تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الحوار بين المشهد المذهبي والثقافي في المملكة

زيد بن علي الفضيل

* توطئة

كان الحوار ولا يزال يمثل خصيصة تتميز بها كل المجتمعات الحضارية الهادفة إلى تحقيق التقدم والرقي وصولاً إلى الغاية المنشودة وفق ما تقتضيه مختلف الخطط والاستراتيجيات المقررة، ويعكس شكلاً ثقافياً متطوراً تسري جنباته بين فئات ذلك المجتمع، وهو ما كان ينطبق على الأمة الإسلامية في بعض فتراتها السالفة، التي عاشت نمطاً ثقافياً عالي المستوى، تمثل في ما أبدعته العقول العربية الإسلامية من فكر إنساني، وسلوك حضاري بهيج، أثمر عن نتاج مادي ومعنوي، كان له الأثر البارز في نمو الحضارة الإنسانية بصفة عامة، في الوقت الذي غرقت فيه الأمة الأوروبية في ظلمات جهلها السحيقة، فانعكس ذلك على مختلف جوانب حياتهم، وما كان ذلك إلا نتيجة حتمية لسيطرة رجال الكنيسة بعقولهم الرجعية أحادية التفكير والمنهج على مقدرات الحياة بشكل عام، بحيث أصبح من المتعسر بل والمحرم أيضاً على الناظر من خارج رواق الكنيسة أن يرى أو يفكر أو يحاور بالشكل الذي يتغاير مع ما يفكر به رجل الكنيسة، وإن حاول ذلك بطريقة أو بأخرى فقد دخل في بوتقة البدعة، وسرداب الهرطقة، فيحكم عليه بالجحيم، وتتحول حياته إلى كابوس مرعب لا ينتهي بمغادرته الحياة على حد زعمهم، وكان أن أدى ذلك إلى ثورة العقل الأوروبي في العصر الحديث على الوصاية الكنسية، باحثاً عن الحرية الفكرية، ومحرراً نفسه الإنسانية من قيودها وأغلالها، رافضاً كل ما يمت بصلة إلى الفكر الماضي، لتنطلق الأنفس، وتتفجر العقول بما نعيشه في الوقت الحاضر من تقدم معرفي، ونمو حضاري مطَّرد، مكَّنها من تسنم الذروة من بعد أن عاشت ردحاً من الزمان غير قليل في ظلماتها وضلالها؛ في حين أخذت أمتنا العربية الإسلامية تسرع حثيثاً نحو القاع، غير عابئة بحالها وما وصلت إليه. وما كان ذلك سيكون لولا ما كان من تقليص المقدار الكبير لهامش الحرية الفكرية الذي تمتعت به الأمة بفعل الوصاية السياسية تارة، والإقصاء الديني من بعض الفرق المتطرفة تارة أخرى، فكان أن تعطلت آلية حركة البحث والنقاش في ردهات العقل العربي الإسلامي، وتلاشت ملامح الحرية والاختيار أمام تأثيرات أنماط التفكير التسلطي السائد في المجتمع، المرتكز على الفعل الأناني المتحجر الذي لا يقبل الحوار والنقاش مع الآخر.

تلك الحرية الفكرية المفقودة في وقتنا الراهن هي التي خلقت الإبداع الإنساني المادي والمعنوي عبر مختلف الحقب التاريخية، ولدى العديد من الأمم الحضارية قديماً وحديثاً، وهي التي أخرجت الأمة الأوروبية من سردابها الداكن إلى نهجها العلمي النيِّر، وافتقادنا لها خلال ممارساتنا الحياتية في الوقت الراهن، هو الذي أدخلنا -كأمة حضارية لها تاريخها المجيد- في صحراء التيه، إذ تلاشت كثير من عبارات التعايش من أذهاننا، العاكسة فعلنا السلوكي الإيجابي، وحلَّت محلها عبارات التوحد العاملة على رفض الآخر وإقصائه، ونصب محاكم التفتيش الفكرية لكل خلية من خلايا ذهنه، مما كان له أبلغ الأثر سلباً على حركة النمو الفكري في المجتمع، بغض النظر عن مدى صحة وأفضلية ذلك الفكر المتوحد من عدمه. ولتكن لنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسوة حسنة، فمع يقينه بصحة نهجه الرباني، إلا أنه لم يفرض ذلك خلال تحاوره مع قريش المشركة يقيناً في نظره، بل دعاها إلى ممارسة فكرة الحوار المعرفي على أساس ظنية المعتقد، حسب ما تشير إليه الآية الكريمة بقولها: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}.

لقد أكدت التجارب البشرية السالفة، وبرهنت حقائق الصيرورة التاريخية على أن الحوار، وليس القوة، هو المخرج الحقيقي لكل الأزمات السياسية والعسكرية والفكرية وغيرها، وبخاصة إذا ما تعلق الأمر منها بالشق الوطني، شرط أن تتحقق فيه صفة الوطنية، بمعنى أن يكون الوطن بماضيه وحاضره ومستقبله، بمقوماته وأركانه، بأفراده وجماعاته، بنسائه ورجاله، صغاره وكباره، ترابه وسمائه؛ ماثلاً أمام كل المتحاورين، الحوار الوطني الذي لا يحتكم إلى قوانين السوق حين يناقش كل الفرقاء همومهم وقضاياهم، كما لا يحتكم إلى حيثيات الغلبة والتعسف الاجتماعي وحتى الطائفي، باعتبار أن الكل متساوٍ تحت مظلة الوطن في الحقوق والواجبات، الحوار الوطني الذي يصم أطرافه أسماعهم عن وشوشة مختلف القوى الخارجية، وتمتمات أصحاب المصالح الذاتية، الحوار الوطني الذي يجعل من الحرية نبراساً له، ويحتكم إلى العقلانية والنفس المسؤولة، وتتحدد فيه غاياته وتتضح أهدافه، حين ذاك سيدرك كل الفرقاء أن لا خاسر بينهم لحظة تنازل أحدهم عن خصيصة ما، في حق جماعته أو طائفته، وسيكتب الكل بحكمتهم وثيقة أمان حاضرهم، ومستقبل غدهم. إنه الحوار الوطني الذي تخطط له العقول الواعية، ويصنعه الرجال المخلصون، وتنفذ حيثياته الشعوب الحضارية.

لهذا كانت ممارسة الحوار الوطني، وأشدد على مسألة الوطني فيها، هي المخرج الفعلي لأقطاب الصراع السياسي في لبنان من الوقوع في المحذور، ذلك الذي لم يعد مقبولاً الوقوع فيه سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي، عوضاً عن إدراك عناصر الشق المحلي لخطورة ما يترتب على ممارسة القوة والعنف في تنفيذ مختلف الرغبات السياسية من نتائج سلبية وخيمة، وبخاصة بعد أن استعرض كل الفرقاء داخل أجواء الطيف السياسي والطائفي اللبناني خياراتهم الشعبية، التي أبانت عن تساوٍ نسبي في حجم القوة، بالصورة التي تمنع أي أحد من أن يفرض رغباته على الآخر، إذ أبانت مختلف تلك الاحتقانات السياسية أن «لكل فريق شارع» بحسب تعبير أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله.

والأمر كذلك في الشأن الرافدي، الذي أصبح الحوار الوطني بين مختلف القوى السياسية ضرورة حتمية للخروج بالشارع العراقي من عنق الزجاجة، والوصول به إلى بر الأمان، ذلك أن البديل الواضح والجاهز لفرقاء النهج السياسي في العراق كامن في الاقتتال، وهو ما سيحيل أرض العراق إلى فوهة بركان ترمي بحممها الملتهبة كل النطاق الإقليمي والدولي، الأمر الذي ستكون له أكبر الانعكاسات السلبية على الأمن السياسي والاقتصادي وحتى الحضاري بشكل عام.

وكان الحوار الوطني هو المنهي لعقود مريرة من الألم والتعب عاشها الشعب السوداني جراء اشتعال فتيل الحرب الأهلية بين شماله وجنوبه، مات فيها من مات، وتيتم فيها من تيتم، وانعكست أثارها الوخيمة على الاقتصاد الوطني بصورة واضحة، حتى كانت الإرادة السياسية والشعبية بممارسة الحوار الوطني بين فرقاء المرحلة، ليعم الأمان أرجاء المنطقة، ويسود السلام والوئام ربوع بلاد النيل بألوانه المتنوعة.

* أسس الحوار الوطني في المملكة

وليس الأمر مقتصراً على الجوانب السياسية والعسكرية، بل هو ممتد بفضائله حتى على الصعيد الفكري، حيث حقق الحوار الوطني في المملكة العربية السعودية بين مختلف أطيافه الفكرية والمذهبية نجاحاً باهراً في ترسيخ لبنات الوحدة الوطنية بين فئاته المتنوعة، وتمكَّن من تذويب كل الفطريات الخبيثة التي تجد في الإقصاء مرتعاً خصباً لها، لتبث سمومها من خلاله، وهو ما تم إدراكه بحكمة ونضج من قبل صانع القرار السياسي بالمملكة، الذي كشف عن قدر كبير من الجدية والمسؤولية في التعامل مع مختلف التطورات على الصعيد الوطني، وأبان عن رؤية ثاقبة في سبيل تعزيز القدرات المحلية لمواجهة مختلف التحديات التي يواجهها الوطن في هذه المرحلة، ورغبة حثيثة في زيادة لبنات القوة والتآلف داخل جدران البيت الواحد، وإذابة كل الحواجز البينية بين أفراده ومواطنيه، بتأسيسه في 24/ 5/ 1424هـ مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني الهادف إلى تفعيل وتنظيم جنبات الحوار بين مختلف الأطياف الفكرية داخل المملكة العربية السعودية، فكان أن أخذ المركز على عاتقه جمع العلماء، والمفكرين، والباحثين، ذكوراً وإناثاً، شباباً وشيباناً، ومن مختلف التوجهات والمشارب، على طاولة واحدة، وفي جو ثقافي متميز، تسوده الألفة والمحبة، لمناقشة مختلف القضايا والهموم، والنظر بعيون وطنية لمختلف ما يعيشونه ويواجهونه من تحديات وعوائق، وهو ما أكده الملك عبد الله في خطابه للمواطنين بمناسبة إعلان الموافقة السامية على إنشاء مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني حيث قال: «... ولا يراودني أدنى شك في أن إنشاء المركز وتواصل الحوار تحت رعايته سوف يكون بإذن الله إنجازاً تاريخياً يسهم في إيجاد قناة للتعبير المسؤول، سيكون لها أثر فعَّال في محاربة التعصب والغلو والتطرف، ويوجد مناخاً نقياً تنطلق منه المواقف الحكيمة والآراء المستنيرة التي ترفض الإرهاب والفكر الإرهابي»، الأمر الذي يشاركه فيه صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز الذي شدد في حواره الصحفي المنشور في جريدة الرياض([1]) بتأريخ 21/ 9/ 2004م «على أن في ممارسة الحوار بين مختلف أطياف المجتمع في المملكة تكريساً للوحدة الوطنية»، وهو ما لم يختلف عليه الكثير من قيادات هذا الوطن ومنهم فضيلة رئيس مجلس الشورى الدكتور صالح بن حميد الذي أفصح في حواره المنشور في جريدة الوطن([2]) بتأريخ 12/ 12/ 2005م عن حتمية النظر إلى التعددية الفكرية والطائفية في الوطن بمنظار إيجابي، لافتاً إلى أهمية توظيفها للبناء والتكامل بواسطة ممارسة ثقافة الحوار الحضاري، بعيداً عن التشنج وتسفيه الآراء، مشدداً القول: «على أن أصل العلاقة بين الناس التحاور، وتبادل المنافع، والتعاون على البر والتقوى، والحفاظ على مصالح الجميع، والموازنة فيما بينها»، ولهذا فقد كانت اللقاءات الدورية المتعددة، التي ضمت جميع التيارات الفكرية والمذاهب الدينية، لتناقش مختلف قضاياها الوطنية بكل حرية وانضباط، الأمر الذي كانت له نتائجه الإيجابية على الصعيد الوطني بشكل ملموس لكل المتابعين.

وبالرغم من أن إشاعة ثقافة الحوار في المملكة العربية السعودية يصب في خانة الإصلاح السياسي بوجه عام، إلا أن غايات الحوار وأهدافه من كل فرقاء الطيف داخل المملكة لا تستهدف بحوارها مراجعة الشأن السياسي في شقه الرسمي، باعتبار أن ما يجمعهم من اتفاق كلي على وحدة المملكة سياسياً في ظل الحكم السعودي هو الراسخ في أذهانهم جميعاً، لهذا فقد تحددت الغايات والأهداف منذ اللحظة الأولى ضمن إطارها الوطني العام، والمذهبي الفكري بوجه خاص، باعتبار ما واكب ذلك من تعسف في الرأي على الصعيد المذهبي والثقافي خلال المراحل السالفة من تاريخ الوطن، حيث تم تهميش مختلف الآراء والأقوال المذهبية لصالح فكر محدد، وتم محاربة كثير من الأفكار والرؤى الأدبية والعلمية باسم المنطلقات الدينية، من واقع فهم جماعة محددة في الوطن أيضاً، وهو ما أفرز حالات التطرف في المجتمع، وكبت من حركية أطياف المشهد الثقافي والمذهبي في المملكة بوجه عام، لتحتقن الأنفس في أجواء من السخط والانفعال، وتعيش في حالة من الإقصاء والتجافي، الأمر الذي ما كان -في حال استمراره- لتتحقق أي قيمة إيجابية للوطن، وما كانت الوحدة الوطنية ستتكرس بين أطياف المجتمع في صورتها المثلى، وهو ما انتبه إليه صانع القرار القادر على تعديل هذه الموازنة، فهب إلى محاولة إصلاحها عبر فتح باب الحوار وفق شروطه وأدواته.

* آلية الحوار بين أطياف المشهد المذهبي في المملكة

لم تكن مشكلة ممارسة ثقافة الحوار في المملكة في يوم من الأيام كامنة بين السلطة السياسية والتنفيذية في المملكة وباقي مجموعات الوطن الثقافية والمذهبية، على اعتبار ما تتمتع به المؤسسة السياسية في المملكة من قدر كبير في نفوس وذهنيات أطياف المجتمع المتنوعة، جراء إدراكها منذ عهد الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود وصولاً إلى الفترة الحالية، لحيثيات تعدد ألوان ذلك المشهد الثقافي والمذهبي، الذي يتماوج في شقه الديني بين المد الاثني عشري في الشرق، والإسماعيلي في الجنوب الغربي على الصعيد الشيعي، وبين أتباع التيار السلفي الحنبلي في الوسط، وأتباع المذاهب السنية الأخرى من شافعية ومالكية وحنفية السالكين مسلكاً تصوفياً في الغرب وبعض مناطق الشرق على الصعيد السني، علاوة على وجود عدد من الأطياف الفكرية المنطلقة في توجهها من سياقات ليبرالية أو فلسفة قومية هنا وهناك، وهو ما مكنها خلال مختلف الفترات من احتواء كل تلك المذاهب والتيارات ضمن هيكلة الوطن، مما انعكس إيجابياً على نمو الحركة العلمية، وتسارع النهضة المادية بصورة عامة.

غير أنه ومع توسع دائرة عمل المؤسسة الدينية ذات التوجه السلفي، واستحواذها على مقدرات وحيثيات الخطاب الديني جملة وتفصيلاً، دون أن يكون للمذاهب الأخرى السنية منها والشيعية الفرصة للمشاركة في صنع ما يحتاجه الوطن من رؤى مستقبلية وفق المنظور الشرعي، باعتبار ما تكتنزه في مخيلتها من قناعة تامة بصواب توجهها بشكل مطلق، مع توسع ذلك، أخذت دائرة التأزم الحياتي في أرجاء الوطن بالتوسع، لتكشف عن ملامح احتقانها الذاتي تدريجياً، وبخاصة منذ الربع الأخير من عقد التسعينات وصولاً إلى المرحلة الحالية، التي تعالت فيها الأصوات منددة بهيمنة الصوت الديني الواحد على مقدرات المجتمع وذهنيته وتشكيلات خطابه الوجداني، مطالبة المؤسسة السياسية بوضع حد لذلك، على اعتبار ما تتطلبه المواطنة الحقة من مشاركة عادلة بين مختلف الأطياف المذهبية بوجه خاص، والثقافية بوجه عام، في مناقشة كثير من إشكالات الوطن الواحد على الصعيد الديني والاقتصادي والثقافي والحياتي وفق منظور أرحب، وبعد فقهي أوسع، حتى يتمكن الوطن من تخطي كثير من العقبات الدينية والدنيوية الناتجة عن تغير الظرف وتحول الزمان والمكان.

وحقيقة الحال فإن المشكلة ليست محصورة فقط في هيمنة التيار السلفي بوصفه تياراً دينياً على حركية الخطاب الديني في المملكة، بقدر ما هي كامنة في آلية فهمه لحقيقة وطبيعة الخلاف الواقع بين مختلف المذاهب، التي تندرج من وجهة نظره في كثير من الأحيان في خانة خلاف التضاد وليس في خانة خلاف التنوع بحسب تعبير الأصوليين، وهو ما يؤثر سلباً في نظرته في تفسير كثير من النصوص الدينية، واستنطاق حكمه، من ثَمَّ على كثير من الأحداث، وعديد من التشكيلات البشرية المنتمية لهذا الوطن بصورة مجحفة، التي تنبثق من قوالب ثابتة لا تقبل القسمة أو التغيير، باعتبارها مسائل تصب من وجهة نظره في خانة الولاء والبراء، الإيمان والكفر، وفي ذلك يكمن الخلل في حركية بناء الحكم الفقهي داخل أروقة ذلك الخطاب السلفي، وتصعب معه ممارسة أي نوع من أنواع الحوار؛ على حين تنطلق بقية التيارات الدينية على الصعيدين السني والشيعي بوجه عام في نظرتها لكثير من القضايا من منظور الخطأ والصواب، وفي ذلك فرق بَيِّن وشاسع، فالخلاف بحسب النظرة الأولى خلاف عقائدي يتحتم عليه جنة ونار، في حين أن الخلاف بحسب المنظور الآخر خلاف اجتهادي يترتب عليه زيادة أجر ونقصه، مما يجعل الحوار بين الآخرين من أتباع المذاهب الأخرى سنة وشيعة هدفاً سهلاً، وقضية سلسة، ينطلق من تلك القاعدة الذهبية للشيخ محمد رشيد رضا التي تَبَنَّى تفعيلها بعد ذلك تلميذه الشيخ حسن البنا الناصة على: «نتفق فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا الآخر فيما اختلفنا حوله».

وهكذا فإن الحوار في المملكة لا ينطلق من أبعاده الثقافية بوجه عام، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية، وحتى السياسية، بل ينطلق من مفهومه الديني والوطني بالدرجة الرئيسة. وفي تصوري أنه متى ما تمكن فرقاء الطيف المذهبي والثقافي في المملكة من تحرير مفهوم الحوار من قيوده الإجرائية المكبلة له في ذهنية فقهاء التيار السلفي الذين يرون -بحسب تعبير أحدهم- أن «الحوار الوطني يجب أن ينطلق من الفكرة المركزية السائدة من أجل جمع الأطراف الأخرى، وليس من أجل تشجيع الأطراف على الوقوف في وجه الثقافة السائدة وإضعافها»([3]) فإن النجاح سيكتب لآلية الحوار البيني بين مختلف أطياف الوطن الثقافية والمذهبية، ذلك أن الحوار من وجهة النظر السلفية كما هو واضح يمثل مرحلة من مراحل ممارسة الإقناع القسري لأفكارهم، وليس حالة من حالات التفاهم المشترك على عدد من القضايا المختلف عليها، كما أنه من غير المسموح فيه ممارسة ثقافة التراجع الذاتي عن فكرة دينية وحكم فقهي متوارث ضمن مدرسة ما يؤمنون بهم من رجال السلف الصالح، الأمر الذي يجعل من ممارسة الحوار هدفاً صعباً في ظل تباين وجهتي النظر حول مفهوم الحوار بين التيار السلفي ونظرائه من التيارات المذهبية والثقافية في المملكة على وجه الخصوص، ولذلك فإن النجاح في تغيير مفهوم وغايات الحوار داخل أروقة المدرسة السلفية سيحقق الغاية الأسمى من ممارسة تلك الثقافة ضمن سياقها الوطني، وسيسمح في حينه بالتأثير إيجابياً على آلية وحركية بناء الفتوى الشرعية داخل هيكلة المؤسسة الدينية بالشكل الذي سيخفف من حدة الاحتقان الطائفي المؤثرة سلباً على الهوية الوطنية.

كما ومن جانب آخر، فإنه ومتى تحرر مفهوم الوطن والمواطنة من قيوده الدينية ضمن إطار مدرسة التيار السلفي، التي عمدت إلى تصنيف الناس عقائدياً إلى: أكفَّاء وغير أكفَّاء بحسب وجهة النظر الشرعية من وجهة نظرهم، مما خلق في وجدانهم قدراً كبيراً من النفور من الآخر، انعكس في مجمل تعاملاتهم البينية على مختلف الأصعدة، وبخاصة فيما يتعلق بالشأن القضائي، الذي عمد عدد من رجاله في بعض الأحيان إلى استصدار أحكاماً شرعية بفسخ العقد الزوجي -دون مراعاة لقواسم الدين الرئيسة وأركان الإسلام المتفق عليها عند جميع المسلمين- لعلة المغايرة في المعتقد، حين يتم تحرير ذلك يمكن أن ينطلق الحوار في صورته الإيجابية، على اعتبار ما يترتب على الشراكة الواحدة من مستلزمات وحقوق مدنية وشرعية واجبة الاحترام، وهو ما تنطلق منه المؤسسة السياسية دوماً التي لم تفرِّق بين أحد من مواطنيها بحجة التغاير المذهبي، أو التمايز الاجتماعي، أو التباين الاقتصادي، وتقره أيضاً المؤسسة التشريعية في حيثيات تعاملاتها، التي تجمع تحت قبتها مختلف الأطياف المذهبية والفكرية، وحول ذلك تكمن أهمية إشارة رئيس مجلس الشورى الشيخ صالح بن حميد في حواره السالف الذكر الذي أكد وبوضوح تام على أنه: «... من غير المقبول أن يُشكك في وطنية أي إنسان كائناً من كان، مهما كان وضعه الديني أو السياسي أو الثقافي أو غير ذلك، لأن حب الوطن مغروس في الفطرة...» مبيناً «أن الوطن يمكن أن يجمع أصنافاً من الناس قد يختلفون في ديانتهم ومذهبهم».

 



([1]) الثلاثاء 7 شعبان 1425هـ، عدد 13241، السنة 40.

([2]) الاثنين 10 ذو القعدة 1426هـ. 

([3]) من مقال د. صالح النملة المنشور بجريدة الوطن السعودية بتأريخ 14 فبراير 2005م الموافق 16 محرم 1427هـ.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة