تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الصرب بيننا

عدنان بن جمعان الزهراني

 

 

عدنان بن جمعان الزهراني(([1]))

 

كثيراً ما تقفز أمام ناظري مذابح الصرب وردّ الفعل الذي قابلها من مسلمي البوسنة والهرسك -وغيرها مما سطّره لنا التاريخ كثير- عندما أحضر بعض النقاشات التي تثار في موضوع الخلاف بين السنة والشيعة بل بين السنة والسنة بحسب الاصطلاح الدارج للسنة، والشيعة والشيعة بحسب الاصطلاح الدارج للشيعة، إذ تنقل إليك وتقرأ فتاوى في استحلال دم بعض السنة لدماء الشيعة، واستحلال بعض الشيعة لدماء السنة، وتسمع تارة بعد أخرى أن الكافر الأصلي مثل شارون وغيره أهون شرًّا من هؤلاء السنة أو هؤلاء الشيعة، وهذه النغمة نجدها في كثير من الأحيان في خلاف قد يثار بين السنة والسنة، والشيعة والشيعة، وأخذت أسأل نفسي أين الحقيقة؟!

إذا كان السنة مع الشيعة، والشيعة مع السنة، يفكر بعضهم في استئصال الآخر على هذا النحو، وتستخرج في تشريع ذلك وتسويغه، بل وضمان الأجر العظيم، والخلود الأبدي في الجنة بسببه الفتاوى العريضة، من هنا، وهناك، ومن القديم، والحديث، فكيف نلوم الصرب وبأي وجه نتحدث معهم، لأن ما من أجله فعل الصرب فعلتهم، فعلناه وسنفعله أو قل سيفعله بعضنا مع بعض، إذ كما يزعم بعضهم ليس الصرب بأكثر شرًّا من هذا الفريق، أو ذاك، وقل الشيء ذاته عن المحافظين الجدد فيما يفعلونه هنا أو هناك، معنا، إذ لديهم من الأسباب المعقولة، والمفهومة أكثر مما نفهمه نحن عن صراعنا مع بعضنا، ولسنا في موقع يؤهل لتوجيه أية ملامة إليهم لكيلهم بمكيالين لأننا نفعل ذلك مع بعضنا بل نراه أكثر قساوة فيما بيننا عما نراه منهم!

وهنا أسأل:

أين الحقيقة؟!

هل هذا هو الدين؟

هل هذا ما يريده الله منا؟

هل يرضى سبحانه لقتل بعضنا بعضاً؟

وهل يرضى لاستحلال أموال وفروج ودماء؟

بل هل يريد الله تعالى أن يقتل الإنسان الإنسان لمجرد أن فكرة أحدهما عن الله تختلف عن الآخر، بل حتى حين لا يعبد أحدهما الله تعالى؟

هذا ما حمل بعض عقلاء أوروبا بعد أن ذاقوا مرارة هذه النظرية الاستئصالية، على عبادة الله تعالى بطريقتهم متمردين على الطرق الشائعة كلها، أو حتى رفض فكرة وجود هذا الرب الذي يريد أن يفرض على الناس فكرة واحدة للإيمان به، والتي لا يفهما سوى بعض الأشخاص، وليس من حق أحد التدقيق في أقوال تلك القلة أو مراجعتها، لأنها من أسرار الرب التي لا يفضيها إلا لقليل من أرباب الكهنوت، وأي شك أو تردد من الآخرين فإلى الجحيم، ولا يوجد ما يستحق هذا المتشكك من أجله البقاء، وإنما خلقه الله كي يقتل، ويُتقرب بسفك دمه لله تعالى، مثله مثل باقي الأضاحي، ولا يريد الله سوى ذلك منا.

هذا جعل قلة أخرى تتشك أو قل تتيقن أن فكرة الدين شيء لا يمكن أن يكون من عند الرب، وإنما هي فكرة جاء بها بعضهم ليحقق قدراً من المنافع لا أكثر ولا أقل، ثم تحولت القلة الأخرى إلى كثرة، والكثرة إلى غلبة، حتى نادى الكثيرون ثائرين على الدين، ودخلت العلمنة من كل جانب وهي محقة لأن السلطة الدينية على نحو ما ذكر لا تُفهم، ولا يمكن تفسير شرها العريض في تجويز فضلاً عن ندب أو إيجاب قتل الآخر من أجل فكرة تختلف مهما تكن، سواء صرَّح بها المرء أو لم يصرح، وهذا موقف علماني كما يظن بعضهم، والحق أنه أعظم موقف شرعي كرره القرآن الكريم، في حق من يملكون فكرة مختلفة عن الرب تعالى مهما تكن، قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}([2])، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين}([3])، هذه هي قاعدة الكتاب العزيز في تعامله مع من يحملون فكراً مخالفاً.

نعم إن الفكرة لا تكون سبباً شرعياً بل لا ترقى لتصبح سبباً كافياً لإغلاق فم الآخرين أو عقوبتهم، أو استئصالهم، والفكرة لا تواجه إلا بفكرة، ولهذا قال جل ذكره: {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، بعد قوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، ونحن لسان حالنا بل مقال بعضنا يقول: قد تبين الرشد ونحن نكرهك عليه ونحملك عليه حملاً، وأقول: سبحان الله نجد القرآن العظيم يعطي حق اختيار الدين رغم وضوح الحق، وقوة العقيدة التي جاء بها، لصالح عبدة الشمس والقمر والحجر والشجر؛ لأنه يريد اتباع الحق للحق لا للخلق خوفاً أو تقية، والعجب أن نأتي نحن لنزايد على القرآن العظيم وليس في حق عبدة الكواكب والأوثان وهذا يسير لو حدث، بل في حق اختلافات بين أهل قبلة واحدة، وأقول: سبحانك هذا بهتان عظيم.

كأني بك ستقول: هه قل لي بربك لِمَ قاتل المقاتلون ولم كانت الشهادة، وهل مات حمزة (عليه السلام) في باطل؟! لو لم يكن حمل الناس على فكرة واحدة لازماً لاسيما في العقيدة في الله تعالى لما كان جهاد ولا استشهاد؟

أقول: صدقني لم تكن العقيدة يوماً ما سبباً للقتال أو استحلال الأموال وغيرها في حياته عليه وعلى آله الصلاة والسلام، بل الفكرة لم تكن تقابل إلا بأختها، والدعوة لا تجابه إلا بمثلها، والحجة تقرع بالحجة لا غير، حتى سفكوا الدم واستحلوا الأموال والفروج مرة تلو مرة، وتارة بعد تارة، فكان أن قال تعالى لنبيه الكريم: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}([4])، وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ}([5])، هذه الآيات لا تعطي فسحة من الوقت ليتجرأ قائل ليزعم أن القتال في الإسلام كان من أجل القتال، حتى لو كان القتال من أجل اعتناق الناس للإسلام، إذ لو كان الأمر كذلك -لم نكن لنرَ القرآن الكريم في الآيات السابقة وهي أول ما أنزل في الإذن بالقتال- ليجعل سبب تشريع القتال وجود القتال من الآخرين والإخراج من الديار والظلم السابق، ولكان أمر بقتالهم دون تعليل، أو كان علَّل قتال المؤمنين لهم بكفرهم، ولما قال لنا: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} أصلاً، وهي على أي حال قرينة لا حيلة للفقيه في تجاوزها لفهم باقي ما ورد في كتاب الله تعالى في هذا السياق، وعليه لابد من جعلها منظاراً نرى من خلاله كل ما يذكره القرآن العظيم في هذا الصدد، وإذا كان الأمر كذلك مع عبدة الأوثان فأولى به أن يكون مع أهل القبلة، وأية تفسيرات أخرى وتقييدات للتحايل على هذا المفهوم علينا أن نرفضها، وعلينا أن نلقن أبناءنا والأجيال القادمة هذا المعنى الثابت الواضح، بحيث لا تقبل الحيدة عنه ولا التنصل من لوازمه، والسؤال كيف لنا أن ننشر هذه الفضيلة، وأن نوليها من العناية ما هي جديرة به؟

وكيف آل الأمر بأمتنا إلى هذه الحال من التناحر والنزاع؟

أقول: ليس مهمًّا أن نعرف الإجابة لأن الأهم كيف ننظر إلى مستقبلنا؟

وكيف نعيد إلى الدين رونقه وحقيقته؟

وفي الحقيقة أجد قدراً عظيماً من الحيرة في إجابة السائل عن الدين ما هو؟

وأقول للمطلع: قل لي بربك ما هو الدين؟

صدقني ليس الأمر بالسهولة التي تظن، لا لأن الإجابة صعبة، بل لأن ما جعلناه ديناً يعجز عن فهمه عباقرة البشر، واقرأ لو شئت الكتب التي تخصصت في تحديد مفهوم الديانة بدقة، وانظر إلى تراثنا من الفتاوى وغيرها، والتي ذكرت ما يجب على المرء أن يعتقده، وأن يدين الله به -أي أن يعتقد جازماً أنه دين الله تعالى- نعم اقرأ ذلك واخضع لشيخ يربيك على فهم الدين نحواً من عشر سنوات، عسى أن يفتح عليك بعدها لفهم معنى الدين، ولا تنسَ لابد أن يكون الشيخ على مواصفات محددة وإلا فلا يعترف بأي معرفة تعرفها.

هذا هو لسان الحال.

وأقول ناصحاً لمن يريد معرفة الدين اقرأ قول الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)}([6]).

وانظر هذا المعنى للدين في باقي آيات الكتاب العزيز، والسنة النبوية المشرفة الثابتة، ستجد معانيَ لا تخرج عن الذي ذكرته هذه الآيات الكريمات، ولن تجد ذكراً لأمور جعلناها ديناً نعتقده ونعطيها من الرتبة الدينية فوق الذي نراه في القرآن الكريم والثابت من سنة سيد المرسلين، وإني أسأل من أفتى بأن زجر اليتيم مثلاً يعرض عقيدة المسلم للخطر العظيم بدرجة أكبر من خطئه في تفضيل صحابي على آخر، على أن مسألة الزجر جاءت صريحة على اعتبارها تصدر في الأصل من مكذب بالدين، ومسألة التفضيل لا نجدها في الكتاب العزيز أصلاً، وإن وردت في السنة إلا أن الاتفاق حاصل في الجملة على أن ما جاء في القرآن العزيز يعطى من الاهتمام فوق الذي جاء في السنة، وأنا هنا لا أتحدث عن مسائل التفضيل بل أتحدث عن التفضيل بين المسائل، ولا أترك الاحتجاج بالسنة، إلا أني لا أجعل ما يحتج به من صحيح السنة في رتبة أعلى مما جاء في صريح القرآن العزيز.

والمؤسف حقًّا أنك لا ترى مسألة زجر اليتيم مثلاً ومنع الماعون مذكورة في المرتبة التي تليق بها في كتب العقائد والتي تم الاصطلاح على جعلها مخصصة للتعريف بالدين، رغم أنها ذات مرتبة عالية من الدين بنص القرآن الصريح، بل تجد ذكراً لبعض الهيئات المسنونة في الصلاة في بعض كتب العقيدة على أنها مما يُنبئ عن مدى تدين المرء وتمسكه بالعقيدة، وقد جعلت بعضها أن حب فلان وفلان من العلماء وبغض فلان وفلان دليل تمسك الرجل بالعقيدة الفلانية أو عدم تمسكه بها، وصار الدين عبارة عن أشخاص يتبعون حذو القذة بالقذة، لا منهجاً محدداً، وصارت الفتوى تقود المفاهيم الدينية، لا العكس، وأعني بذلك أن لوثة طرأت لعقولنا، حيث تركنا مسلمات الدين لمظنونات الفتاوى، وتركنا أسهل التصورات الدينية وأكثرها أهمية على سبيل الإطلاق، واتبعنا دقائق وتشقيقات لا يفهمها أكثر الناس عقلاً إلا بالكد والجهد العظيم، ويقال لنا إنه هو الدين الحق الذي على جميع الناس الإيمان به، بصرف النظر عن القدر الذي ناله الشخص من العلم، سواء كان راعي إبل لم يدرس شيئاً، أم مهندساً أخذ من الهندسة أعلى مراتبها، وهكذا تم فرض مفهوم ديني علينا غير ذلك المفهوم الذي يحدده لنا صريح القرآن العزيز، والمحكم من آياته، وإني أتوق إلى اليوم الذي نعود فيه إلى مفاهيم الدين المحددة في صريح القرآن وصحيح السنة، لا أن نقف فقط عند حدود ما يقول لنا فلان أو يفتي به علان، ونحن إن لم نفعل هذا ونصدق في تقديم ما يحدده القرآن على ما يحدده الآخرون سنبقى كما نحن، وسنجد العذر لكل داع للعلمنة، لا لأنها حق، بل لأننا نتعلق من الدين بما لا يحتاجه الناس في حياتهم، ونحيلها جحيماً بأمور لا ينبني عليها عمل، والعجب أن ما عليه ينبني عمل وسلوك اجتماعي لا نختلف عليه، وهو الدين حقًّا، وهو الذي سنسأل عنه يوم القيامة، ونحن نتركه إلى أمور لن نسأل عنها يوم القيامة.

وفي الواقع لابد من تتبع ما سنسأل عنه مما ذكر القرآن أنه موضع سؤال، وكذا ما ذكر في صحيح السنة، كي نسعى لتحصيل إجابته وتجنيب أجيالنا القادمة تحصيل إجابات لأسئلة لن تطرح علينا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وهذا له موضع آخر.



(([1])) صاحب مكتب محاماة - جدة.

([2]) سورة البقرة، الآية 256.

([3]) سورة يونس، الآية 99.

([4]) سورة الحج، الآية 40.

([5]) سورة البقرة، الآية 190.

([6]) سورة الماعون، الآية 1 - 7.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة