تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

المجتمع المدني في الخليج بين الواقع والمأمول

عبدالإله التاروتي

 

[1]

الكتاب: المجتمع المدني والدولة المعاصرة: الخليج مثالاً.

المؤلف: أحمد شهاب.

عدد الصفحات: 103 صفحات من القطع الوسط.

الناشر: مؤسسة الانتشار العربي - بيروت.

سنة النشر: 2007م.

 

جاء الكتاب في مقدمة، ومدخل، وثلاثة مباحث، وخلاصة، وذلك في ( 103 صفحات)، من الحجم المتوسط، نأتي عليها بشكل سريع ومقتضب آخذين منها ما يغني الموضوع، وهي في نقاط ست:

أولاً: المقدمة: وفيها وصف المؤلف، هذا البحث بأنه: «بمثابة محاولة لتتبع الجذور الفكرية والاجتماعية للمجتمع المدني ودوره في تحقيق الديموقراطية... ص9»، ويضيف «إننا عندما نتحدث عن المجتمع المدني فإننا نتحدث عن مجتمع مدني محايد، لا علماني أو رأسمالي أو غربي أو مسيحي، ونتحدث عنه بوصفه فضاء المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تعمل في استقلال عن سلطة الدولة، وتسعى لإنجاز أغراض ومصالح عمومية، ولا نتحدث عن قيم ملحقة أو مدمجة به، ونجد في هذا التوصيف للمجتمع المدني اقترابًا من المجتمع الذي يدعو إليه الإسلام بوصفه فضاء الحرية الذي يهيئ للأفراد فرص القيام بواجباتهم على أتم الوجوه في حالة من التواصي والتعاون والتعاضد من أجل الصالح العام. ص 9- 10».

هذا هو الإطار العام، أو الهدف الذي رسمه المؤلف لمعالجة الفكرة والموضوع. وواضح من صياغة الهدف والفكرة وطريقة المعالجة أنها تنبع من خلفية إسلامية شأنها في ذلك شأن العديد من الرؤى والأفكار والطروحات التي تتناولها الأقلام في وسطنا الفكري العربي والإسلامي كلاًّ بحسب المدرسة التي ينتمي إليها، والمنهج الفكري الذي يبشر به ويسير عليه. ومن موقع أنها (أفكار)، فإنها تحمل مسوغات ومبررات عدم الحجر على أحد في تناولها وتدوير الزوايا فيها نقداً وتدعيماً فهي أفكار ومن مسلمات الأفكار أنها -وكما تقدم- تحتضن في صيرورتها الحركة والفاعلية، بغض النظر عن مصدر انتشارها، وهذا ما تختزنه تجارب الأمم والشعوب، فهي في حراك وتفاعل دائم تستقبل فكراً وتستحدث فكراً آخر وتصدره، وهكذا تمر الأفكار والمفردات الثقافية تأتي بقالب لمجتمع وثقافة وحضارة (ما)، ثم تصير بفعل الممارسة والسلوك الدائم والمستمر جزءاً من المكون الثقافي والحضاري لها، وبها تتميز عن تلك الثقافة (مصدر الانتشار)، لتغدو وكأنها شيء آخر لا يمت إلى مصدره بصلة عند الناظر إليها للوهلة الأولى. وهذه واحدة من أهم الفروقات التي تتمايز من خلالها الشعوب والأمم والمجتمعات.

ثانياً: المدخل: وفيه سعى المؤلف لذكر أسباب عدم تجذّر مفهوم المجتمع المدني في الثقافة العربية، على الرغم من مضي ما يقارب القرن من الزمان على تجربة المجتمع المدني في الدول العربية، وإلى الآن لم يتحول بعد إلى مؤسسة مستقرة في بنية الدولة العربية الحديثة، «رغم أن الأنشطة الأهلية ضاربة في عمق وثقافة هذه المجتمعات، والتفاعل الاجتماعي مع البرامج الأهلية ملحوظ ولا يمكن إخفاؤه أو التقليل من شأنه، أضف إلى ذلك أن مؤسسات تقليدية مثل المساجد والمآتم (الحسينية)، والأوقاف لعبت دوراً أساسيًّا في الحياة العامة وانطلقت من خلالها الكثير من المشاريع والبرامج والأنشطة... ص11». وقد أرجع المؤلف معوقات عدم التجذر لهذا المفهوم في الثقافة العربية إلى أمرين هما:

الأمر الأول: انشغال النخب السياسية والثقافية في العالم العربي بمدى توافق أو عدم توافق مؤسسات المجتمع الأهلي مع المجتمع المدني...

الأمر الثاني: سبب هيكلي يتعلق بقوة الدولة وتضخم مهامها، في مقابل العمل على إضعاف المجتمع من خلال ضرب مؤسساته وتهميش قواه الحقيقية، فقد أخذت سلطة الدولة بالتغلغل إلى كل أجزاء المجتمع...

ثالثاً: المبحث الأول: في أصل مفهوم المجتمع المدني وإشكالاته وقضاياه.

في هذا العنوان، أشار المؤلف عدم استقرار الباحثين في العلوم الاجتماعية والإنسانية «على مفهوم ثابت وجامد وناجز قابل للاستخدام في كل زمان لمفهوم المجتمع المدني، لكن الثابت أنه وليد مرحلة حاسمة حدثت في الفكر الغربي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر ص15».

واعتماداً على عدم الاستقرار على مفهوم ناجز من قبل الباحثين في العلوم الإنسانية لم يشر المؤلف -بحسب ما بدا لي في هذه الجزئية على الأقل- لمفهوم المجتمع المدني، وإن كان ذلك متحققاً وبقوة في ثنايا موضوعات وتضاعيف الكتاب، ومن موقع المنهجية والإثراء يمكن إيراد تعريف للمجتمع المدني على نحو إجرائي بأنه جملة: «المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال نسبي عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة منها: أغراض سياسية كالمشاركة في صنع القرار على المستوى الوطني، ومثال ذلك الأحزاب السياسية، ومنها غايات نقابية كالدفاع عن المصالح الاقتصادية لأعضاء النقابة، والارتفاع بمستوى المهنة والتعبير عن مصالح أعضائها، ومنها أغراض ثقافية -كما في اتحاد الكتاب والمثقفين- تهدف إلى نشر الوعي وفقاً لاتجاهات أعضاء كل جمعية، ومنها أغراض اجتماعية للإسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية. وبالتالي، يمكن القول: إن العناصر البارزة لمؤسسات المجتمع المدني هي: الأحزاب السياسية، النقابات العمالية، الاتحادات المهنية، الجمعيات الثقافية والاجتماعية»[2].

هذا وقد أطل المؤلف تاريخيًّا على استخدام العلماء لمفهوم المجتمع المدني، من خلال إجراء مقاربة بين آراء هؤلاء العلماء كجون لوك ( 1632 - 1704)، وهيغل (1770 - 1831)، والمفكر الفرنسي مونتسكيو (1755 - 1869)، وكارل ماركس ( 1818 - 1883)، وأنطونيو غرامشي (1891 - 1931).

كما عرض المؤلف في هذا المبحث، لأسباب القلق الذي عمّ العالم الإسلامي خشية تسلل مفهوم المجتمع المدني إلى بلادهم، والآراء التي انبثقت عن هذا القلق من قبل بعض المفكرين الإسلاميين. وفي السياق ذاته، استعرض المؤلف حركة المجتمع الإسلامي وفيه أبدى امتعاضه لما قام به أغلب المؤرخين الذين رصدوا تاريخ الأمة من خلال تجربة الملوك والسلاطين، وأهملوا نقل حياة الناس اليومية لاسيما تلك التعبيرات العفوية التي تكشف أحوال المجتمعات العربية وخصوصياتها، فأشار إلى ما كان يقوم به المسجد، باعتباره حاضنة علمية ومعرفية إضافة لدوره كدار للعبادة، وكذلك المساهمة الفاعلة لأموال الوقف حيث لم يتوقف الوقف في العصور الإسلامية عند بناء المساجد أو مساعدة الفقراء كما هو واقع الحال اليوم، وإنما تعدى ذلك إلى تقديم النفع العام في جميع المجالات، كما تناول الجدل الدائر بين مفهوم المجتمع المدني في مؤسساته الحديثة، وتلك المؤسسات التقليدية التي لا تمت من وجهة النظر الحداثية للمجتمع المدني، وقد اقترح المؤلف للخروج من هذا المأزق اعتماد آلية (الوظائف)، لتحديد ما إذا كانت هذه المجموعة أو تلك تنتمي إلى المجتمع المدني أم لا، «ويمكن في سبيل الخروج من الجدل الدائر بنتائج متفق عليها أن نقدم معالجة جديدة تعمد إلى اعتبار كل مجموعة تُقدم المصالح العمومية كأولوية أساسية تتبناها في فكرها وحركتها وبرنامجها العام من صميم المجتمع المدني، وإن كانت تصنف كمجموعة تقليدية، وكل مؤسسة تقف ضد هذه المصالح أو لا تعمل على تعزيزها وتصر على تعزيز ولاءات جديدة لا مدنية فإنها تقع خارج المجتمع المدني وإن حملت عناوين وأطراً حداثية. ص 32». كما قدّم تجربة (ماليزيا)، باعتبارها نموذجاً حيًّا وحيويًّا على صعيد المجتمع المدني، حيث استطاعت صناعة نموذج يجمع بين آخر ما توصلت إليه النظريات المعرفية الغربية في مفهوم المجتمع المدني، وبين الاحتياجات الواقعية لتحديث مجتمعاتها، خالصاً إلى جهود التأصيل أو البحث عن المواكبة، من قبل العلماء والمثقفين في العالم الإسلامي، حول المجتمع المدني، حيث أثمرت تلك النقاشات والمساجلات والمداولات تأكيد المفهوم والتوسع في استخدامه، وبعد أن كان عدد المتحفظين عليه في ازدياد استطاع عدد من المفكرين استنطاق المفهوم بصورة جديدة، وخلصوا إلى عدم وجود تصادم فعلي بين المجتمع المدني والمجتمع الإسلامي، فالأول لا ينفي الثاني، والثاني لا يستدعي العداء مع الأول.

ويضيف «ويمكن القول: إن الكثير من الجدل حول الفكرة وقع نتيجة الاستخدام الساذج لمفهوم المجتمع المدني، وسعي البعض إلى زجِّه في مقابل المجتمع الإسلامي، واعتباره فكرة ثورية ضد الدين وعلمائه، وتأتي هذه المخاوف ضمن استنطاق مفهوم وتجربة المجتمع المدني في الغرب وعدائه للكنيسة ص 40».

رابعاً: المبحث الثاني: عن دور المجتمع المدني في بناء الديموقراطية.

وفيه أشار إلى فاعلية المجتمع المدني ودوره في إحداث النقلة النوعية على صعيد الديموقراطية من خلال ستة مفاعيل أساسية أتى على بيان موقعية كل عنصر من هذه العناصر، وهي في مجملها تمثل منظومة عمل مستدامة تتخذ من مراكز القوة الفاعلة فيها هي: (الضغط، المراقبة، التنمية، التمثيل، التدريب، المواطنة)، بالتالي وحسب المؤلف فإن «الانتقال الديموقراطي هو التحول من نظام سلطوي إلى نظام ديموقراطي تعددي، وتتم عملية التحول بوسائل مختلفة، فأشكال الانتقال الديموقراطي متعددة ومختلفة في سياقاتها، بعضها يأتي من الأعلى بواسطة ترتيبات تقودها السلطة بصفة مباشرة. وبعضها يأتي من الأسفل بواسطة المجتمع وقواه الفاعلة، وبصفة عامة فإن التحول الديموقراطي يتم عادة عبر تضافر عدة عوامل مجتمعة، تلتقي فيها إرادة السلطة ومبادرة المجتمع. كما أن بعضها يأتي نتيجة ضغوط الخارج والبعض الآخر إفراز لحراك الداخل، حيث يلعب المجتمع المدني دوراً أساسيًّا في عملية الانتقال الديموقراطي ص 45».

خامساً: المبحث الثالث: في خصوص المجتمع المدني الخليجي.

في هذا المبحث تناول المؤلف ملامح الجدل الدائر حول المجتمع المدني في المنطقة الخليجية وتحديداً في دول الخليج الست، ومدى ملائمة فكرة المجتمع المدني مع البيئة الخليجية التي تتصف بالتقليدية والمحافظة وضآلة التجديد، وتديرها أسر حاكمة تعتمد الحكم الوراثي، وتتداول السلطة بالصراع والتنافس بين أفراد الأسر الحاكمة، إلى غيرها من النقاط مدار البحث والمناقشة. كما تناول كذلك، البدايات الأولى التي يمكن أن تكون النقطة الأولى للنزوع إلى التشكل الجماعي عند المجتمعات الخليجية، والذي جاء على شكل هيئات ومؤسسات مدنية ذات طابع ثقافي وأدبي وتنموي مع بدايات النصف الأول للقرن العشرين عندما أنشئ النادي الأدبي في البحرين (1919)، وفي الكويت (1922)، مروراً بعقد الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات حيث قدّم المؤلف سرداً تاريخيًّا لأبرز أدوار تلك المرحلة في ميدان المجتمع المدني في الخليج حتى عقد التسعينات حيث «شهد انفراجاً للمجتمع المدني في أكثر من دولة خليجية، وتمكنت القوى الاجتماعية في الخليج من التعبير عن إرادة تبتغي بناء مستقبل واعد على أسس من الحريات والمشاركة الشعبية ص 71- 72». كما أشار المؤلف كذلك إلى «ظهور مسميات ظلَّت غائبة عن دول الخليج لفترة طويلة، وأصبحت حاضرة وتحظى بالاعتراف الرسمي مثل: جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان، وحماية المال العام، وتنمية الديموقراطية ص73». كما ناقش حقيقة وجود مجتمع مدني في الخليج من عدمه، متناولاً في هذا الجانب آراء مجموعة من المهتمين في مجال المجتمع المدني، من كتَّاب ومثقفين خليجيين. كما تناول في هذا المبحث كذلك، صيغة التكامل بين المجتمع والدولة في منطقة الخليج، مشيراً إلى أن دول الخليج اليوم هي غير دول الخليج بالأمس، من حيث بروز طبقة جديدة نمت فيها تحمل أفكاراً حديثة وتطلعات نوعية أخذت وضعها مع اتساع التعليم. كما ألمح المؤلف إلى تحديث المجتمع الخليجي، فأشار إلى أن الاهتمام بتطوير الدولة في الخليج لا يعني إغفال ضرورة الاهتمام بتطوير المجتمع وتحديث آليات عمله، فالحديث عن الديموقراطية وتحولاتها وإن تركّز في بداياته على الدولة فإنه أخذ شيئاً فشيئاً يميل إلى الاهتمام بتطوير المجتمع. إن وجود ديموقراطية في بلد لا تعني اكتمال التحول الديموقراطي فيه، وإنما لا بد من توفر ثقافة ديمووقراطية لدى أفراد المجتمع لتكتمل البيئة الملائمة لاستثمار التحول الحاصل في البلد ص 88». وفي سبيل إنشاء ثقافة الديموقراطية في الوسط الاجتماعي الخليجي أورد المؤلف ثلاث نقاط هي من وجهة نظره من مهام التطوير في المرحلة القادمة من العمل في ميدان المجتمع المدني في الدول الخليجية وهذه النقاط هي:

(1) إعادة ترتيب العلاقة بين الدولة والمجتمع، بحيث تبقي الدولة مساحة للمجتمع للعمل والإنجاز والتطوير، وتبتعد عن السيطرة على جميع أجزاء الحياة الوطنية.

(2) أولوية تحديث المؤسسات المدنية في الخليج، ومقاربتها بالمؤسسات الحديثة في العالم المتطور، ويمتلك المجتمع الخليجي في المجمل إمكانات مالية تذلل الكثير من صعوبات التحديث التي رافقت عملية تطوير مؤسسات المجتمع المدني في العالم العربي.

(3) أهمية إعادة النظر في مكانة وقوة المؤسسات التقليدية وإزالة غبار السطحية في الاهتمامات والأدوار التي تسم العديد منها، وتخليصها من سوء الاستغلال.

هذا وقد خلص المؤلف في شأن المجتمع المدني في دول الخليج إلى «أن أمام المجتمعات الخليجية فرصة سانحة للانتقال النوعي من مرحلة التغييب والاستقبال السلبي لأحداث المنطقة وما يرافقها من تطورات متلاحقة تنعكس بصورة مباشرة على الوضع الداخلي في كل دولة على حدة، إلى مرحلة الحضور والمواكبة والتفاعل الإيجابي، ومباشرة تحديد الأولويات والتصدي لحل المشكلات القائمة، والتحلي بروح المسؤولية الجماعية ص 97».

سادساً: مداخلة على هامش المجتمع المدني والدولة المعاصرة.

بعد استعراض مجمل السياقات والموضوعات التي جاءت في متن البحث، أشير إلى ثلاث نقاط كمداخلة على هامش المجتمع المدني:

الأولى: من الثابت تاريخيًّا أن الكثير من المفردات المعرفية ذات الصلة بالحراك السياسي في عنوانه العام والمتصل مباشرة بمفاهيم الدولة، السلطة، القانون، الدستور، الحريات، حقوق الإنسان، المجتمع المدني وغيرها من المفردات التي وردت في متن البحث هي نتاج خبرة جديدة وتجربة متأخرة مرت ولا تزال تمر بها المجتمعات العربية في أطرها وتشكيلاتها الاجتماعية، وكذلك النظم والحكومات.

ولعل من أهم المعوقات التي تكتنف العديد من المفاهيم والأفكار التي تلقتها المجتمعات العربية، والنظم السياسية الحاكمة والتي تحول بشكل وبآخر من أن تأخذ طريقها في الواقع كممارسة وفعل، يكمن في حالة التمازج بين المجتمع كتشكل اجتماعي، والسلطة كنظام سياسي حاكم.

وهذا المزج والتداخل متأتٍ من الجدة في التجربة، على مستوى المجتمع، والسلطة، وكذلك من خلال تغييب ثقافة الحقوق والواجبات، والتي لا تجد لها صدى ملموساً في التشكيلات المؤسسية التي قامت الحكومات العربية تباعاً بعد الاستقلال باستحداثها والتي أفرزت نمطاً من التفكير السلبي تراكم عبر عقود من الزمن من تغييب ثقافة الحقوق والواجبات نتج عنه غياب الأطر القانونية التي تفصل بين ما هو حق للمواطن على الدولة، وما هو الواجب على المواطن تجاه الدولة، فكان ونتيجة لهذا التغييب تفشي حالة من الجهل والمعرفة الحقوقية بين طرفي معادلة (المجتمع / الدولة)، إذ ليس هناك أطر ومواد دستورية توضح ما للمواطن من حق وما عليه من واجبات.

أضف إلى ذلك، تجربة بعض الأحزاب والتيارات التي مرت بالوطن العربي وشاهد المواطن العادي طريقتها في إدارة دفة الصراع، حيث سرعان ما تنقلب على المبادئ التي كافحت من أجلها ودعت الناس إليها لتتحول عبر الممارسة إلى أحزاب شمولية تكرس حالة الفرد في وسطها ولا تسمح بتداول القيادة فيها مثلاً، مما تمخض عن ذلك أن غدت هذه الأحزاب والتيارات تحمل الشيء ونقيضه، مما يعني ذلك رصد المواطن العادي لهذه المشاهد حيث لا يرى ثمة فرق بين هذه التيارات المبنية على التوجه الحداثي في شكلها وصورتها الخارجية، والواقع السياسي القائم، لأن التجربة دلت أن العقلية هي العقلية ذاتها وإن كان ثمة من فرق فهو في الدرجة وليس النوع، بمعنى آخر تبدل الاسم وبقيت الحقيقة، تبدل الاستبداد من شكل إلى شكل آخر أكثر حداثة من النمط التقليدي. أقول، مثل هذا النمط من الأداء من قبل من يفترض فيه أن يكون مبشراً بالحياة الديموقراطية وإشاعة مبادئ السلم الأهلي وغيرها من قيم ومبادئ المجتمع المدني، أعطت فرصة وخبرة سلبية لتعميم حالة عدم الثقة بالدعوات والمشاريع التي تنطق في بداياتها باسم الأمة والمجتمع، وسرعان ما تغدو مؤسسة يسيطر عليها قانون القوة لا الإقناع في إدارتها للحدث، وهو ما يجعل المواطن العربي العادي في حلٍّ من أمر هذه الدعوات وما يتصل بها من مفردات ومفاهيم.

الثانية: ليس ثمة شك في أن عمليات التغيير المراد إحداثها متفاوتة من حيث علاقتها وتماسها بالتفكير الاجتماعي قبولاً ورفضاً. كما وأن إحداث التغيير على المستوى المادي، (تخطيط المدن، شق الطرق وتعبيدها، استبدال وسائط النقل،... إلخ، هو أسهل بكثير من التغيير على مستوى تقبل الأفكار الجديدة، (الحرية، تقبل الرأي والآخر، التسامح، الحقوق والواجبات، المجتمع المدني... الخ)، وهذا مما هو محسوس وملموس من قبل الناس أنفسهم، تؤيده الدراسات والمسوح الاجتماعية المعنية برصد عمليات التغير الاجتماعي في مجالاته المتعددة.

من هنا فإن غياب مفهوم (المجتمع المدني)، في الممارسة الاجتماعية (المجتمع/ الدولة)، هو محصلة ونتيجة طبيعية للعديد من العوامل والمتغيرات التي ساهمت وتسهم في تعميق هذه الحالة. من هذه العوامل إشكالية: عدم معرفة ماذا نريد من المجتمع المدني؟

وهذه الإشكالية ليست منحصرة في دائرة دون غيرها، فالمجتمع أفراداً، وجماعات، وسلطة، ونخب فكرية وثقافية وسياسية لم تتقن بعدُ مهارة أن تعرف ماذا تريد من المجتمع المدني؟ وما الجدل الدائر حول مفهوم المجتمع المدني إلا تعبير صريح عن حالة عدم وضوح الرؤية فيما نريد، هل نريد مفهوم المجتمع المدني باعتباره منتجاً مصدراً غير قابل لتدوير زواياه؟ أم نريده باعتباره آلية عمل نتفق على كيفية إخضاعه لخط إنتاج نبدع نحن في تحديد مراحله.

الثالثة: أبرز المؤلف العديد من النقاط الجوهرية والأساسية في ميدان إشاعة ثقافة المجتمع المدني وما يتصل به من مفاهيم ودلالات، من هنا لا يعدم القارئ من فوائد جمة يقتنصها أثناء مطالعته للبحث، من أبرزها الكشف عن قدرة الكاتب على تناول موضوع شائك كهذا الموضوع بتسلسل واضح للأفكار والرؤى التي يتبناها، وكذلك امتلاكه لناصية إدارة دفة الحوار بشكل شيق وهو ما يكشف بدوره عن عدم انغلاق المثقف والمفكر الإسلامي من تناول الموضوعات والمفاهيم والأفكار باعتبارها حقًّا إنسانيًّا غير مختص بفئة اجتماعية أو طبقة دون غيرها، كما وتحسب للمؤلف جرأته وشجاعته الملحوظة في بيان مواقع الخلل والضعف إن على مستوى المجتمع، أو على مستوى السلطة.

ختاماً أحب أن اختتم هذه المداخلة بنقطة تفاؤلية استشرافية مستقبلية أوردها المؤلف في سياق البحث وذلك بقوله: «وينتظر أن يشهد العالم العربي خلال الفترة القادمة تأسيس مراصد لمتابعة أداء السلطة في إدارة الشأن السياسي، وصيانة الحريات العامة، وحقوق الإنسان، وحيادية مؤسسات الدولة، ورصد الفساد، وإصدار تقارير دورية لمتابعة هذه المواضيع من جوانبها المختلفة وتقديمها إلى الجهات المعنية أو عرضها على الرأي العام المحلي لتشكيل ضغط جماعي على السلطة ص50».

 



[1] كاتب سعودي.

 

[2] عالم الفكر - المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت. المجلد السابع والعشرون - العدد الثالث - يناير / مارس 1999. (إعادة الاعتبار لمفهوم المجتمع المدني - د: كريم أبو حلاوة)، ص 11.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة