تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

وحدة المتنوع الإسلامي

محمد بن علي المحمود

 

محمد بن علي المحمود(([1]))

 

إشكالية التعامل مع المتنوع تبدأ -في ظني- من بنية التصورات الذهنية العميقة، تلك التصورات المتحكمة في عالمي: الوعي واللاوعي، والتي نعاين بها الذات، والواقع من حولنا. إننا مع اندغامنا بالواقع وتفاصيله لا نصدر أحكامنا الخاصة بإشكالياتنا من خلال هذا المعطى الواقعي، بل ولا من خلال المعطى العقائدي في تجلياته المباشرة. فهذه وإن كان لها دور في خلق التصورات وتكييفها؛ إلا أن عملية الخلق هذه محكومة بتصورات قَبْلية؛ لا يمكن التحرر منها بحال.

التنوع من حيث هو تنوع، بصرف النظر عن تمظهراته على أرض الواقع، هل هو في وعينا مصدر ثراء أم مصدر شقاء؟ هل يحكي التاريخ البعيد والقريب عن تسامحنا أم يحكي قصة احتراب دامية؟ وليتها كانت قصة احتراب فحسب؛ بحيث انطوت في غياهب التاريخ بتلاشي مقوماتها المباشرة، بل لقد أقمنا عليها الكثير من العقائد والمبادئ التي تكفل لها الاستمرار، وتحفظها من الضمور والاضمحلال في وعي الأجيال.

نحن جعلنا من التنوع مشروع مفاصلة، وليس مشروع تكامل. نظرنا إلى اختلاف الآخر معنا في الأفكار والعقائد على أنه إعلان حرب. ولهذا أصبح تاريخنا زاخراً بالمعارك الواقعية والمعارك الفكرية التي تتمحور حول جدلية الاختلاف. بينما في المقابل؛ لم نحاول التخفيف من غلواء هذا المد الطائفي، أو على الأصح من غلواء نفيه وإقصائه. لم نحتفِ بالفترات التاريخية القليلة التي تنفس فيها التسامح، ولم نؤكد على المشترك العقائدي والفقهي؛ بقدر ما كان تأكيدنا على بؤر الاختلاف ومحاور التمايز.

وحينما حاول الخطاب الفلسفي أن يلامس المدني فينا، وأن يخفف من حرارة الأفكار الملتهبة بدغمائيتها؛ كنا له بالمرصاد. لم نعطهِ الفرصة ليؤسس للكليات الإنسانية القادرة على احتضاننا جميعاً، ولم نلتفت -بذكاء- إلى مدنيته التي لا تنفي الديني؛ بقدر ما تقوم بترسيخه، وذلك بالتركيز على مقاصده العامة التي تتجاوز الحرفيات النصوصية التي تشكل مفاصل الاختلاف المذهبي والطائفي. وبهذا لم نؤسس -فلسفياً- قاعدة تنتظم هذا الاختلاف، وتصون هذا التنوع.

لقد قضينا الأغلب الأعم من تاريخنا ونحن نلعن الفرقة والتشرذم، ونبحث عن الجماعة والتوحد؛ لا عن طريق الجماعة التي تحتوي هذا الاختلاف وهذا التنوع؛ وإنما عن طريق الجماعة التي تُلغي -بالإكراه- هذا التنوع. أردنا أن يكون التوحد والاجتماع المدني بإلغاء ملامح التنوع، ونفيها خارج الجماعة، ولم تستوعب عقولنا ذات البنية القبَلية توحداً واجتماعاً يحتوي هذا التنوع المثري، وتستخدمه لتوسيع الأفق الثقافي والوجداني للجماعة الواحدة.

قراءتنا للتنوع والاختلاف كانت قراءة مغلوطة، أو -على أحسن تقدير- قراءة قاصرة. لم نحاول قراءة التجارب الأخرى، فضلاً عن اجتراح كيفية خاصة تلائم تنوعنا الذي لا يختلف في تمظهراته الفرعية، بقدر ما يعود -وبدرجة أقوى- إلى مجموعة لا يُستهان بها من الأصول العقائدية والعبادية التي تؤكد على وحدة الأمة، وعلى قيمها السلوكية الثابتة. وهي القيم التي تتحدد بها هوية الأمة الواحدة، من حيث هي أمة ذات نسق كلي، يجمعها المصير الواحد.

قدرنا -رضينا أم سخطنا- هو جزء من قدر الإنسانية جمعاء. لم يكن التنوع العرقي والديني والمذهبي استثناء في الحياة البشرية، بل كان هو الأصل، وربما
-وإلى مدى بعيد- كان هو الأصل الذي لا تخرقه الاستثناءات العابرة. هذا في مجمل الحياة الإنسانية، أما في الشرق الأوسط الذي تحتضننا جغرافيته، فقد تحوَّل منذ فجر التاريخ إلى ملتقى حيوي للامتزاج الأممي. لقد غدا من أكثر بقاع الأرض تنوُّعاً في الأديان والمذاهب والطوائف والأجناس. لا يتجاوزه في هذا الثراء؛ إلا التنوع في قارات العالم الحديث، ذلك العالم الذي تكوَّن بفعل الهجرة ابتداء.

إذا كانت التعددية -النوعية- ظاهرة لا يمكن تجاهلها في الشرق الأوسط كافة، فإن واقعنا المحلي (المملكة العربية السعودية) ليس بخارج من هذا الشرط العام. فرغم محاولات التعميم، ونشر المذهب الواحد، إلا أن النتائج كانت عكسية، إلى درجة لم يتوقعها غلاة المؤدلجين من العقائديين الذين مارسوا تعميم المذهب الخاص بهم؛ دون وعي بخطورة الإلغاء على الوحدة المدنية لأبناء الشعب الواحد.

لقد كان هذا الاستعصاء على الإلغاء أمراً طبيعياً، تؤكده سيكولوجية الإنسان؛ عندما يتعرض لخطر من أي نوع؛ فكيف إذا كان خطراً يمسه في معنى وجوده: هويته؛ إذ سيضطر إلى أن يتمترس -وبتطرف أحياناً- خلف مقولات الهوية، بأشد مما كان يفعل في حالات الأمن، وزوال التهديد الخارجي.

من المستحيل طمس الهويات الروحية أو اجتثاثها من جذورها؛ لأنها هويات تمتد لقرون طويلة، بحيث أصبحت جزءاً من وجود الفرد المنتمي، والجماعة، لا يرى، ولا ترى معنى لوجوده ووجودها إلا من خلالها. هذا البعد التاريخي يجعلها لا تنظر إلى نفسها كحدث طارئ، أو كبدعة مستحدثة، بل ربما نظرت إلى الآخر بوصفه الطارئ عليها.

هذا في الامتداد التاريخي. أما في امتدادها الأفقي الواسع فإنها تدرك أن مشروعية وجودها -ومن ثم حقوقها المترتبة على هذه المشروعية- لا تقل عن مشروعية الآخر الذي يحاول تأطيرها برؤاه الخاصة. ليست مجرد لون باهت لا يظهر على السطح، بل هي لون فاقع، يؤكد -من خلال تأكيده على هويته المجتمعية- أنه موجود بقوة الواقع، وليس بفرض نفسه على هذا الواقع.

إذن هذا المتنوع ليس متغيراً طارئاً على جغرافيتنا ولا على تاريخنا. كما أنه ليس من الضآلة بحيث يمكن تجاوزه في التشريعات الدينية أو المدنية. الديني مرتبط بالمدني من حيث الوجود والعدم. فالدين ليس معلقاً في الهواء، بل مرتبط بجماعة إنسانية تدين به، ومتى انعدمت هذه المجموعة فلا وجود للدين في الواقع. ومن هنا؛ فوجود الجماعة المتدينة يعني وجود الدين / المذهب / الطائفة بوصفها واقعاً معترفاً به، أو يجب أن يُعترف به.

طبعاً، لا يعني هذا أن يقر كل طرف بصوابية الطرف الآخر في كل مفرداته المذهبية أو الطائفية؛ ليس لأن هذا الإقرار متعذر -عملياً- فحسب، بل لأنه يعني زوال هذا التنوع الذي نريد التعايش من خلاله، وليس من دونه. ومتى زال هذا التنوع فلا معنى لطرح: وحدة المتنوع الإسلامي.

لا يمكن أن ندعو إلى الوحدة الشاملة لهذا المتنوع في الوقت الذي لا نعترف فيه بأن هذا الآخر المختلف جزء لا يتجزأ من مكونات هذه الوحدة الشاملة. الوحدة -بوصفها مفردة دالة- تعني تضامن غير الواحد، أي أنها لا تطرح إلا في وسط متنوع ومختلف، وإلا فلا معنى لرفعها رايةً يتفيأ الجميع ظلالها.

التنوع المذهبي والطائفي الذي نعيشه في بلادنا قدرنا، قدر للجميع، متجسد في الواقع، وليس اختياراً حرًّا مطروحاً على بساط التصويت المتعصب من هذا الفصيل الإيديولوجي أو ذاك. لا أحد يستطيع أن ينفي الواقع، ولكن يستطيع أن يتعامل معه بأقل قدر من التأزم، بل -وبمزيد من الذكاء الحضاري، والتسامح الصادق- يمكن أن يكون مرآة يرى كل طرف من خلالها ذاته، ويستطيع تقييم مشروعه الخاص والعام.

مشكلة الإيديولوجيين أنهم يخلطون بين عالم الواقع، وعالم الأماني، وعالم أحلام اليقظة المسعورة بالأناني والذاتي. إنهم يرون الواقع على ضوء ما يحلمون بوقوعه، وليس كما هو بتأبيه وعصيانه -الطبيعي- على التكييف والتأطير. هذا التصور المشبع بالحلم الإيديولوجي، يقودهم إلى الاصطدام بالواقع من جهة، وإلى التنظير المتطرف لمتغيرات الواقع من جهة أخرى. وكلا الأمرين يقود -في النهاية- إلى العنف المعنوي والمادي.

وإذا كانت إشكالية العلاقة بين المتنوع تبرز في كل أنواع التنوع الموجود في الواقع الإنساني، فإن التنوع المذهبي، المتكئ على البعد الإيديولوجي في وجوده وتمايزه، أكثر إشكالاً، وأشد تعقيداً؛ لأنه تنوع مبني على إيمانيات يقينية عند أصحابها، بحيث يصعب التنازل عنها بمجرد العرض الدعوي، أو حتى الإلزام القسري. ولا شيء كالإيمانيات يستعصي على القسر والإلزام. بل لقد رأينا -تاريخاً وواقعاً- كيف يصمد رجل الشارع العامي (وهو الذي يتجاوز الأدلجة؛ باستثناء البعد العاطفي) حتى الموت، بل ويختار الموت اختياراً؛ كي لا يتنازل عن إيمانياته وكلياته الدينية والقومية التي نشأ عليها.

وبقدر صمود هذه اليقينيات والكليات، وانغلاقها الجامد أمام تحديات القسر المادي، بقدر ما هي قابلة للتزحزح والانفتاح أمام فرص القناعة والاختيار. يستطيع الحوار إرساء مشروع الفهم والتفهم، كما يستطيع أن يضع نقاط الاختلاف في موضعها، بل وينحّيها عن محاور الخلاف؛ فتبقى غير مؤثرة في إطار المشترك العام، وإن بقيت موضع اهتمام في السياق الخاص للمذهب أو الطائفة.

التركيز على المشترك من جهة، وبيان المصلحة المدنية للتعايش من جهة أخرى، تجعل الواقع المتعين يتشبّع بالأهداف العامة التي تتجاوز أهداف المذهب الواحد. وحينئذٍ، ينظر الجميع إلى مفردات الجميع على أنها من المكون العام، حتى وإن لم يتقبلها على مستوى العقيدة الخاصة.

ولأن الجهل المركب -المتكوِّن بفعل المقولات التي أنتجها الحدث التاريخي في الماضي- هو المتحكم في وعي العقائدي المؤدلج، فقد تصور أن القسر هو الحل الطبيعي لإنهاء هذا التنوع الذي نعيشه - بفضل الله. ومن هنا، فالخطوة الأولى لابد أن تكون باتجاه التاريخ، لا بتكريس خلافاته، وإنما بتحرير المقولات الملازمة له، والتي يتأسس عليها نفي أو إقصاء.

هل نكتفي بتجاهل ما هو موجود في منظومتنا العقائدية من نفي للآخر المسلم؛ بينما هذه المنظومات يتدارسها أبناؤنا ليل نهار، سواء في المؤسسات الرسمية أو في الأعمال التطوعية. في ظني أن تحديد الموقف من تلك المقولات التي تنتهج التكفير والتبديع، شرط أولي؛ لتأسيس واقع ديني ومدني متعايش.

قد نرى أن الموقف من تلك المقولات يكفي أن يكون مجرد الإهمال، وعدم الاستعمال. وقد يتفاءل البعض منا عندما يرى حضور هذه المقولات في وسائل الإعلام والخطب ومناهج التعليم قد أصبح هامشياً. وبهذا يظن ألَّا ضرورة لفحص الكتب المرجعية عند جميع الأطياف، ظناً منه أن هذا التعامي أسلم للجميع من فحص يترتب عليه إلزام عقائدي.

إن الواقع يحكي أن مثل هذا التفاؤل لا مبرر له. فلا زالت المرجعيات العقائدية تجبر دارسيها على اتخاذ موقف سلبي من التنوع المذهبي والطائفي، ولازالوا يرون -كما تحكي مجريات الواقع- أن هذا التنوع ظاهرة سلبية يجب القضاء عليها لصالح الإيديولوجيا السائدة. ومع أن بعض أبناء الجيل الجديد من الإسلاميين يدركون خطأ هذا الطريق، إلا أن هناك نوعاً من الإصرار المضمر عند العقائديين على المضي في هذا الطريق الوعر والخطر، مهما كلف الأمر. ولا أدري ما فائدة إيمان أو قناعة تقوم على القسر والإجبار. بل إن الإيمان تصديق واقتناع لا يمكن الاطلاع عليه لأنه من أفعال القلوب، فكيف يكون ذلك بالإكراه؟!!

على المستوى العقائدي والمذهبي؛ لدينا مذاهب سنية: شافعية وحنابلة ومالكية وأحناف. كما أن لدينا سلفية تتقاطع مع هؤلاء، وأحياناً تقطع معهم، فضلاً عن سلفيات أخرى، لكل منها مرجع وإمام خاص. ولدينا شيعة: إسماعيلية، وإمامية، وزيدية. ولدينا صوفية تتوزع على كثير من الطرق. ولدينا أناس -وهم الغالبية الصامتة- مسلمون طبيعيون؛ لا تهمهم هذه الانتماءات والأسماء الطارئة على مسمى الإسلام. وكل هؤلاء -بحمد الله- مسلمون موحدون، آمنوا بالله ورسوله، وبأركان الإيمان وأركان الإسلام، وتوجهوا إلى قبلة واحدة؛ حتى وإن اختلفوا في التفاصيل، أو في بعض ما يعدونه أصولاً.

ومع هذا الوجود المتعيِّن لكل هؤلاء، ومع العمق التاريخي لوجودهم، والذي يترتب عليه أن يكون الجميع قد اعتاد على وجود الجميع؛ إلا أن هناك نوعاً من المفاصلة الدينية والمدنية بين كثير من هؤلاء. وكل ذلك بفعل غلاة السلفية الذين نشروا مقولات التكفير والتبديع.

ليس هذا اتهاماً عامًّا، ولست أنقله من واقع غريب عليَّ، بل لقد عشت
-شخصياً- كثيراً من تفاصيل هذا النفي للآخر المسلم المواطن. أنا ابن البيئة السلفية الحنبلية. لقد ولدت في أسرة موغلة في سلفيتها، واحتضنتني منطقة تعرف للجميع بأنها معقل السلفية المتشددة، وتعلمت في مدارس سلفية، وأكملت تعليمي في جامعة سلفية، مهمتها نشر التراث السلفي. المهم، أنني عشت بين كل هذا، وأنا أسمع كل من لا ينتمي إلى سلفيتي فهو ضال مُضل.

لم يكن قليلاً أن أسمع تكفير صوفية الحجاز، أو إمامية الشرقية، أو زيدية الجنوب. قد يكون تردد هذا نادراً على مستوى الأسرة؛ إلا في بعض أفرادها الغلاة، ولكنه كان ثقافة عامة في الطرح الديني، من خطب الجمع إلى محاضرات رموز الصحوة، ومروراً بالمواد الشرعية في الجامعة. تلك الجامعة التي يفترض فيها أن تقدم العلم، ومفاهيم التسامح، بدل مقولات التضليل، ورفع درجة العداء.

لقد كان في نفسي منذ بدايات المرحلة المتوسطة نفور من هذا الخطاب المتشدد في موقفه من الآخر. طبعاً، ليس هذا استثناء من البيئة التي تحتضنني، وإنما مرد ذلك -كما أفسره الآن- إلى أني كنت أول ما بدأت القراءة الحرة بدأت بقراءة التاريخ بنهم شديد. هذا جعلني أحس في داخلي أن مرجعية هذا المتنوع واحدة، وأنه (وضع) طبيعي في تاريخ أية أمة. كما قادني إلى قراءة تاريخ سلفيتي، وأن أدرك بعد سنوات من تلك البدايات ما فيها من تحيزات فكرية وتاريخية، يصعب هضمها على العقل المتجرد من الإيديولوجيا.

كان من الصعب التصريح بهذا الإحساس آنذاك. لكن كانت بعض الوقائع تفرض نفسها. فعندما كنت -في تلك المرحلة المبكرة- أُثني على عالم دين من خارج المنظومة السلفية، أجد من ينتهرني، وعندما أقول: قال شيخ الأزهر؛ أجد من يقول لي: دعه عنك، ربما يكون صوفياً، عليك بما يقوله فلان وفلان.

بدأت بعد ذلك أسمع -وخاصة عندما دخلت الجامعة- أن معظم علماء الأمة أشاعرة، وأن الأشاعرة أهل ضلال؛ لأنهم مؤولة. وكفى بالتأويل تهمة. وكان معظم الدارسين في مجال الدراسات العليا يسارعون إلى التسجيل في مواضيع يزعمون أنهم سيكشفون من خلالها ضلال الأشاعرة، وأن دعواهم أنهم أهل السنة باطلة، بل لا سنة إلا السلفية كما يدعون.

ليس ما أحكيه تاريخاً مضى وانقضى، بل هو حاضر يملأ الواقع بتأزماته الخانقة التي قد تغيب عن الرصد العابر. لا زلنا نسمع مفردات التكفير لإخواننا في الدين والوطن، فضلاً عن التيار المتدفق من السباب والشتائم والتهم التي تلقى على الآخر، لا لشيء، إلا لكونه جزءاً من هذا المتنوع.

نحن -وأقصد الجميع المتسامح- نفخر بهذا التنوع الذي استطعنا التسامح معه عبر القرون الطويلة الغابرة -إلا في فترات خاصة- بدليل وجوده على أرض الواقع. كما أننا نعتقد أن هذا التنوع المذهبي هو تنوع ثراء إيجابي، وليس تشرذماً ولا تفرقاً، إلا لمن أراد أن يجعله كذلك. هذا التنوع -إذا ما قدر لنا أن نغنيه بتسامحنا-يدل على سعة استيعاب، وانفتاحية، يتمتع بها الإسلام قبل كل شيء، ويدل التسامح مع هذه الحال على فهم شمولي للإسلام، في إرادتيه: الشرعية والكونية.

لكن، استمرارية هذا التسامح النسبي -الموجود الآن- ودعمه؛ لتحقيق المزيد من التسامح، مرهون بفتح آفاق الحوار بين الكل بواسطة الكل. مهمة الحوار في هذا المضمار أنه يسقط الحاجز النفسي الموجود لدى البعض بفعل الشحن الإيديولوجي المتطرف، ويساعد على التعرف المباشر على الآخر، من خلال هذا الآخر نفسه، وليس من خلال نصوص تاريخية ملغمة بلغة العنف والإقصاء والتنابز بالتضليل والتكفير.

إن الكثير من التصورات المغلوطة التي يحملها البعض عن البعض، لا يمكن أن تزول إلا عبر إرساء قيم الحوار بتفعيل الحوار، ولن تزول بمجرد التصريحات الأحادية الجانب؛ لأن التفاعل الإيجابي بين الأطراف كثيراً ما يكون غائباً في مثل هذه الحال. هذا التفاعل الإيجابي الذي نتغيا من ورائه تحقق هدف تضامني قد يكون نفسياً أكثر مما هو فكري. إن هذا الأثر النفسي هو ما قد يجهله أو يتجاهله الكثير، خاصة عندما يجدون أن المردود الفكري (المباشر) لا يزال ضئيلاً، قياساً بما هو متوقع من تحويل القناعات الراسخة، والأصول الإيمانية، وذلك من كل طرف بإزاء الأطراف الأخرى.

المشكلة الكبرى التي تواجه الفعاليات الحوارية تكمن في تصورات بعض الفاعلين من ذوي البعد الدوغمائي فيما يخص الإيمانيات، إذ يصور أولئك أن زحزحة الآخر عن أصوله الإيمانية التي تميزه هو الهدف النهائي من الحور؛ نتيجة قناعته بصلب القاعدة التي تقف عليها قناعاتهم من جهة، وهشاشة القاعدة التي تقف عليها إيمانيات الآخر من جهة أخرى. وحينما يواجهون بصمود الآخر -عقائدياً- أمام طرحهم الحواري، يزهدون في الحوار كقيمة؛ لأنهم ربطوا إيجابيته بمستوى تقبل الآخر لإيمانياتهم، وتخليه عن إيمانياته.

أصول العقائد ليس من السهل التنازل عنها عند الجميع. وعلى المحاور أن يدرك أنه كما يدلف إلى الحوار بتصورات يقينية، ليس في نيته التنازل عنها يقينا، فإن الآخر يمتلك الروح نفسها وهو يدلف إلى طاولة الحوار. لكن قد يحدث تحول في النظر إلى هذه الأصول، من جهة تراتبيتها، أو درجة أصوليتها. وهذا يمهد الطريق لبناء قواسم مشتركة أكثر مما هو موجود في الواقع.

والمشكلة الأخرى التي لا تقل عن الأولى صلادة ورسوخاً، هي أن هذا التنوع الذي نريد أن نقوده إلى الحوار، يمتلك تراثاً ضخماً، متخماً بمقولات الإقصاء للأنواع الأخرى. وهذا موجود عند كل مذهب ولدى كل طائفة. ولهذا، يستحيل استنبات التآخي بين أفراد المجتمع الواحد، بينما يلتهم أفراد كل مذهب، وبيقينية صارخة، مقولات تاريخية، لا تمت إلى الواقع المنشود بصلة، بل تعارضه، وتقف على الضد من غاياته المدنية.

قراءة كل فريق لتراثه قراءة متسائلة تتغيا الأفق الإنساني مهمة أولية، يجب أن يقوم بها الجميع. طبعاً، لا يمكن أن يقوم فريق بنقد التراث العقائدي لدى الآخر؛ لأن هذا ما أثبتت الأيام عدم جدواه، وأنه يزيد من التفاف كل فريق حول مقولاته، بل وزيادة تعصبه -بالحق والباطل- لها. كيف ندعو إلى التسامح بينما نحن نلتهم تراثاً -بل ونقدس مقولاته- وهو يُبدِّع بعضنا ويُكفره ويزعم أنه أشد كفراً من اليهود والنصارى؟!! نلتقي، فيقول بعضنا لبعض: نحن إخوة مسلمون، ونعود إلى كتبنا ومراجعنا، فنقرأ -ونُؤلف أيضاً- أننا لسنا إخوة ولا مسلمين، وإنما أعداء!!

ولأن الأمر يحتاج إلى مثل هذه الصراحة مع النفس أولاً، ومع الأتباع ثانياً، فقد أحجم عن الحوار غلاة العقائديين، ومارسه البعض على صورة التشريفات فحسب، بينما الأمر يحتاج إلى إدانة صريحة لكل ما في التراث العقائدي من نفي، وأن يقوم نوع من الحلف التضامني على طرح الاتهامات بالضلال والكفر، فضلاً عن الشتائم والسباب، وأن يعلن الجميع البراءة من كل ذلك، ما كان واقعاً وما كان جاثماً في ثنايا التراثيات، بصرف النظر عن مصدر كل هذا الإقصاء والتكفير.

وأخيراً، وكشرط لتفعيل التسامح الأخوي، لا بد من عدم التسامح مع من لا يقبل التسامح في هذا المجتمع المتنوع؛ لأن مثل هذا يحتوي على فيروس النفي ابتداء. إنه بهذه الحال يلغي الجميع إلا فريقه، ويحاول قسر المجتمع المتنوع على نوعه الخاص. واقع المجتمع أنه متنوع، ومن لا يقبل بهذا التنوع واقعاً فهو يرفض هذا المجتمع الذي يحتضن هذا التنوع، ومن يرفضه فعليه أن يبحث عن مجتمع آخر، مجتمع على مقاييسه الخاصة التي تلائمه، مجتمع غير هذا المجتمع الإنساني المتنوع منذ فجر التاريخ.

 



(([1])) كاتب وباحث - القصيم.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة