تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

عالم المستقبل أو زمن التنمية النمو العربي والاسلامي في ظل الأوضاع الاقتصادية والعالمية

إدريس الهاني

يعيش العالم في الفترة الراهنة مخاضاً عسيراً من شأنه ولادة شروط حياة جديدة.. يتم من خلالها فك الارتباط بالمرحلة السابقة التي تميزت بصراع الارادات الكبرى.. التي أصطبغت بها السياسة الدولية والمحلية .. وادخلت العالم في معادلات صراعية ونزاعات قاتلة ومدمرة لكل امكانيات النمو الحقيقي الأليق بمستقبل الانسانية.. هذا المخاض الذي قد يسفر – أيضاً – اما عن قطيعة نهائية مع عالم الامس ولينفتح على الغد بشروط اكثر ايجابية.. أو أنه سيسفر عن أسلوب جديد في تكريس ما هو عليه الآن عالمنا من تقسيمات وفوارق طبقية وعنصرية.. قبل الولوج في الحديث عن هذه المشكلة .. وطرق الآفاق التي تنتظر هذا العالم.. لابد من إلقاء نظرة على حقيقة الوضع الدولي.. وصلة العالم العربي والاسلامي به.. حتى يتسنى لنا فهم حقيقة حاضرنا كأساس، لصنع مستقبل أفضل..

والسؤال الذي يشكل مفتاحاً لفهم طبيعة المشكلة هو: هل العالم اليوم مقتنع من موقع سهره ودأبه على التماس السلام والامن والرقي.. في مناخ تقدمي سلمي.. وفي جو من التكامل والتعاون الاخوي.. او أن الوضعية التي نشاهدها اليوم.. هي من افرازات تاريخ طويل من الصراع، فرضته الارادات المتصارعة .. وحتمته على الرأي العام الدولي؟ فقد يعتقد الرأي العام الدولي – خطأ – كشعوب أو منظمات أو حكومات.. بأن العالم ينزع اليوم إلى نبذ الحروب والصراعات والتناقضات.. من أجل فتح ملف جديد من العلاقات الدولية.. يضحى فيها المستقبل أساساً للتفكير وغاية لمسيرة التقدم العلمي..

والواقع، ان المؤشرات تدل على أن العالم لا يزال يتجه نحو مزيد من التعقيد، نظراً لما تعيشه أغلبية المعمورة المسحوقة من العالم الثالث من تدهور اقتصادي وعدم استقرار سياسي.. ونلحظ ذلك جلياً من مسلسل الاحداث العالمية التي تلت انهيار الكتلة الاشتراكية وانفجار أزمة الخليج.. وهو تاريخ ميلاد ما أطلق عليه "النظام العالمي الجديد" .. وكان من المفترض أن تتفاعل الشعوب قاطبة مع العرض البيداغوجي الذي يهدف إلى إعادة تربية شعوب العالم الثالث على الرضوخ والثقة تجاه عالم المركز.. ولكن سرعان ما تبخر ذلك المشروع وخبا وهج ذلك الخطاب مع أحداث الصومال، والبوسنة والهرسك، ورواندا.. ومناطق عديدة تعيش اضطرابات وتحديات تعاكس نغمة النظام العالمي الجديد.. وتعيد شعوب العالم الثالث إلى وعيها الثالثي.. الذي يناقض سياسة المركز في الصميم..

ولكن السؤال ، هو أي أسلوب للحرب سوف تخوضه شعوب العالم ؟

ان اسلوب الحرب العسكرية لم يعد قادراً على حل المشكلات الدولية.. وقد تبين ذلك من خلال ما حدث من حروب في مختلف مناطق التوتر العالمي.. فالسلاح لم يعد قادراً على تركيع الشعوب تجاه القهر الذي يمارس عليها.. كما أن العناد أمسى أقوى بكثير من القوة العسكرية.. وبعد أن تبين أن الدول التي تقود الحروب وتنتصر فيها لاتنجو هي أيضاً من مضاعفاتها وكارثيتها في الداخل.. بل وأن التطور الذي حصل في عالم التسلح، لم يعد ممكناً تطبيقه إذ كثيراً ما يغلب علي الحروب الطابع الكلاسيكي.. مادام أغلب ما تبدعه شركات التسلح من أشكال متطورة لم تتمكن من استخدامه لتعسر الظروف وضغط سياسات البيئة..

لقد أدرك القطبين – بالأمس – أن سباق التسلح وحرب النجوم لاتفيد في شيء .. ذلك انها مجرد قدرات عسكرية رادعة.. ولكنها غير قادرة على نفي الخصم.. من دون أن يكون ذلك نفسه سبيلاً لتدمير الذات.. ان الدخول في حرب بأحدث ما لديها من قدرات سوف لن يكون له مردود على جهة من الجهات.. انها ليست حتى في مستوى حروب "نكن أو لا نكن" بل هي بالتأكيد حروب دمار ونفي شامل.. أي حروب "لا نكون" اذن فالسباق كان عبارة عن مناورات اعتبارية، في إطار مشروع تهديد وهمي تعمل الجهتين على اكباره.. ومن هنا يقول كيسنجر: "وكان يؤخذ على التسلح الجديد انه يزيد عن الحاجة، وأنه أعراض لذهان عسكري، وانه إسراف خطير.." (1)

صحيح أن العالم الثالث كان هو المتضرر من هذا التفوق.. وذلك راجع إلى تخلف هذا الاخير عن التقنية الحربية.. وأنه ضعيف حتى على مستوى الصناعة الحربية التقليدية عند الدول المتقدمة.

كانت أمريكا تدرك – من خلال برجنسكي، وكيسنجر – أن سباق التسلح لن يسقط روسيا.. وإنما الحرب الاقتصادية هي التي يمكن استدراجه للانهيار.. فالسباق لم يكن في نهاية الامر – من الجانب الامريكي – سوى أسلوب لاستنزاف الاقتصاد الروسي، كمقدمة لاسقاطه أو اضعافه.. يقول كيسنجر أيضاً : "ولو وجه الغرب اهتمامه نحو الصمود، فاني على اقتناع، انه سيربح الرهان التاريخي، ولقد اتضح ان التنظيم الاقتصادي في الاتحاد السوفياتي ضعيف. وتوجهه الايديدلوجي تزعزع قليلاً، كما أن مبادىء سياسته وتسلطه كانت وقتية أيضاً.." (2)

وكان الاتحاد السوفياتي هو الخاسر في تلك الحرب الباردة.. بسبب هشاشة بنيته الاقتصادية والتي زادها هشاشة تمسك السوفيات بسباق التسلح..

فالاستمرار على سباق التسلح سوف يؤدي بالنتيجة إلى تدهور السوفيات اقتصادياً وبالتالي التأثير على قاعدته السياسية.. وذلك بسبب استفحال مشاكل الداخل وتأزم الاوضاع الاجتماعية مما قد يؤدي إلى تفكيك القوة الداخلية للحزب الحاكم.. وإذا كان بمقدور السوفيات قمع شعوبهم بلغة الحديد.. بمبرر وجود تحديات سياسية وعسكرية في الخارج.. فإنه لن يستطيع الاستمرار في تلك السياسة.. عندما يكون العطل قد أصاب صميم بنيته الاقتصادية..

فالسوفيات قد أدركوا بأن الحرب الحقيقية، ليست في انتاج مائتي قذيفة في كل عام.. وإنما في تقوية الاقتصاد الداخلي.. ولذلك رأينا كيف أن مسيرة العد التنازلي في سياسة الكرملين كانت تتجه صوب فك جميع العرى بمبادىء ثورة 1917 إلى أن حصلت القطيعة النهائية بقيادة غورباتشوف.. وهي ثمرة لتلك المسيرة التي بدأت ضد أول اتفاقية للحد من التسلح.. وقد عاين الروس اليابان التي استطاعت أن تقوي نفسها من خلال تفوقها الاقتصادي في عالم البضاعة والاغراض السلمية..

إن انهيار السوفيات أمام أمريكا اقتصادياً.. وبروز العملاق الياباني كقوة اقتصادية بواسطة سلاح السوق.. جعل السوفيات والعالم برمته يدرك بأن الحرب اليوم لا يمكن أن تكون إلا اقتصادية!

* موقع العالم العربي والاسلامي من التنمية :

ترجع أسباب التعثر التي تعيشها الأمة العربية والاسلامية في عملياتها التنموية.. إلى سوء فهم كبير لحقيقة التنمية وعلاقتها بالبنى الحضارية للأمة ويتجلى ذلك التعثر في اخفاق التفكير العربي المعاصر في ايجاد صيغة علمية تربط بين تقاليد الأمة العربية والاسلامية ومكوناتها الحضارية، وبين مطلب التحديث والانفتاح.. فهناك قطاع كبير من النخبة العربية، ترى الشرط الاساسي في الدخول إلى عالم التنمية، هو اعادة صياغة الوعي وبالتالي تحقيق القطيعة مع الفكر – التقليدي وتبني النموذج الثقافي الاوروبي.. ويقابلهم قطاع آخر، يرى في التمسك بالثقافة القومية وعوالقها شرط أساسي للاقلاع.. وفي ظني أن الموقفين على قدر من الخطأ.. أن لم نقل انهما معاً لا يعدوان رد فعل تجاه بعضهما..

* العرب / التنمية : بين التحديث والتقليدية..

ليس في الموقفين السابقين ما يستجيب للموضوعية.. فالانفتاح على الثقافة الاوروبية بشكل كلي.. ليس موقفاً علمياً، بقدر ما هو اعتساف يرتكز على نظرة ضيقة جداً في معنى "التحديث".. ذلك أنه من المستحيل جعل الأمة العربية والاسلامية غريبة في ثقافتها وتفكيرها مهما كانت الجهود.. ذلك أن هذه الشعوب لها خلفيتها الحضارية التي تشد ذاكرتها إلى ماضي تليد.. كما تصبغ سلوكها وفكرها اليومي.. والحداثة ليست – بالضرورة – هي الغرب.. إذ هناك دول كثيرة في افريقيا.. هي أقرب إلى الغرب من دول في آسيا غير أنها لا تزال اكثر تخلفاً من الثانية ..

وقد أعطانا نموذج اليابان، مثالاً ساطعاً على مشكلة التحديث / تنمية.. إذ تبين من خلاله أن التنمية لا علاقة لها بالتغريب.. وان الحداثة لا تعني بالضرورة تبني النموذج الثقافي الغربي ونبذ الخصوصية بشكل عام..

إن الحداثة، لا تعني شيئاً غير أنها اسلوب حياة، يجعل من الثقافة بحيث تتعاصر بشكل أو بآخر.. ان تدخل عالم اليوم بكل احتياجاته.. وليست التنمية بعد ذلك إلا خلق الانسجام الكامل والفاعلية الكبيرة بين الثقافة المحلية وحاجة العصر.. وانه مع تحقيق ذلك.. فان التنمية ممكنة.

* التنمية المحلية .. وخطاب الغرب اللاتنموي :

بدأ الغرب يحس بالتحدي الحقيقي من قبل مجموعة دول ثالثية.. فأسطورة الغرب القوي اقتصادياً.. وحتمية سلوك مراحل التطور الروستوفيية.. لم تعد إلا أكذوبة ايديولوجية.. هدفها تيئيس دول العالم الثالث من الدخول في منافسة وتحدي للغرب.. والقبول بالأطوار الدونية ازاء التطور الغربي.. أي بتعبير آخر.. القبول بالتبعية للغرب..

لقد طورت اليابان بنيتها التحتية بحيث تجاوزت بها كثيراً من الدول الاوروبية.. واصبح اقتصادها يشكل عائقاً حقيقياً وتحدياً كبيراً للاقتصاد الامريكي.. كما أن بروز النمور الاسيوية كسنغفورة وتايوان.. كبنى منتجه وقابلة للتطور ومنافسة الانتاج الغربي.. قد غير من تلك المعادلات التنموية..

ان الاقتصاد الياباني مضاف إليه الاقتصاد الصيني الذي يشق طريقه نحو نمو حقيقي.. ودول النمور.. سوف يجعل المنطقة تدخل في تنافس حقيقي.. نظراً لطبيعة التوزيع السياسي والايديولوجي لهذه البلدان.. التي ما فتئت تعيش تناقضات سياسية تاريخية معقدة.. فالصين سوف لن تسمح بتفوق الاقتصاد التايواني.. كما أن كوريا الشمالية سوف تدخل في تنافس كبير مع اقتصاد كوريا الجنوبية.. وكلما دعم الغرب البنية التحتية لكوريا الجنوبية.. كلما أوقد ذلك فتيل التنافس في كوريا الشمالية.. كما أن اليابان والصين.. سوف تدخلان ي منافسات عملاقة مستقبلاً.. كل هذا سوف يجعل من آسيا بؤرة مهمة لإنبعاث اقتصادي عملاق، يصطبغ به مستقبل الاقتصاد الدولي.. دون أن تغفل بأن التعملق الاقتصادي قد يكون أساساً للقوة السياسية.. فمن ينتج أكثر يتحكم أكثر في القرار السياسي الدولي..

العالم العربي الاسلامي.. ومطلب التنمية :

من خلال المعطيات السابقة، نفهم أن التنمية ممكنة من دون التبني الميكانيكي للنموذج الغربي.. وأيضاً من أن زمام القوة الاقتصادية سوف ينفلت حتماً من يدي الغرب.. مع بروز القوى الاقتصادية الاسيوية.. ومن أن الحرب الحقيقية اليوم.. هي حرب اقتصادية بالدرجة الأولى.. فإين يمكننا موضعة التنمية العربية ضمن هذه المعادلة الكونية؟

صحيح أن ما تعيشه الأمة العربية والاسلامية اليوم، يجعل من الصعب عليها تجاوز الأزمة السياسية، لولوج عالم السباق الاقتصادي.. باعتبار أن القضية الفلسطينية لاتزال تشكل اعاقة لكثير من الدول العربية.. لأنها قادت الكثير من الدول إلى اعتماد سياسة مفرطة للتسلح من دون أن يؤدي ذلك إلى رادع حقيقي لإسرائيل.. ولكن مع ذلك فإن امكانية التنمية ستبقى ممكنة، إذا ما تجاوز العرب مشكلة التطبيع ، ونظروا إلى التنمية في بعدها الحضاري..

إن تدمير البنى التحتية بالحروب الاستنزافية سوف لن يفيد عالمنا العربي الاسلامي في التطور – ذلك لأن صرف نسبة كبيرة من المدخول القومي في التسلح سوف يضعف كثيراً البنية التحتية لاقتصادها.. مما يعني تخلف حقيقي عن الدخول في رهان القوة الحقيقية..

فالاتفاق المفرط على التسلح بسبب مشاكل وتخوفات وهمية مصطنعة.. يجعل البلاد العربية أمام مشكلة اقتصادية مهددة لكيانها الداخلي.. أي أنه يسبب مزيداً من الامراض والجوع و الأمية.. بلحاظ النمو الديموغرافي وتصاعد وتيرة الاستهلاك.. مما يجعلها تفكر في القروض والمساعدات الاجنبية.. ومن شأن هذه الاخيرة أن تعبث باقصادنا العربي والاسلامي.. إذ انها تصحبها عادة املاءات لا تراعي إلا مصلحة الرأسمال الاجنبي.. وهي تزيد في تكريس حالة التبعية والابقاء على الحاجة إلى القروض والمساعدات..

إن الكيان الذي يحتاج اقتصادياً إلى الغرب.. سوف لن يحقق قوته وتقدمه في المستقبل ولهذا يعمل الغرب ما في وسعه على تكريس حالة الاختلاف والنزاع في العالم العربي الاسلامي.. من أجل دفعه إلى الانفاق على التسلح والبقاء على هشاشته الاقتصادية..

لكن مشكلة ما حتماً ستواجه الغرب.. وسوف تجعل سياسته اسيرة ضروب من المفارقات.. مما قد يدخله في تناقضات في صنع سياساته الخارجية.. فبروز المعادلة الاصولية – مع التحفظ من هذا المصطلح – في البلاد العربية والاسلامية، سيجعل الغرب يعيد النظر في موقفه من تلك الحكومات.. وسوف يعمل على مساعدتها في ضوء شروط أخرى.. وذلك أيماناً منه من أن خطر الاصولية راجع إلى تدهور الاوضاع الاجتماعية لهذه البلدان.. وسوف يعمل على دفع هذه الحكومات للتحاور مع بعض من هذه الاصوليات.. من أجل احتواءها واستتباب الامن.. ذلك أن الاصولية تهدد الاقتصاد الغربي الذي بدأ ينزع اخيراً إلى الخروج من انكماشه عبر تصدير فائض قيمته إلى هذه البلدان من اجل استغلال ثرواتها من مواد خام، ويد عاملة رخيصة.. واعفاء بيئته من التلوث، لضمان سلامتها، في الوقت الذي لا يراعي فيها التلوث البيئي في بلادنا العربية والاسلامية..

ان هذه المفارقات التي انتهت اليها سياسات الغرب تجاه البلدان العربية والاسلامية، سوف تجعلهم يتخوفون من اجتمالات كثيرة.. فدعم اقتصاد هذه الحكومات سوف يجعلها يوماً من الايام تطفر إلى امكانيات جديدة ليست في صالح المستقبل الاقتصادي الغربي خصوصاً وان هذه البلدان لاتزال تشكل قنبلة موقوتة بالنسبة لهذه الدولة الغربية.. فقيام ثورات قد يجعل من هذه البنى الاقتصادية القوية قاعدة لاقلاع حقيقي.. كما أن تدهور تلك البنى قد يصعد من الصراعات الداخلية.. ويعطي المصداقية للأصولية.. وهي عقبة للمشروع الاقتصادي الاوروبي في العالم العربي والاسلامي.. من هنا بات الغرب يعمل وفق اسلوب اللعب على الوقت.. والعزف على وتر الوعود.. وخلق أنماط من الديمقراطية العرجاء.. من أجل أدخال هذه البلدان في أزمات دائرية..

* العالم العربي والاسلامي.. ومعالم التنمية :

لاشك أن العالم العربي والاسلامي، الذي أدخل في دائرة العالم الثالث.. يتميز بخصوصية معينة.. لا يماثله فيها اليابان أو النمور الآسيوية التي حققت طفرة في عالم التصنيع، هي خصوصية الثقافة العربية ذات الخلفية الاسلامية.. ولذلك فإن أي عملية تنموية عربية لاتأخذ بعين الاعتبار خصوصية البلاد العربية والاسلامية.. أو تسعى للتضحية بها على مذبح الحداثة الغربية.. فإن ذلك لن يؤدي الا إلى اخفاقات متتالية..

على العالم العربي والاسلامي أن يدرك بأن التنمية اليوم، لم تعد مشروطة بكمية الرأسمال.. فالعالم اليوم يتقدم من خلال المعلومات كما يرى "المنجرة".. والذي يقارن بين معطيات الواقع، الياباني يدرك ذلك بقوة.. فعدم توفر هذا الاخير على بيئة مساعدة، لم يمنعه من التقدم.. ويمكن اعتبار اليابان أفقر دولة من ناحية الموارد الطبيعية.. غير أنها أغنى من خلال انسانها ومن خلال ثورة المعلومات في بلادها.. وليس ذلك على الأمة العربية والاسلامية بكبير.. ما دامت تتوفر على أكبر مخزون طبيعي وبشري ومؤهلات أساسية في صنع التنمية الحقيقية..

تتحدث أغلب النخب العربية اليوم، عن ضرورة التطوير في الاقتصاد الداخلي، واعادة "الهيكلة الاقتصادية".. وتتناسى ماهو أهم بكثير، بل وما هو أولوي في هذا السياق، وهو التنمية البشرية، واعادة النظر في حقوق الانسان وتطوير سياسة التعليم، لأن تلك شروط ضرورية للتنمية.. فلا تنمية مع وجود الامية، وتدهور حقوق الانسان.. ولاشك أن هذه الشروط لا يجوز تجزئتها.. لأنها لا تؤدي وطيفتها الا مجتمعة.. فهناك في البلاد العربية والاسلامية دول أعادت الاعتبار نسبياً لقضية حقوق الانسان لكنها لك تكافح من أحل محور الامية وتحسين ظروف التعليم.. في حين تحسنت ظروف التعليم في دول أخرى غير أن حقوق الانسان لا تزال في أبعادها الاخرى متدهورة..

والسؤال المطروح.. ماهو موقف هذه المعالم التنموية من مجمل السياسة الاقتصادية العالمية؟

لا أحد يشك في النوايا الاقتصادية الغربية، التي تركز في كل سياساتها على تهميش العالم الثالث، والحاقه باقتصادها.. لأن الغرب وفي سبيل مواجهة القوى الاقتصادية الصاعدة، سوف يركز على سياسة المونوبول وعلى استغلال الاطراف.. وقد تبين ذلك جلياً من خلال ما جرى في جولة الأورغواي بمراكش بعد أن استمر الغرب في رفض الاطراف، يعمل اليوم بقوة على اشراكها – بمستوى من المستويات – ضمن اللعبة الاقتصادية الدولية.. اللعبة التي ترمي إلى اختراق بلدان العالم الثالث.. وعلى رأسها البلاد العربية والاسلامية بواسطة الاستثمار الذي يجعل البلاد مسرحاً لنهب الشركات متعددة الجنسيات، وعرضة للتلوث البيئي..

وفي كل الاحوال لن يكون الاعتماد على الرأسمال الاجنبي اساساً للتنمية المنشودة في العالم العربي والاسلامي، والعالم الثالث بشكل عام..

ان التنمية يجب أن تنطلق من الداخل.. ولا شافع لها إذا هي سقطت في النموذج التنموي التبعي، وتناست قضية الانسان وحاجاته في التنمية.. علماً أن هذا الاخير هو هدفها الاخير ومدارها الرئيسي.. فإشراك الشعوب في الاختيار التنموي هو مقدمة لكل اقلاع لأنه حتى في نموذج اليابان، لا يمكننا تحقيق الوحدة الداخلية بين الشعوب والسلطة.. الا إذا حصل ذلك التجانس من موقع قناعة شعبية.. ومن خلال تأهيل دقيق تقوم به الدولة تجاه المواطن.. وتغيير العلاقة بين السلطة والمواطن.. وجعلها بحيث تتحول من علاقة قمع وارهاب إلى مستوى التفاعل والتقنين.. ان دولة القانون وحقوق الانسان.. مدخل واطار ضروري لأي عملية تنموية في عالمنا العربي والاسلامي..

* واخيراً .. التنمية في ضوء وثيقة مؤتمر السكان..

لا يزال عالم الشمال يبدع أساليبه الخلاقة التي يروم بها ضمان السيطرة على العالم الثالث.. وقد جاء مؤتمر السكان – المنعقد بالقاهرة – تتويجاً للعبة شمالية جديدة.. هادفة إلى محاصرة سكان العالم الثالث بإجراءات قاهرة، يتأكد من خلالها مدى امعان الغرب في استضعاف العالم الثالث وليس إلا ايجاد حلول لمشكلاته الاجتماعية والاقتصادية..

ورغم الحيل الخطابية التي تقدمت المؤتمر بداً ببطرس غالي وانتهاءاً بآل غور.. فان هناك عزم وارادة لاختراق العالم العربي والاسلامي – خصوصاً – في صميم بنيته الثقافية والحضارية وتعزيز وجهة نظرهم من خلال تعميمها في مختلف الاوساط..

ويبدو السؤال هنا بسيطاً.. هل النمو الديمغرافي في العالم العربي والاسلامي، فعلاً يشكل عقدة في مسألة التنمية؟ وهل قضية الاجهاض والعلاقات الجنسية الحرة.. هي آخر الحلول في تحديد النسل؟

جواباً على السؤال الاول، لابد أن نؤكد على حقيقة شائعة في الفكر الاقتصادي.. ويتعلق الامر بالنظرية الملتوسية، التي حازت على انتقاد واسع، على الرغم من وجودها بداية في اطار جغرافي وتاريخي معين.. ولو أننا طرحنا الوضع الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي اليوم على مالتوس.. لكان رأيه مختلفاً تماماً..

فالعالم العربي تحديداً، لا يعاني من نمو ديمغرافي هائل فيما لو قسناه بحجم جغرافيته وحجم امكانياته.. هذا مع أن جزءاً كبيراً من الديمغرافيا العربية اندثرت بفعل الحروب – العراق ، لبنان، اليمن.. – وبفعل المجاعة والامراض.. – السودان، الصومال،.. – هذا بالاضافة إلى التوزيع السيء للجغرافيات العربية والتوزع السكاني، والذي ترتب على مشكلات سياسية تجلت في الاستعمار الغربي لهذه المناطق ومسؤوليته في هذا التوزيع.. وإذا اضفنا الامكانية الهائلة للعالم العربي، وهو المصدر الأول للبترول في العالم وكذلك الفوسفات ومختلف الثروات الطبيعية معدنية وزراعية.. وكل ذلك معاق بأسباب سياسية يقف خلفها الغرب والسياسة النيوكلونيالية – الاستعمار الجديد -..

وطبعاً لا داعي للتفصيل في هذا الموضوع.. ولا حاجة لعرض أرقام مفصلة على ذلك، لوضوحها وبداهتها.. أ/ا فيما يخص الشق الثاني من الموضوع فإن الاجهاض وشيوع العلاقات الجنسية الحرة الشذوذ ودعمها بقوانين، لم يكون أساساً في تنمية الغرب نفسه، بل هو من نتائج المدنية الاستهلاكية الغربية.. فلا يصلح أبداً أن يكون أرضية لاقلاعنا الاقتصادي والاجتماعي..

إن تحديد النسل في البلاد العربية والاسلامية يحتاج إلى مستوى معين من التعليم.. يعني لابد من محاربة فعلية للأمية وتعميم التعليم ورفع مستواه.. وهذا يتطلب سياسة تعليمية معينة وبدلاً من أن تبدأ التنمية من هذه النقطة، يحاول الغرب من خلال مشروعه الاخير، أن يقنن الاجهاض لينتهي بذلك إلى تكريس حالات لاعقلانية ومرتبطة بوجهة نظره الاخلاقية..

فحتى لو أخذ العالم الثالث كله فرضاً بتقنين الاجهاض سوف لن تقف عجلة النمو السكاني.. لأن تحديد النسل مرهونة بوعي حقيقي بمقدماته.. ولعل في العالم الثالث من قنن من الاجهاض لعدم تناقضه مع اعرافه وشرائعه، غير أنه لم يحقق التنمية المطلوبة..

ليس هدفنا هنا هو ايجاد الادلة المعاكسة أو كشف خطأ هذه السياسة.. وإنما نريد أن نوضح ان العالم الغربي لا يبحث في أزمتنا عن الحلول.. بقدر ما يبحث في ازمته عن حلوله.. وهو نفسه اليوم يعيش مشكلات اقتصادية واجتماعية.. اهمها ما نتج عن الحرب الباردة، من فك الحصار عن شعوب اوروبا الشرقية وغيرها ممن اصبحوا يهددون الاستهلاك الغربي.. وايضاً بسبب بروز دول اقتصادية متطورة كرست الاحتكار الغربي – كاليابان والصين وسنغفورة وتايوان..- ..فالغرب اليوم يحاول ايجاد حل لأزمته الاقتصادية بايجاد بديل عن أسواق بضاعته القديمة.. وهذا يتوقف على أيجاد نوع من الاستقرار في تلك البلاد.. مما يضمن حداً أدنى من العيش لهذه البلاد.. وليربط رغيفها بانتاجه وشركاته المتعددة الجنسيات..

فمؤتمر السكان وغيره من مشاريع الغرب، هو استمرار للمعركة الشمال/ جنوب من جهة.. واستمرار للمعارك الدائرة بين الاقتصادات الغربية في ميدان هو العالم الثالث..

هذا يعني أن التنمية في العالم العربي والاسلامي لا تزال تعاني اجهاضات في حد ذاتها.. والغرب يبحث عن وسائل لتقنين تلك الاجهاضات..

 

هوامش :

          * مندوب مجلة الكلمة في المغرب .

(1)             مذكرات كيسنجر في البيت الابيض ج3 ص443 ترجمة فريجات/ دار طلاس – دمشق.

(2)             المصد السابق نفسه ص 417.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة