تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الدعوي والسياسي رؤية تأصيلية

بلال التليدي

لعل أعقد إشكالية تواجه الفكر الحركي الإسلامي هي تلك المعادلة التي تصل الدعوي بالسياسي، ذلك أن السياسة في البيت الإسلامي الحركي لا تنضج من داخل منطقها الطبيعي الذي يفترض أن تخضع له الحركة الإسلامية في تلمُّسها لمعالم الكسب السياسي كما تخضع له باقي الحركات الأخرى، فالسياسة لا تمارس انطلاقاً من الوعي بضرورتها وبأولويتها في التغيير المجتمعي أو من فقه الواقع وموازين القوى السائدة فيه. السياسة في البيت الحركي الإسلامي تتأسس من داخل منطق مغاير، تكون فيه من لوازم الدعوة وضروراتها المركزية. الدعوة إذن وكسبها وحاجات امتدادها تتطلب الاستنجاد بالسياسة بوصفها أداة للتواصل الجماهيري ثم بوصفها قناة للتدافع القيمي. السياسة يُلتجأ لها لاستكمال المشروع الدعوي الذي من طبيعته أنه يجتهد لتوسيع مجالات اشتغاله وامتداده، حتى إذا ضاقت به السبل حينها لا يجد غير حقل السياسة وسيلة لتوسيع مجال انسياب خطابه. واللحظة التي تتدخل فيها السياسة وتُمكِّن للدعوة، وتفتح لها أبواب العمل والامتداد، في هذه اللحظة بالذات تبدأ السياسة بإفراز مشاكلها الطبيعية. فنسق السياسة هو غير نسق الدعوة، فالدعوة خطاب للناس، يتوسل جميع الشرائح، ويخاطبها بأسلوب الرفق واللين، في حين أن السياسة شغلها الشاغل هو التعبئة وراء مشروع معين، وحمل الناس على الإيمان به، ومدافعة غيره من المشاريع، والسعي نحو التمكين له من خلال المواقع وقنوات التأثير. السياسة بهذا الاعتبار تتوسل خطاب التصنيف وفرز المواقع وتحديد الحلفاء من الخصوم.

في اللحظة التي يتوسع فيها العمل السياسي، ينفصل بمنطقه عن المنطق الدعوي، وتبدأ السياسة تشتغل بنسقها الطبيعي.

وهكذا يبدو من داخل التنظير الإسلامي التمايز بين الدعوة والسياسة، وكأن الأمر يتعلق بمشكلة حقيقية قد يصورها البعض بالانتكاسة أو التساقط، أو الانزلاق وغيرها من النعوت. لكن مثل هذه التصنيفات لا تحل المشكلة، ولا تعبر عن عمقها، بل لا تكاد تقف عند التداخلات المفصلية والتمايزات الوظيفية التي سنحاول في هذا المقال التأصيلي أن نقف عليها.

* مقدمات مفاهيمية

قبل الخوض في تفاصيل العلاقة المفترضة بين الدعوي والسياسي، يجدر بنا أن نجعل بعض المقدمات هادية ومُعِينة في هذا السبيل، نوظفها بوصفها أدوات إجرائية تُسعف في تجنب كثير من المنزلقات الفكرية التي آلت إليها بعض التناولات الحركية. والقصد من هذه المفاهيم هو التواضع على أرضية انطلاق مشتركة تمكن من بناء منهجية علمية لمعالجة كثير من الثنائيات الإشكالية من مثل ثنائية الدعوة والسياسة.

1ـ الدين كخطاب دعوي لجميع الناس

تحتاج أي أطروحة إسلامية تستهدف التغيير أن تقر بأن الدين من حيث هو مفاهيم عقدية وتصورية وقيم أخلاقية، وأحكام تشريعية، هو رسالة تستمد أصولها من مرجعيتها الإسلامية الموصولة بمصادرها الشرعية، والرسالة تحتاج إلى بلاغ، والبلاغ لا يمكن إلا أن يكون دعوة لجميع الناس بالحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن. الدين بهذا الاعتبار هو حل لمشكلة وجودية يعانيها كل بني الإنسان، والحاجة دائمة تدعو لبسط خطاب الدين من هذا المنظور. فلا غنى للإنسان عن الدين، وعن إجاباته عن مشكلات الوجود، وعن إمداداته الروحية التي يتزود بها الإنسان في معركته للإعمار في الأرض. الدين بهذا الاعتبار يحتاج إلى دعوة مستمرة تخاطب الإنسان، مهما كان لونه وجنسه وموقعه الاجتماعي والطبقي. الدين ضمن هذا المنظور يصل إلى الجميع، وليس من شرط هذا الوصول أن يكون مقروناً بقراءة حركية معينة. هناك رسالة واضحة في هذا الباب، أهم مقتضياتها ربط الناس بالخالق، والتذكير باليوم الآخر، ورسالة التخليق. الدين بهذا المنظور دعوة للجميع، ينخرط في بيان أصولها وفروعها كل الناس، سواء منهم من نال من الدين بحظ وافر، أو من اغترف بقدر بسيط من معينه.

وبناء على هذا المقتضى المنهجي، يكون مضمون الخطاب الدعوي هو المحتوى الجامع لكل أطياف الصف الحركي. ومن ثمة، فمن الجائز حصول خلاف الفكر والتصور بصدد جملة من القضايا الخلافية، ومن الجائز تقبل التباين من داخل الحراك السياسي، لكن ليس وارداً أن يكون مضمون الخطاب الدعوي محل مناكفة أو تنافر، ما دام المحتوى الدعوي يدور في أصله حول الأصول العقدية والتصورية الشاملة، كما يدور على المحور التخليقي الذي لا يمكن بأي حال أن يخضع لأية مراجعة في مضمونه.

2ـ السياسة من فروع الدين

خلافاً للمنطق الشيعي في موضعة السياسة ضمن البناء الأصولي الإسلامي، لا بد من التواضع ضمن المنظور الأصولي الحركي على أن السياسة هي من فروع الدين. هذا المبدأ، وهذه القناعة ليست فقط قضية نظرية محضة يجتهد بعض مترفي الفكر أن يغوصوا في تقليعاتها البعيدة، بل إن لها أثراً في واقع العمل، ولذلك فهي تعني من الناحية المنهجية من جانبين:

ـ الجانب الأول: إن قضايا السياسة تصبح ضمن هذا المنظور مجالاً للاجتهاد والنظر العقلي المبني على التقدير المصلحي. فالتواضع على هذه القناعة يعني نقل الخلاف في حقل السياسة من الإطار العقدي المحكوم بمعيار الحق والباطل، إلى الإطار الاجتهادي المحكوم بمعيار مقاربة الصواب أو البعد عنه. ومن ثمة فجوهر الخلاف السياسي التزاماً بهذا المقتضى المنهجي لا يتعدى توظيف مسلكيات النظر والتقدير والترجيح والتقريب والتغليب للتعبير عن قراءة معينة للواقع السياسي الموضوع حقلاً للممارسة. وضمن هذا المنظور المرن لا يكون لخلاف السياسة أي أثر على وحدة الاجتماع، إذ إن خلاف السياسة يبقى مؤطراً بسقف أعلى بحكم أن الثوابت والمنطلقات هي أصول غير موضوعة للخلاف وتعدد القراءة كما أسلفنا في المقدمة الأولى.

ـ الجانب الثاني: إن الدين هو منظومة متكاملة من الفروع التي تنشد إلى أصولها وثوابتها، وهي تشكل في مجموعها نسقاً متماسكاً في بنائه الداخلي، لا يطغى فيه جزء على جزء، وتأخذ هذه الفروع قدرها وقوتها بحسب ضرورتها ضمن شروط الواقع.

فهذه الفروع قد تتحول بحسب الحالات إلى قضايا ذات أولوية بحسب الداعي والمسوغ لها، لكنها أبداً لا تتحول إلى أصول وثوابت، فقد يكون العمل السياسي في بعض الظروف ذا أولوية بحكم الحاجة إلى مناخ من الحرية يسمح للعمل الإسلامي بكل مناشطه أن يعبّر عن مضامينه، لكن ما أن تتوافر هذه الشروط حتى يعود العمل السياسي ليأخذ قدره الذي يشغله ضمن النسق العام المتكامل، وقد يتراجع العمل السياسي لحاجة من الحاجات التي يفرضها واقع الحال حتى تتوافر الشروط الحقيقية التي تمكِّن من بناء العمل السياسي الناجح.

والحاصل ليست هناك معادلة واضحة تحدد وزن كل من العمل السياسي والدعوي ضمن هذا النسق، لكن الأكيد المعتبر هو أن هذه المنظومة المتكاملة تشتغل بشكل منسجم، ولا تتأثر بتراجع أحد فروعها لحاجة يفرضها الواقع. إنها تشتغل بشكل وظيفي متكامل، لكن الحاضر فيها وبشكل دائم هو الثوابت والمنطلقات المركزية.

هذا المفهوم المركزي الذي جعلناه منطلقاً منهجيًّا يسعفنا في تحطيم بعض الرؤى التنميطية التي تؤمن بتغلب أحد العناصر المشتبكة ضمن الثنائيات المتنابزة، كثنائية الدعوة والسياسة في حالتنا موضوع الدراسة.

بعد هذه المقدمات التي جعلناها أدوات إجرائية تسعفنا في بناء تصور واضح لطبيعة العلاقة بين الدعوي والسياسي، نغوص في تفاصيل هذه العلاقة من خلال إعادة قراءة لكل من مفهوم الدعوة ومفهوم السياسة حتى نتمكن من صياغة تركيب موضوعي يعين على حل الإشكال.

* في مفهوم الدعوة

الدعوة هي عملية نقل للقيم والتصورات والنماذج التي بشّر بها الدين. إنها تفترض ضمن هذا المنظور جدلاً وتدافعاً بين عناصر قائمة وسائدة في المجتمع، وعناصر جديدة تحاول النخبة الداعية إقناع المجتمع بها. الدعوة بهذا الاعتبار، هي عملية في بالغ الصعوبة، لأنها تراهن على خلخلة البناء الفكري والثقافي والقيمي للمجتمع، وطرح نموذج آخر مغاير، أو على الأقل مختلف عن النموذج السائد. ولأن الأمر بهذه الصعوبة، فقد طلب الشرع أن تتوسل في عملية الدعوة الوسائل السلمية والتربوية والبيداغوجية الملائمة لإنجاز هذا التحول. رهان الإسلام على اللاعنف في هذه العملية هو خيار استراتيجي، لأن تناقل الأفكار والقيم والنماذج يعتبر من أعقد القضايا وأصعبها، ذلك لأن النفس الإنسانية والمجموع الإنساني المتساكن يميل إلى الاستقرار والمحافظة ويرفض بطبيعته أية عملية مراجعة تستهدف نظامه القيمي، خاصة إذا كانت منظومة القيم والتصورات الجديدة لا تتصالح مع المكونات الكبرى للنظام القيمي السائد. ومن ثمة فالإسلام راهن ضمن منهجيته الأصولية والدعوية على جملة من العناصر التي تسعف في تيسير هذا التحول، سواء تعلق الأمر بأسلوب الدعوة أو بخطابها، ويمكن أن نفهم ضمن هذا الإطار قيمة فقه التنزيل وفقه المآل وتحقيق المناط، ومراعاة أحوال الناس والعرف وغيرها من الأدوات والمفاهيم المنهجية التي توسلها الإسلام بوصفها عناصر أساسية معينة في عملية نقل القيم والتصورات والنماذج. الدعوة إذن، تشمل عمليتين متداخلتين، فهي من جهة تقنع بقيم جديدة، ومن جهة أخرى تراجع قيماً أخرى سائدة. ومن ثمة، فإنجاز الدعوة مرتبط بشكل أساسي بقدرتها على التبشير بقيمها ونقلها إلى المجتمع، وفي الوقت نفسه هو مرتبط بقدرتها على مراجعة القيم السائدة. فمنسوب الدعوة يمكن تقويمه وفق المنطق الرياضي بمعادلة حسابية نقيس فيها قدر القيم المنقولة إلى المجتمع موضوع الدعوة، وقدر القيم المراجعة ضمن نظام القيم السائد. وهكذا فعملية الدعوة هي عملية بناء تتطلب الهدم والترميم، كما تتطلب إقامة البناء الجديد على أركانه القوية.

في مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

كثير من الدعاة والمفكرين الإسلاميين لا يميزون بين الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكثير منهم من يطابق بين المفهومين باعتبار أن عنصر تناقل القيم والمحافظة عليها يبقى حاضراً بشكل قوي في المفهومين معاً. غير أن التشابه الوظيفي بين الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعفينا من البحث عن بعض الفروق الدقيقة التي يمكن أن تسعفنا في حل مشكلة العلاقة بين الدعوي والسياسي.

ما يميز الدعوة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو أن الدعوة تستهدف نقل قيم وتصورات جديدة عن النظام القيمي السائد، فهي عملية إقناع بقيم جديدة، أما الأمر بالمعروف فهي عملية حفاظية تستهدف تحصين القيم التي تبناها المجتمع، وصارت في حكم المعروف المقبول والمدعوم اجتماعيًّا. إنها القيم التي بشّرت بها الدعوة حين صارت تتمتع بالشرعية الاجتماعية. وكونها معروفاً أي اكتسبت قبولاً من طرف القاعدة الاجتماعية حتى صارت جزءاً من النظام القيمي والثقافي السائد، والأمر هو غير الدعوة، لأن فيه قدراً من القوة في حين أن الدعوة مجرد خطاب الالتماس يتوخى الوصول إلى قلوب الناس وعقولهم، والفرق بين الأمرين واضح يمكن تفسيره بالشرعية الاجتماعية، فحينما تتمتع قيمة ما بشرعية اجتماعية وترزق القبول وتصبح جزءاً من النظام الثقافي السائد، حينها تكون وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة حفاظية تستهدف تحصين مكتسبات الدعوة التي توسلت عناصر الإقناع والالتماس في التبشير بالقيم الجديدة.

والأمر نفسه يمكن إبصاره في الشق الثاني المتعلق بالنهي عن المنكر، فالقيمة المتعارضة مع جوهر النظام الثقافي السائد مما يستنكره الناس يدعو الشرع إلى النهي عنها ما دامت العملية تلك ستكون مدعومة بقاعدة اجتماعية كبيرة. فالمعروف والمنكر يضمران قضية في بالغ الأهمية هي الشرعية الاجتماعية، أو القاعدة الاجتماعية الداعمة. فإذا تمكنت الدعوة مثلاً في بلاد من البلدان أن تبشر بقيمة العفة وتبيّن أهميتها ودورها الاجتماعي والثقافي والتربوي، واقتنع الناس بها وصارت معروفاً، وصار كل ممارس لعكسها في منظور الناس قبل منظور الشرع منكراً، حينها تتحرك عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتحصين مكتسبات الدعوة، وما لم تصبح الفكرة الإسلامية أو القيم الإسلامية مدعومة بشرعية اجتماعية، فعملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصبح غير ذات جدوى لأن من شرط نجاح هذه العملية هو القاعدة الاجتماعية الداعمة. ولعل من أخطاء الدعاة وأنصار الحركة الإسلامية الخلط بين المفهومين في واقع العمل، وهو ما يجعلها بعيدة عن تلمس المنهجية الإسلامية في تغيير النظام القيمي والثقافي للمجتمعات. تلك المنهجية التي تعتمد عنصرين متكاملين: الدعوة باعتبارها تبشيراً وإقناعاً، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره تحصيناً لمكتسبات الدعوة، والفاصل بين العنصرين أو بين المرحلتين هو القاعدة الشعبية أو الشرعية الاجتماعية. فالدعوة بهذا الاعتبار تحتاج إلى من يحصن قيمها وتصوراتها، وليس هناك غير المجتمع وقاعدته العريضة للقيام بهذا الدور، وما لم نصل إلى هذا المستوى من الوعي فعملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن أن تقود إلى نتائج عكسية، لأنها ستشتغل حينها خارج فضائها وخارج نسقها، وستكون لا شك فاقدة لأي معنى، وغير مؤيَّدة بأي تحصين ودعم شعبي.

قيم الدين بين الحفاظ الوجودي والحفاظ العدمي

كان الشاطبي في غاية التحقيق حين فصل بين الحفاظ الوجودي الذي يعني إيجاد الدين وإيجاد قيمه وتبشير الناس وإقناعهم بها، وبين الحفاظ العدمي الذي يعني منع الضرر الواقع أو المتوقع بالقيم التي تم تأكيدها في المجتمع. الحفاظ الوجودي هو الدعوة التي تسعي إلى نقل القيم الجديدة إلى المجتمع وإقناعه بها والسعي إلى جعلها أساساً ضمن بنائه الثقافي والقيمي، والحفاظ العدمي هو تحصين هذه القيم ومنع أي ضرر يهددها حالاً أو مآلاً. الحفاظ العدمي إذن، يستحضر يقظة كاملة، ويشترط قبل ذلك قاعدة اجتماعية داعمة، مستجيبة للتحديات، مقتنعة بالخطر المهدد لأساسيات نظامها الثقافي والقيمي. الحفاظ العدمي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يكون هدفه هو تحصين مكتسبات الدعوة والحفاظ على القيم التي جعلها المجتمع محور وأساس نظامه الثقافي والقيمي.

* في مفهوم السياسة

السياسة هي تدبير شؤون الأمة على الوجه الذي يتحقق به الصلاح. السياسة تتوجه إلى المجموع فتحقق مقصوده ومطلوبه، وتيسر له العيش وتضمن له مصالحه، وتوفر له الأمن في الغذاء والحياة. السياسة بهذا المعنى، خطط واختيارات تغيّر شروط الواقع السائد، وتروم إنتاج واقع جديد، يحقق أعلى قدر من المصلحة للمجموع.

منذ البدء نلاحظ أن السياسة مرتبطة بشكل أكبر بمصالح الناس المباشرة. وكل اختيار يستهين بهذه المصالح أو يعطلها أو ينقص من قدرها فلا يكون محل قبول من طرف المجموع. السياسة بهذا الاعتبار لا بد لها من شرعية اجتماعية مثلها مثل الدعوة. فأي سياسة لا تتمتع بقدر من الشرعية لا يمكن أن تكون محل قبول، والقاعدة في ذلك كله هي الشرعية الشعبية التي تكسب السياسة مصداقيتها أو تسحبها عنها.

من داخل المنطق الداخلي للسياسة، لا شيء غير تحقيق مصالح الناس يمكن استساغته ضمن موضوعها ووسائل اشتغالها، لكن قطعاً السياسة لا يمكن أن تكون مفصولة عن قاعدة مرجعية ورؤية فكرية ناظمة. ومن ثمة فاستعانة السياسة بالثقافة لبناء مشروع مجتمعي أمر يعتبر في غاية الأهمية. ذلك أن تأهيل المجتمع وترشيده يعتبر من الأساسيات التي تتوازى مع تدبير الشأن العام بما هو سعي حثيث لتحقيق مصالح الناس. في هذه النقطة بالذات تتقاطع السياسة مع الدعوة. فالدعوة توفر الشروط الأساسية لبناء المشروع المجتمعي الذي يتفاعل مع المنهجية المعتمدة في تدبير الشأن العام. والسياسة تستثمر حصيلة عمل الدعوة. ففي ظل ظروف قلة ذات اليد لا يمكن لسياسة تتنزل على وسط منهك بثقافة الاستهلاك أن تنجح إلا بإعادة النظر في المنظومة الثقافية والتربوية، وفي هذه القضية بالذات تتقاطع الدعوة مع السياسة، إذ تكون السياسة في أمس الحاجة إلى خدمات الدعوة ومكتسباتها على الأرض، فتعينها الدعوة في إقناع الشعب بالحد الأدنى من المصالح ريثما تتوافر شروط جديدة تسمح بسقف أعلى من المصالح المحققة. لا يمكن لأي سياسة أن تكون ناجحة ما لم تعطِ للمشروع المجتمعي أهمية قصوى. فالمجتمع هو الذي يُنجح هذه السياسة وهو الذي يمكِّن لها ويمنحها الشرعية، ومن ثمة، فلا مناص من أن يكون ضمن أولويات السياسة المراهنة على مجتمع مؤطر برؤية جديدة تقنع الشعب تربويًّا وقيميًّا وثقافيًّا بالممكن فعله من زاوية مصالح الناس المباشرة، والواجب التزامه من زاوية المصلحة الوطنية ضمن الشروط الوقتية التي تمارس فيها السياسة.

نحو تمايز وظيفي وتكامل استراتيجي

الدين يسعى لتحقيق المصالح بمجموعها دينية ودنيوية، والسياسة قصدها تحقيق مطلوب الناس في عالم دنياهم بما ييسر لهم شروط التعبد والثبات على الدين. والتقاطع بين السياسة والدعوة كما رأينا يكون في المشروع المجتمعي. فالدعوة تسعى لبناء مجتمع قاعدته هي القيم والتصورات والنماذج الجديدة المنبثقة من الدين، والسياسة ضمن شروط الواقع الممكنة لا يمكن أن تحقق مطلوب الناس وتطلعاتهم، فهي تحتاج اضطراراً لمجتمع مؤطر برؤية جديدة تؤهله للتجاوب مع منهجيتها في التدبير. السياسة تحتاج إلى الثقافة وإلى القيم لجذب المجموع حتى يكون ملتفًّا حول الاختيارات السياسية التي انتهجتها. فهل يعني هذا التقاطع أن تقوم السياسة بعمل الدعوة نفسه فتصير الدعوة هي السياسة وتصير السياسة هي الدعوة؟ أم أن السياسة ستستعير مفاهيم ومفردات الدعوة توظيفاً وتأويلاً كلما دعت إلى ذلك الضرورة السياسية؟

التقاطع هنا لا يعني التطابق وإنما يعني التكامل وتمايز الأدوار، فدور السياسة أن تحصن مكتسبات الدعوة، وأن تقنن هذه المكتسبات في شكل قوانين واختيارات واضحة ما دامت قد تمتعت بشرعية اجتماعية. وكل قيمة جديدة يتردد المجتمع في قبولها أو لم تمتلك بعدُ شرعية القبول فمن خطأ السياسة الخوض فيها وتقنينها لما يمكن أن ينشأ عن ذلك من سحب للشرعية لا عن السياسة فحسب ولكن عن القيمة نفسها. فلا يمكن لطرف إسلامي أن يصدر قراراً بمنع الاختلاط في الشواطئ ابتداء حتى تكون الدعوة قد قطعت أشواطاً في إقناع الناس بهذه القيمة الجديدة، وحتى تصير هذه القيمة مقبولة من لدن مجموع الشعب أو غالبيته. فدور السياسة أن تُبصر تطورات القيم ودرجة إقبال الناس عليها. وكلما تمكنت قيمة من القيم بفضل رصيد الدعوة من التمتع بشرعية اجتماعية وشعبية كان لزاماً على السياسة أن تُحصِّنها بِسَنِّ سياسات وقوانين واضحة يلتف حولها الشعب، ولا يكون للأقلية المعارضة لها أي دور سياسي أو إعلامي معطِّل، وفي المقابل فكل قيمة لم تستطع الدعوة أن تمكِّن لها فالسياسة أعجز عن التمكين لها، فمن الخطأ أن تقوم السياسة بما يجب على الدعوة أن تقوم به.

الدعوة بمنطق السياسة

ليس هناك أخطر على قيم الدين ورصيده من أن تتحول الدعوة بوسائلها وأدوات اشتغالها إلى خدمة الأهداف السياسية. وليس هناك أخطر من أن تُمارس الدعوة بقصد الوصول إلى الحكم. إنه من الطبيعي أن يكون للدعوة مآلاً قد يقود إلى الحكم، لكن من الخطورة أن يكون تدبير الدعوة يتأطر بهذا المنطق السياسي. حينها تفقد القيم حقيقتها، وتصبح الدعوة آلية من آليات صناعة الرموز الحركية التي تدخل عالم السياسة. وتصبح منتجات الدعوة وسيلة للتوظيف السياسي والانتخابي. الفصل بين المنطق الدعوي والمنطق السياسي ضروري من جهة الدعوة، لكنه ليس ضروريًّا من جهة السياسة. فالدعوة ينبغي أن تشتغل بمنطق ديني مبدئي، لكن السياسة يمكن أن توظف كل مكتسبات الدعوة وفق المنظور الذي أشرنا إليه سابقاً. فالسياسة من هذه الزاوية تستثمر منتجات الدعوة، وتقنن ما يمكن تقنينه، وتحافظ على مكتسبات الدعوة، وتوظف المجموع الشعبي الملتف حول القيم لإقناع مجمل الشعب بسقف المصالح الممكن تحقيقها ضمن الشروط التي تشتغل فيها السياسة. وما لا يمكن قبوله في هذا الإطار هو أن تشتغل الدعوة بوسائل السياسة ومنطقها، وأيضاً أن تتجاوز السياسة شرط الشرعية فتبادر إلى اتخاذ قرارات واختيارات منسجمة مع رؤيتها الفكرية دون النظر إلى شروط الواقع.

بهذه الرؤية يمكن أن نتصور إسلاميين على رأس الحكم لا يُنزلون كل ما يعتقدونه من اختيارات على واقع الناس، ذلك أن شرك التنزيل هو الشرعية الشعبية، وهو أمر يتعذر تحقيقه ما لم تكن الدعوة قد قطعت أشواطاً في هذا الاتجاه. وأي عمل سياسي مخذول من طرف رجال الدعوة لا يمكن أن يكون مآله النجاح، إلا أن ينفصل عن رؤيته تماماً وينخرط في تبني المفهوم السائد للعمل السياسي السائد الذي لن تنجح الحركة الإسلامية قطعاً في أن تضيف جديداً من خلاله.

السياسة قد تمارس الدعوة لكن بمنطق سياسي

ما ذكرناه سالفاً لا يعني أن السياسة ستنتظر منجزات الدعوة وستبني عملها اعتماداً عليها. السياسة قد تشتغل دون نظر إلى كسب الدعوة، فكلما استطاعت السياسة أن تحقق مقصود الناس ومطلوبهم ضمن الشروط القائمة فهي حينها تؤدي وظيفتها الأصلية التي أنيطت بها. لكن يمكن للسياسة أيضاً أن توفر مناخاً إيجابيًّا وهامشاً واسعاً للدعوة لكي تشتغل. وهي إذ تقوم بذلك لا تكون ممارسة للدعوة بقدر ما تكون راعية للحريات وحقوق الإنسان داعمة لمؤسسات المجتمع المدني بمجموعها على قدم سواء. السياسة هنا تتدخل لتمكِّن للدعوة وسائل الاشتغال. إنها تمنحها الدعم اللوجستي حتى تستطيع القيام بدورها بشكل فعّال. إنها لغة التكامل التي تكون فيها السياسة دعوية لكن بطريقتها الخاصة.

 

 



[1] كاتب - مغربي.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة