شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
عبد الله فراج الشريف(([1]))
إن اختلاف الناس سنة من سنن الله في الكون لا تتخلف، فهم يختلفون منذ أن خلقهم الله ولا يزالون، ولم يجمع الخلق على رأى واحد قط، حتى كاد أن يكون الإجماع بين البشر كلهم حديث خرافة، بل إنَّا نلحظ أن حتى الأمم الصغيرة لم تعرف هذا الإجماع، وهو اختلاف في كل جوانب الحياة، فالأمور الحياتية المعاشة تبرز هذا الاختلاف بين الناس، فأنت ترى بين الابن وأبيه فروقاً في هذا الشأن تُلاحظ، وأن الأخ يختلف عن أخيه في كثير من شؤون الحياة رغم نشأتهما في بيت واحد، ذلك أن الله عز وجل أبدع خلقه فلم يجعلهم نسخة واحدة متطابقة وإلا لاستحالت الحياة، لذا تنوعت اهتمامات الخلق بتنوع مشاربهم، وباختلاف مواهبهم، ومن ذلك اختلاف استعداداتهم الذهنية والعلمية، فكان بعضهم لبعض وإن لم يشعروا خدماً، كل ميسر لما خلق له، فمن أدرك علماً في شأن من شؤون الحياة نهض به، وكفى أن يجهد الآخرون لتحصيله، فتنوعت الحرف والمهن والتخصصات، وكل تنوع إنما يصدر في الأصل عن فكر، ولا يخرج عن ذلك العلم، فالعلوم تتنوع، ويحذق منها كل أحد ما وافق استعداداته وملكاته، ويعتمد بعضهم على بعض في ما لا يعلمونه في غير ما حذقوه، حتى أننا لا نجد في الأمم أمة تدَّعي أنها اختصت بعلم لم تشاركها في نهضته أمة أخرى، ولكنهم في النهاية متغايرون فهذا عالم في الفلك وذلك في الهندسة وثالث في الطب.
ولن يخرج عن هذا علم الدين، ولعل الناس فيه أشد اختلافاً، وها نحن نرى مصداق قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فالخلق هذه أديانهم لا حد لها ولا حصر، فالاختلاف كأنما هو الفطرة التي طبع عليها البشر، فهي دائمة الوجود، ملاحظة المظاهر، مهما أنكرها المنكرون، أو أرادوا القضاء عليها، ولن تختفي من عالم البشر مادامت الحياة، وهذا يجري على أتباع الدين الواحد، فما عرفت البشرية ديناً لا تنوع في أفكار أهله عنه، فهم طوائف وفرق متعددة، سترى ذلك في الأمم ذات الرسالات الإلهية قبلنا كاليهود والنصارى، وهو عندنا مألوف معروف، ولأن أشد الأمور مقاومة للإزالة هو ما انعقدت عليه القلوب من عقائد ومذاهب، فإن صب الاهتمام على محاولة إلغاء هذا التنوع جهد مهدر لا تستفيد منه الأمة، بل لعله ضار بها واقعاً وحضارة، ولكن التعايش بينهما ممكن، لأنك لا تجد بين المختلفين من لم يكن بينهم مشترك يمكنهم أن يتفقوا عليه، ومختلف عليه بينهم يمكنهم احتماله ولو على مضض، لا بين المتغايرين ديناً بل وبين المتجانسين في الانتماء إلى دين واحد، فإن أهل الكتاب وإن اعتقدنا أنهم حرفوا دينهم لديهم ما نتفق عليه معهم، فحينما كان لابد للمتدينين من موقف يتخذونه تجاه انتشار الشذوذ الجنسي، وجدنا أهل الكتاب رهباناً وحاخامات في صفنا يقفون معنا ضده، وهذا يعنى أن هناك بيننا مشترك يمكن الاستفادة منه لمن أراد التعايش من الطرفين، أما عند أتباع الدين الواحد (خاصة الإسلام) فما أكثر المشترك وما أقل المختلف عليه، فعند طوائف المسلمين شيعة وسنة وأباضية وظاهرية، وأثرية ومتكلمة، سلفية وأسقرية؛ الكثير من الذي يتفقون عليه، والقليل الذي يختلفون فيه، ولو أنهم عظموا هذا المتفق عليه، واجتهد علماء كل طائفة وفرقة أن يجدوا في موروث مذاهبهم ما يجمعهم بإخوانهم المسلمين لاستطاعوا أن يلغوا من حياة أتباعهم الكراهية والبغضاء، التي ينميها المبشرون منهم بمذاهبهم رجاء القضاء على المذاهب الأخرى، بما يدعون إليه من كراهية من يختلفون معه من أهل تلك المذاهب، وحتماً كل دعوة للبغضاء والكراهية مصدرها انحراف فكر وأمراض قلوب، فالدين لا يدعو إلى شيء من ذلك أبداً، أما محاولات الاقصاء الذي يتبعه الإلغاء فهي أمور تفشل، لأنها غير ممكنه أصلاً، فلم يحدث لها الأثر المطلوب قط في أي زمن مضى، ولا أظنها ستؤتي ثماراً في المستقبل، فهذه الطوائف والفرق والمذاهب ظهرت في القرون الأولى المفضلة ولا تزال باقية ومستمرة في الوجود، وقد استطاع عامة المسلمين من كل المختلفين فيما بينهم التعايش في الأزمان التي خلت، وهم اليوم أقدر على هذا التعايش بما أضافه العصر من ثقافة تتسم بالتسامح عند كثير من الأمم، وفي شتى البلدان، حتى وإن أوقد نار الخصومة الخاصة وللأسف من طلاب العلم والدعاة والمبشرون، الذين بعضهم يتفوق على الآخر بقدر ما ينتهز الفرص لإثارة النعرات الطائفية، من أجل أن تبقى جذوة الفرقة المؤدية إلى العداوة موجودة ومرعية عند كل الأطراف، فالشحن الطائفي الذي يتولى كِبره من يظن أن إحياء العداوات الموؤودة بتقادم الزمان، وإعراض العقلاء من كل الطوائف عنها، والتي لم تنتج سوى تشظي الأمة وافتراقها، وإسالة دماء أبنائها بأيدي إخوانهم المسلمين، إن هذه الطوائف والفرق والمذاهب منذ وجدت وحتى يومنا هذا لم تستطع واحدة منها أن تتغلب على أفكار الأخرى ومعتقداتها فتمحوها من رؤوس المؤمنين بها، وبقيت وإن اضطهد أحياناً معتنقوها، والغريب أن الطوائف والمذاهب تتبادل الاضطهاد، فما أن تستميل إحداها السلطة السياسية إلا وباشرت اضطهاد الفرقة الأخرى، والأمثلة كثيرة فقد اضطهد المعتزلة أهل الحديث أو الأثر بل وسائر أهل السنة، حينما استمالوا بعض خلفاء بني العباس، إلى أن زال سلطان أولئك الخلفاء وجاء من استماله بعض أهل السنة اتجه الاضطهاد إلى المعتزلة، ولو أن الفريقين احترم كل ما لدى الآخر لما آل الأمر لمثل هذا التنازع المؤدي أحياناً إلى كوارث، وهذه المذاهب والفرق والطوائف باقية وأفكارهم تقوى بسبب الاضطهاد والقمع، وفي فترات ضعف الأقوى المستبد تبرز قوة مناوئه الذي كان ضعيفاً حين استبداده به، ولو أن الأفكار تلاقحت تحت الشمس وفي العلن دون اقصاء أو منع لما انتصر منها إلا ما كان أقرب إلى الصواب والحق والأجدر أن ينتشر، فللناس عقول يدركون بها الحق والصواب وإن كانوا عامة أو قليلي الحظ من العلم، أدركنا ذلك من تجارب الناس ومعاشرة الأحياء.
وإذا استطعنا إدراك هذا فإن تنوع الأفكار ومنها الأفكار الدينية التي تعود إلى الاجتهاد وفهم يؤتاه طالب علم في فهم النصوص غاية في إفادة المجتمع المسلم، فيه نرفع عن كاهل المسلمين ما يؤدي إليه التنطع في الدين والغلو فيه والتشدد عند الاجتهاد في استنباط أحكامه، وندع لهم نسخه من الأصل في أن الدين يُسْر لا يشاده أحد إلا غلبه، وأن يُسْره يجعل الحياة أرقى، وأن رفع الحرج والضيق عن خلق الله من أجل غايات هذا الدين الحنيف.
وحينما تنتشر ثقافة التسامح فإنها ستعطي الحق لكل مسلم في أن يطَّلع على كل الآراء والاجتهادات، وأن يعرف عن الآخر داخل دائرة الإسلام ما هو ضروري لتآلف القلوب ومحو الكراهية والبغضاء من النفوس، وستتيح الفرصة للاتفاق على المشترك بين المسلمين وهو الكثير، والإعراض ما أمكن عن المختلف عليه وهو القليل، وبشرط أساس لا يجب أن يغيب عن الذهن المسلم أبداً، ألَّا يمس أحد مشاعر الآخر، بأساليب في الأصل هي محرمة في الإسلام ويأباها العقل، ويرتفع عنها صاحب كل خلق نبيل، فلا نبعث من القبور فنؤذي الأحياء بالأموات كما حذر رسول الله -بأبي وأمي هو- ولا ننتقص الرموز من الأئمة والعلماء، وعلى رأس القائمة الصحابة رضوان الله عليهم، حتى وإن اعتقد البعض أن بعض هؤلاء قد أخطأ أو ارتكب ما أوجب عنده ذمه، فكل ما حدث في الماضي وسبَّب فرقة بين المسلمين، فقد لقي أهله ربهم، وهو أعدل في الحكم بينهم، فتلك الدماء التي نشارك في إهدارها لماذا نلطخ ألسنتنا بها اليوم، والعاقل منا من يدرأ ما يسبب الفساد قبل أن يتوجه إلى جلب المصالح، فلا تزال تعلق في الأذهان صور بشعة لمعارك دامية رواها المؤرخون، قتل فيها البسطاء من الناس، وتوقفت الحياة في صفوف الضعفاء المقهورين، ونجا الدعاة المبشرون بالعداء والكراهية، فهل هذا ما نريده اليوم وبعضنا يصفع بعضاً بالتهم المحرضة على كراهيته وبغضه للآخر المسلم، وهل وراء الكراهية سوى العنف، إن الحديث إلى العقلاء لن يكون مجدياً أبداً إلا حينما تستيقظ النفوس على الخطر الداهم من تزايد إطلاق دعوات الكراهية والبغضاء لكل ما هو مختلف أو مغاير، وكأن لا طريق سواها، للحفاظ على الدين ونصرته، وهي دعوى ولا شك باطلة لا تستند إلى دليل أو حجة، فالحياة لا ترتقى بالكراهية بل تنحدر إلى مهاوي الردى، وإنما تصنع الحياة التي يرضاها الله لعبادة بالمحبة، فإن لم تكن لأحد قدرة عليها لمن يختلف معه، فلا أقل من أن يتسامح معه التسامح الذي يمنع به عنه العدوان حسياً أو معنوياً، فيعيش الناس في مجتمع يفيد أفراده بعضهم من جهود بعضٍ وإن اختلفوا فكراً أو معتقداً، والإسلام في بدء أمره صنع ذلك المجتمع الذي أطلق عليه قائده المصطفى سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الأئمة من دون الناس، وفيه المسلم واليهودي والمنافق، الذين عاشوا على أرض واحدة فكانوا أهل وطن يجمعهم أمنه وأمانه وتسامح دولته، وعاش المسلمون في مجتمعات اجتمعت فيها كل ألوان الطيف من الخلق على اختلاف ألوانهم وأديانهم وثقافاتهم فحققوا حضارة كانت مزدهرة وتقدموا بمعايير عصرهم، وفاقوا الأمم من حولهم بالتسامح والانفتاح على الآخرين، فنقلوا علوم الأمم وثقافاتها إلى حضارتهم وكسبوا ود البشر فعاشوا تحت ظل دول المسلمين على تنوع طرائقها في الحكم ومذاهبها فيه، وكلما ابتعد المسلمون عن هذا التسامح والانفتاح على الآخر ازداد بؤسهم وتكالبت عليهم الأمم، ذلك أن التسامح من جوهر الدين الذي لا يغيب إلا عمَّن يجهل حقيقة هذا الدين الحنيف (الإسلام)، ولو تتبعت التاريخ لوجدت أن التغيرات التي أضرب المسلمون فيها عن التسامح صفحاً وأحلوا محله الكراهيه لكل مخالف إلا ورأيتهم قد حلَّت بهم النكبات، وأولها الاقتتال بينهم، فهل هم واعون لهذه الحقائق، ذاك ما نرجوه والله ولي التوفيق.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.