تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

نقد الإصلاح التوفيقي: قراءة في رؤية الشيخ عبد العزيز البدري

رسول محمَّد رسول

في سياق نقد الفكر الإصلاحي العَلماني الذي وجَّهه عدد من المفكرين الإسلاميين العراقيين مطلع خمسينات القرن العشرين، ذاك النقد الذي شارك المفكِّر الإسلامي السيد محمَّد باقر الصدْر (1931 ـ 1980) في تدشين آفاقه على نحو فلسفي ومرجعي([2])، جاءت محاولة المفكِّر الإسلامي الشيخ عبد العزيز البدري (1932 ـ 1969) لتكرِّس نمطاً آخر من أنماط نقد الفكر الإصلاحي العَلماني في العراق بعد استفحال أمر العَلمانية الشيوعية والاشتراكية والديموقراطية، وتغلغل خطاباتها عملياً لدى شرائح كبيرة من المجتمع العراقي.

وإذا كان الصدر قد آثر مناقشة الأُسس الفكرية والفلسفية للشيوعية والاشتراكية والرأسمالية بوصفها خطابات إصلاحية، فإن البدري هو الآخر آثر مناقشة الأُسس الفكرية ذاتها لشكلين من أشكال النظام الإصلاحي العَلماني، هما: الإصلاح الاشتراكي، والإصلاح الديموقراطي، مع فارق أساسي بين مُعالجة المُفكِّرَين الإسلاميَين: الصدر والبدري، وهو أنَّ الصدر لم يوجِّه نقده إلى التمثيل العربي أو الإسلامي أو العراقي المحلي للنظامين الشيوعي والرأسمالي مباشرة، رغم أن خطابهُ النقدي كان يحمل بين مطاويه نقداً للقراءات العربية والإسلامية والعراقية لهذين النظامين وغيرهما من الأنظمة العلمانية ضمناً، بل وللتمثيل المجتمعي لهما، ذاك التمثيل الذي أخذ يستشري لدى النُّخب المثقفة، ولدى القواعد الشعبية في المجتمع العراقي سواء. أما البدري فقد نقدَ التمثيل Representation الإسلامي والعربي، ومنه العراقي بالطبع، لهذين النظامين، وهما النظام الاشتراكي والنظام الديموقراطي؛ وذلك عندما تصدّى ناقداً بعض القراءات العربية التي تمثَّلت النظامين الاشتراكي والديموقراطي بوصفهما رؤيتين إصلاحيتين تسعيان لإنقاذ حال الأمة، وتحديداً تلك القراءات التي كرَّست (إصلاحية توفيقية) عندما سعت إلى تأصيل الاشتراكية أو الديموقراطية في الإسلام أو العكس، وفي ظل ما سعت إليه تلك القراءات لإنسال وتوليد مفهومات إسقاطية مركَّبة مثل: (الاشتراكية العربية) أو (الاشتراكية الإسلامية) أو (اشتراكية الإسلام)، أو المقاربة بين (الاشتراكية) و(الإسلام) و(الديموقراطية) بأي نحو من الأنحاء.

* البدري والصدر

إلى هذا النمط من الخطابات الإصلاحية التوفيقية، وجَّه البدري سهام نقده الفكرية في كتابه (حكم الإسلام في الاشتراكية)[3] الصادر عام 1962، أي بعد ثلاث سنوات من صدور وانتشار كتاب الصدر (فلسفتنا / 1959)، وبعد عام من صدور كتاب (اقتصادنا / 1961). وفي أجواء ومناخ صدور أعداد من مجلة (الأضواء الإسلامية) ابتداءً من حزيران (يونيو) 1961، حيث صدر العدد الأول، حتى توقُّفها بين عامي 63/ 64. وهي المجلة التي أخرجت الخطاب الحوزوي النجفي من انغلاقه على ذاته إلى واضحة المُزاحمة السياسية والعمل الإسلامي السياسي المزاحم في ظل تصاعد المد العَلماني في العراق ذاك الذي كانت الجمهورية القاسميَّة تلعب على أوتاره لحساباتها الخاصة وفق وتيرة الصراع الإيديولوجي حينها، الأمر الذي جعل بعض الاتجاهات الدينية الحوزوية بالنجف الأشرف تشعر «بأن الساحة أصبحت تحتاج إلى أدوات جديدة للصراع، وإلى أساليب متقدِّمة في الدَّعوة، لا سيما وأن التيارات المضادَّة كانت تعمل على مخاطبة العقل والعاطفة والغرائز لئلا تترك الساحة فراغاً للإسلام أو المسلمين»[4] في المجتمع العراقي.

ولا شك في أن الشيخ البدري كان قد وقف على حراك هذه التحوُّلات الفكرية، وتأمَّلَ، عبر قراءة مجهرية، في معطيات المشهد النقدي المناهض لحال ما يحيق بالأمة من مخاطر مبعثها استفحال الإيديولوجيات العَلمانية، وانعكست معطيات قراءته تلك على معالجاته النقدية للخطاب الإصلاحي التوفيقي الذي تصدّى لأشكاله وصوره ناقداً إياها، في كتابه المذكور، حتى انتهى إلى اعتبار هذا الخطاب مجرَّد خطاب تلفيقيٍّ Fabrication في كل مقارباته وتوليداته المفهومية المتراكبة لا أكثر، بما ينمُّ عن غياب الأصالة الفكرية فيه بسبب التوظيف الإيديولوجي الصاخب الذي كان يؤسِّس للمفاهيم التي أتى بها الإصلاحيون العَلمانيون.

معلوم أيضاً أنه كانت للشيخ البدري علاقات وطيدة ومتينة مع رموز الفكر الإسلامي الشيعي الحركي، ومع النُّخب الفُقهائية والعُلمائية في النجف والكاظمية وكربلاء وبغداد وسامراء، لا سيما أن البدري كان من دُعاة توحيد وتقريب المذاهب لمواجهة التحديات التي كانت تسعى لنخر وحدة تلك المذاهب وتقويض الجوانب التواصلية البينية فيها، وبالتالي تكريس التأخُّر والاغتراب المجتمعي عن العقيدة الإسلامية باتجاه ثقافات وأفكار وإيديولوجيات عَلمانية جاثمة على صدر المجتمع العراقي في تلك الفترة.

وفي هذا السياق أعتقدُ أن المقالات التي كان ينشرها الصدر في مجلة (الأضواء الإسلامية) قد لعبت دوراً كبيراً في بلورة رؤى البدري النقدية، عندما وجد فيها الشيخ معادلاً موضوعياً لما تتطلَّع إليه روحه الثائرة على الواقع المُر الذي كانت عليه الأمة بالعراق في  الخمسينات والستينات من القرن العشرين، وهي الفترة التي عاش خلالها البدري سنوات الغليان، خصوصاً وأن مقالات الصدر في تلك المجلة كانت قد كُتبت بروح ثوري وانقلابي، وهو ما كتبهُ الصدر في إحدى المقالات بعنوان: (رسالتنا فكرية انقلابية) والتي قال فيها: «إن الإسلامَ انقلابيٌّ ثوريٌّ في فكرته»، وفي فقرة أخرى قال: «إن الفكرة الإسلامية في الرسالة هي فكرة انقلابية ثورية؛ لأنها تضع للإنسان قواعده الرئيسة التي تتبلور طبقاً لها شخصيته الروحية والفكرية من نظرة عامة نحو الحياة والكون»[5].

لقد كانت هذه الأفكار وغيرها التي دارت في فضاء الخطاب الإسلامي الثوري آنذاك، هي الأفكار ذاتها التي اختمرت بها ذهنية البدري، وتواصلت مع روحه المتوثِّبة وهو المجاهد الذي حمل لواء الثورية والانقلابية في دروب الجهاد، تلك الأفكار التي تسلَّحت بها حركة (الإخوان المسلمون) في مصر وفي بقية الأقطار الإسلامية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وتسلَّحت بها أيضاً حركة (حزب التحرير)، وتسلَّح بها كذلك نُشطاء الإخوان المسلمين من العراقيين والتحريريين الذين عاش الشيخ البدري في أجواء مشروعهم الثوري والانقلابي.

لا أسعى في هذه المقاربة بين البدري والصدر إلى الكشف عن أثر الصدر في البدري، وإن كانت مقاربة من هذا النوع تبدو منهجية بقدر ما هي ضرورية في ظل تماثل خطابيهما، إنما إلى الكشف عن الحس الثوري المشترك الذي كان يتجاذب إسلاميي العراق من أبناء السُّنة والشِّيعة حينها بإزاء الصراع الفكري المؤدلج بين خطابهم الديني والخطابات العَلمانية، وعن الشعور العميق المشترك الذي كان يثوي في نفسيهما إزاء تحديات تلك المرحلة.

ومن هنا، كانت عناصر التشابه والتقارب بين المُجاهِدَين، الصدر والبدري، كثيرة؛ فكلاهما انطلقَ من العقيدة الإسلامية كمرجعية تتقاطع مع المرجعيات العَلمانية. وكلاهما سارَ في دروب العمل الإسلامي الجهادي لمقارعة التفكُّك الفكري والفساد المجتمعي الناتجان عن الحراك الاستعماري الشرس الذي اجتاح المجتمع العراقي آنذاك. وكلاهما رفضَ، جذرياً، شتى الخطابات الفكرية والفلسفية والإيديولوجية العَلمانية التي كانت الحماسة تدبُّ لها في المجتمع العراقي على نحو متغلغل وبلا هوادة حينها. وكلاهما أيضاً نذرَ فكرهُ وحياتهُ قُرباناً للدين والعقيدة والأمة فراحَ شهيداً بسياط ومقاصل حكّام الدولة البعثية، فقد قطَّع صدام جسد الشهيد البدري إرباً عام 1969، وأعدم صدام الشهيد الصدر شنقاً حتى الموت عام 1980.

وإذا كان لنا أن نسأل عن الأجواء الحركيَّة والدَّعوية الشيعية التي عاش الشيخ البدري فيها؟ فإن تلك الأجواء كانت إحدى المصادر الموضوعية لتجربته بقدر ما كانت الأجواء الحركية والدَّعوية لحركة الإخوان المسلمين في مصر والعراق وحركة حزب التحرير في فلسطين والأردن تعتبر مصادر مماثلة. إلا أن هناك أسئلة أخرى تكمل الإجابة عنها صورة المشهد الجهادي والنقدي للشيخ البدري فيما لو طُرحت: فما هي الخلفية الإسلامية التي شكَّلت ثقافته؟ وما هو السياق الإسلامي الذي ولد فيه منحى البدري الفكري والنقدي والثوري؟ وما هو مشروعه في نقد الإصلاحية التوفيقية التي تصدَّى لها ابتداءً من نهاية الخمسينات حتى استشهاده نهاية الستينات؟

* فقه الثورة!

ابتداءً، خرج مشروع الشيخ البدري عن ثقافة الاستكانة والخضوع التي اعتمدت على نظرية (فقه الطاعة)، تلك النظرية التي عملَ بها الكثير من فقهاء السُّنة العرب في العراق وفي دول الوطن العربي والأقطار الإسلامية المختلفة، أولئك الذين شاطروا سلطة الحاكم والملك والأمير والشيخ والخليفة والمستعمِر سياساته تجاه المجتمع والدولة في دار الإسلام حتى لو كانت سلطة هؤلاء جائرة وخبيثة ومُسيئة للمسلمين وللأمة!

وفي ضوء ذلك نأى الشيخ البدري جذرياً، رغم سنوات حياته القليلة، عن جملة المقولات التخديرية التي ميَّزت تاريخاً سيِّئاً كَتَبَهُ فقهاء السُّنة العرب بسلوكهم في طاعة السلطان الجائر خوفاً من فتنة لا تعدو أن تكون افتراضية، حتى أنه في عام 1966 أصدر البدري كتابه: (الإسلام بين العُلماء والحُكّام)[6]، وهو الكتاب الذي كان بمثابة التمرُّد الفقهي والسياسي والحركي على نظرية فقه الطاعة للعمل بـ(فقه الثورة)، إنْ صح تداول هذا المفهوم. وتناول الشيخ البدري في هذا الكتاب العلاقة بين العلماء والحكّام، وعلاقة الحكّام بالعلماء في التاريخ الإسلامي، وكشف فيه عن حجم الظُّلم الذي تعرَّض له فقهاء وعلماء الأمة من جهة الحكام العرب والمسلمين عبر التاريخ، وحجم وصور الرفض التي أبداها الفُقهاء لسياسات خلفاء المسلمين وأمراء المؤمنين حفاظاً على بيضة الإسلام وروح العقيدة من تطرُّف أهل السياسة والقيادة وأُولي الأمر الذين لم يبخلوا بالجهد والمال والتآمر لتهميش وسجن وقتل الفُقهاء الذين قالوا: لا لطاعة الحاكم الجائر، لا لظلمه وبطشه بالمسلمين، لا لنظام سياساته في المجتمع والحكم والخلافة أو الدولة!

عاش الشيخ البدري في أجواء دينية كانت تحثُّ الخطا لتكريس وموْضعَة الخطاب الديني في منحاه الحركي (العمل الإسلامي) على نحو مُزاحم في المشهد المجتمعي والسياسي والثقافي بالعراق في خمسينات وستينات القرن الماضي. ومع أن العمل الإسلامي والجهادي كان قد كرَّس خطابه في العراق منذ بداية القرن التاسع عشر عندما تصدى الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت 1812) لغزوات الوهَّابيين على النجف وكربلاء المقدَّسة، إلاّ أنَّ هذا العمل عاد من جديد في مطلع القرن الماضي، وتجلى أكثر في (ثورة العشرين) الشهيرة، التي كانت صورة مشرقة من صور الرفض الجذري لخطاب المُحتل وآلياته تجاه المسلمين بالعراق، وهو العمل الذي احتفى به الشيخ البدري عندما قال: إن فتاوى العُلماء والأعلام في النجف وكربلاء وبغداد وسامراء والكاظمية هي التي دفعت العشائر العراقية إلى القتال لتحرير أرض العراق من رجس الكُفر والاستعمار، ولم يكتفِ العلماء بفتواهم، إنما حملوا السلاح أيضاً، واشتركوا في الحرب؛ فقادوا المجاهدين في بعض المعارك، وكان منهم السيد محمَّد سعيد الحبوبي الذي قاد المجاهدين في (واقعة الشعيبة والبرْجسية)، وأبلى بلاء حسناً. ومنهم أيضاً الإمام الشيخ مهدي الخالصي (ت 1925) الذي جمع الجموع، وشكَّل كتائب الجُند في مدرسته بالكاظمية، وقاد المجاهدين، ودخل المعارك الحربية[7] ميدانياً.

* نشأة العمل الحركي

إن صور الرفض هذه بدت خطاباً شعبياً كان الفقهاء فيها طرفاً مركزياً ودافعاً ذاتياً ومحورياً لحراك الرفض. وكانت الحركات الدينية السرية والجمعيات والمنتديات والمدارس البسيطة في تكوينها بالعراق قد لعبت دوراً مهمًّا في حثِّ المسلمين على تصريف خطاب الرفض عملياً لمواجهة المشروع الاستعماري القادم على العراق. إلاّ أنَّ تطوُّر الفكر السياسي في العالم، وفي الوطن العربي، وبالضرورة في العراق الملكي، وصعود التيارات القومية والوطنية، وظهور الخطابات الإيديولوجية العَلمانية، وصعود تيارات الإسلام الحركي أو المزاحم أو الإسلام المؤدلج (الإخوان المسلمين 1928) في مصر مثلاً، والأهم من ذلك ظهور الأحزاب والتنظيمات الحزبية على نحو مطرد بين الحربين العالميتين في العراق، قد خلق نمطاً من حاجة بعض فقهاء السُّنة العراقيين الجذريين إلى شكل تنظيمي أكثر طموحاً في التعبير عن الانخراط في مشهد المزاحمة السياسية العام في العراق خلال مرحلة الأربعينات، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، ومن ثمَّ في مرحلة الخمسينات، وصولاً إلى العقد اللاحق (الستينات) التي مثّلت نهايته بداية الشروع الحقيقي في تدمير أغلب تنظيمات العمل الإسلامي الجذرية، السُّنية والشِّيعية، في العراق عبرَ اغتيال القيادات المفكِّرة فيها مثل الشيخ البدري عام 1969، والشيخ عارف البصري وزملائه عام 1975، والسيد محمَّد باقر الصدر في عام 1980. ناهيك عمن تمَّ تصفيتهم حتى انهيار النظام الصدّامي نيسان 2003.

اعتقدَ بعض المؤرخين، ومنهم عادل رؤوف[8]، أن العمل الحركي السُّني بالعراق كان قد سجَّل سبقاً على العمل الإسلامي الشيعي لأسباب خارجة عن العراق، والسبق هنا لا يكمن في زمن الانطلاق، إنما في مضمون العمل الحركي وأفكاره، وفي آلياته وخطابه السياسي، ورؤاه التنظيمية. وفيما يخص زمن الانطلاق، وفي المحيط العراقي تحديداً، كان العمل الحزبي ـ الحركي الشيعي هو السبَّاق من حيث إنه بدأ منذ عام 1917 عندما انطلقت أول تجربة حزبية إسلامية تمثلت بـ(جمعية النهضة الإسلامية / النجف 1917)، وهي حركة كان لها أفكار تنظيمية، وخطاب سياسي، ونظام داخلي. إلا أنها بالتأكيد كانت تجارب ريادية استلهمتها، فيما بعد، تنظيمات العمل الإسلامي السُّنية، التي أُسست خارج العراق وامتدَّت إلى داخله؛ ففي مصر أُسِّست حركة (الإخوان المسلمين / 1927 ـ 1928)، وفي الأردن أُنشئ (حزب التحرير/ القُدس 1952 )، وكلاهما اندلق إلى العراق بمضمون فكري ـ حركي لم يكن سائداً في الوسط الشيعي يومها إلاّ على نحو مضمر ومبيَّت في مخيال الإسلاميين الشيعة، لا سيما وأن حركة النهضة الشيعية في مطلع القرن العشرين سرعان ما توقَّفت وتوقَّف معها العمل الإسلامي الحركي في الساحة الشيعية مع بداية تأسيس الدولة العراقية عام 1921 بسبب ما أقبل عليه المستعمر البريطاني من قمع وتشريد ونفي لإسلاميي ثورة العشرين. وما استؤنف العمل الحركي الشيعي إلا بدايات الخمسينات حيثُ شوهدت بوادر العودة إلى التفكير بالعمل الحزبي الحركي، وأدّت هذه البوادر إلى إفراز جماعات حركية صغيرة مثل: (حركة/ منظمة الشباب المسلم / النجف 1950 ـ 1951) التي أسَّسها الشيخ عز الدين الجزائري، وأصدرت مجلة (الذكرى). و (الحزب الجعفري / النجف 1952). و(حركة المسلمين العقائديين/ 1954) التي أسَّسها عز الدين الجزائري أيضاً إثر انشقاقات حركته السابقة. ومن ثم أُسِّست جماعة (شباب العقيدة والإيمان/ النجف 1975). وبالتالي أُسِّس (حزب الدَّعوة الإسلامية / 1957)، الذي اعتبر أول تجربة حزبية إسلامية ناضجة في الأوساط الشيعية استطاعت أن تتواصل في فكرها الحركي بالتوازي مع نظيراتها في الأوساط الحركية السُّنية مثل حركة الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي وبقية أحزاب العمل الإسلامي التي ظهرت تباعاً في العراق.

ومع أنه لا غبار على دور جماعة الإخوان المسلمين الأم في تطوير العمل الحركي في مصر وفي بقية الأقطار الإسلامية، ودفعه ذاك الدور إلى ميادين تداولية فاعلة في المجتمعات الدينية العربية. إلا أنَّ تجربة (جمعية النهضة الإسلامية / النجف 1917) لم تكن بأقل حنكة في هذا النمط من العمل الحركي ـ الجهادي، بل كانت السبّاقة في تكريس منطق تداوله في المجتمع قبل انطلاق جماعة الإخوان في مصر، وقد تمثَّل هذا النمط الحركي في (تنفيذ مشروعها الثوري)[9] من خلال تشكيل جناح عسكري توزَّع على مجموعات ضمَّت أغلب رؤساء عشائر النجف ووجهائها اللامعين مثل: آل صُبّي، وآل غنيم، وآل شبع، وآل كرماشة، وآل العكايشي، وآل الحاج راضي، وآل ألبوكُلل، وآل عدوة وغيرهم[10]. وتألَّف الجناح العسكري يومها من ثلاث مجموعات: الأولى بقيادة الشيخ كاظم صُبِّي، والثانية بقيادة الحاج نجم البقّال، والثالثة بقيادة الشيخ كريم الحاج راضي. وكان عبّاس الخليلي سكرتير الجمعية وعضو الارتباط بين الجناحين العسكري والسياسي[11]. لقد كانت تجربة جمعية النهضة الإسلامية قد نمْذجت العمل الإسلامي الحركي والثوري والانقلابي في العراق، وليومها لم يكن المسلمون الحركيون في أقطار إسلامية مجاورة بعيدين عن هذه التجربة فقد ذاع صيتها في الآفاق.

بغضِّ النظر عن زمن الانطلاقة، وأي من الاتجاهين، السُّني أو الشِّيعي، كان الأول، فإن المهم فيما أوردنا أعلاه أن العمل الإسلامي الحركي السُّني بالعراق هو امتداد للعمل الإسلامي السُّني في الوطن العربي من بعض الوجوه، إلا أن هذا لا يعني الاعتقاد بأن حركية الواقع العراقي لم تكن سبباً في تحرُّك الفقهاء السُّنة بتوسُّل الجهاد الفكري والعملي لمقارعة الظلم والطغيان.

ولا شك في أن هذا التواصل الإسلامي الحركي، العراقي ـ العربي، كان مألوفاً في العراق الحديث لدى بعض الفقهاء السُّنة الذين كانوا يفتقدون إلى زعامة دينية مؤسساتية أو إلى كاريزما دينية بالبلاد على غرار الحوزة الدينية العلمية في النجف، فقد كان كل من محمود شكري الآلوسي (1856 ـ 1924)، وكذلك محمَّد بهجت الأثري (1904 ـ 1996)، امتداداً للحركة السَّلفية (الوهّابية) في نجد، إلاّ أنَّ مشروعهما واجه فشلاً ذريعاً في العراق لأسباب أهمهما نفور العراقيين الأحناف (نسبة إلى الإمام أبي حنيفة النُّعمان 80 ـ 150هـ) من الخطاب الوهّابي، ذي المرجعية الحنبلية (نسبة إلى الإمام أحمد بن حنبل 164 ـ 241هـ). إلاّ أنه أيضاً لم يكن غياب المرجعية المؤسساتية أو غياب (الكاريزما المرجعية) السبب الوحيد الذي دعا فقهاء السُّنة، قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، إلى البحث عن مرجعيات حركية في خارج العراق، ربما كان هذا ممكناً في تجربة الآلوسي والأثري عندما كانت الحركة الوهّابية هي الحركة الإصلاحية الجذرية الضاربة خيامها في بلاد المسلمين برغبة سياسية ـ دينية استحواذية شمولية، وبهوس طائفي متشدِّد لا هوادة فيه في تعاملها مع المذاهب غير الحنبلية ضمن المنظومة الفقهية الإسلامية آنذاك؛ وهو الأمر الذي جعل غالبية الفقهاء الأحناف في العراق ينأون بخطابهم عن طائفية الخطاب الوهَّابي الصارخة وشموليته الاستحواذية بحثاً عن خطاب إسلامي إصلاحي لا يُهمِّش أي مذهب من مذاهب الملَّة الإسلامية في البلاد لأن أولئك الفقهاء كانوا بحاجة إلى نمط آخر من العمل الإسلامي التقريبي لمواجهة التحديات التي تركها الاستعمار البريطاني خلال مرحلة غزو العراق واحتلاله ومرحلة الانتداب والوصاية الاستعمارية، وهذا هو السبب الرئيس الثاني الذي دعا بعض الفقهاء العراقيين السُّنة إلى البحث عن أُطر وهيئات وتكوينات تنظيمية إسلامية للانخراط في عمل حركي والتموضع فيه ضمن سياق سُني ـ حنفي تواصلي، غير طائفي ولا إقصائي، على صعيد العلاقات المذهبية في المجتمع الإسلامي بالعراق رغم أن بعض القراءات التاريخية ذات المنحى الوهّابي التي ظهرت في القرن العشرين في العراق حاولت أن تؤصِّل المنحى الوهّابي أو (السَّلفي) في مشروع الإخوان المسلمين وغيره من مشروعات العمل الإسلامي، إلا أن هذا لم يكن واقعياً فقد ظل العمل الإسلامي أكثر تمثيلاً للاتجاه الحنفي في العراق منه إلى الاتجاه الفقهي الحنبلي الذي ركن إليه الوهّابيون أو السَّلفيون.

* عراقيو الإخوان المسلمون

في ضوء هذه الخلفية وجدَ عدد من العلماء العراقيين السُّنة في حركة (الإخوان المسلمون) التي تأسست في مصر بين عامي 1927 ـ 1928 شكلاً جاذباً للتعبير عن مأمولات وطموحات إسلامية حركية لديهم. وكان «الإخوان المسلمون قد أسَّسوا لهم فرعاً في العراق في ثلاثينات القرن العشرين، وأنشؤوا لهم مكتبة في بغداد باسم الإخوان المسلمون، كان يتردَّد عليها بعض أعضاء الجماعة ومؤيدوها من العراقيين»[12] حينها. وبقي هؤلاء المُتحمِّسون يراقبون حركة الواقع الإسلامي في العراق، بل وحركة المشهد الإسلامي في الوطن العربي والعالم الإسلامي في تلك الفترة أيضاً. وفي الوقت ذاته كانوا يراقبون بشغف ما يجري للحركة الأم في مصر، وفي عدد من الأقطار العربية والإسلامية الأخرى مثل سورية والأردن وفلسطين. ولمّا كانت الحركة الأم قد حقَّقت مُنجزاً عريضاً في الوطن العربي من حيث التوسُّع في مسارات عملها ونشاطها الإسلامي، ومن حيث تطوُّر فكرها الحركي نسبة إلى تعقُّد أوضاع المسلمين بين الحربين العالميتين عامة، وبالتالي بعد الحرب العالمية الثانية، فإن الحركة الأم لفتت أنظار الطامحين إلى الدفاع عن بيضة الإسلام في العراق، وكان من بين هؤلاء الشيخ محمَّد محمود الصوّاف (1914 ـ 1992)، الذي تتلمذَ على يد عدد من العُلماء العراقيين الأفاضل منهم الشيخ عبد الله النعمة (1873 ـ 1950)، والشيخ محمَّد الرضواني. ودرس بـ(المدرسة الفيصلية)، وحصل على إجازتها العلمية، ثم التحق بالأزهر في مصر عام 1943، وكان من المتفوقين في دراسته هناك؛ حيث حصل على العالميَّة والتخصُّص خلال نصف المدَّة المخصَّصة لذلك، وعاد إلى العراق بعد أن تحصَّل من (الأزهر الشريف) على العلم الشرعي، وتحصَّل على العلم الدَّعوي من خلال لقائه بالإمام الشهيد حسن البنّا (1904 ـ 1949)، حين اقتنع بفكرة البنّا الدَّعوية، ومن ثمَّ عاهده وبايعه، وكانت له فكرة إنشاء (قسم الاتصال بالعالم الإسلامي) لبثِّ الدَّعوة في الجغرافية الإسلامية والعربية، وعند عودته إلى العراق شغل منصب (المراقب العام للإخوان المسلمين)، وعُيّن مدرساً بكلية الشريعة ببغداد ـ الأعظمية بعد أن رفض منصب القضاء الذي عرضه عليه وزير العدل العراقي حينها. وفي تلك الغضون كان قد انتسب إلى (جمعية الشبان المسلمين) بالموصل، وأنشأ (جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فيها، كما أسَّس مع الشيخ أمجد الزهاوي (1882 ـ 1967) (جمعية الأخوة الإسلامية / 1948) التي قامت بدور رئيس في الدَّعوة الإسلامية بالعراق[13]، بل كانت (الاسم الذي تحرَّك تحته الإخوان في العراق)[14] لنشر عملهم الدَّعوي.

يبدو جلياً أن الثقافة الدَّعوية التي اكتسبها الصوّاف من الشيخ حسن البنّا بالقاهرة كانت قد أثَّرت في مسار وحراك العمل الإسلامي الإخواني في العراق. ولهذا بدأت حركة الإخوان المسلمين نشاطها بفاعلية أكثر في عام 1948، وصار لهم أنْ يشكلوا «هيئة تأسيسية تألَّفت من مجموعة من الناشطين في مجال العمل الدعوي، ومنهم: تحسين عبد القادر الفخري، ومحمَّد محمود الصوّاف، وعلي فاطن، وعبد الرحمن الشيخلي، ومُنيب الدروبي، وعبد الغني شنداله، ومحمَّد فرج السامرائي. وكان الشيخ أمجد الزهاوي بمثابة الظل العُلمائي والمرجعي للحركة. وكان عمل هذه الجماعة قد تركَّز، منذ البداية، تقريباً في الموصل وسامراء والرمادي وبغداد والبصرة، بل صار لها فروع في هذه المحافظات على نحو علني»[15]. وتحصَّل الإخوان في عام 1948 على إجازة من وزارة الداخلية العراقية بتأسيس جمعية (الأخوّة الإسلامية) التي استمرت في ممارسة نشاطها حتى إلغائها بصدور مرسوم إلغاء الجمعيات والأحزاب عام 1954. واستغلَّ الإخوان المناسبات الدينية لنشر مبادئهم، واستفادوا من بعض الجرائد العلنية، مثل جريدة (السجل/ 1949)، وجريدة (الحساب / 1954)، إضافة إلى بعض جرائد الأحزاب الأخرى الصادرة آنذاك في التعريف بمبادئهم ونشر بياناتهم التي تضمَّنت التعريف بسعي الإخوان إلى إعادة الحياة الإسلامية إلى المجتمع، وتحقيق أهداف الإسلام بقيام حكومة إسلامية صالحة تطبّق أحكام الإسلام، وتلبِّي الحقوق المشروعة للأمة في تحرير الوطن من المستعمِر، والتخلُّص من أعوانه وأذنابه[16].

* الصراع مع الشيوعيين

كانت الأوضاع السياسية بالعراق في خمسينات القرن العشرين تُنبئ باقتراب حدوث تغيير سياسي جذري كبير. وكانت إرهاصات حدوث انقلاب عسكري تتزايد، حتى وقع ذلك الانقلاب في 14 من يوليو 1958بقيادة عبد الكريم قاسم (1914 ـ 1963)، وألغيت المَلَكية، وأعلن قيام الجمهورية العراقية. وقد استقبلت الأوساط السياسية والشعبية هذا الانقلاب بابتهاج شديد، ولكن سرعان ما تبدَّد مع صعود الشيوعيين ومحاولتهم الاقتراب من عبد الكريم قاسم الذي رحَّب بهم في البداية لعدم وجود قاعدة سياسية أو حزبية يتكئ عليها في ممارسة الحكم، إضافة إلى صراعه مع الضبّاط الوحدويين مثل عبد السلام عارف (1921 ـ 1966) وغيره. إلاّ أنَّ اقتراب قاسم من الشيوعيين أدّى إلى احتقانات سياسية عسكرية كبيرة استغل بعضها أحد قادة الجيش وهو عبد الوهاب الشوّاف (1916 ـ 1959) للقيام بحركة انقلاب مضادّة في الموصل، ساندته فيها القوى المختلفة الرافضة للشيوعية. وكان فشل تلك الحركة الانقلابية قد تسبَّب في حدوث مجازر قام بها الشيوعيون، وأُشيع يومها أنَّ الصوّاف قد قُتل، بل ونَعَتْهُ بعض الإذاعات العربية، غير أنَّ الرجل كان قد اختفى لفترة، ثم رحل إلى الشام سراً عام 1959، لكنه عاد وأصدر مجلَّة (لواء الأخوة الإسلامية) التي وجَّهت انتقادات حادّة للشيوعيين، وعندما ضاقَ هؤلاء بالنقد هاجموا المجلَّة، وأحرقوا مكتبها ومطبعتها بعد سبعة أعداد فقط على صدورها التي بدأ صدور العدد الأول منها في 22 كانون الثاني 1959. ويومها كانت التوجُّهات الإسلامية، السُّنية والشِّيعية، تنتقد نظام عبد الكريم قاسم؛ بسبب صعود الشيوعيين، وانتقاص الحزب الشيوعي العراقي من لإسلام عقيدة وشريعة، وصدور (قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959)، الذي ألغى التشريعات الإسلامية المتعلقة بقضايا الأحوال الشخصية عندما منع تعدُّد الزوجات، وعندما أعطى المرأة حق الطلاق، كذلك منحها المساواة في الإرث مع الرجل؛ فوقفَ الإخوان لهذا القانون بالمرصاد، خصوصاً بعد أنْ أصبح لهم وجود سياسي إثر حصولهم على حكم قضائي بإنشاء حزب، في نيسان (إبريل) عام 1960، وترأّس الحزب نعمان السامرائي الذي أصدر جريدة (الفيحاء)، وكان نقد الإخوان شديدًا للشيوعيين، بل كان لهم دور بارزاً في إحباط المشروع الشيوعي بالعراق؛ لهذا سحبت وزارة الداخلية العراقية ترخيص الحزب بعد تأسيسه في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1960 [17]. لقد تزامن ذلك مع صدور فتاوى من قبل فقهاء ومراجع النجف الشِّيعة الكبار بشأن تصاعد المد الشيوعي بالبلاد مثل فتوى صدرت في شباط 1960 من المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم (1889 ـ 1970)، وفتوى أخرى صدرت بعد أقل من شهرين عن المرجع الديني الشيخ مرتضى آل ياسين، وكان صدى هذه الفتاوى فاعلاً في المجتمع العراقي السُّني أيضاً[18]، ما يعني أن موقف الإسلاميين السُّنة والشِّيعة كان واحداً من حيث رؤيته إلى مخاطر الإيديولوجية الشيوعية في العراق.

وعلى رغم من إلغاء إجازة الجماعة في عام 1954، بقي نشاط الإخوان مستمراً بصورة سريَّة، وبقي محدوداً ومقتصراً على مناطق معينة من العراق كبغداد والموصل والرمادي، لكنه أخذَ ينتعش في عهد عبد الكريم قاسم، ثمَّ في عهد عبد السلام عارف، فقد وقفوا ضد نظام قاسم، ثم، ومنذ قرارات التأميم التي أصدرها عارف، وتشكيله للاتحاد الاشتراكي العربي في 14 تموز 1964، بدأ الإخوان المسلمون حملة ضد نظامه، وشدَّدوا على ذلك في بياناتهم، ولكن بالمقابل كانت الجماعة تزداد ضعفاً حتى لم يعد لها نشاط يُذكر[19]، خصوصاً وأن وضعها في العراق «كان يتأثر بوضع الحركة الأم؛ ومن هنا فإن نشاطها في العراق كان يقوى أو يضعف تبعاً للأوضاع التي كانت تمرُّ بها جماعة الإخوان المسلمين في مصر»[20].

* حزب التحرير

كانت ثقافة وحركية ودعويَّة الإخوان المسلمون في مصر والعراق من بين المرجعيات التي ألهمت الشيخ عبد العزيز البدري تلمُّسه الطريق إلى مناهضة الواقع المرير الذي كان عليه العراق في مرحلة الخمسينات، بل كانت تلك المرجعيات نفسها التي توافقت كثيراً مع دوافع الرجل الذاتية، تلك التي كانت تحثُّه، ومن دون تردُّد، باتجاه رفض الحال التي كانت عليها الأمة الإسلامية، وما كان عليه واقع حال العراق في تلك المرحلة. ولهذا، وبينما كان الإخوان المسلمون يحثُّون خطاهم نحو تأصيل عملهم في المجتمع العراقي خلال السنوات الثلاث بعد طلب التأسيس رسميًّا عام 1948، وجدَ الشيخ البدري في (حزب التحرير)، الذي أُسس في القُدس عام 1952، الشكل الحزبي والدَّعوي والتنظيمي والحركي الأكثر تعبيراً عن مكنوناته ودوافعه الذاتية في العمل الجهادي في العراق، ولهذا أيضاً انخرطَ البدري في نشاط هذا الحزب السري الذي كان ينمو في العراق بجهود عدد من الأساتذة والطلبة الجامعيين الأردنيين والفلسطينيين في العراق حتى صار له فروع في بغداد والموصل والبصرة والناصرية، على عكس حركة الإخوان المسلمون في تجليها الأول التي حصرت نشاطها بالمناطق السُّنية في العراق فقط!

تكوَّن حزب التحرير في الأردن نتيجة انشقاق كان قد جرى بين جماعة الإخوان المسلمون الأم والشيخ تقي الدين النبهاني (1909 ـ 1977)، الذي كان مُعلماً في (الكلية الإسلامية) بعمّان. ومنه انتقلت فكرة الحزب إلى بقية الأقطار العربية بهدف إقامة جمهورية إسلامية دينية أو دولة الخلافة المؤسسة على مبادئ العقيدة الإسلامية. وظهرت مبادئ الحزب وتنظيماته في العراق على نحو ملموس عام 1954، عندما أخذ أعضاؤه القليلون يبشِّرون بأهدافه عند إقامة صلوات الجمعة في الجوامع والمساجد المشهورة. وفي خلال ذلك، أخذوا أيضاً يهاجمون مواقف حكومات النظام الملكي وخططها في تلك الفترة، واشتهر منهم الشيخ عبد العزيز البدري، ومحمَّد الحديدي في بغداد. ومحمَّد محمود الصوّاف في الموصل. فطلبت وزارة الداخلية من مديرية الأوقاف في بغداد اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع أعضاء الحزب من إلقاء الخطب في المساجد.

وفي 19/ 10/ 1955، قدَّم كل من: حسين أحمد الحاج صالح، وإبراهيم مكي الواعظ، وعبد العزيز البدري، وعبد الله سامي الدبوني، وعبد الغني محمَّد الحاج حسين، وخالد أمين الخضار، ومحمَّد هادي عبد الله السبيتي (شيعي لبناني)، تقدَّموا بطلب إلى وزارة الداخلية للسماح لهم بممارسة العمل الإسلامي العلني للحزب. وأُرفق مع الطلب منهاج الحزب الذي كان يدعو إلى استئناف الحياة الإسلامية، وحمل الدَّعوة الإسلامية. إلاَّ أنَّ الوزارة رفضت إجازة الحزب بحجَّة أن فكرتهُ ذات تكتيك انقلابي ثوري، كما أنه سبق لمؤسسيه أنهم قاموا بأعمال من شأنها بث روح الكراهية بين طبقات الشعب ضد الحكم القائم. فأصدرت الهيئة المؤسِّسة بياناً استنكرت فيه رفض طلبها، ووزع «البيان في وقت واحد بالموصل والبصرة وبغداد والناصرية ودمشق والقُدس وعمّان»[21]. وهاجمت الجماعة أعمال نوري السعيد، رئيس الوزراء يومها، التي أدّت إلى تعطيل الحياة السياسية على نحو فظيع بالبلاد. واستنكرت أيضاً تجديد المعاهدة مع بريطانيا، وربط العراق بالأحلاف العسكرية التي تجعل المسلمين يقاتلون في سبيل حماية الكافر المستعمِر، وذلك بالدخول في ميثاق بغداد الذي وُجد من أجل ربط البلاد الإسلامية بعجلة الاستعمار الغربي والبريطاني، خصوصاً عسكرياً واقتصادياً، ولهذا استمر الحزب في نشاطه بمقاومة وزارة السعيد التي قامت بإلقاء القبض على بعض أعضائه، فهاجم الحزب سياسة نوري السعيد الرامية إلى زيادة الضرائب على نحو فظيع على الناس في الوقت الذي زادت فيه الموارد النفطية زيادة كبيرة، وإلى تشويه الحياة الديموقراطية بإيجاد (ميثاق بغداد) الذي يتناقض مع الإسلام، والذي دعا الحزب إلى مقاومته، لأنّ مقاومته هي جزء من مقاومة الاستعمار. ومن جهة، وقف الحزب موقفاً سلبياً من التيار القومي العربي، ومن شعارات الوحدة العربية، وهاجم الاتحاديين في العراق والأردن؛ بدعوى أن الإسلام يحرِّم الاتحاد العربي، وينادي بدلاً من ذلك بالوحدة الإسلامية، كما أن دستور الاتحاد سيكون خلاصة لبعض الدساتير الاتحادية في العالم، ولهذا فإنه دستور فاسد لكونه غير مستوحىً من أوامر الله ونواهيه التي جاء بها القرآن الكريم.

وبعد ثورة 14 تموز 1958، عارض حزب التحرير الإسلامي نظام عبد الكريم قاسم، وطالب بإسقاطه، وبمحاربة الشيوعية. كما أنه استمر بعد تسلُّم عبد السلام عارف السلطة في معاداة الحكم[22].

كانت تجربة حزب التحرير في العراق هي الشكل المرجعي الجديد الذي وفَّر للشيخ البدري إطاراً للتحرُّك الإسلامي والعمل الدَّعوي والحركي على نحو أكثر فاعلية في مشروعه للدفاع عن بيضة الإسلام في العراق والأمة. وعندما وجد الشيخ أن هذا الإطار الحزبي والدَّعوي في مرمى الحكومات والأنظمة العميلة حينها فكَّر في تأسيس حزب آخر هو (حزب الكتلة الإسلامية) بعد أن خرج من (الإخوان المسلمون) ومن حزب التحرير وذلك لمواقفه الحادَّة من الجهاد بوجه الظالمين. ولما كنّا بإزاء شخصية دعويَّة وحركية من هذا النوع، فلا بُدَّ لنا من الوقوف على صور من حياته الجهاديَّة، لا سيما أن أسرته تمكَّنت، بعد سقوط طاغية بغداد في نيسان/ أبريل 2003، من التحدُّث عن حياة الشيخ الشهيد للصحافة المقروءة[23].

* حياة البدري

ولد الشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف البدري في بغداد عام 1930، ونشأ على تربية إسلامية رصينة. وتتلمذ على يد عُلماء بغداد منذ صغره، وعلى رأسهم الشيخ أمجد الزهاوي[24]، والشيخ محمَّد فؤاد الآلوسي، والشيخ عبد القادر الخطيب، والشيخ شاكر البدري، الذين كانوا من أبرز وجوه بغداد العلمية الإسلامية آنذاك. وبعد اكتشاف مواهبه الخطابية، ونبوغه في الفكر واللغة والتاريخ، رشَّحه أستاذه الزهاوي في العام 1949 لاعتلاء المنبر الإسلامي كخطيب وإمام جامع، وهو دون العشرين من العمر آنذاك، عندما عُيِّن في (مسجد السُّور) ببغداد. واستمر على حمل أمانة المنبر حتى العام 1954 عندما أدركت السلطة، في العهد الملكي، نشاطه وتأثيره في الناس، فعمدت إلى إبعادهِ إلى قرية نائية من قرى محافظة ديالى تُدعى (قرية حديد)، فأصبح فيها إماماً وخطيباً لجامع القرية، وترك فيها أثره، وخرّج منها أئمة وخطباء ودُعاة صار لهم شأنهم في المجتمع العراقي.

وبعد سقوط الحكم الملكي في عام 1958 أصبح البدري إماماً وخطيباً في (جامع الحاج أمين) بمنطقة الكرخ، واستمر به حتى عام 1959. وكان المدُّ الشيوعي قد أخذ مأخذه، فتصدّى الشيخ الراحل للشيوعية جهاراً من على المنبر، لكنه، وإثر ذلك، وُضع تحت الإقامة الجبرية لمدة سنة كاملة من 2/ 12/ 1959 حتى صدور العفو العام عن السياسيين في 4/ 12/ 1961. وذكر الشيخ البدري نفسه في هامش رقم واحد، الطبعة الثالثة، من كتابه (حُكم الإسلام في الاشتراكية) أنه تمَّ اعتقاله أسبوعاً في (دائرة الأمن العامة)، وأُطلق سراحه في 26 آب 1964بعد إقامة جبرية في بيته بدأت يوم الجمعة 31 تموز 1964.

تصدّى الشيخ البدري بكل شجاعة لتوجُّهات عبد السلام عارف القومية والناصرية ولسياسته المترتبة على ذلك حينها. ولذلك أُبعد من (مدرسة التربية الإسلامية) الكائنة في منطقة الكرخ، التي كان مدرِّساً فيها ليُنقل إلى جامع في منطقة الصرافيَّة لم يكتمل بناؤه بعد، وطُلب منه أن يُكمِل تشييده من دون أن يتمكن من إقامة أية خطبة فيه وذلك لتعجيزه وتعطيل آلية جهاده ضد الظلم والطغيان المستشريان آنذاك، ولكنه، وفي فترة قياسية، وبجهود الخيرين، استطاع البدري إنجاز بناء (جامع عادلة خاتون)، قرب جسر الصرافية وسط بغداد الرصافة. وعند افتتاح الجامع، وبينما كان البدري يوماً خطيباً منبريًّا يلقي خطبته فوجئ بدخول عبد السلام عارف، رئيس الجمهورية آنذاك، ولم يكد يأخذ عارف مكانه بالجلوس حتى بدأ الشيخ البدري بتوجيه كلماته المشهورة إلى عارف دون خوف أو تردُّد: «يا عبدالسلام: طبّق الإسلام، إنْ تقرَّبت من الإسلام باعاً تقربنا إليك ذراعاً. يا عبد السلام: القومية لا تصلح لنا، وحدهُ الإسلام ملاذنا». وعند الانتهاء من خطبته جلس جانباً ولم يلتفت إلى الرئيس، فقام الأخير وصافحهُ قائلاً له: أنا أشكرك على هذه الجرأة!! ليُنقل الشيخ البدري، بعد هذه المجابهة، إلى (مسجد الخلفاء) الذي كان مُغلقاً بين العامين 1964 - 1966 وذلك لشلِّ نشاطه الإسلامي والجهادي.

وبعد ضغوط الشارع الإسلامي وتهديده بإقامة الصلاة والاستماع إلى الخطبة في شارع الجمهورية وأمام الجامع المُغلق (جامع الخلفاء)، اضطرت السلطات إلى نقل الشيخ إلى (جامع إسكان غربي بغداد) كإمام فقط، ومنعته من ممارسة دوره كخطيب. وفي عهد الرئيس عبد الرحمن عارف، الذي خلفَ أخاه عبد السلام بعد مصرعه في تحطُّم طائرته بمدينة البصرة عام 1966، قاد الشيخ البدري مظاهرة جماهيرية للاحتجاج على محاضرة لـ(نديم البيطار)، وهو لبناني قومي كان يعيش في كندا، المزمع إلقاؤها في قاعة (جمعية الاقتصاديين) بمنطقة المنصور في بغداد، والذي (البيطار) هرب من الباب الخلفي للقاعة ومعه من أتى به دون أن يُكمل محاضرته، ليوقف البدري على إثر ذلك أيّام عدَّة في (مركز شرطة المنصور)، ثم يُخلى سبيله بسبب الضغط الجماهيري على السلطات في حينها. وهي المظاهرة التي استخدم فيها الشيخ البدري السلاح ربما لأول مرَّة في حياته.

* خطاب التقريب

كان الشيخ البدري من العلماء المقرِّبين بين الطوائف الإسلامية، وتربطه بعلماء الشِّيعة علاقات وطيدة في مسعىً منه لتقريب وجهات النظر فيما بين الشِّيعة والسُّنة؛ ففي بغداد كانت تربطه صلات صداقة ومحبَّة وجهاد مع الشيخ محمَّد مهدي الخالصي 1890 ـ 1963، وكذلك مع الشيخ علي الصغير، إمام (جامع براثا) في بغداد، وعلماء آخرين في مدن عدَّة بالعراق، كما كانت تربطه علاقة حب وتقدير مع المرجع الديني الأعلى، زعيم الحوزة الدينية سابقاً، السيد محسن الحكيم، ومع الشهيد السيد مهدي الحكيم 1935 ـ 1988، والشهيد السيد محمَّد باقر الحكيم 1939 ـ 2003، والشاعر الراحل السيد مصطفى جمال الدين 1927 ـ 1996، والدكتور عدنان البكّاء، وشخصيات شيعية أخرى في النجف وكربلاء المقدستين.

ويُذكر، في هذا السياق، أن البدري كان قد ترأس وفداً من أهل السُّنة وذهب إلى كربلاء والنجف وطلب من علمائها التدخُّل لإيقاف تنفيذ حكم الإعدام في (سيد قطب)، وعندما التقى بزعيم المرجعية الشيعية آنذاك السيد محسن الحكيم أبلغه سماحة الأخير بأنه كان قد أبرق إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر ألا يقدِم على إعدام العُلماء.

وفي إطار جهوده في التقريب بين المذاهب قال الشيخ جلال الصغير، إمام (مسجد براثا) في بغداد بعد سقوط نظام صدّام: أن نظام صدّام استهدف الشهيد البدري كونه شخصية إسلامية نزيهة، وخطيباً مفوَّهاً جريئاً في كلمة الحق، ومتحمساً لنصرة دين الله. لقد تصدّى للحُكم الدكتاتوري بكل شجاعة، وكشف زيف ذاك الحكم وفضحه، متعرِّضاً باليد واللسان لكل قوى الاستبداد والطغيان. وكان الشهيد مسلماً صادقاً يحاور ويجاهد في سبيل التقريب بين أهل السُّنة والشِّيعة. ولعله كان ضحية هذا التقريب من قبل النظام الذي حاول اللعب على مبدأ (فرِّق تسُد)، واضطهاد العراقيين، سُنّة وشيعة وأقليات، وكان قد اُقتيد إلى زنزانات التعذيب بعد أيّام من مشاركته في مؤتمر تقريب بين الشِّيعة والسُّنة استجابة لدعوة السيد محسن الحكيم والمراجع الشيعية في النجف الأشرف الذين استطاعوا أن يقطعوا شوطاً كبيراً لتعزيز التقارب الأخوي الإسلامي الصادق بين السُّنة والشِّيعة، بمعنى أن حضوره كان ملموساً لدى الأوساط الشيعية قبل السُّنية، وأصدق دليل على ذلك هو تأثُّر الشِّيعة وحزنهم عليه عند استشهاده، وبعد سقوط نظام صدام اُحتفي بذكرى استشهاده في مسجد براثا الذي أقام احتفالية كبرى خاصة بمآثره وإنجازاته وسيرته الجهاديَّة وآثاره الثقافية والدينية فهي موضع تقدير واعتزاز.

وبعد نكسة حزيران العام 1967 التحق الشيخ البدري بالمقاومة الفلسطينية دون أن يُعلم عائلته، ووضع وصيته عند زميله الدكتور وجيه زين العابدين، وأوصاه تسليمها إلى أهله عند استشهاده. لكن المجاهدين في فلسطين طلبوا منه العودة إلى العراق، وحملوه أمانة القضية الفلسطينية لنشرها في بلده، وفي بلدان ودول إسلامية وعربية أخرى. وخلال أيام معدودة استطاع البدري أن يُشكِّل وفداً من علماء المسلمين ضمَّ السُّنة والشِّيعة وبعض الشخصيات الثقافية والشعبية للطواف حول العالم الإسلامي من أجل استنفار المسلمين ونقل مشكلة القضية الفلسطينية إلى النطاق الإسلامي تحت عنوان: (من أجل فلسطين/ رحلة الوفد الإسلامي العراقي) من 27 حزيران (يونيو) وحتى 8 آب (أغسطس) 1967، ضمَّت كل من: الدكتور صالح السامرائي، والمحامي داود العطار، والدكتور عدنان البكَّاء من النجف الأشرف، والمهندس عبد الغني شندالة، والشيخ عبد العزيز البدري، والسيد صالح سري والمحامي محمَّد الآلوسي، في رحلة إسلامية ـ إعلامية شملت كل من: إندونيسيا، وماليزيا، والهند، وباكستان، وأفغانستان، وإيران، وتركيا، لإيصال صوت القضية الفلسطينية، ومعاناة الشعب الفلسطيني، وقضية احتلال الأرض قسراً وظلماً في سيناء والجولان والضفة الغربية.

* استشهاده

ظلَّ الشيخ البدري يقارع الحُكّام بالكلمة، وتضاعفت هذه المقارعة بعد مجيء نظام (البكر - صدّام) إلى السلطة في العراق في تموز عام 1968، وكان البدري دائماً يبدأ خطبته بمقدمة اشتهر بها ونصها: «أعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات حكّامنا»، ويختم خطبته قائلاً: «اللهم ارزقنا بدولة كريمة تعزُّ بها الإسلام وأهله، وتذُلُّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا من الدُّعاة إلى طاعتك، والاقتداء إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة وشهادة في سبيلك».

أما عن الكيفية التي تمَّ القبض بها عليه فقال نجله أحمد: بعد مجيء البعثيين إلى الحكم بأيّام لم يرُق لهم تصدِّي الشيخ البدري لما كانوا ينادون به، فوضعوه تحت المراقبة، فأرسل صدّام أفراد عصابته لمراقبة منزلنا، وتحرُّكات والدي، وكان صدّام حينها يرأس (دائرة العلاقات) مع مدير الأمن ناظم كَزار حينها في قصر النهاية، وكان هذا القصر من أكثر الأماكن التي شهدت أشكالاً مروعة من التعذيب والتنكيل بأحرار وشخصيات وطنية في العراق بعد مجيء نظام البكر - صدّام.

وفي مساء أحد الأيّام عاد والدي من المسجد بعد الفراغ من أداء صلاة العشاء بسيارة صديقه عبد الغني شندالة؛ فانقضَّ عليه وعلى زميله أزلام عصابة صدّام الذين كانوا متربّصين بهما في الأزقَّة والشوارع المحيطة بدارنا فاعتقلوهما، وبعد منتصف الليلة نفسها حضروا مرَّة أخرى فقاموا بتفتيش الدار بشكل عشوائي وهمجي، وصادروا كل أشرطة (خطب الجُمعة) المسجلة لديه، كما صادروا مخطوطين لكتابين كان قد أكمل تأليفهما وإعدادهما للطبع، وهما: كتاب (الله الخالد)، و(الإسلام حرب على الاشتراكية والرأسمالية). ويكمل سعد البدري، النجل الثاني للشيخ الشهيد، حديث شقيقه عن استشهاد والده قائلاً: عرفنا فيما بعد أن والدي في إحدى زنزانات (قصر النهاية) سيئ الصيت، وأنه يُستجوب من قبل صدام وناظم كَزار، وذكر لنا أحد الشهود الذين كانوا معه في الزنزانة قائلاً: لم أر في حياتي رجلاً بشجاعته داخل المعتقل، فقد كان يُعذَّب ويفقدُ الوعي، ثمَّ يعودُ إلى وعيه فيعذب مرَّة أخرى وهو يكرِّر ذكر الله، ثم يفقد الوعي تارة أخرى، ويُرسل إلى (مستشفى الرشيد العسكري) لإيقاظه من غيبوبته، ثمَّ يُعاد إلى التعذيب، وهكذا وهو يذكر اسم الله، ويقرأ آيات من الذكر الحكيم، ويندمج بأدعية مستجابة لنيل الشهادة فينالها في 26/ 6/ 1969 وهو تحت التعذيب. ومن ثم نُقل إلى مستشفى الرشيد العسكري حيث تم تغسيله وتكفينه لتغطية جريمتهم، ووضعوه في تابوت، ورموا به أمام دارنا، وهربَ الأفراد الذين جاؤوا به خوفاً من أنْ ينالهم غضب الناس المحبين للشهيد وانتقامهم. وزوَّروا شهادة الوفاة، زاعمين أنَّ سببها هبوط عمل كليتيه، وتوقُّف الدورة الدمويَّة، وذلك خوفاً من الهيجان الجماهيري؛ نظراً لما كان يملكه الشهيد من شعبية وجماهيرية في الشارع العراقي. وكانت النية تتجه في دفن الشهيد قرب والده في (مقبرة سامراء)، حيث كان شيوخ عشيرته في استقبال جثمانه، فخشي النظام من الانتفاضة الجماهيرية في سامراء التي كانت تغلي من هول فقدان عالم إسلامي مُجاهد بهذه الطريقة البشعة، إلاّ أنَّ قوات الأمن كانت قد طوَّقت المدينة والشوارع المحيطة في بغداد فمنعوا خروج النعش إلى سامراء، فتمَّ دفنه قرب شيخه أمجد الزهاوي في مقبرة أبو حنيفة النعمان بالأعظمية في بغداد بعد أن تمَّ كشف جثة الشهيد أمام المُشيعين من قبل أخيه الدَّاعية (محمَّد توفيق البدري) في ساحة جامع الإمام أبو حنيفة النعمان ليرى الجميع آثار التعذيب والدماء تنزف منه ليطلع المشيِّعون على وحشية النظام وهم يرددون: الله أكبر والموت للكفرة، الأمر الذي أدى إلى زج العديد منهم في السجون حينها.

* النزعة التوفيقية

كانت الرؤى الإصلاحية التحريفية والتجزيئية تشغل بال البدري كثيراً وهي في اندلاق وتموضع مستمرين في مجتمعات الأمة لتستبدل الرؤية الإصلاحية الإٍسلامية الشاملة بخطابات وأطر إصلاحية فرعية مغتربة عن الأمة وخصائصها وعن طبيعة تجربتها التاريخية. وكان البدري قد رفضَ جذرياً تلك النماذج الإصلاحية القادمة من الخارج لأنها لا تقوم على أُسس مستمدَّة من واقع الأمة ومن عقيدتها الإسلامية، فلا يعتقد البدري بـ«إمكانية إصلاح وتنظيم أمور الأمة وفق نظام مستورد لا ينبثق عن عقيدتها»[25]. وكان التركيز على البُعد الاقتصادي بوصفه خياراً إصلاحياً منقذاً لأحوال الأمة المتردِّية، ذاك الخيار الذي رآه بعض الإصلاحيين أنه المَخرج لحل مشكلات المجتمع الإسلامي، وهو خيار طغى على جانب كبير من الوعي النخبوي في العراق، وذلك عندما ردَّد الاشتراكيون مراراً أن مشكلة المجتمع هي الاقتصاد، وأن الحل إنما يكمن في اللجوء إلى تطبيق الاقتصاديات الاشتراكية.

هذه الرؤية الإصلاحية التجزيئية لم تكن تروق للشيخ البدري وفق مرجعيته الإسلامية الشاملة، فقد «خالف أن تكون الناحية الاقتصادية وحدها هي الأساس، وأنها العُنصر المهم في توفير سعادة الأمة وإيجاد الرُّقي لها [إصلاحها]، وإنما يكون بمعالجة جميع نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية، وقبل ذلك الروحية، معالجة مبنية ومنبثقة عن عقيدة صحيحة هي عقيدة الإسلام»[26].

لقد فصل البدري بين مفهومين مركزيين في خطابه النقدي؛ فهو ميَّز بين مفهومي (العقيدة) و(النظام)، فلكل أمة من أمم الأرض «عقيدة هي قاعدتها الفكرية، تبني عليها أفكار حياتها، وعلى أساس هذه العقيدة تعالج كل مشكلاتها، وتُحل على أُسسها قضاياها، وتسنُّ بموجبها أنظمتها وقوانينها، وتحدِّد بها وجهة نظرها في الحياة، وتعيِّن غايتها في الدنيا فقط. وتلك العقيدة هي الضمانة الحقيقية لحسن تطبيق الأنظمة في المجتمع، وهي الحارس الأمين من الإساءة في التطبيق والتنفيذ، كما هي الدافع الذاتي الذي يوجِد الإخلاص الخالص، والولاء الصادق لكل الأنظمة ومعالجة المشكلات»[27].

لقد عرَّف البدري العقيدة بأنها: «النظرة الشاملة عن الوجود ـ الكون والإنسان والحياة ـ وإعطاء فكرة عمّا قبل الحياة الدنيا، وعمّا بعدها، وعن وجود العلاقة بينهما»[28]. وعندما أكَّد البدري أن العقيدة هي المولِّدة للنظام، وأن النظام هو نتاج للعقيدة التي هي الضمانة الحقيقية، والحارس الأمين، والدافع الذاتي لأي نظام، فإنما أراد أن يؤصِّل التلازم بين المفهومين من خلال جملة من الخصائص التي إذا ما توافرت عليها العقيدة سيتوافر عليها النظام لاكتساب هذا الأخير تميُّز المطابقة Identification مع العقيدة مثل: صحة وصلاح العقيدة أو فسادها، فـ«بقدر صحَّة وصلاح العقيدة تكون صحَّة وصلاح النظام المنبثق عنها، أما إذا كانت العقيدة فاسدة أو خاطئة فإن ما انبثقَ عنها من أنظمة، وما بُني عليها من أفكار، إنما تكون فاسدة وخاطئة»[29].

هذا النزوع نحو التطابق الهويّاتي بين النظام والعقيدة، وجعل الثانية مرجعية للأول، وطرح معايير الصدق والفساد أوالصلاح واللاصلاح، أراد به البدري وضع العقائد الوضعية التي تسود العالم على محكِّ النظر والمعايرة النقدية. ومثلما حدَّد محمَّد باقر الصدر النظم السائدة، كذلك حدَّد البدري النظم السائدة في العالم أيضاً، وهي: الرأسمالية الغربية، والاشتراكية العلمية، وأضاف مفهوماً تمثيليًّا آخر هو الاشتراكية المحلية في كتابه الآنف الذكر، تحت مسمى (الاشتراكيون المحلِّيون)[30].

وبعد أن عرَّف البدري مفهوم العقيدة، كما أوردناه فوق، فإنه ساءلَ تلك العقائد العَلمانية وفق منظومة معيارية تضمَّنت ثلاثة أسئلة، هي: هل لهذا الوجود ـ الكون والإنسان والحياة ـ خالق؟ هل هذا الوجود له علاقة بموجِده وخالقه؟ هل الإنسان مقيَّد في هذه الدُّنيا بهذه العلاقة؟

وفي ضوء هذه الأسئلة اعتقدَ البدري أن الرأسماليين الغربيين يؤمنون بوجود خالق للوجود، لكنهم يُبعدون الدين عن الحياة العامة، وعن الدولة والاقتصاد والسياسة. أما الاشتراكيون العلميون، ومنهم الشيوعيون، فقد نفوا وجود خالق للوجود أصلاً، واستتبع ذلك نفي وجود أية علاقة بين الوجود وخالقه، بل هم ناكرون لوجود الخالق العظيم ولا يؤمنون إلا بالمادة فقط. أما دُعاة الاشتراكية، وهم الاشتراكيون المحلِّيون كما يسميهم البدري، الذين آمنوا بها كنظام اقتصادي فقط، فإن جوابهم لهذه الأسئلة كجواب الرأسماليين، فإن كانوا غير مسلمين، ويقصد منهم المسيحيين واليهود، كان إيمانهم بهذا النظام مما تجيزه عقيدتهم، وإن زعموا أنهم مُسلمون فهم والرأسماليون متفقون في العقيدة ما داموا آمنوا بنظام غير منبثق عن العقيدة الإسلامية التي لا تُجيز فصل الدين عن الدولة.

بلا أدنى شك، كان البدري قد عدَّ الأنظمة العَلمانية التي ناقدها، كالرأسمالية والاشتراكية والديموقراطية فيما بعد، بأنها أنظمة إصلاحية، واعتقدَ، بداهةً، أن تلك الأنظمة كانت قد مرَّت بتحوّلات كثيرة تعرَّضت خلالها إلى كثير من التصدُّع، بل إلى الانهيار في ظل هشاشتها البنائية، وعدم تقبُّل الواقع التاريخي لها في ضوء حراك معطياته، الأمر الذي جعلها تنقلب على ذاتها في مراحل وأماكن مختلفة.

وفي هذا المنحى توقَّف البدري عند التحوُّل الذي طرأ على بعض تلك الأنظمة الإصلاحية العَلمانية عندما تحوَّلت من النظام الرأسمالي إلى النظام الاشتراكي، وقال في هذا الصدد: حين ظهر فساد الرأسمالية لدى أهلها، قام هؤلاء بمحاولةٍ للإصلاح، ميممين وجوههم شطرَ واقعهم الاقتصادي، وذلك بتعديل النظام الرأسمالي، أو قُل: ترقيعه، أو قُل: بتغيير هذا النظام مع الاحتفاظ بعقيدته، وأساسها فصل الدين عن الحياة، وبالتالي فصل الدين عن الدولة والحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع. وكانت تلك المحاولة متجهة نحو الاشتراكية التي أخذت تُداعب بعض أخيلة الناس، حتى استهوت عقولهم؛ فكثُر الدّاعون إليها، وجمهرتهم لا يدرك حقيقتها. وكان الإخفاق والفشل قد كُتب عليها لأن أصحابها ما زالوا مستعبدينَ فكرياً وروحياً لغيرهم، فكانت محاولتهم في الحقيقة ترقيعية لنظام فاسد، أو استبدال نظام فاسد بآخر مثله، لأن الاشتراكية نظام اقتصادي له عقيدته، ولن تتحقَّق ثماره بأخذه وحده وترك عقيدته، أي فصل عقيدته عن نظامه[31].

* الاشتراكيون المحلِّيون

في معرض المقارنة أو المقاربة بين تجربتي الصدر والبدري النقديتين، كنتُ قد ذكرتُ أن الشيخ البدري انصرف إلى مناقشة عدد من الرؤى العربية التي تسعى إلى تبيئة الاشتراكية في المجتمع العراقي والعربي بوصفها خياراً إصلاحياً للخروج من مآزق تقليدية كثيرة وكبيرة تعيشها الأمة الإسلامية والعربية. على أن هذه الإشكالية لا تبدو أنها مُبهمة لتقف عند حدود مصطلح الاشتراكية فحسب، إنما هي إشكالية غزو ثقافي مُبرمج يجتاح الأمة من كل حدب وصوب، فمن وجهة نظر الشيخ البدري هناك عرب «قاموا بتأويل النصوص الشرعية بقصد التوفيق بينها وتلك المصطلحات التي استهوت العقول من دون أن يدركوا واقعها، وحقيقة أمرها، وخطورة ما تحملُ من مفاهيم وأفكار مناقضة للإسلام، بل هادمة له، فاستعملوها تارة بنصها وتقيدوا بحرفيتها، وأخرى أردفوها بوصفٍ يُنبئ عن إسلاميتها»[32]. وكان البدري قد وصفَ بعض أهل تلك الرؤى بأنهم اشتراكيون محلِّيون، وأن اشتراكيتهم هي اشتراكية محلية، بما يعني أنهم أنشؤوا، وعلى نحو توفيقي، نظام رؤية علماني لإصلاح الحال في المجتمع.

وفي موقف نقدي عام عن الكيفية التي صرَّف خلالها دُعاة الاشتراكية المحلية تبريراتهم تلك، قال البدري: حين علمَ محاولو الإصلاح أن اشتراكيتهم التي رقَّعوا بها رأسماليتهم أو بدَّلوا نظامهم السابق بها، سوف تصطدمُ بعقيدة الأمة الإسلامية وبأحكام دينها، وأنها سوف تحرِّك مشاعرها ضدَّهم؛ إذ الأمة بمجموعها ما زالت تحب الإسلام حباً، وتقيم عبادته، وتقرُّ بعقيدته، قالوا: إن اشتراكيتهم التي يدعون إليها هي غير الاشتراكية التي هي المرحلة الماقبل ـ شيوعية كما يعتقد الشيوعيون، وأنهم لا يأخذون عقيدتها ولا يعترفون بها، لذلك أسموها ووصفوها بـ(الاشتراكية العربية)، ووصفوها بـ(العلمية) تارة وبـ(التقدمية) تارة أخرى، وكأن العرب لهم عقيدة ونظام غير عقيدة الإسلام ونظام الإسلام!! وهناك بعضهم ممَّن أسموها بـ(اشتراكية عربية)، ولكنهم وصفوها بأنها نابعة من الواقع العربي الذي يقوم على دين الإسلام[33]. ويصف البدري هذا النمط من التبيئة المحلية للاشتراكية بأنه «رداء لبسه أصحاب الأهواء، وشعار حمله أهل الدعوات الباطلة»[34]. ومن جهة معرفية أشار البدري إلى إشكالية تعريف الاشتراكية، فهذا المفهوم هو عُرضة أبداً إلى الاختلاف في تحديد مدلوله لدى أهله ودعاته وطلابه، وهو الإشكال الدلالي الذي انعكس على فهم الاشتراكيين المحليين أنفسهم للاشتراكية. وفي هذا الصدد تناول البدري إشكالية الدين لدى الفاهمة العربية التي قاربت بين الاشتراكية والإسلام، ووضع تحت خيمة الاشتراكيين العرب أو المحليين ميشيل عفلق (1910 ـ 1988) في كتابه (في سبيل البعث) والذي يُعدُّ البدري أحد الإسلاميين العراقيين القلائل الذين تناولوا الأفكار العَلمانية الواردة فيه بالنقد على نحو مبكِّر في مطلع الستينات حيث قال: ومن «دُعاة الاشتراكية العربية من يؤمن بالعَلمانية ويُبعد عنها الدين، لأن الدين في نظرهم ليست له علاقة بالاشتراكية على اعتبار أنها نظام اقتصادي، ونظرتهم إلى الدين لا تخرج عن تلك النظرتين»[35]. كذلك عبد الرزاق شبيب في كتابه (الاشتراكية العربية) الذي قال البدري بشأنه: ومنهم «من يحمل دين الإسلام مصدراً للاشتراكية، مفسِّراً بعض النصوص الشرعية لصالح الاشتراكية تفسيراً لا تحتمله النصوص»[36]. وبدا للبدري أن هذا النمط الثاني من القراءات أكثر جناية من غيره على الإسلام، فمع «اعتراف البعض بالإسلام وجعله مصدراً لاشتراكيته، فإنه سمّاها عربية، وهناك من القاصرين في الفهم أو الإيمان من سمّى هذا الاتجاه باشتراكية الإسلام أو بالاشتراكية الإسلامية، ونسي هذا الصنف الأخير أو تناسى أن الإسلام العظيم هو نظام متميِّز يجلُّ أن يُوصف باشتراكية أو رأسمالية أو ديموقراطية أو غيرها من أنظمة الكفر»[37]. واللافت في تحليل البدري النقدي هنا أنه وقفَ عند أسباب صياغة مفهوم الاشتراكية الإسلامية لدى دعاته العرب أو المسلمين، وكانت الأسباب من منظوره حركية إغوائية أكثر منها علمية أو موضوعية، وفي هذا الصدد قال الشيخ الراحل: لقد «وقف بعض الغيارى على إسلامهم، سواء أكانوا من العلماء أم من غيرهم، حين رأوا اتجاه جمهرة من الأمة نحو الاشتراكية، فقالوا بالاشتراكية الإسلامية؛ محاولة منهم لإبعاد التُهمة عن وصف الإسلام بالجمود، وعدم مسايرته روح العصر»[38]، إلا أن هذه النزعة التي تبدو تجديدية لدى هؤلاء حملت إغواءها الإيديولوجي «بقصد اتخاذ الإسلام محور تفكير الناس، وتقريبه إلى أذهانهم، ولكن كانت هذه المحاولة يائسة ومخفقة في آن واحد، حيثُ تركَّزت الاشتراكية في الأذهان، وأُبعد عنها الإسلام، واتخذ أعداءُ الإسلام، من قولهم هذا، وسيلة لتحقيق ما يُريدون؛ فضربوا الإسلام بسهام أهله ورماح محبيه!!»[39].

في سياق نقد هذا التوظيف التلفيقي المؤدلج للاشتراكية في الإسلام، واصل البدري مناقشة رؤى عَلمانية عربية أخرى عندما عقدَ فصلاً في كتابه المذكور ليكشف عن التناقض التشريعي بين الإسلام والاشتراكية لدى عدد من المفكرين العرب مثل سلامة موسى في كتابه (ما هي الاشتراكية العربية؟)، خصوصاً في مسائل الملكية والوراثة وغيرها مما ناقشه الاشتراكيون العرب في دعواتهم التبييئية لخطابها العَلماني في المجتمع العربي. ورؤية مصطفى السباعي في كتابه (اشتراكية الإسلام) الذي أثار جدلاً واسعاً في أوساط الإسلاميين العرب عند صدوره ما تعلق بمسائل الملكية والإرث والتأميم وغيرها من الموضوعات والإشكاليات التي أثارها الاشتراكيون العرب أو المحليون في بحر منتصف القرن العشرين.

* الديموقراطية والإسلام

لقد سعى البدري بكل ما له من حجَّة منطقية، ورواية تاريخية، وآيات قرآنية، وأحاديث نبوية، وآراء نقدية إسلامية، سعى إلى دحض فكرة الاشتراكية بوصفها نظاماً عَلمانياً له جذور في العقيدة الإسلامية. وفي ظل هذا التطلُّع الإسلامي، النقدي والجذري، لم يكن مفهوم الاشتراكية بوصفه مفهوماً عَلمانياً هو الوحيد الذي استأثر بنقديَّة البدري إنما طال أيضاً مفاهيم ذات بطانة عَلمانية مثل مفهوم الديموقراطية الذي هو الآخر وجد تبيئةً له من جانب عدد من المفكرين العَلمانيين العرب بل والمسلمين عندما قاربوا بينه والإسلام. فبعد أن عرَّف البدري الديموقراطية بأنها: حكم الشعب نفسه لنفسه، كما هو في التعريف الغربي الذي ظهر فيه، اعتقدَ البدري «أن هذا المعنى مخالف لأحكام الإسلام، ومناقض له، بل ليس له أي واقع حتى عند الديموقراطيين أنفسهم»[40]، ونحنُ هنا في الواقع إزاء نقد مزدوج: نقد الفكرة الديموقراطية مقارنة بالعقيدة والنظام الإسلاميين، ونقد الممارسة الديموقراطية في مجتمعاتها التي ولدت فيها.

ما يتعلق بوجه النقد الأول فإن البدري بوصفه مفكِّراً إسلامياً سُني المذهب كان يدعو إلى إحلال أنموذج الخلافة الإسلامية في الأمة، اعتقدَ بأن «السلطة ليست بيد الشعب إنما بيد الله ورسوله، ومصدر ذلك الكتاب الكريم والسُّنّة المطهَّرة، وما استند عليهما، وأرشد إليهما. وليس للشعب، وبعبارة أدق، للأمة أن تخرج على نصٍّ من نصوص الإسلام ولو اجتمعت كلها على ذلك. وعلى الأمة، وبعبارة أصح، على رئيس الدولة، وهو من ينوب عن الأمة في الحكم والسلطان إنابة حصل عليها عن طريق الرضا والبيعة، أن يأخذَ أنظمة الحياة كلها من تلك المصادر الكريمة؛ إما باجتهاد منه، إنْ كان قادراً عليه، أو باتباع مجتهد من المجتهدين. وبهذا كانت السلطة التشريعية بيد الله ورسوله لا بيد الشعب، وكان مصدرها الشرع لا الشعب، وكان تبنِّي أحكام الأنظمة والقوانين بيد رئيس الدولة لا بيد الشعب، ولنوّاب الأمة، وهم أعضاء مجلس الشورى، أن يعترضوا على ما تبنّى رئيس الدولة إذا كان ما تبنّاهُ يخالف أحكام الشرع»[41].

ومن ثمَّ استرسل البدري في نقد مفهوم الديموقراطية من حيث مناقشة محدوديَّة العقل البشري في سنِّ القوانين والشرائع، بل طال نقده حتى أعضاء مجلس الأمة أو الشورى؛ فهؤلاء أفراد قلائل قد لا يمثلون الأمة بشيء سوى أنفسهم، وما يصدر عنهم لا يطال كل إرادة الأمة أو الشعب، فالمجلس «لا يستطيع أن يضع نظاماً لتعذُّر اجتماع عقول جميع النوّاب على نظام واحد»[42].

والواضح أن المقدمة التي انطلق منها البدري هنا هي: أن الشرع وليس العقل هو الكافل والضامن بتقديم الحقيقة إلى الأمة، فهو «الذي يقرِّر المصلحة ويحدِّد المفسدة، لأن الشرع من الله تعالى، والله وحدهُ المحيط بالإنسان وحاجات غرائزه ومتطلبات حياته»[43]. والأمر ذاته ينطبق على مفهوم السلطة القضائية، فهي من بنات الشرع وليست من الشعب، لكن البدري يجعلها بيد الدولة، وبالضرورة أن الدولة التي يطمح إلى تحقيقها البدري هي دولة الخلافة وليست الدولة القومية أو الوطنية أو ما أشبه، ولذلك فإن «السلطة القضائية بيد الدولة لا بيد الشعب، ولو وضعت بيد الشعب لفسدت، والقُضاة يحكمون باسم الشرع لا باسم الشعب، ومصدر حكمهم الشرع لا الشعب، والسلطة التنفيذية بيد الحاكم يعاونه من شاء من الرجال ولا يوجد بيد الشعب إلاّ اختيار الحاكم الذي يحكمه، لذلك كانت كلمة الشعب مصدر السُّلطات، وهي القاعدة الأساسية للديموقراطية، لفظاً إنشائياً لا واقع له في الحياة»[44].

وهذا هو الوجه الثاني من النقد الذي يتعلَّق بنقد الممارسة الديموقراطية. ولكن إذا كانت السلطة القضائية نابعة من الشرع، فعلى نحو منظوميٍّ اعتبر البدري السيادة «للشرع لا للأمة، ولا للحاكم»[45].

ولا يكاد يختلف الأمر بالنسبة إلى مبدأ الحريات العامة التي تستند إليها الديموقراطيات الغربية، فبإزاء ذلك ذهب البدري إلى القول: «إنما جعل الإسلام للفرد حقوقاً لا حريات يتمتَّع بها، وهي مضمونة له في نظام الإسلام، ومحدّدة له، ولا يجوز له أن يتخطّاها، لذا كان في الإسلام حقوق لا حريات وكان معنى الحرية فيه ألا يكون الإنسان عبداً لإنسان آخر»[46].

الإسلام وحده إذن، من دون اشتراكية ولا ديموقراطية، هو الخيار الذي رسمته استراتيجية الشيخ البدري الفكرية في نقد الخطابات العَلمانية كما هي في طبيعتها الأصلية. وفي نقد الخطابات التبييئية العربية والإسلامية التي نضَّدها عدد من المُفكرين العرب، مسلمين ومسيحيين، للتوفيق والتلفيق بين هذه المفاهيم العَلمانية والعقيدة الإسلامية. وكان أملنا أن نطلع على كتاب آخر للشيخ البدري خصَّصه في نقد الخطابين العَلمانيين الاشتراكي والرأسمالي ذلك هو كتاب: (الإسلام: حربٌ على الاشتراكية والرأسمالية)، لكن مخطوط الكتاب تمَّت مصادرته من قبل جلاوزة صدّام عام 1969 خلال تفتيش بيت الشيخ البدري بعد اعتقاله الأخير بساعات.

لقد رحل الشيخ البدري شهيداً بسبب أفكاره الثورية، وبسبب نقده لجملة من الأفكار العَلمانية الإصلاحية المؤدلجة التي تبنّاها عدد من العرب والعراقيين في البلاد من الذين صرَّفوا القومية والاشتراكية والديموقراطية تصريفاً توفيقياً وتلفيقياً مزيّفاً أشهر البدري سيفه النقدي المؤسَّس على وعي إسلامي ثوري وانقلابي بوجه هذا التصريف وبوجوههم عندما صرَّف خطابه بكل ما يملك من شجاعة المفكِّر، ووضوح الفكرة، وأصالة العمل الإسلامي الثوري، حتى آخر لحظة في حياته التي ودّعها شهيداً من أجل الدين والعقيدة والحرية والإصلاح.

 

 

 



([1]) كاتب من العراق (rasmad8@hotmail.com).

([2])في شأن مشروع محمَّد باقر الصدر في نقد الخطابات الإصلاحية، انظر دراستنا بعنوان (محمَّد باقر الصدر والمطارحات الفكرية في عصره)، مجلة (الكلمة)، عدد (49)، بيروت، خريف 2006.

[3] عبد العزيز البدري: حكم الإسلام في الاشتراكية، المكتبة العلمية، المدينة المنورة، ط 3، 1966.

[4] محمَّد حسين فضل الله: مقدمة (رسالتنا) للسيد الصدر، ص 10، الدار الإسلامية، بيروت 1981. عن ظروف نشأة مجلة (الأضواء) كتب صلاح الخرسان قائلاً: كان أصل مشروع المجلة وبدايته عندما تقدَّم كل من السيد مرتضى العسكري والشهيد السيد مهدي الحكيم بالفكرة إلى المرجع الديني الأعلى السيد محسن الحكيم الذي أعطى بدوره توجيهاته بإصدارها من قبل (جماعة العلماء) وباسمها. وكان السيد الصدر أساساً لتلك الفكرة. وبعد ذلك تشكَّلت (لجنة توجيهية) للإشراف على المجلة، ضمَّت كل من: السيد محمَّد حسين فضل الله، والشيخ عبد الهادي الفضلي، والشيخ محمَّد مهدي شمس الدين، والشيخ محمَّد رضا الجعفري، والسيد محمَّد باقر الحكيم (1939 ـ 2003). وكان السيد الصدر قد تولى شخصياً كتابة افتتاحية المجلة باسم (جماعة العلماء) وتحت عنوان (رسالتنا)، فتألق نجم (الأضواء)، وأزداد الطلب على أعدادها الصادرة بسبب وجود تلك الأقلام التي كانت تطرح فكر حزب الدَّعوة الإسلامية الذي طغى على ذوق المجلة، حتى يمكن القول: إن تلك المجلة كانت لساناً ناطقاً للحزب. وذلك يعود إلى أن أكثر العلماء الذين كتبوا فيها كانوا أعضاء في الحزب. صلاح الخرسان: حزب الدَّعوة الإسلامية: حقائق ووثائق، ص 102. المؤسسة العربية للدراسات والبحوث الاستراتيجية، بيروت 1999.

[5] محمَّد باقر الصدر: رسالتنا، ص 101 و 102، مصدر سابق.

[6] عبد العزيز البدري: الإسلام بين العلماء والحكّام، منشورات المكتبة العلمية، المدينة المنوَّرة، ط1، 1966. وفي كتابه (حكم الإسلام في الاشتراكية) كشف البدري كثيراً عن رؤيته السياسية إلى مسألة الخلافة والحكم، فقد قال بشأن الحاكم: «تحكيم الشرع فيمن ينوب عن الأمة في تولي الحكم والسلطان، والإسلام نصَّ على أن هذا النائب يكون رجلاً لا امرأة، مسلماً لا غير مسلم، ونائباً عن الأمة في تنفيذ الإسلام، ولا تستطيع الأمة أن تنزعَ منه الحكم أو تُبطل هذه النيابة متى أرادت ما دام قائماً بشؤونها، مطبِّقاً لأحكام الإسلام، محسناً في هذا التطبيق، فقد يكون نائباً عنها، مستمراً في الحكم مدَّة حياته، إن أحسن التطبيق وقام بالرعاية، وقد تُنزع منه صفة الحكم بعد تولِّيه لها بأيّام معدودة، إن أساء وظلم، أو عجز عن رعايتها. وفي هذا تثبيتٌ لاستقرار منهج الدولة، وضمانة مؤكَّدة لتحقيق مصالحها». ص 152.

[7] البدري: الإسلام بين العلماء والحكّام، ص 244 ـ 245.

[8] عادل رؤوف: العمل الإسلامي في العراق بين المرجعية والحزبية، ص 416، المركز العراقي للإعلام والدراسات، ط 2 دمشق 2003. وفي شأن أحزاب وحركات العمل الإسلامي حتى ثورة العشرين الوطنية انظر كتابنا (فقهاء وأمّة: جذور العمل الإسلامي في العراق الحديث)، قيد النشر.

[9] سليم الحسني: دور علماء الشِّيعة في مواجهة الاستعمار، ص 146 ـ 147، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، قم 1994.

[10] عبد الرزاق الحسني: ثورة النجف، ص 27.

[11] حسن الأسدي: ثورة النجف على الإنجليز، ص 169. دار الحرية للطباعة، بغداد 1975. وللمزيد عن العمل الحركي لهذه الجمعية انظر الفصل الخاص بها في كتاب سليم الحسني: المصدر السابق، ص 143 ـ 149.

[12] عبد الجبار حسن الجبوري: الأحزاب والجمعيات السياسية في القطر العراقي، ص 199 ـ 200. نقلاً عن هادي حسن عليوي: الأحزاب السياسية السرية والعلنية في العراق، ص 91، رياض الريس للكتب والنشر، لندن 2001.

[13] حول حياة الشيخ الصوّاف ونشاطه الجهادي انظر: (الدَّاعية المجاهد محمَّد محمود الصوّاف)، انظر دراستنا في جريدة (الاتحاد) الظبيانية ـ الإمارات بعنوان: (أصوليات العمل الإسلامي في العراق الحديث)، أربع حلقات، ابتداء من 10 يناير 2006. وكذلك انظر موقع (www.Ikhwan-jor.org) الإلكتروني.

[14] مصطفى عاشور: الصوّاف وفن صناعة الرجال، موقع (إسلام أون لاين).

[15] حسن شبَّر: تاريخ العراق السياسي المعاصر، الجزء الأول (العمل الحزبي في العراق 1908 ـ 1958)، ص 252، دار التراث العربي، بيروت ط 1، 1989.

[16] جريدة (لواء الاستقلال)، عدد 29/ 6/ 1954.

[17] مصطفى عاشور: المصدر السابق. للمزيد حول نصوص افتتاحيات أعداد (الجريدة) السبعة انظر: محمَّد محمود الصواف: صفحات من تاريخ الدَّعوة الإسلامية في العراق، ص 173 وما بعدها، دار الاعتصام، القاهرة 1984.

[18] انظر مثلاً موقف (جمعية الأخت المسلمة) من الشيوعية والاشتراكية في رسالة مؤرخة في 21/ 11/ 1962 بعثتها الشيخة نهال الزهاوي إلى البدري تعقيباً على كتابه (حكم الإسلام في الاشتراكية)، منشورة في ص 27 - 28 من الكتاب، الطبعة الثالثة 1966.

[19] هادي حسن عليوي: المصدر السابق، ص 92.

[20] حسن شبَّر: المصدر السابق، ص 253.

[21] حسن شبَّر: المصدر السابق، ص 254.

[22] هادي حسن عليوي: المصدر السابق، ص 148.

[23] مجلة (النور)، لندن، العدد (154) 24/ 11/ 2004.

[24] كان البدري يعود إلى الشيخ أمجد الزهاوي في كثير من المسائل الفقهية. وتجدر الإشارة إلى أن موقف الزهاوي من الاشتراكية كان موقفاً نقدياً صريحاً بحيث كان أحد مرجعيات البدري الفقهية والفكرية في مشروعه النقدي. أما موقف الشيخ الزهاوي فقد تمثل في أحد توضيحاته عندما كتب إلى البدري قائلاً: «إن الاشتراكية بمعناها الحقيقي تجعل الناس شركاء في كل شيء فلا توجد عندئذ ملكية، وهذا مضاد لصراحة ما ورد به الشرع الشريف، وعلم من الدين بالضرورة فيكون القول به مدخلاً إلى المروق من الإسلام، أي يؤدي إلى المروق من الإسلام، أما إذا اعتقدَ مسلم بصحة هذا القول، وأصرَّ عليه بعد أن تبيَّن مخالفته للأحكام الشرعية، فيكون كُفراً محضاً، وقائلهُ مارقاً من الدين بلا شك، وتقوُّلاً على الإسلام بالباطل». النص لدى البدري: حكم الإسلام في الاشتراكية، ص 162 ـ 163.

[25] البدري: حكم الإسلام في الاشتراكية، ص 42. قدَّم البدري أربع حجج في عدم شرعية استيراد وتبيئة الأنظمة الفكرية أو الاقتصادية المستوردة عن ثقافات وحضارات وأديان وضعية غير الإسلامية، هي:

أولاً: إن أنظمة تلك الأمة ومعالجاتها، حتى وإن فرضنا صلاحها، لا تنتج إنتاجاً حسناً يضمن لها السعادة المرجوَّة، والرُّقي المنشود، لأنها لم تنبثق عن عقيدة المسلمين، وحينئذ تفقد الدافع الذاتي، أو ما نسميه نحنُ الوازع الروحي، لحراسة تلك الأنظمة وحسن تطبيقها في المجتمع، وبالتالي يفقد الولاء الصادق والإخلاص الخالص لكافة المعالجات والحلول فتقع عندئذ الإساءة في التطبيق، والتحايل في التنفيذ.

ثانياً: إن الأنظمة المستوردة وحلولها للمشكلات، مهما كانت وأياً كان مصدرها، فإنها لا بدَّ أن تكون مناقضة كلياً أو جزئياً للأحكام الشرعية المنبثقة عن العقيدة الإسلامية، حيثُ إن الواقع أثبت التناقض بين كليّات أو جزئيّات الأنظمة المنبثقة عن العقائد كلها.

ثالثاً: العقيدة الإسلامية هي قاعدة أساسية انبثقت عنها جميع أنظمة الحياة واستنبطت منها جميع حلول المشكلات، وهذه الأنظمة وحلولها شرعية، مستنبطة وتُستنبط من الكتاب الكريم والسُّنة المطهَّرة، وهما أساس العقيدة، كما هي مستنبطة وتُستنبط من الأدلة الأخرى المستندة عليهما والمرشدة إليهما، وعلى المؤمنين بهذه العقيدة أن يؤمنوا فقط بما انبثق عنها من أنظمة، وما اُستخرجَ منها من معالجات وحلول ليصبح إيمانهم بها، ويكمل معتقدهم، ويُقبل إسلامهم.

رابعاً: إن العقيدة الإسلامية تفرض على معتنقيها أن يرفضوا أي نظام آخر غير أنظمتها مهما اشتدَّت مشابهته لأنظمتها، لأن قبول معتقدي هذه العقيدة لذلك النظام هو تسليم بهزيمة أنظمة عقيدتهم، وارتياب في صلاحيتها، وطعن بأنظمتها، ووسيلة لإخراجهم عن عقيدتهم، وبالتالي قبول لعقيدة ذلك النظام وذلك كفرٌ بواح. البدري: المصدر السابق نفسه، ص 51 ـ 54.

[26] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 41.

[27] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 43.

[28] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 45.

[29] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 45.

[30] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 48.

[31] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 57 ـ 59.

[32] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 133 ـ 134.

[33] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 60.

[34] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 61.

[35] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 62. وانظر: ميشيل عفلق: في (سبيل البعث)، ص 165. لم يذكر البدري دار النشر ولا سنة الطبعة.

[36] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 62. وانظر عبد الرزاق شبيب: (الاشتراكية العربية)، ص 13. لم يذكر البدري دار النشر ولا سنة الطبع.

[37] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 63.

[38] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 64.

[39] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 64.

[40] البدري: المصدر السابق نفسه، 147.

[41] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 147، 148، 149.

[42] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 150.

[43] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 151.

[44] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 151 ـ 152.

[45] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 152.

[46] البدري: المصدر السابق نفسه، ص 155.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة