تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

تجليات العولمة الثقافية والسياسية في شعر محمود درويش

محمد الخباز

 

[1]

الكتاب: تجليات العولمة الثقافية والسياسية في شعر محمود درويش.. مقاربة حضارية أدبية.. 1995 - 2004

المؤلف: فؤاد نصر الله.

عدد الصفحات: 340 صفحة من القطع الوزيري.

الناشر: مؤسسة الانتشار العربي - بيروت.

سنة النشر: 2007م.

 

يقول الغذامي في مقدمة الكتاب: إن نصر الله في كتابه هذا «يدخل إلى منطقة حرجة ليس في كثرة مادتها فحسب، ولا في كثرة المقولات النظرية والنقدية حولها فحسب، ولا في تشتت منازعها فحسب، بل لهذا كله ولأكثر منه وأخطر، حيث إن سؤال العولمة والثقافة مع سؤال الشعر وسؤال محمود درويش هي من صميم الأسئلة البحثية التي يجب طرحها إن لم تطرح في الدراسات فإنها تطرح نفسها إعلاميًّا وسياسيًّا ولا تدع أحداً ينساها، إنها أسئلة المرحلة ولغة كل من لا لغة له وهي تحديات ثقافية واجتماعية لكل شخص، أي أنها حفيف المرحلة واصفة اللحظة»[2].

العولمة والشعر عالمان معرفيان، يأخذان من الواقع ويعطيانه، لا يمكن فصل الواقع عنهما إلا في غرفة المختبر، أما وجودهما الحقيقي فهما لا يوجدان منفصلان عن الواقع. به وجودهما. به كينونتهما. به هويتهما خصوصاً في زمنٍ تمسكه من عنقه أسئلة الهوية وترجه بيديها إشكالات الوجود كما يشير الغذامي.

الكتاب هذا يحاول أن يسلط الضوء على المنطقة المشتركة بين هذين العالمين المعرفيين: العولمة والشعر. وقد تمثلت هذه المنطقة في شعر محمود درويش. لأن درويش كما يعتقد الكتاب «كان أكثر من تصدى من الشعراء العرب المعاصرين الذين عبروا عن القضية الفلسطينية عبر محطاتها الرئيسية بقدر كبير من الوعي والإبانة ملتزماً بجماليات النسق الشعري، كما أنه من الشعراء القلائل الذين تميزت قصائدهم بتجربة حياتية نضالية حية فقد دخل السجون الإسرائيلية مبكراً، وتمكن من أن يحول الغضب العارم الذي يموج به صدره إلى نصوص شعرية على درجة عالية من الرهافة والرقة والشفافية»[3].

وقد اعتمد الكتاب المنهج السوسيوثقافي «وهو المنهج الذي يحلل الأدب من موقع كونه نتاج أوضاع ثقافية ومتطلبات اجتماعية»[4]، ليقوم بمعالجة الموضوع مبيناً أهميته من خلال «رصد معرفي لحركة النضال الفلسطيني عبر التاريخ الحديث، حيث لم يتخلف المعطى الثقافي ولا النص الأدبي على وجه الخصوص عن أن يكون أحد المرايا الأساسية التي تعكس الوعي الناضج للأزمة، وقدرتها الدائمة على مقاومة العدوان من خلال اختياراتها الثقافية المحددة بينما عبر النص الأدبي تأتي مكملة لحركة الكفاح المسلح أو التفاوض الدبلوماسي الصعب»[5].

وقد انقسم الكتاب إلى بابين:

الباب الأول: العولمة مقاربة حضارية، وينقسم لثلاثة فصول:

1- المفهوم وتجليات الظاهرة.

2- العولمة خطاباً.

3- العروبة والعولمة، والقضية الفلسطينية.

حيث تم استقصاء التعريف الأكثر قبولاً لمفهوم العولمة -حسب قول الكتاب- «مع ربط ذلك إجرائيًّّا ببعض التبديات السياسية لقضايا فكرية تم طرحها مؤخراً مع توضيح الأثر الذي تركته فكرة (نهاية التاريخ) لدى فوكوياما، وتبديات مقولة (صراع الحضارات) لهنتنغتون، ثم تجليات المشروع الإمبراطوري الأمريكي الذي يطرح مفهوم الشرق أوسط الجديد، مع بحث مقولات اليمين المتصهين حول الإسلام والعروبة»[6].

كما تمت محاولة الإحاطة بمفهوم الهوية من خلال تحديد: ماهيتها، مكوناتها، جذورها، تشابكاتها. وربط «الهوية العربية بإشكاليات العولمة التي لم تتحدد بعد بشكل كامل»[7]. ثم تم التطرق إلى أبعاد القضية الفلسطينية السياسية لربط التاريخي بالمعاصر والراهن على حد تعبير الكتاب.

أما الباب الثاني الذي جاء بعنوان: العولمة مقاربة أدبية، فقد انقسم لفصلين:

1- درويش سيرة وحصار.

2- حفريات العولمة في قصائد درويش.

حيث تم تتبع سيرة الشاعر الذي عانى كأي فلسطيني يحمل هم قضيته، ويسعى لتأكيد أحقية شعبه في العيش المسالم والحقوق المغصوبة. إضافة لمقاربات نقدية تحاول أن تكشف طبيعة العلاقة بين الشعر والتحولات العميقة في بنية الواقع. إضافة لمحاولة كشف الظواهر الجمالية في شعر درويش ومحاولة بيان طبيعة المعالجة المتفردة لهذا الشاعر، من خلال مقاربة خمسة دواوين للشاعر هي: حالة حصار، جدارية، سرير الغريبة، لا تعتذر عما فعلت، لماذا تركت الحصان وحيداً.

والكتاب بهذه الاستراتيجية يمكن قراءته على أنه فعل مقاومة بالقلم ضد الإمبريالية وضد الصهيونية، حيثُ يقوم في بابه الأول بعرض الخلفية الفكرية التي تساند الاستعمار أو تشرعنه قبل أن يدحضها، ثم يقوم في بابه الثاني بالاحتفاء بتجربة شعرية تبنت المقاومة فكرةً ودرباً، وكأنه -أي الكتاب- يقوم بمواجهة الفكرة التراثية التي تنتصر للسيف على القلم فينتصر هو للقلم على السيف.

ولكن السؤال هو: هل كان الاستعمار بحاجة لنظرية فوكوياما حول نهاية التاريخ أو نظرية هنتنغتون حول صراع الحضارات ليتكون أو ليستمر أو ليتشرعن؟ الجواب بالطبع لا، فالاستعمار كان قبل فوكوياما وهنتنغتون. كان في الدول الغابرة المتجبرة كبريطانيا حينما كانت الدولة العظمى التي لا تغيب عنها الشمس والتي زحفت على الدول الأخرى لسحب خيراتها، كان في القبيلة حينما كانت تسطو على جارتها لتحتل مراعيها وتأخذ مواشيها وتسبي حريمها، كان في الفرد حينما يعتدي على غيره ليسلب أملاكه. الاستعمار ومحاولة إلغاء الآخر واستعباده ومحاولة طمس هويته هي أشياء ولدت مع التاريخ البشري ولدت مع قابيل وهابيل واستمرت وستستمر. إذن هي ليست بحاجة لنظريات فكرية لتولد أو لتتشرعن، إنها تستمد مشروعيتها من القوة ومن السيف فقط. وعليهِ فلا يمكن وضع اللوم على هذه النظريات وتحميلها تبعات الإمبريالية. نعم، فلا شك أن الدول الإمبريالية استخدمت هذه النظريات وروجتها إعلاميًّا لتروج سلطتها، وربما اقتنع البعض بهذه النظريات خصوصاً الطرف الأقوى لأنها تمجده وترفعه فوق الآخر الضعيف وتزيد من إحساسه بالقوة وتشرعن تفوقه وتعزز نرجسيته، ولكن الحقيقة أن هذه النظريات ليست إلا غطاءً سياسيًّا لتوسيع السلطة، فأمريكا تستخدم العولمة لتوسيع سلطتها لا لأنها مؤمنة بنظرية فوكوياما -وقد تكون كذلك- ولكن لأنها هي الأقوى، والشعوب الأخرى لا تخضع لسلطتها لأنها مؤمنة بنظرية هنتنغتون بل لأنها الأضعف، هذا الضعف الذي قد يجعلها ترحب بالخطة الاستعمارية وتساعد في تطبيقها وتقوم بقمع كل من يعارضها كما يحدث في لبنان الآن.

وتذكرنا هذه النظريات بنظرية التفوق العنصري التي روج لها النظام الهتلري لتوسيع سلطته، وربما كان هتلر مؤمناً بذلك ولكنه كان سيغزو لأنه الأقوى وسيمحو الآخر لأن شهوة الإلغاء تغلي في داخله، وما نظرية التفوق العنصري إلا ثوب جميل ألبسه هتلر لقواه القبيحة. وتذكرنا أيضاً في تراثنا بنظرية القدر التي روج لها النظام الأموي ليحكم سلطته على الناس وليلغي أي حركة مقاومة، وهذا ما جعل بعض العلماء كالإمام الشافعي يقف موقف المقاوم بالكلمة ليدحض تلك النظرية وينبه الناس لكيلا ينخدعوا بها ويستسلموا، وربما غاب عن الشافعي حينذاك أن الناس لم تكن خاضعةً لبني أمية لأنهم مؤمنون بنظرية القدر -وقد يكون بعضهم كذلك- ولكن لأنهم ضعفاء، يخافون من السيف المعلق على رقابهم وألسنتهم ويحبون الحياة حتى ولو كانت ذليلة، ثم يبررون ذلك بأنه قضاء وقدر ولا بد للمؤمن من الرضا به. وهذا ما يذكرنا ببيت المتنبي:

يرى الجبناء أن الجبن عقلٌ

وتلك خديعة الطبع اللئيمِ

 

وهذا الكلام يقودنا بطبيعة الحال للفصل بين النظرية بوصفها مفهوماً معرفيًّا وبين النظرية بوصفها أداةً تستخدمها السلطة السياسية لتحقيق أغراضها على أرض الواقع. فقد تكون النظرية نشأت قبل السلطة السياسية أو معها لظروف ما، ولم تبتكرها السلطة السياسية لخدمة أغراضها في الأساس. فالقدر فكرةً كان موجوداً قبل السلطة الأموية، وحين أتت قامت بتوظيفها واستخدامها لمصلحتها السياسية، ككثير من الدول التي تستخدم الدين لمصلحتها فتروج مثلاً فكرة حرمة الخروج على الخليفة حتى ولو كان ظالماً، لتستقر على عرشها.

وعودة إلى نظريتي فوكوياما وهنتنغتون وغيرها من النظريات التي ناقشها الكتاب، والذي قام بربط «هذه الطروحات مع التحرك الواضح للقوى العالمية الجديدة حيث يتبلور ملامح المشروع الإمبراطوري الأمريكي تحت غطاء دولي، وهو المشروع الذي تسعى القوى الصهيونية لدعمه وتأييده، لأنه يتوافق مع مصالحها، وهو يقيد من سلطة المجتمع الدولي تاركاً المجال للتحالف الأمريكي الأوروبي مع تأييد حذر من بعض الدول الصغيرة هنا وهناك»[8]، نجد أن الكتاب لم يبحث بشكل موسع الظروف المعرفية لنشوء هذه النظريات ما عدا الإشارة البسيطة للظروف السياسية التي سبقتها من انهيار المعسكر الاشتراكي وسيادة القطب الواحد، وما إذا كانت هذه النظريات قد استثمرت في مجالات أخرى غير السياسي بشكل إيجابي.

من هنا كان كلام الكتاب دائماً حول (العولمة) لا بما هي مفهوم معرفي بل بما هي واقع سلبي وغطاء وأداة استخدمتها القوى الإمبريالية لفرض هيمنتها على الشعوب الأخرى، لتحويل العالم إلى سوبر ماركت كبير خاضع لشروط العرض والطلب، لإلغاء هوية الآخر وثقافته، لأمركة العالم إذا صح التعبير. ولذلك فالكتاب يخلص في خاتمة الباب الأول إلى أن العولمة ما هي إلا «نظام اقتصادي يتشكل على خلفية سياسية، يحاول أن يفرض شروط الأقوياء على الأمم الأخرى»[9]، وهي محاولة لإعادة رسم خريطة العالم، بطموحها إلى الاستيلاء على الأسواق وفرض شروطها كافة. وهذا ما يجعلنا نتساءل عن (العولمة) بوصفها مفهوماً معرفيًّا أو فكرةً إيجابيةً أو ظاهرةً تاريخيةً لا شك أنها تنطوي -كما يشير الكتاب- «على بعض الجوانب الإنسانية، التي تعني التفاعل بين الحضارات الإنسانية تفاعلاً صحيًّا، بمعنى الأخذ والعطاء، كما أنها تنصب في خانة التجاوب الطبيعي بين الثقافات المتنوعة كطبيعة كل سلوك بشري على وجه الأرض»[10]. فهل العولمة بهذا المفهوم الإيجابي غائبة في زمننا الحاضر أم أن الكتاب لم يبحثها بشكلٍ وافٍ؟ هل هناك من استثمر هذه (العولمة) لأهداف الخير ولمصلحة الإنسان؟ وهل من تقبلوا (العولمة) تقبلوها انخداعاً منهم أم أملاً أم ضعفاً؟

وبعد أن قام الكتاب بعرض (العولمة) بوصفها واقعاً سلبيًّا وأداةً استعماريةً أصبح من السهل عليه ربط الحركة الصهيونية بالعولمة حيث إن «الكيان الصهيوني بصبغته العدوانية هو رأس سهمٍ لاختراق المشاريع العربية التي تعمل على التنمية، فهي تستنزف طاقاتها أولاً بأول، وتحاول أن تفكك الكتلة العربية لصالح مشروعها التوسعي الذي يريد الأرض والأمن معاً»[11]، وبذلك أصبح العدو الصهيوني -في نظر الكتاب- أداة (عولمية) في يد الإمبريالية لتوسيع سلطاتها وبسط نفوذها على العالم العربي. وأصبحت العولمة معادلة في دلالتها للحركة الصهيونية بنظر الكتاب.

وكما أصبحت الحركة الصهيونية معادلة للعولمة أصبح درويش المقاوم للصهيونية مقاوماً للعولمة بمفهومها السلبي. وقد قام الكتاب بمقاربة شعر درويش على أنه شعرُ (مقاومة). وبمقاربة درويش نفسه باستخدام المنهج الاجتماعي الذي يربط بين النص وظروف صاحب النص الاجتماعية والسياسية على أنه شاعر (المقاومة) أو شاعر (القضية)، وهذا ما جعل الكتاب يخلو من مقاربة درويش بوصفه إنساناً لا مناضلاً، أو شعر درويش بوصفه شعراً لا بيانَ مقاومة، وهذا أمرٌ طبيعي لأن الموضوع يفرض على المقاربات اتجاهاتها، ولكن هذا لم يكن ليرضي درويش إذ إنه سُئل في أحد الحوارات:

* ماذا بات يعني لك وصفك بشاعر القضية أو شاعر المقاومة وفلسطين؟

فأجاب: المسألة لا تتعلّق بي ولا أستطيع أن احتج إلا على محاولة محاصرتي في نمطية معينة. هذه التسميات بعضها بريء، وينطلق من حب القضية الفلسطينية وحب الشعب الفلسطيني، وبعضها نوع من إضفاء الاحترام والتشريف على القول الشعري المتعلق بالقضية. لكن الرأي النقدي هو أخبث من ذلك. الرأي النقدي يحاول أن يجرّد الشاعر الفلسطيني من شعريته ليبقيه معبّراً عما يسمى مدونات القضية الفلسطينية. هناك طبعاً اختلاف جوهري كبير بين النظرتين: نظرة بريئة ونظرة خبيثة. طبعاً أنا فلسطيني وشاعر فلسطيني، ولكن لا أستطيع أن أقبل بأن أعرّف بأنني شاعر القضية الفلسطينية فقط، وبأن يدرج شعري في سياق الكلام عن القضية فقط وكأنني مؤرّخ بالشعر لهذه القضية[12].

غير أن الكتاب أحياناً وهو يعتمد الوصف السردي في مقاربته للنص الشعري لا التحليل النصي، قد يأتي أحياناً بمقاطع يكون الرابط بين سياقها وسياق المقاومة ضعيف، كما في المثال التالي:

يقول درويش:

وأنا المحاصر بالثنائيات،

لكن الحياة جديرة بغموضها

وبطائري الدوري

لم أولد لأعرف أنني سأموت، بل لأحب محتويات ظل الله

يأخذني الجمال إلى الجميل

وأحب حبك هكذا متحرراً من ذاته وصفاته

وأنا بديلي...[13]

ويعلق الكتاب على هذا المقطع بقوله: «وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أن علاقة المقاطع الأخيرة بالعولمة تتحدد في سياق الحديث عن أشكال الاستعمار الأخيرة، والتي ترسخ لفكرة النفي المطلق لأية خصوصية، ثم الاندماج المطلق في الكيان الجديد الذي يضم كل المتناقضات، والاختلافات، طالما الربح متحقق، والشركات العملاقة قابضة بيد من حديد على زمام الأمور»[14].

أو حين يقول درويش:

«سأحلم، لا لأصلح مركبات الريح

أو عطباً أصاب الروح

فالأسطورة اتخذت مكانتها/ المكيدة

في سياق الواقعي، وليس في وسع القصيدة

أن تغير ماضياً يمضي ولا يمضي

ولا أن توقف الزلزال

لكني سأحلمُ،

ربما اتسعت بلادٌ لي كما أنا

واحداً من أهل هذا البحر

كفَّ عن السؤال الصعب: من أنا؟

هاهنا؟ أأنا ابن أمي».

إذ يقول الكتاب معلقاً: «اتخذ الشاعر الأسطورة درعاً يحميه من المكائد، في ذات الوقت الذي يعرف فيه أن هناك أسطورة عصرية ملأى بالخرافة يتم ترويجها عن عالم منفتح وسعيد، بلا حدود، ولا رسوم، ولا جمارك، تنتقل فيه السلعة حسب قانون العرض والطلب، وهي خرافة تدحضها الأرقام والبيانات التي تخبرنا أن العولمة ستسعى لاستغلال الشعوب الفقيرة، وستنهب الثروات، عبر نظريات اقتصادية محكمة. وسيفجع القارئ عندما يعرف أنه استناداً إلى الحسابات الجاهزة والتقريبية، كما ينبغي أن نعترف، فإن ما بين 54% إلى 70% من سكان العالم لم يتلقوا سوى 16% من التدفقات الكونية للاستثمارات الأجنبية...»[15].

إن شعر درويش ولا شك يحتوي على خطاب مضاد للعولمة بمفهومها السلبي، ولكن ليس من المستحسن -على الأقل في نظرنا- ربط أي مقطع شعري لدرويش بالعولمة وحركة الاقتصاد وقانون العرض والطلب.

ولعل ما جعل الكتاب يقع في ذلك هو طريقته الوصفية السردية في مقاربة النصوص -كما أشرنا سابقاً-. وطريقة المقاربة تلك جعلته يقع في الاسترسال والإطناب والفيضان أحياناً كثيرة، وهو ما يستلزم إعادة كلامٍ سابق وتضخماً في الكتاب كمًّا لا كيفاً. وجعلته أيضاً في كثير من الأحيان يسهو في استرساله فيخرج من الموضوع الرئيس إلى مواضيع أخرى، يُفترض أنها عولجت في فقرات مستقلة، فمثلاً تحت أحد العناوين الفرعية من الباب الثاني بالفصل الأول: (هل تستبيح العولمة اللغة؟)، يبدأ الكتاب الحديث بقوله: «هل بالفعل يمكن أن تزحزح رياح العولمة تراثنا الشعري القديم؟ هنا سنتوقف أمام مسألة مهمة وإن بدت صغيرة، فقد كان للأسطورة دورها المهم في مسيرة البشرية، فهي مغامرة العقل الأول، وهي النموذج الأمثل لمقاومة قوى الظلم، وهو دور سوف يرثه البطل المعاصر كما سنرى حالاً»[16]. هكذا يبدأ الحديث عن العولمة والأسطورة ولكنه لا يلبث إذ يسترسل أن ينزلق إلى الكلام عن شعر درويش وعن ارتباطه بالموسيقى ومفرداتها وعن ارتباطه بالفن التشكيلي وعن النفحة الصوفية التي فيه وعن تخمة الجدراية بالأشكال ونثار الحكايات وشواهد الشعر العربي وتحاور النسب وحركة الكتلة بالفراغ...![17].

هذا النوع من المقاربة تجعل الكتاب مليئاً لا بما يقوله النص بل بما يمكن أن يقال عن النص، فإذا توافرت -كما في الكتاب- الكفاءة الوصفية السردية والقدرة على الاسترسال وتفريع الكلام فإن ما يمكن أن يقال عن النص يصبح كثيراً جدًّا، وقد لا يخلو هذا الكلام أحياناً من كلام عن غير النص قد يكون بعيداً أو قريباً منه. بل إن هذا الكلام الكثير -كما في الكتاب- قد يستغني عن النص ويكتفي بنفسه، ففي الفصل الأول من الباب الثاني الذي من المفترض أن يقارب النص الدرويشي مقاربة أدبية فإنه يعالج قضايا شعرية تطبيقية من الجزء الأول حتى الجزء السادس كقضية المباشرة في الشعر والتخييل والخروج عن الأطر المألوفة والإيقاع، ولكنه لا يستحضر أي نص لدرويش عبر هذا الكلام كله[18].

وعودة إلى موضوع العولمة وشعر درويش فلا شك أن الكتاب قد بذل جهداً كبيراً وشاقًّا لإضاءة المنطقة المشتركة بين هذين العالمين، هذا الجهد الذي يستحق منا كل التقدير والاحترام، إذ هو بمثابة خطاب مضاد للعولمة بمفهومها السلبي كما أشرنا ودعوة للمقاومة ومحاولة لإحياء الروح العربية وتحريرها وتقويتها، تحس بين كلماته بالروح العربية في عنفوانها وإبائها.

وفي النهاية لا يبقى لنا إلا سؤالٌ واحد عن شعر درويش لم يُجب عنه الكتاب الذي قاربه بما هو خطاب مضاد للعولمة السلبية، وهو: ماذا عن العولمة بوجهها الإيجابي بما هي حركة حضارية لتطوير المجتمعات وتربيتها على الانفتاح على الآخر والأخذ منه والاستفادة من تجاربه، هل خلا منها شعر درويش؟

 

 

 



[1] شاعر وناقد سعودي.

[2] نفس الكتاب ، ص11.

[3] ص16.

[4] ص17.

[5] ص16.

[6] ص19.

[7] ص19.

[8] الكتاب، ص55.

[9] الكتاب، ص123.

[10] الكتاب، ص29.

[11] الكتاب،ص123.

[12] http://www.hamama.ca/vb1/showpost.php?p=3953&postcount=2

[13] الجدارية، ص36.

[14] الكتاب، ص173.

[15] الكتاب، ص176.

[16] الكتاب، ص174.

[17] انظر الكتاب، ص180-181.

[18] انظر الكتاب من ص131 إلى ص 150.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة