماتية العالمية غير المعترفة بمصطلح (الممنوع).

3- نجاح الجيل الجديد من العلماء والمثقفين في كسر حاجز الجمود العلمي لدى المدارس التأسيسية للحركات العلمية، وإعادة قراءة النصوص المقدسة من القرآن والسنة بفهم أوسع مقروناً بقراءة صحيحة للواقع المعاش، مع قراءة صحيحة أيضاً لمعنى الإنسانية والنفس البشرية وحقها في الحياة والتعايش. وقد أتيح لهذا الجيل من العلماء بسبب فقدان الساحة لعدد من الرموز الجامدة إبراز ما لديهم من رؤى كانوا لا يستطيعون بثها من قبل أدباً أو خوفاً أو إلى غير ذلك من الأسباب.

4- التصور الجديد لمفهوم (المواطنة) سواء من قبل السياسي أو العلمي أو حتى المواطن نفسه، حيث أصبح يتم التعامل معها بوصفها (حقاً) وليست (فضلاً) ينعم به السلطان على من يشاء.

ومما تقدم يمكن تحديد ملامح الرؤية للمرحلة القادمة لوضعية المختلف والمتعدد من المذاهب الإسلامية.

أولاً: لا نتوقع أن تزول الفوارق المذهبية المؤثرة بل ستبقى، ولكن الذي نتوقعه أنها لن تتحول إلى حرب عقائد وتجريم وتكفير. ومن يظن أن الهدف من التقارب والحوار هو الاندماج العلمي والثقافي، وإذابة كل الفوارق، وإنهاء كل الخصوصيات؛ فإن هذا أقل ما يقال عنه: إنه ناقص التصور للمسألة؛ لأن هذا ليس هو هدف أي حوار، فليس دورنا في الحوار أن نُحَنْبِل الشافعي أو نُسَنِّن الشيعي، ولكن الهدف أن تكشف للآخر ثقافتك ومعلوماتك، وتقرأ ما لديه، وتنتخب الحق الذي تفهمه أيًّا كان مصدره

ثانياً: سيعمل الفاعلون من شتى المذاهب على توسيع مساحة الممكن مثل (الرأي الآخر، احتمالية الخطأ والصواب، المواطنة، ...).

ثالثاً: سوف تستفيد المذاهب المتعددة من مشروع الحقل السياسي والانفتاح الحاصل فيه، على أن استفادتها مرهونة بمرونتها المنضبطة، ومشروعاتها الحاضرة.

رابعاً: سيسهم التغيير في مناهج التعليم النظامي على تنشئة جيل واعد بأفكار مستنيرة مقبلة على الحوار والمثاقفة، وسيكون هذا الجيل جيل التساؤل لا جيل اليقينيات الموهومة.

خامساً: سيشهد المجتمع قيام مؤسسات علمية شعبية تؤصل للحوار وترعى آلياته، وهذا أمر في غاية الأهمية؛ لأن ترك هذه المهام لفعاليات فردية لن يأتي بالنتيجة المطلوبة، كما أن المؤسسة تقوم بدور المراقب القيمي والأخلاقي الذي هو ضمانة السلامة لمنهجية الحوار واستمراريته.

سادساً: سيتكون لمؤسسات الحوار قواعد شعبية، ويحب أن تحافظ تلك المؤسسات على الثقة الممنوحة لها من شرائح المجتمع، أي أن تبتعد المؤسسات تلك عن الغموض أو الإهمال أو ضعف الاتصال.

وفي الختام فإنني متفائل جدًّا لحالة مستقبلية خضراء للحوار المذهبي المتعدد، ومبنى هذا التفاؤل قياس ما قبل الحوار بما بعده وما أحدثه من تقارب وتعاون. وأسأل الله أن يتمم بخير.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة