تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الديموقراطية الإسلامية: مفهوم سليم أم متلبس

علي بايا

تعريب: د. توفيق السيف

* خلاصة

السؤال المركزي الذي تناقشه هذه الورقة هو سلامة أو سقم مفهوم «الديموقراطية الإسلامية». سوف أبدأ بإلقاء الضوء على الخلفية التاريخية لهذا السؤال، ثم أقدم مناقشة فلسفية لفكرة «المبنى الاجتماعي = social construct»، حيث نشرح طبيعة المبنى وكيف يُقام وما هي وظائفه. تجادل الورقة بأن الديموقراطية هي واحد من المباني الاجتماعية التي يمكن أن تأخذ أشكالاً وأطراً شتى تبعاً للوظائف والقيم التي يضفيها المجتمع عليها. لكن أيًّا كان شكل الديموقراطية أو إطارها، فإن منظومة أساسية من الوظائف والخواص يجب أن تكون موجودة ونشطة كي يحتفظ المبنى بصفته الأصلية، أي كونه «ديموقراطية» ولا ينقلب إلى مجرد اسم ينطوي على حقيقة مختلفة. سوف نشرح أيضاً أن جميع المباني الاجتماعية مثل المكائن والتقنيات التي يخترعها الناس من أجل تيسير حاجاتهم الاجتماعية تنطوي على نوعين من الإمكانات. فمن ناحية يمكن النظر إليها كأدوات عمل مجردة من أي قيمة أو معنى اجتماعي خاص. ومن ناحية أخرى فإنها كأداة أو كوظيفة قد تحمل معنى خاصاً أو قيمة خاصة يضفيها عليها صانعها، حينئذ فإن قيمتها لا تقتصر على مكوناتها المادية، بل ترتبط أيضاً بشبكة القيم التي يؤمن بها الفرد أو الجماعة التي تستخدمها. ومن هذه الزاوية فإن ماكنة أو تقنية، أو ديموقراطية، يمكن -من حيث المبدأ- أن تحمل القيم المسندة إليها من جانب أفراد المجتمع. توكد مجادلات هذه الورقة أيضاً أنه طالما كان ممكناً تصور أفهام متعددة للإسلام، فإنه من الممكن بالدليل نفسه تصور أشكال متعددة من تركيب «الديموقراطية» و «الإسلامية» وليس شكلاً واحداً. التحدي الذي يواجه المفكرين المسلمين هو تطوير تركيب مناسب للديموقراطية الإسلامية قادر على الوفاء بأغراضه الأصلية، أي إقامة نظام حكم كفوء وفعَّال، نظام يتناسب مع ثقافة وظروف المجتمعات الإسلامية المعاصرة ولا يقل في الوقت نفسه عن النماذج المماثلة في المجتمعات المتقدمة. في الجزء الأخير من الورقة سوف أقدم باختصار الخطوط العريضة عن نموذج مقترح للديموقراطية الإسلامية بالاستناد إلى قراءة عقلانية - تحليلية للإسلام.

* تمهيد

انقضى الآن نحو قرن ونصف منذ أن دخل مفهوم «الديموقراطية» والمفاهيم المرتبطة به في الخطاب السياسي الإيراني. منذ منتصف القرن التاسع عشر حاول مؤيدو الديموقراطية الإيرانيون تطوير معادلات نظرية لصون حقوق الأفراد وتحديد سلطة الدولة، كما فعل ميرزا يوسف مستشار الدولة في كتابه «يك كلمه = كلمة واحدة» (1869)([3]). لكن رغم مرور وقت طويل نسبياً، ورغم كفاح الإيرانيين المتواصل لإيجاد مجتمع يقوم على المساواة والمشاركة الفاعلة والمؤثرة للشعب وحاكمية القانون، فإن مكانة الديموقراطية كنظام لإدارة الشأن العام لم تترسخ في المجتمع وبقيت حتى اليوم محلاً للجدل.

لا يختلف الوضع -بصورة عامة- في بقية الأقطار الإسلامية عنه في إيران، وما يصح قوله هنا يصدق هناك، لكن وللغرض المحدد لهذه الورقة فسوف أقتصر على الإشارة إلى حالة إيران كمثال. من زاوية سوسيولوجية - تاريخية فإن عدداً أكبر من الإيرانيين المعاصرين، من شتى الشرائح الاجتماعية يتحدثون اليوم عن الديموقراطية ويفكرون فيها، وقد يستعملون اصطلاح «مردمسالاري» أو سيادة الشعب، وهي المعادل الفارسي المعاصر لكلمة ديموقراطية. وانعكس اتساع الاهتمام بالديموقراطية على حجم ومستوى النقاشات والأعمال الفكرية التي تنشر في إيران. وكمثال على سعة هذا النقاش، فإن مجامع العلم الديني التي طالما نأت بنفسها عن هذا النوع من النقاشات، تحتضن اليوم نقاشات واسعة وعميقة أثمرت العديد من الكتب لعلماء بارزين في الدفاع عن الديموقراطية والدعوة إليها. وندرك أهمية هذا التطور بالمقارنة مع ما كان عليه الحال في بداية القرن العشرين مثلاً، حين اقتصرت مساهمة العلماء في هذا النقاش على كتاب واحد فقط يمكن اعتباره معالجة دقيقة ومتكاملة لقضية الدستور والحكم التمثيلي، وهو كتاب «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» للميرزا النائيني([4]). بموازاة الدعوة إلى الديموقراطية، فإن نقدها أيضاً يجتذب العديد من الكتّاب، من رجال الدين وغيرهم، وهم يعارضون الديموقراطية كنظام اجتماعي - سياسي، أو يركزون على تعارضها مع تعاليم الدين. فيما يتعلق بالمستوى النوعي لهذه النقاشات، فإنه يمكن القول في الجملة: إن بعضها هو مجرد تدوير أو إعادة إنتاج للمجادلات القديمة حول الديموقراطية. لكن إلى جانب ذلك ثمة معالجات ومجادلات جديدة تلفت النظر بحجمها ومستواها النوعي. بعض هذه النقاشات دارت في إطار ديني بحت، بينما أسس الآخر مقولاته على أرضية براغماتية، وبعضها ركز على مناقشة المسألة في إطار تاريخي بينما اختار البعض الآخر مقاربة غائية consequentialist تربط قيمة الفعل بما ينتج عنه. على أي حال فليس غرض هذه الورقة تحليل أو تقييم تلك النقاشات، بل مناقشة إمكانية بناء نموذج للديموقراطية الإسلامية من وجهة نظرية - فلسفية بحتة.

- 1-
التغيير كثابت أبدي

تنظر الفلسفة العقلانية - التحليلية إلى «الواقعي = reality» كشيء قائم بنفسه، مستقل عن فهم الناس له وعن الأعراف والتوافقات واللغة وما أشبه من الإطارات التي طبيعتها اجتماعية. ينقسم الواقعي في هذا المنهج إلى ثلاثة مجالات أو عوالم على الأقل:

الأول: هو عالم الأشياء المادية (الأحياء أو الجوامد).

الثاني: هو عالم التجربة الإنسانية (الواعية أو غير الواعية).

الثالث: هو عالم المنتجات الموضوعية objective للعقل الإنساني، التي تشمل أشياء مثل الكتب، السمفونيات، أعمال النحاتين، الأحذية، الطائرات، الحاسبات، والكثير من الأشياء الأخرى التي يمكن ضمها أيضاً إلى العالم الأول.

كثير من عناصر «الواقعي» المصنفة ضمن العوالم الثلاثة المذكورة هي في حال سيولة وتغيّر دائم، وهو الأمر الذي يجعل حياة الإنسان -بالنظر لكونه كائناً واعياً- بمثابة سعي متواصل لفهم هذه الواقعيات في شتى أوضاعها وتغيراتها، وهو يصمم لأجل هذا مناهج جديدة ويوظف مفاهيم جديدة كي تساعده في استيعاب ثم استخدام ما يراه أمامه أو ما يكتشفه. هذه المناهج والمفاهيم تمثل لحظة تصميمها أكفأ وسيلة لفهم الواقع، لكنها مع ذلك ذات طبيعة مؤقتة، إذ إن استعمالها يؤدي بالضرورة إلى اكتشاف عيوبها أو نواقصها أو اكتشاف جوانب أكثر كفاءة منها، وبالتالي فإنها تخضع لمراجعة مستمرة من جانب مصممها أو مستعملها، بهدف استقصاء وتصحيح عيوبها وأخطائها. اكتشاف الأخطاء هو ثمرة استعمال تلك المناهج في كشف الواقع ومعالجته، ولهذا يمكن القول: إن الواقع ذاته يمثل عاملاً أساسياً في تطوير المناهج التي نستعملها للتعرف عليه. تطور المعرفة هو إذن ثمرة للحوار الدائم بين العقل الإنساني (والمناهج والنماذج التي يصممها) من جهة وموضوع عمله (أي الواقع) من جهة أخرى. في سياق هذا التفاعل المتواصل ترتقي المعرفة الإنسانية، ليس في مستواها الأول، أي العلم بالواقع، بل أيضاً في المستويات الأعلى من المعرفة أي العلم بالعلم ومعرفة سبل الارتقاء بالمعرفة. على أي حال فإن معرفة الإنسان، طبقاً للفلسفة العقلانية - التحليلية، هي على الدوام وإلى الأبد مؤقتة وانتقالية في كل مستوياتها وأشكالها([5]).

-2-
الفرد كمنظومة إرادات([6])

سوف نستعمل هنا مصطلح «الحالة الإرادية» الذي يشير إلى وضعية ذهنية عند الفرد تجعله «يريد» شيئاً، وتتمظهر تلك الحالة في أشكال ذهنية عديدة مثل العقيدة، الرغبة، الأمل، الميل، الخوف، والنية. سوف نستعمل أيضاً مصطلح «الفاعل الاجتماعي» في معنى الفرد العضو في مجتمع. كل فرد ينطوي في داخله على مجموعة من الحالات الإرادية. الحالات الإرادية قد تكون خاصة بالفرد، وقد تكون جمعية حين تتحد مع الحالات المماثلة عند عدد من الأفراد فتتحول من تعبير فردي إلى تعبير جمعي، مثل عقيدة مشتركة أو رغبة مشتركة في شيء... إلخ.

من زاوية إبستمولوجية يعتبر الفاعل الاجتماعي (الفرد) منظومة من الحالات الإرادية، هي بمثابة نظام ديناميكي تتفاعل أجزاؤه بصورة نشطة ومتواصلة، ويؤثر كل منها على الآخر، كما تتأثر بالبيئة المحيطة. تتألف البيئة الاجتماعية بدورها من منظومات إرادية مماثلة (فاعلين اجتماعيين). ويظهر أثر الحالة الإرادية في كونها محركاً ودافعاً للفرد للقيام بفعل ما أو عقد علاقة مع شيء أو كينونة في البيئة المحيطة. أما كيفية تفاعل الفاعل الاجتماعي مع البيئة، فهو يرجع إلى عوامل عديدة أبرزها هو التناسب بين كل حالة إرادية وبين الواقعيات الخارجية. وينظر جون سيرل إلى هذا التناسب كعملية تفاعلية بين طرفين: الفرد والواقع الخارجي، ويسمي هذا التناسب بـ«اتجاه التلاؤم = direction of fit». طبقاً لهذه الرؤية فإن علاقة الفرد مع مكونات الواقع الخارجي تتحدد على ضوء التناسب بين هذه المكونات من جانب وبين إحدى أو بعض الحالات الإرادية من جانب آخر. وعليه فإن مدى التقارب أو التنافر بين الذات والخارج هو تجسيد لدرجة من التلاؤم بين أحد أجزاء المنظومة الإرادية وبين مكونات ذلك الخارج.

تصنف الحالات الإرادية من حيث المضمون إلى نوعين: إرادة أو نية مضمونها معرفي cognitive state، وإرادة أو نية مضمونها العزم volitive states. النوع الأول يتمثل في القناعات والافتراضات والأفهام والذكريات المقيمة في ذهن الفرد. وتتخذ العلاقة بينها وبين الواقع اتجاه ملاءمة العقل مع الواقع، بعباره أخرى فإن عقل الفرد يعمل على تكييف إحدى أو بعض تلك الإرادات مع وقائع قائمة في الواقع الخارجي أو البيئة. أما النوع الثاني فيتمثل في الميول والرغبات والمقاصد، وتتخذ علاقتها مع الواقع الخارجي اتجاهاً عكسيًّا، يسعى لتكييف عناصر هذا الواقع مع العقل. هدف النوع الثاني من الإرادات ليس رؤية الأشياء كما هي في الخارج، بل رؤيتها كما يحبها الفرد، أو كما يريد لها أن تكون. ويتحقق الرضا حين يتحقق التلاؤم بين مضمون الإرادة وبين الصورة المعدلة التي رسمتها عن ذلك الواقع، أي حين يتغير الواقع (ماديًّا حقيقيًّا أو مفهوميًّا واعتباريًّا) ليطابق الصورة الذهنية التي أرادها الفرد لذلك الواقع.

كي نفهم الحالة الإرادية لفرد معين يجب أن نسأل: ما هي على وجه الدقة الشروط اللازمة كي يشعر الفرد بأن إرادته قد تحققت وأن رغبته قد أشبعت أو بالعكس؟

للجواب عن هذا السؤال يجدر بنا الانتباه إلى أن صورة الواقع التي تنطبع في ذهن الإنسان (يمكن لنا أن نسميه فهمه أو مفهومه للواقع) ليست صورة حقيقية أو كاملة، بل هي دائماً تمثيل جزئي (أو نسبي) للواقع أو إعادة تشكيل له. السبب في التفاوت بين الواقع وصورته الذهنية يرجع إلى عوامل معرفية أو ثقافية أو سيكولوجية تحدد قدرة الفرد على المطابقة الدقيقة بين الذهن والواقع. وكما هو واضح فإن بعض هذه العوامل تتعلق بذكاء الفرد وعلمه، وبعضها يتعلق بهويته الشخصية المستمدة من خلفيته الثقافية، تاريخه، ميوله السياسية، طبقته الاجتماعية، ومستواه المعيشي، وما إلى ذلك من العناصر التي تُشكِّل شخصيته وهويته الخاصة. بعبارة أخرى، فإن الصورة الذهنية هي إعادة رسم للحقيقة من وجهة نظر الفرد. ومع الأخذ بعين الاعتبار التفاوت بين الأفراد، فإن حالاتهم الإرادية، وبالتالي تصور كل منهم للواقع أو البيئة ستكون بالقدر نفسه متفاوتة. على أنه من الإنصاف القول: إن تلك التصورات المختلفة يمكن أن تتشابه أو تشترك في بعض عناصرها، لا سيما إذا دارت حول موضوع واحد، أو كان الأفراد المعنيون متقاربين ثقافيًّا أو اجتماعيًّا.

إضافة إلى تصنيف الحالات الإرادية تبعاً لمضمونها بين حالات معرفية وأخرى ترتبط بالعزم، فإنه يمكن تصنيفها أيضاً إلى «فردية» و«جمعية» تبعاً لكيفية تمظهرها ولا سيما من خلال العلاقة بين الفرد والأفراد الأخرين. يعبر الفرد عن إرادته الفردية في مثل قوله: «أنا أريد»، كما يعبر عن إرادته المرتبطة والمشتركة مع الغير في مثل قوله أو قولهم: «نحن نريد». وينبغي ملاحظة أن الصنف الثاني ليس مصفوفة إرادات فردية قابلة للتقسيم، بل هو كلٌّ متوحد غير قابل للقسمة، وهو يتخذ في ذهن الفرد شكل «نحن ننوي» أو «نحن نتطلع» أو «نحن نفعل» وما إلى ذلك. الإرادات الجمعية كما يوحي به اسمها هي نتاج الاجتماع والتوافق بين أعضاء المجتمع، وخلافاً للإرادات الفردية فإنها لا تولد في العزلة، لهذا فإنه يمكن أن يكون لروبنسون كروسو أو حي بين يقظان مثلاً إرادات فردية بينما يواصل العيش منعزلاً عن العالم في جزيرته، لكن من المستحيل أن تكون لديه إرادات جمعية.

-3-
المبنى الاجتماعي

الإرادات الجمعية هي المسؤولة عن خلق الحقائق الاجتماعية والكينونات التي هي منتجات اجتماعية وكذلك الحقائق المؤسسية. يقصد بالحقائق الاجتماعية تلك الأشياء التي أقيمت بجهد مشترك بين اثنين أو أكثر من أعضاء الجماعة الذين تولدت لديهم إرادة جمعية. وهذا لا يقتصر على عالم الإنسان، فالحيوانات أيضاً تقوم بالصيد كمجموعات، كما تشترك الطيور في بناء أعشاشها، ويشترك النمل في جمع وخزن غذائه. فهذه الممارسات كلها هي أمثلة على ما أسميناه بالحقائق الاجتماعية. هذه الأعمال المشتركة (وما يسبقها من إرادة جمعية) لا تستهدف فقط تحقيق إنجاز مادي (مثل جمع الغذاء وما يشبهه)، بل تستهدف أيضاً تعزيز الأواصر التي تشد أعضاء الجماعة إلى بعضهم. الحقيقة الاجتماعية إذن هي التجسيد المادي للإرادة الجمعية، سواء كانت عملاً أو شيئاً ماديًّا. وهي منتج تعرفه جميع المجتمعات الحيوانية والبشرية.

ثمة مستوى أرفع من الحقائق الاجتماعية لا تقوم الا في المجتمع الإنساني، ونطلق عليها اسم الكيانات أو الحقائق المؤسسية. أما علة اختصاص الجماعة الإنسانية بهذا النوع فيرجع إلى علاقتها الوثيقة باللغة والرمز والمعنى. فاختصاصها بالإنسان يرجع إلى كونه المخلوق الوحيد القادر على استخدام لغة للتخاطب أو توليد رموز لتكثيف أو تصوير المعاني. يقيم البشر هذه الكيانات الاجتماعية social entities أو الحقائق المؤسسية institutional entities عن طريق الفرض التوافقي لوظائف معينة أو تنسيب وظائف معينة إلى أشياء مادية أو حقائق مؤسسية موجودة بالفعل في البيئة الطبيعية أو النظام الاجتماعي. من بين الكيانات الاجتماعية مثلاً الزواج، النقود، الحكومة، الحرب، الجامعة، المحكمة، مباراة الكرة، وما أشبه. تعتبر الكيانات التي يصنعها المجتمع شخصية (ليس لها وجود ذاتي موضوعي ومستقل) إذا نظرنا إليها من زاوية وجودية أو أنطولوجية، لكنها تعتبر موضوعية لو نظرنا إليها من زاوية معرفية إبستمولوجية. في حالة النقود مثلاً فإن وظيفة محددة فرضت على نوع محدد من الورق أو البطاقة البلاستيكية. في حقيقة الأمر لا يوجد نقد أو مال مستقلاً عن الفاعل الإنساني، ولهذا فإن النقد هو من الناحية الوجودية شخصي ونسبي، قيمته ووجوده مرهون بالفاعل الإنساني وليس مستقلاً بنفسه. لكن في الوقت نفسه فإن المال أو النقد يلعب في المجتمعات الإنسانية دوراً هامًّا يرجع في الأساس إلى كونه أداة تبادل مستقلة وقائمة بذاتها أي أنه -من الزاوية المعرفية أو الإبستمولوجية- ذو وجود موضوعي.

يمكن تصور المعادلة العامة لخلق حقيقة مؤسسية على النحو التالي: «X يساوي Y في ظرف وعلى أرضية C». كمثل على ذلك: السلوك الخاص بعدد من الناس في فضاء معين يعتبر مباراة كرة قدم، أو أن هيئة معينة تسمى محكمة تحصل في ظرف معين على صفة جديدة تسمى محكمة عليا. لاحظ هنا أن الكيانات التي يصنعها المجتمع لا يمكن أن تخلق بواسطة روبنسون كروسو أو حي بن يقظان المنعزل في جزيرته، ليس فقط لأنه يفتقر إلى الإرادة الجمعية الضرورية لخلق حقيقة مؤسسية، بل أيضاً لأن قيامه بنسبة وظائف محددة إلى الأشياء المادية لا يمكن أن تلقي على تلك الأشياء وصفاً أو مكانة جديدة، لأن هذا الوصف أو المكانة لا تولد إلَّا بتوافق بين اثنين أو أكثر، أي جماعة([7]).

على النسق نفسه فإن عدداً من الأفراد لا يشتركون في إرادة جمعية لن يكونوا قادرين على فرض أو نسبة الوظيفة Y إلى الشيء X. الشرط الضروري لخلق أي حقيقة مؤسسية / مبنى اجتماعي هو توفر درجة عالية نسبيًّا من التلاحم أو التماسك coherence بين الإرادات الجمعية للأفراد. استعرنا مفهوم التماسك من الفيزياء، والمثال الذي نعرضه للتوضيح هنا هو مثال حزمة الضوء، فحزمة الضوء الاعتيادي تعتبر «غير متماسكة = incoherent» لأن خيوط الضوء تتفرق عند انطلاقها من المصدر في كل الاتجاهات، فالموجة الضوئية هنا غير ملتحمة الأجزاء، بعبارة أخرى فإن خيوط الضوء تلك لا تحافظ على علاقة ثابتة مع بعضها البعض، ولذلك فإنها لا تتجمع وتتكاثف لتكوين قوة ضوء موحدة وكبيرة. نتيجة لهذا فإن تفاعل تلك الخيوط مع بعضها يعتبر هداماً، يلغي أحدها الآخر. في مقابل هذا نجد أن ضوء الليزر يعمل بطريقة مختلفة فحزمته متماسكة، تنطلق كعمود واحد تتحرك جميع خيوطه في الاتجاه نفسه، وبالتالي فهي تقيم فيما بينها علاقة بنَّاءة تمكنها من أداء أعمال تعجز عنها أنواع الضوء العادية.

حين تتوافر درجة عالية من التماسك بين الإرادات الجمعية للأفراد فإن المجتمع سيكون قادراً على فرض الوظيفة Y على الشيء X. هذا الشيء قد يكون شيئاً ماديًّا أو قد تكون منظومة وظائف أخرى أي Y أسندت سلفاً إلى أشياء مادية، فيكون الإسناد الجديد هو وظيفة جديدة بديلة عن، أو مضافة إلى الوظائف السابقة.

إن حياة المبنى الاجتماعي (المنظومة الوظيفية التي خلقتها الإرادة الجمعية المشتركة) هي حياة اعتبارية وبقاؤها مشروط باستمرار الاعتبار المسند إليها من جانب الجماعة. بعبارة أخرى فإن تلك الوظائف التي تمظهرت في مبنى اجتماعي أو حقيقة مؤسسية هي اعتبارات اجتماعية، وليس لها وجود مستقل عن الجماعة التي خلقتها، ولهذا فإن بقاءها واستمرارها مرهون باستمرار رغبة الجماعة فيها أو إرادتهم لها.

خلافاً لهذا الرأي قال بعض الباحثين بأن المبنى الاجتماعي ينطوي على «جوهر» وأن حياته بالتالي ليست مجرد «اعتبار»، الفيلسوف الإماني مارتن هايدجر مثلاً عرف بمقولته بأن التقنيات الحديثة تنطوي على جوهر. لكنني أرى أن التقنية، القديمة أو الحديثة، مثل كل المباني الاجتماعية الأخرى لا تنطوي على جوهر بل وظائف فقط. ويبدو أن الخطأ نفسه قد تكرر بالنسبة للديموقراطية، فقد افترض بعض الكتاب أن الجوهر المدعى للديموقراطية الليبرالية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بجوهر الحضارة الغربية، وهو جوهر يتألف طبقاً لهؤلاء الكتاب من الهيمنة والاستغلال. أود الإشارة إلى أننا نستعمل مصطلح «جوهر» هنا في المعنى التقني المتعارف بين الفلاسفة. أيًّا كان الأمر فإن المباني الاجتماعية، خلافاً للتكوينات الطبيعية natural entities لا تنطوي على جوهر يمكن اكتشافه، بل وظائف تسند إليها من جانب أعضاء المجتمع. ويستطيع هؤلاء الأعضاء، ضمن حدود معينة، إضافة أو إلغاء هذه الوظائف. الإلكترون مثلاً كموجود طبيعي ينطوي على تركيب جوهري يحاول العلماء التعرف عليه بوسائلهم ومناهج عملهم المختلفة. في المقابل فإن مبنى اجتماعيًّا مثل البنك هو تركيب منظومي من عدد من الوظائف التي ابتكرها أفراد المجتمع. من المهم أيضاً التمييز بين المبنى الاجتماعي باعتباره إرادة جمعية معينة وتمظهراته المادية ككينونة واقعية أو كواحد من أمثلة الأشياء التي يتضمنها العالم الأول مثل البناية التي يشغلها البنك([8]).

قبل الانتقال إلى الجزء التالي أود الإشارة إلى ثلاث نقاط تتعلق بالمبنى الاجتماعي لتكملة الفائدة:

أ- رغم أن وظائف المبنى الاجتماعي هي إبداع بشري، فإننا قد نستعمل تعبيرات أخرى في الكلام، فنتحدث مثلاً عن «اكتشاف» هذه الوظائف. اكتشاف فرد ما لوظيفة جديدة يمكن إسنادها إلى حقيقة مؤسسية قائمة، تعادل في حقيقة الأمر لفت انتباه أفراد الجماعة الآخرين إلى إمكانية متوفرة في حقيقة مؤسسية معينة، الأمر الذي يقود افتراضاً إلى خلق إرادة جمعية مشتركة عند هؤلاء متجهة نحو الإمكانية أو الوظيفة الجديدة. الأموال مثلاً كانت لها وظيفة معتبرة هي تسهيل التبادل الاقتصادي بين الناس، لكن كارل ماركس لفت أنظار الناس إلى أن الوظيفة الحقيقية للمال ربما تكون صيانة نظام السيطرة الطبقية. على نحو مماثل يدعي ناقدو «المجتمع المدني» أو «النظام الديموقراطي» أن هذه المباني تؤدي وظائف أسوأ من تلك الوظيفة الطيبة التي أسندت إليها ابتداء من جانب مناصريها.

ب- أولئك الذين لا يشاركون أعضاء الجماعة في «إرادة جمعية» محددة، سوف لن يفهموا وظيفة المبنى الاجتماعي الذي أقيم على أرضية تلك الإرادة الجمعية، ولن يكونوا -تبعاً لذلك- قادرين على استخدام تلك الوظائف على نحو سليم. من ذلك مثلاً مفهوم حقوق الإنسان المعاصر والمباني التي ارتبطت به، فذلك المفهوم وهذه المباني لا تمثل شيئاً ذا معنى لأعضاء قبيلة معزولة عن العالم الجديد في غابات الأمازون.

ج- كل مبنى اجتماعي يعرف من خلال منظومة من الوظائف الأولية الضرورية، ومن دون هذه الوظائف فإنه يفقد الصفة أو القيمة التي نسبت إليه. فمثلاً سيارة من دون محرك أو من دون مقود أو عجلات، لا يمكن أن تعتبر سيارة لأن هذه الأجزاء ضرورية لقيامها بالوظيفة التي صنعت لأجلها ومن دونها فلا يمكن أن تقوم بهذه الوظيفة.

-4-
الديموقراطية

«الديموقراطية» هي واحدة من عديد من المباني الاجتماعية التي أبدعها الإنسان لتسهيل حياته الاجتماعية، ولا سيما إدارة الأمور الاجتماعية - السياسية المشتركة. ومثل المباني الأخرى، فإن هذا المبنى أو الماكنة قد خضع منذ ظهوره للعديد من التغييرات والتعديلات. خلال قرون من الزمن أضاف الإنسان وظائف جديدة إلى هذه الماكنة كما حذف وظائف أخرى أقل جاذبية في سبيل تحسين كفاءتها وأدائها.

حدد لينز وستيبان خمسة نطاقات عمل أولية للديموقراطية الحديثة، في كل نطاق ثمة مفهوم قاعدي هو مرجع لتحديد ومعايرة الوظائف التي تؤديها الديموقراطية في ذلك النطاق. هذه النطاقات والمفاهيم (الخصائص) قد لا تكون كاملة أو كافية، لكنها تعتبر ضرورية كي يتحقق وصف الديموقراطية. وهي خصائص مترابطة عضويًّا ومتفاعلة مع بعضها ([9]):

الـنـطـاق

 

المفهوم القاعدي المنظم للعمـل

 

المجتمع المدني

 

حرية التجمع والتنظيم والاتصال

 

المجتمع السياسي

 

المنافسة الانتخابية الحرة والشاملة

 

حاكمية القانون

 

النظام الدسـتوري

 

جهاز الدولة

 

أعراف بيروقراطية قانونية - محلية

 

المجتمع الاقتصادي

 

سوق ممؤسـسة

 

 

الديموقراطية هي في المقام الأول نظام لإدارة الشؤون العامة للدولة والمجتمع، ومن هذه الزاوية فهي تقارن مع نماذج الحكم الأخرى مثل الجبرية، الشمولية، ما بعد الشمولية، والسلطانية. تتفاوت هذه النماذج في مقاربتها لمسائل مثل الإيديولوجيا، التعددية، القيادة، والحركية العامة. تترسخ الديموقراطية في أي بلد إذا تبنى أغلبية سكانه نمطاً حياتيًّا وعلائقيًّا يتطابق مع معاييرها، ويمكن رؤية هذا التطابق على ثلاثة مستويات:

على المستوى السلوكي: اتفاق السكان أو نسبة معتبرة منهم على حل مشكلاتهم بالطرق السلمية التفاوضية، أي حين لا يكون في النظام الاجتماعي انشقاقات خطيرة، كأن تسعى قوى أساسية على المستوى الوطني إلى فرض مراداتها أو نيل غاياتها من خلال إقامة نظام قهري أو اللجوء إلى العنف أو استقطاب تدخل خارجي للانفصال عن الدولة.

على مستوى التوجهات: اقتناع أكثرية مؤثرة في المجتمع بالسبل والمؤسسات الديموقراطية كطريق أمثل لإدارة الحياة الجمعية في مثل مجتمعهم.

على المستوى الدستوري: التزام جميع القوى الحكومية وغير الحكومية على السواء وعلى امتداد اقليم الدولة، بحل خلافاتهم في اطار القانون العام وما يرتبط به من إجراءات ومؤسسات تطابق معايير الديموقراطية.

-5-
المباني الاجتماعية، القيم والأعراف

ثمة عديد من المباني الاجتماعية يقيمها المجتمع على صور شتى ولأغراض شتى. ولهذا فهناك من يهتم بتصنيف هذه المباني طبقاً لغاياتها والأغراض المنسوبة إليها، أو تصنيفها كوسائل وأدوات عمل، أو ربما تصنف باعتبارها منظومات من التقنيات. كمثل على ذلك إذا صنفنا الكومبيوتر تبعاً للغرض منه، فسنضعه في خانة واحدة مع آلات المحاسبة القديمة والجديدة. وإذا صنفناه كأداة عمل فسوف ينضم إلى مجموع الأجهزة الإلكترونية السريعة أو ما يسمى بالأوبتيكو-الكترونيك optico-electronic، وعند تصنيفه تبعاً لتقنياته فسوف يعتبر من بين المنظومات الخوارزمية المعقدة.

لا شك أنه بالوسع إضافة تصنيفات أخرى للمباني الاجتماعية، لكن على أي حال وبالنظر إلى الغرض الخاص لهذه الورقة، فسوف نركز على نوعين فقط من التصنيفات. يجمع الصنف الأول جميع المباني التي يمكن اعتبارها أدوات بحتة instruments، بينما يجمع الصنف الثاني تلك المباني التي تلعب القيم الاجتماعية دوراً محوريًّا في معايير تصنيفها. بعبارة أخرى سوف نتعامل مع المباني الاجتماعية باعتبارها أما أدوات عمل محايدة أو أدوات مشحونة بقيم المجتمع أي غير محايدة. على سبيل المثال فإن السكين يمكن أن تصنف كأداة بحتة لقطع الأجسام المادية، كما يمكن أن تصنف على الوجه الثاني كـ«سلاح مقدس». إذا اعتبرناها مجرد أداة، فإن السكين الصينية أو الأمريكية أو المصرية لا تختلف عن بعضها إلا من حيث فعلها (الموضوعي) كوسيلة قطع. أما إذا اعتبرناها سلاحاً مقدساً فكل من تلك السكاكين تحمل قيمة قد تختلف كليًّا عن نظيرتها.

يمكن تطبيق الوصف نفسه على الديموقراطية كمبنى اجتماعي. فمن وجهة نظر معينة تعتبر الديموقراطية وسيلة عمل بحتة، مثل ماكنة تؤدي وظائف معلومة. ومن وجهة نظر مقابلة فإن هذه الماكنة نفسها قد تحمل معها قيماً أضافها أعضاء الجماعة إليها كي تبدو على صورة معينة أو تخدم غرضاً معيناً في ظرف خاص. من هذه الزاوية فإنه يمكن تصور (نماذج) متعددة من الديموقراطية تتمايز عن بعضها من زاويتين: من زاوية وظيفية بحتة، أي بالنظر لكونها أداة محايدة، ومن زاوية قيمية، أي بالنظر لكونها تحمل أو تستهدف تجسيد قيم معينة. هذا التمايز يصح أيضاً بالنسبة لأي مبنى اجتماعي أو ماكنة أخرى. مثال ذلك السيارة التي يمكن أن تكون (بيكان) التي ينتجها مصنع إيراني يتبع تكنولوجيا الستينات البريطانية، أو تكون سيارة (مرسيدس) التي يتبع في إنتاجها أحدث التقنيات المتوافرة في هذا الميدان، فالمقارنة بين السيارتين تعتمد على المستوى الفني بغض النظر عن جنسية الصانع أو مكانه. لكن هذه السيارات نفسها يمكن أن تحمل القيم المضافة بواسطة الفاعلين الاجتماعيين في ظروف مختلفة. في إيران مثلاً يعمد السائقون، سواء كانوا يقودون البيكان أو المرسيدس إلى تزيين سياراتهم بمواد ترمز لمقدسات أو عناصر ثقافية أخرى، فالسيارة هنا ليست مجرد أداة بل تركيباً من الخصائص الموضوعية للماكنة مضافاً إليها القيم التي تجعل الماكنة أو المبنى، سواء كان سيارة أو نظاماً سياسياً، عنصراً متشابكاً مع النسيج الثقافي للمجتمع أي مألوفاً للمستعمل وكفوءاً في نظره، أو على العكس جهازاً بغيضاً أو قطعة ميكانيكية عسيرة على الفهم والتعامل.

مثلما توجد موديلات وأنواع عديدة من السيارات، فهناك أيضاً موديلات (نماذج) عديدة من الديموقراطية. كمثال فإنه يمكن الحديث عن ديموقراطيات ليبرالية أو ديموقراطيات اجتماعية أو ديموقراطية ليبرتارية وما إلى ذلك. كل واحدة من هذه المكائن تشترك في عدد من الوظائف والخواص الأساسية التي تسمح بتصنيفها جميعاً كنموذج ديموقراطي في المقام الأول، لكنها تتمايز فيما بينها بالنظر إلى كفاءتها الوظيفية instrumental أو القيم المضافة إليها. لهذا السبب فإنه يمكن الحديث عن ديموقراطية إسلامية أو -بكلمة أدق- ديمقراطيات إسلامية. كل هذه المكائن التي صُنفت تحت الاسم النوعي (ديموقراطية إسلامية) تشترك من حيث وظائفها الأساسية مع النماذج الأخرى للديموقراطية في عدد من الخصائص الهامة. أما عناصر التمايز بينها، بل بين النماذج الإسلامية نفسها، فتتمثل غالباً في القيم التي يضيفها أعضاء الجماعة التي تتبناها وربما بعض الوظائف غير الأساسية التي تضاف إليها أو تحذف منها على يد أولئك الأعضاء. من هنا فإنه يمكن تصور نموذج من الديموقراطية الإسلامية يستمد القيم الدينية المسندة اليه من قراءة عقلانية - تحليلية للإسلام. كما يمكن تصور نماذج أخرى تقوم على قراءات مختلفة.

ينبغي الإشارة هنا إلى أن وصف (الإسلامية) الملحق بمفهوم الديموقراطية لا يعني نقل مكون قدسي إلى المبنى الجديد. المبنى المسمى بالديموقراطية الإسلامية ليس فيه أي شيء مقدس لأن الوصف لا يشير في حقيقة الأمر إلى الأجزاء الأساسية التي يتكون منها الدين الإسلامي، بل يشير ببساطة إلى إمكانية تصميم نماذج من الديموقراطية يعتمد فيها على القراءات العديدة للدين الإسلامي كمصدر محتمل للقيم التي يحملها النموذج.

-6-
الديموقراطيات الإسلامية كبرنامج بحث متصاعد أو متناقص

التحدي الذي يواجه المسلمين اليوم هو إنتاج نموذج ديموقراطي يقوم على مصالحة بين القيم المحلية والخاصة بالإسلام من جهة والقيم الكونية الحديثة من جهة أخرى. أحد الأغراض الرئيسة لهذا النموذج هو استقطاب أكبر عدد ممكن من أبناء المجتمع للمشاركة النشطة والبنَّاءة في جميع مناحي الحياة العامة وصناعة السياسات التي تقود حاضرهم ومستقبلهم. مثل هذا النموذج يمكن النظر إليه كبرنامج بحثي في حال تصاعد وتقدم. بهذه الصفة، فإن التقدم يعني التوسع المنتظم في نطاق الوظائف التي يؤديها والتوسع الموازي في الشرائح الاجتماعية التي يضمها إلى قائمة المشاركين في الشأن العام.

يتماثل هذا النموذج مع النظم الديموقراطية المطبقة في المجتمعات المتقدمة (غير الإسلامية) في عدد من الوظائف الأساسية، الضرورية للمحافظة على هويته كديموقراطية حقيقية. لكنه يتمايز عنها بمنظومة من القيم التي تعكس الأحاسيس أو التوجهات الخاصة بأفراد المجتمع الذين طوروا هذا النموذج أو شاركوا فيه. ينبغي أن تكون هذه القيم قادرة على تحسين كفاءة وأداء النظام الديموقراطي ضمن الإطار الاجتماعي الإسلامي الذي يعمل فيه النموذج، وأن تكون في الوقت عينه متوافقة أو غير متعارضة مع القيم والقواعد التي تعارف العالم على ضرورتها للديموقراطية. كمثال على ذلك فإنه يمكن لنموذج ديموقراطية إسلامية أو دينية أن يمنع (الدعارة في الأماكن العامة) ويعتبرها أمراً قبيحاً ومخالفاً للقيم العامة. إلَّا أن استعمال القانون وموارد الدولة لمنع هذا العمل سيكون مقصوراً على المجال العام، أما في المجال الشخصي فإن مقاومة هذا النوع من الأعمال سوف يقتصر على النصح والإرشاد والأساليب الإقناعية الأهلية وليس قوة الدولة. بل يمكن القول: إنه حتى في المجال العام فإن حقوق الأفراد المدنية والدستورية ستبقى مصانة ما لم تتعارض مع القانون.

بالمقارنة مع النموذج الانتقالي المتصاعد للديموقراطية الإسلامية، يمكن أيضاً تصور نماذج متناقصة. لعل المائز الأساسي لنموذج من هذا النوع هو أن القيم الدينية المضافة إلى الماكنة الديموقراطية هي قيم انحصارية أو طاردة exclusivist لا تسمح بالتعدد والتنوع، ولهذا فهي ربما تبرر التمييز ضد شرائح اجتماعية معينة أو تعاملهم كمواطنين أقل درجة من غيرهم. مثل هذا النوع من القيم المضافة يؤدي في نهاية المطاف إلى إنتاج نموذج يختصر مشاركة المواطنين في الشان العام، كما يمسخ الهوية الأصلية للديموقراطية ويحولها إلى نوع شبيه بديموقراطية خاصة بأولئك الذين وضعوها في عزلة عن باقي الجمهور، أي ديموقراطية للنخبة الحاكمة أو ما يشبه النظام النخبوي الأوليغارشي.

-7-
الديموقراطيات الإسلامية والتقييم النقدي

كي تواصل تقدمها، ينبغي أن تخضع الديموقراطيات الإسلامية، مثل جميع المباني الاجتماعية الأخرى، لتقييم نقدي متواصل على المستويين النظري والتطبيقي. على المستوى النظري يجري تقييم الوظائف المختلفة والمكونات القيمية لكل من هذه النماذج بالنظر إلى الإطار الاجتماعي الذي تطبق فيه. السؤال الذي يجب أن يقود عملية التقييم هو: إلى أي حد تساهم كل من الوظائف والمكونات القيمية المنسوبة إلى النموذج في تحسين كفاءة أدائه العام. وهل ثمة حاجة إلى إضافة وظائف أو قيم أخرى إلى النموذج القائم لتعديل أو تحسين أدائه؟ أما على المستوى التطبيقي فإن التقييم يتناول الوظائف والقيم ذاتها بالنظر إلى النتائج غير المرغوب فيها التي تتكشف عند تطبيق النموذج أو بعض جوانبه.

ربما يعترض البعض على نقد القيم والأعراف بالنظر لارتباطها بإطارها الاجتماعي - الثقافي الخاص بها، أي لأن حساسيتها تتعلق بهذا الإطار خاصة. إلا أن المنهج الذي نتبعه يرى إمكانية إخضاعها للنقد والتقييم. تنظر الفلسفة العقلانية - التحليلية إلى القيم والأعراف كموضوعات عينية objective قابلة للتحليل والتقييم على هذا الأساس. بعبارة أخرى فإن المنهج لا يأخذ بعين الاعتبار خصوصية القيم أو ارتباطها بالإطار الاجتماعي كمبرر لحمايتها من التقييم النقدي، ذلك أنها موجودات تنطوي على جوانب موضوعية قابلة للنقد بالنظر إلى هذه الجوانب على الأقل، إضافة بالطبع إلى الوظيفة التي تؤديها أو التي يراد لها أن تؤديها. من بين الأدوات المفهومية التي تستعمل في تقييم الأداء الوظيفي والقيمي لأي من نماذج الديموقراطية الإسلامية، ثمة اثنان يستحقان الذكر خصوصاً. الأول هو ما يسمى بـ(منطق الحال =the situational logic)([10])، أما الثاني فهو (التجربة الفكرية = thought experiments)([11]).

السؤال الذي ربما يطرح نفسه هنا: ماذا نفعل إذا ظهر تعارض بين الخواص الأصلية لماكنة الديموقراطية والمنظومة القيمية التي أضافها المجتمع على تلك الماكنة، ولم يمكن تسويته من خلال المساومة أو النقاش أو أي وسيلة أخرى للتسوية؟ ما هو المعيار الذي يتخذ حينئذ للخروج من المأزق؟ مثل هذه الوضعية الافتراضية يمكن أخذها بعين الاعتبار عند تبني واحد من نماذج الديموقراطية الإسلامية.

للإجابة عن هذا السؤال يمكن مقارنة المشكلة بتلك التي أشار إليها الفيلسوف الإلماني إيمانويل كانت حين تحدث عن كيفية الخلاص من الشك المطلق. طبقاً لكانت فإن للشكاك دور عظيم الأثر في جعلنا واعين وحذرين من التساهل المعرفي. لكن نظراً لأنه لا يمكن استبعاد الشكاك المطلق من الميدان أو الرجوع إلى الاستدلالات العقلية، فإنه حيثما تحول الدور الإيجابي للشكاك إلى دور هدام، وتغير دوره من المساعدة في التخلص من الانزلاقات المعرفية إلى عائق دون كسب معرفة جديدة، عندئذ فإن العقل يدعونا لصرف النظر عن رأي الشكاك وحل المشكل بالرجوع إلى معايير براغماتية. العودة إلى الموازين البراغماتية هي فعل العقل حين يصل إلى طريق مسدود وهي سنة راسخة في الفلسفة.

على الأساس نفسه فأنه يمكن المجادلة بأنه في حال ظهر أن بعض القيم المضافة هي عائق ومعطل لماكنة الديموقراطية، فإنه من العقلاني الرجوع إلى المعايير البراغماتية لتمكين الماكنة الديموقراطية من القيام بوظيفتها الأصلية أي إدارة الشأن العام للمجتمع. هذا يعني إعطاء الأولوية في العمل للماكنة على حساب القيم المضافة.

جدير بالذكر هنا أن مثل هذا الموقف له سوابق في التراث الإسلامي، ومن بين الأمثلة القريبة زمنيًّا هو الموقف الريادي الذي اتخذه آية الله الخميني حين أعلن في 1988 بأن صيانة النظام السياسي للبلاد لها أولوية على أي حكم شرعي آخر. هذه الفتوى تعتبر مثالاً آخر على هذا النوع من الاستدلال العقلاني، أي الرجوع إلى الحلول البراغماتية حين يستعصي التوصل إلى حل أمثل. يمكن القول إذن: إنه طالما كانت الوظيفة الأصلية للديموقراطية هي تسيير أمور الاجتماع، وإن التجسيدات الواقعية للقيم المجردة إنما تظهر في إطار هذا النموذج، فإن التعارض الذي لا يقبل الحل بين طرفي هذا النموذج ينحل بإعطاء أولوية لخواص الديموقراطية نظراً إلى أن هدفها الأصلي هو حفظ الاجتماع في المعنى العام للكلمة.

-8-
حدود الإسلامية

نصل الآن إلى سؤال يبدو ضروريًّا: إلى أي حد يمكن استعمال نسبة (الإسلامية) في وصف الأشياء، المباني الاجتماعية، والكيانات؟ هل يمكن مثلاً القول بوجود بنك إسلامي أو نظام مصرفي إسلامي أو اقتصاد إسلامي أو تقنية إسلامية أو علم إسلامي، مثلما وصفنا نموذجاً من الديموقراطية بأنه ديموقراطية إسلامية؟ هل هناك حدود نهائية لمثل هذه النسبة، أم أن كل شيء يمكن أسلمته بإلقاء صفة (الإسلامي) عليه؟

دعنا نبدأ بالعلم. ورأيي أنه لا يصح القول بعلم إسلامي أو صيني أو أمريكي أو ما أشبه. العلم عبارة عن منظومة من الفرضيات، النماذج، النظريات التي صيغت على يد البشر من أجل فهم الأشياء والتركيبات ومسارات العمل إلخ... التي تشكل بمجموعها ما نسميه بالواقع أو الواقعي reality. العلم بالنسبة للباحث يشبه شبكة يصممها الصياد ويطرحها في الماء كي يصطاد السمك. المقولة العلمية ناظرة أساساً إلى هذا الواقع الذي يعتبر، طبقاً للفرضية الأولية عند الفلاسفة الواقعيين realists، مستقلاً عن الباحث. في هذا الإطار فإن المقولة العلمية حول واقع معين لا تعتبر كشفاً قطعياً لحقيقته، بل رأياً قابلاً من حيث المبدأ للتفنيد، اليوم أو غداً. طالما بقيت المقولة صامدة أمام النقد، فهي تعتبر علمية سواء كان الذي توصل إليها عالم مسلم أو صيني أو أمريكي أو غيرهم، أما إذا جرى تفنيدها فسوف تخرج من دائرة التراث الموصوف بالمعرفة العلمية، حتى لو كانت -في نظر مؤرخي المعرفة- في غاية الأهمية كموضوع قائم بذاته أو كحلقة في تسلسل تاريخي. لهذا مثلاً فإن النموذج الفلكي الذي صممه الفلكي العربي علاء الدين بن الشاطر، والذي يقال إنه ألهم كوبرنيكوس، لا يسجل كمنظومة مقولات علمية وإن كان مثبتاً كمحاولة قيمة ضمن تاريخ العلوم. والأمر نفسه يقال عن نظرية الفلوجستون التي اقترحها العالم الألماني جورج شتال.

لكن يختلف الحال في التقنية، فهي تمثل بنية قابلة لحمل صفة (الإسلامية). رغم العلاقة الوثيقة بين التقنيات والعلوم الطبيعية، إلَّا أن الاثنين يتمايزان في جوانب عديدة: فهما أولاً يختلفان في الغايات. غاية العلوم هي معرفة الواقع وتفاصيله، أما غاية التقنية فهي التنبؤ بالتغير في هذا الواقع والسيطرة عليه. وبينما تعمل النظريات العلمية مستقلة عن الظرف الاجتماعي أو البيئي الخاص الذي تجري فيه، فإن التقنية والهندسة شديدة العلاقة بهذا الظرف وهي حساسة لمتغيراته context-sensitive. ولهذا السبب أيضاً فإن معايير التقدم المستخدمة في كل من العلوم والتقنية مختلفة هي الأخرى. في حالة العلوم فإن معيار التقدم هو الاقتراب من المعرفة الحقيقية بالواقع، وهذا بدوره يتحقق من خلال سلسلة متواصلة من الافتراضات المؤقتة أو الانتقالية تقود إلى ما هو أرفع منها وهكذا. أما في حالة التقنية فإن المعيار الرئيس للتقدم هو النجاح المشهود في حل المشكلات العملية. من ناحية أخرى تتسم مسيرة العلم بالتكامل التدريجي، كما أن مقولاته تميل إلى الموضوعية والتعميم، أما في التقنية فإن المعرفة الضمنية tacit knowledge تحظى بأهمية أكبر، ولهذا السبب فإنه من العسير تصور مسيرة تكاملية في إطار التقنية.

التقنيات والمنتجات التقنية وجميع المباني الاجتماعية الأخرى تختلف عن العلوم في جانب آخر مهم: خلافاً للنماذج والفرضيات العلمية، فإن صياغة وتطوير التقنيات والمباني لا تستهدف إشباع فضولنا العلمي وزيادة معارفنا، بل تستهدف إشباع حاجاتنا العملية. وسواء كانت هذه المباني والتقنيات منتجات عقلية موضوعية كما هو الحال في الكائنات التي صنفناها ضمن العالم الثالث، أو كانت أشياء مادية كما هو الحال في الكائنات التي صنفناها ضمن العالم الأول، فإن وجودها يدين في كلا الحالين إلى التوافق بين أفراد الجماعة الذين خلقوها أو استعملوها. هؤلاء الأفراد هم الذين أسندوا الوظائف المحددة التي تؤديها هذا المنتجات/ المباني، وهم قد يغيرون هذه الوظائف من خلال تعديل التوافقات القائمة بينهم. وتستطيع التقنيات أو المباني الاجتماعية احتمال هذا التغيير نظراً لما تنطوي عليه من ثنائية وظيفية، أي كونها أدوات بحتة pure instruments من ناحية وحوامل للقيم المسندة إليها من جانب الجماعة من ناحية أخرى. في هذا الإطار فقد يمكن تصور العديد من التقنيات المحملة ثقافيًّا، مثل التقنية الإسلامية أو الصينية أو الإفريقية أو الأمريكية... إلخ.

يمكن تطبيق المعادلة نفسها في مسألة (البنك الإسلامي) أو (النظام المصرفي الإسلامي). البنك هو مبنى اجتماعي، ماكنة لتيسير بعض الوظائف الاجتماعية. وبهذا الاعتبار فإنها تنطوي على جانبين، فهي من جهة أداة بحتة، وهي من جهة أخرى حامل للقيم المضافة إليها من جانب أفراد الجماعة في ظرف معين. في حالة البنك الإسلامي فإنه يمكن تصور نظام مصرفي يحمل القيم الإسلامية، بمعنى أن قراءة تلك الجماعة للإسلام أو تفسيرها لقواعده يمكن أن تتخذ أساساً لتحديد المبررات التي أوجبت قيام تلك الماكنة / البنك والأغراض المستهدفة منه.

أما بالنسبة لـ(الاقتصاد الإسلامي) فالمسألة أكثر تعقيداً وهي تتطلب المزيد من الشرح. يصنف علم الاقتصاد ضمن زمرة العلوم الاجتماعية التي توصف بأنها علوم ذات وجهين: فهي من جهة تتماثل مع العلوم الطبيعية في أن هدفها هو اكتشاف قوانين الحركة في المجتمعات. ومن جهة أخرى فهي تماثل التقنية من حيث اعتمادها على التنبؤ وكونها تستهدف التحكم في مسارات التغير في الحالات الاجتماعية. وهذا هو السبب الذي يبرر أحياناً وصف العلوم الاجتماعية بأنها (تقنيات اجتماعية).

على ضوء ما ذكر آنفاً، فإنه يمكن القول بأنه يمكن النظر إلى الاقتصاد من زاويتين مختلفتين. من زاوية كونه فنًّا يماثل التقنية، فهو مؤهل لاكتساب خواص الماكنة، ومن بينها قابليته لاستيعاب وحمل القيم المسندة إليه من جانب الجماعة التي تستخدمه في ظرف خاص. وبناء عليه فإن قيام مبنى اجتماعي تحت اسم (الاقتصاد الإسلامي) هو أمر ممكن. من الزاوية الثانية، أي كونه مماثلاً للعلوم النظرية فإن مقولاته تتسم بكونها عامة وغير قابلة للتخصيص، أي مستقلة عن الظروف الموضوعية، فإن إلحاق وصف الإسلامية أو غيره به، لن يكون ذا معنى.

-9-
خلاصة وتصور لنموذج مقترح

حاولت المناقشات السابقة التأسيس لدعوى أن صياغة نموذج للديموقراطية الإسلامية ليس أمراً مستحيلاً. لكن هذا يثبت أمراً واحداً فقط وهو إمكانية تركيب كينونة من هذا النوع، بغض النظر عن توفر القابلية الفعلية لتركيب تلك الكينونة. بعبارة أخرى فإن ما جادلنا حوله هو إمكانية الوجود، بغض النظر عن إمكانية الإيجاد. دعنا إذن في هذه الفقرة الختامية نسعى لوضع الخطوط العريضة لنموذج مقترح للديموقراطية الإسلامية يمكن تبنيه من جانب الفاعلين الاجتماعيين في إطار اجتماعي إسلامي متقدم فكريًّا مثل إيران.

نفترض أولاً أن العديد من الجوانب الوظيفية لهذه الماكنة الديموقراطية في هذا الإطار المجتمعي الخاص سوف تماثل تلك التي تؤديها الماكنات الأخرى المستعملة في الديموقراطيات الحديثة. نفترض أيضاً أن المكونات القيمية لهذه الماكنة سوف تحدد على ضوء قراءة عقلانية - تحليلية للإسلام. تنظر المدرسة العقلانية - التحليلية إلى العقل ككون مستقل في عمله وكسلطة قائمة بذاتها ليس فوقها سلطة أخرى. القرآن الكريم والسنة النبوية يمكن فهمها فقط من خلال عملية تفسير متواصلة يمارسها العقل المستقل، غرضها المحافظة على الجسر الذي يربط بين محتوى النص الثابت وواقع الإنسان المتغير. رغم أن العقل يعمل مستقلاً، إلا أنه -من حيث التكوين- يحمل العديد من الصفات والهموم الخاصة بالبيئة الاجتماعية لصاحبه التي تمثل بمجموعها جزءاً مما نطلق عليه اسم (البيئة العقدية الإسلامية = Islamic belief-ecosystem)([12]). البيئة العقدية، مثل الأنظمة البيئية الطبيعية، هي أنظمة دينامية حركية تتفاعل بنشاط مع العوامل التاريخية والجغرافية. ومن هذه الزاوية فهي أنظمة متنامية ومتوسعة في مكوناتها الداخلية وفي تمظهراتها الخارجية. ومع توسعها ينضم إلى تكوينها أعضاء جدد، أي (إرادات) سواء فردية أو جمعية تتفاعل فيما بينها ومع البيئة الأوسع.

يعتبر تلاميذ الفلسفة العقلانية - التحليلية الإيمان موضوعاً شخصيًّا. وطبقاً لهذه الرؤية فإن التفاعل بين الإيمان والحياة يتجلى من خلال ضم الفرد المؤمن لقوته الفكرية (العقل) إلى تجربته الروحية واستخدامهما معاً في تعزيز فهمه واستيعابه وتمثله لعالم المقدس. يؤمن أتباع الفلسفة العقلانية - التحليلية بوجود كائن مقدسsacred Being يسعون لاستكناه ذاته وصفاته من خلال تطوير فرضياتهم ونماذجهم التحليلية. وعلى النسق نفسه فإنهم يعتبرون الدين والتقاليد الدينية جزءاً هامًّا وجوهريًّا من الإطار الحيوي الذي ينتمون إليه، ويؤكدون على المراجعة المتواصلة لفهمهم الراهن للدين والتقاليد الدينية على ضوء التجارب المتواصلة وما تقود إليه من معرفة جديدة. الفرضية التي تقود هذه الممارسة هي أن المراجعة المستمرة سوف تساعد في تحسين استخدامهم للموارد التي تتوافر في إطارهم الحيوي. يتبني أتباع المدرسة العقلانية - التحليلية التعدد والتنوع، ويعارضون الأنظمة الإيديولوجية. وفيما يتعلق بإدارة الشأن العام الاجتماعي أو السياسي، فإن المشكلة الرئيسة لا تكمن عندهم في العثور على الأفراد الأصلح أو الأكثر تقوى لتولي القيادة، بل في صياغة وتطبيق نظام عقلاني وكفء، وإيجاد مؤسسات أو هياكل تيسر إقامة مجتمع عادل. للوصول إلى هذه الغاية، فإنه يمكن الاستفادة من الموارد المتوافرة في الإطارات الحياتية التي ينتمي إليها العقلانيون - التحليليون كمصدر غني للقيم والأفكار، بشرط إخضاعها للمراجعة والنقد الدائم.

إذا أردنا تطبيق المنظور العقلاني - التحليلي على ظرف إيران الخاص، فإن صيانة النظام الإقليمي للبلاد هو شرط مسبق لأي مسعى يستهدف إقامة نموذج ديموقراطي إسلامي. في هذه الإطار فإن التركيبة المتنوعة لسكان البلاد دينيًّا ولغويًّا وثقافيًّا، تمثل تحديًّا عسيراً أمام التوصل إلى إجماع على المبادئ الأساسية التي سيقوم عليها النظام الديموقراطي. سوف يتطلب الأمر جهداً كبيراً ومركّزاً لصياغة وترسيخ أعراف ديموقراطية، ومناهج عمل ومؤسسات، تؤمن وتدعم التحول نحو نظام ديموقراطي قابل للحياة والاستمرار.

نموذج الديموقراطية الإسلامية المقترح يستهدف إقامة آليات مناسبة تضمن -من جانب- المشاركة والتمثيل الشعبي، ومن جانب آخر معايرة عمل المؤسسات السياسية على ضوء القيم الإسلامية المعقولة. من هنا فإن هذا النموذج سوف يشجع مثلاً التفاعل الإنساني المباشر والقائم على أرضية المساواة كوسيلة ضرورية لتعزيز الاحترام والتقدير المتقابل، وتعزيز الرابطة الروحية بين المواطنين، واستيعاب المشتركات التي تجمع بينهم. للوصول إلى هذه الغاية سوف نحتاج إلى تشجيع التبادل الثقافي بين المجموعات الإثنية والثقافية المختلفة وهو أمر يتطلب بالتأكيد ضمان التعددية الثقافية في أوسع تجلياتها. كما يتطلب تشجيع الاعتماد على الحوار كوسيلة لتكوين إجماع وطني يتجلى في أعمال مشتركة وبحث عن حلول للمشكلات بالتعاون بين المواطنين والحكومة وذوي الخبرة.

يوجه نموذج الديموقراطية الإسلامية المنظور اهتماماً فائقاً للحقوق الأساسية للإنسان والحريات المدنية، كما يضمن مساحة عمل مناسبة لمنظمات المجتمع المدني كي تلعب دورها الضروري في تيسير العلاقة بين الأفراد من جهة وبين القوى السياسية والاقتصادية من جهة أخرى، وكي تسهم في حماية حريات الأفراد وحقوقهم. كما يفرد اهتماماً خاصاً بالقيم الإسلامية مثل احترام الأخلاقيات العامة والأعراف المقبولة بين عقلاء العالم، إضافة إلى الرعاية المتبادلة والمسؤولية المشتركة للمواطنين عن بعضهم وعن النظام البيئي الذي يعيشون في إطاره.

بالنظر لظرف إيران الخاص، نعتقد أن بوسع الدولة أن تلعب دوراً محورياً في صياغة وترسيخ نموذج الديموقراطية الإسلامية المقترح. كما أن المجتمع المدني قادر على القيام بدور فعَّال في تحقيق هذه الغاية. فيما يتعلق بالتنظيم الحكومي، فإن وجود نظام قضائي كفء ومستقل يمثل ضرروة أولية لنجاح النموذج وتطوره. كما تلعب الصحافة دوراً هامًّا، ويمكن لها أن تساهم في بناء وتحسين كفاءة النموذج من خلال مراقبة أدائه فضلاً عن كونها مصدراً للمعلومات، وهي من هذا المنظور وسيلة فعَّالة لتطوير مشاركة شعبية غنية وذات تأثير. والشيء نفسه يقال عن المفكرين، الدينيين وغير الدينيين، فهم يتحملون جانباً مهمًّا من المسؤولية عن تمهيد الطريق أمام النموذج الديموقراطي المقترح كي يترسخ ويتكامل. يمكن للمفكرين أن يلعبوا دوراً محوريًّا في خلق تفاعل بنَّاء بين ما يتخلق في فضاء العالم من أفكار جديدة وما تكشف عنه التجربة الديموقراطية من حاجات ومشكلات وإمكانات جديدة في الإطار المحلي. بالنظر لكونه نموذج بحث تجريبي، فإن نجاح النموذج الديموقراطي الإسلامي يتوقف إلى حد كبير على الأفكار الجديدة الضرورية لحل المشكلات غير المتوقعة التي لا بد أنه سيواجهها عند تطبيقه، وفي هذا المجال فسوف يكون للمفكرين اليد الطولى في النقد والمراجعة والتصحيح.

الغرض مما ذكر أعلاه هو تحديد الخطوط الأولية لبرنامج البحث المقترح. لكن يجب الإقرار بأنه رغم هذا الهدف المتواضع، فإن الخطوط التي رسمناها تحتوي على كثير من الفراغات. على أي حال، وبالنظر لأن أي برنامج بحث هو في الأعم الأغلب نشاط جمعي، فإن تلك الخطوط هي مجرد إضاءات على الطريق إلى صياغة نموذج أشمل وأكمل.

 

 



(([1]))* العنوان الأصلي لهذه المقالة:

Ali Paya, “Islamic Democracy: A Valid Concept or an Oxymoron?”

(([2]))البروفسور علي بايا أستاذ للفلسفة في جامعة العلامة الطباطبائي - طهران، وأستاذ زائر بجامعة وستمنستر - لندن. له العديد من المؤلفات في الفلسفة التحليلية باللغتين الفارسية والإنكليزية.

([3]) كان ميرزا يوسف مستشار الدولة واحداً من المفكرين الإيرانيين البارزين في القرن التاسع عشر. عرف كدبلوماسي كفء وعمل ممثلاً لإيران في باريس بين 1865 - 1869. كتابه «كلمة واحدة» هو ترجمة فارسية لقانون نابليون. قدم هذا الكتاب نصًّا قانونياً أوروبيًّا حديثاً إلى القارئ الإيراني، لكن أهميته ترجع -إضافة لذلك- إلى محاولة الكاتب إظهار أن الفصل الخاص من قانون نابليون المتعلق بالحقوق المدنية، وهو أيضاً جزء من الدستور الفرنسي، متناغم تماماً مع تعاليم الإسلام. بعبارة أخرى فقد حاول مستشار الدولة عرض آيات قرانية أو أدلة من تراث الرسول والأئمة تطابق تماماً محتوى بنود القانون. وترك الكتاب أثراً عظيماً على تفكير الأجيال التالية من المجددين الدينين في إيران كما لعب دوراً هامًّا في النقاشات الفكرية حول دستور المشروطة لعام 1906. انظر مستشار الدولة، ميرزا يوسف: يك كلمه (كلمة واحدة) (1869)، تهران 2003.

([4]) كان الميرزا محمد حسين النائيني من أبرز الفقهاء المؤيدين للدستور خلال الثورة الدستورية وكتب كتابه في الرد على نقادها ومعارضيها، وحاول فيه إيجاد تسوية بين القيم الإسلامية من جهة وبين المفاهيم السياسية الحديثة مثل الدستور، حقوق الإنسان، الحرية وما أشبه. غني عن القول إن النائيني قد تأثر بعمق بكتاب مستشار الدولة المذكور أعلاه. انظر السيف، توفيق: ضد الاستبداد، بيروت 1999.

([5]) «المعرفة» المقصودة هنا هي تلك القابلة للتحصيل والتقييم من جانب عامة الناس أي المعرفة الموضوعية وليس ما يطلق عليه المتصوفة اسم المعرفة المباشرة أو المعرفة الحضورية.

([6]) يعتمد هذا القسم وتاليه بشكل رئيسي على:

- Searle, John, Mind, Language, and Society, London, 1999.

- Searle, John, The Construction of Social Reality, London, 1995.

- Paya, A., “Dialogue in the Real World,” International Journal of Applied Philosophy, Vol. 19, No. 2, 2002.

([7]) يمكن عرض مثال معاكس على النحو التالي: يستطيع روبنسون كروسو أو حي بن يقظان تحديد جزء من جزيرته وتسميته «معبداً». هذا المكان سيأخذ مكانة مميزة من زاوية أن روبنسون أو حي ربما يغير سلوكه الخارجي في أي وقت يدخل هذا «المعبد». حالته الروحية الداخلية ربما تتغير أيضاً بموازاة ذلك كنتيجة للوظيفة الجديدة المسندة إلى تلك القطعة من الأرض. لكن على أي حال فإن إسناد وظيفة «المعبد» في هذا المثال لا يبدو انعكاساً حقيقية لإرادة فردية بحتة. والسبب في هذا أن روبنسون أو حي، حين يمارس العبادة، فإنه يضع نفسه -افتراضاً- في حال اتصال مع إرادة أخرى، هي الكائن الأعلى الذي هو موضوع العبادة.

([8]) يمكن مع شيء من التسامح مماثلة النموذج المستعمل هنا مع مفهوم العلل الأربع التي اقترحها أرسطو. من هنا فإنه يمكن مثلاً ربط الإرادة الجمعية التي تشكل المبنى الاجتماعي مع مفهوم العلة النهائية عند أرسطو. كما يمكن ربط الفاعل الاجتماعي (الفرد أو الأفراد) الذين يخلقون فعليًّا ذلك المبنى المعين، مع العلة الفعلية المؤثرة. ويمكن ربط التمظهر المادي لهذا المبنى مع تركيب من العلة الشكلية والمادية.

([9]) انظر:

Linz & Stepan, Problems of Democratic Transition and Consolidation, Baltimore, 1996.

([10]) انظر بهذا الصدد: Popper, Karl: Objective Knowledge, Oxford, 1972.

([11]) انظر بهذا الصدد: Sorensen, Roy: Thought Experiments, Oxford, 1998.

([12]) انظر بهذا الصدد:

 Paya, Ali: «Muslim Identity and Civil Society» in Bahmanpour & Bashir(eds), Muslim Identity in the 21st Century, London, 2000.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة