تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الملكية الخاصة في الاقتصاد الإسلامي وأثرها في التوزيع والمعاملات

د. سليمان الشيخ منصور الستري

*

- الملكية الخاصة في الاقتصاد الإسلامي وأثرهــا فـي التوزيع والمعاملات

- رســـالــة دكتــــــوراه

- إعداد: سليمان الشيخ منصور الستري

- إشراف: د. أحمد زهير شامية - دمشق

- السنة الدراسية 2007م

- الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية - لندن

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الأول بلا أول كان قبله والآخر بلا آخر يكون بعده، منشئ كل شيء ومقدره وخالق كل شيء ووارثه، دائم البقاء وواسع العطاء. نستعينه ونسترشده ونستهديه ونؤمن به ونتوكل عليه.

والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين، أمين الله على وحيه، وحجته البالغة، أرسله الله {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ}[1]،

 

 وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، أولياء الله وأصفيائه، أئمة الهدى ومصابيح الدجى وأعلام التقى، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

وبعد،

فإن الأمة الإسلامية تواجه ومنذ زمنٍ بعيد تحدياتٍ تفرض عليها الاستعداد التام لها، فهي تعيش اليوم جهاداً شاملاً ضد محاولات الغزو بأبعاده الفكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ولن تجد الأمة الإسلامية وهي في صراعها هذا إلا التمسك بهدي الإسلام وتشريعاته والتحرك في اتجاه الخط الإسلامي القويم {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[2].

والواقع الذي نعيشه، هو أنَّ العالم الإسلامي كان وما زال ينفتح على حياة المجتمعات الغربية ويذعن لمسيرة التطور فيها. فبدل أن تؤمن الأمةُ الإسلامية برسالتها وقيمومتها على الحياة البشرية، ما زالت تنساق وراءَ المجتمع الغربي وتسلِّم لقياساته المادية وشعاراته الاستعمارية.

فما برحت المجتمعاتُ الإسلامية إلا وهي تمارس تبعيةً سياسيةً تتمثل في تطبيقٍ مطلقٍ لنمط الحكم الديموقراطي بصيغةٍ غربيةٍ دون مراعاةٍ لثوابت الشريعة وأصولها، وتبعيةً اقتصاديةً تقوم على أساس المبادئ الاقتصادية للنظام الرأسمالي وأهمها آلية الأسواق المفتوحة، وبهذا تفسح المجال بحريةٍ كاملةٍ للدول المتقدمة اقتصاديًّا لأن تلعب دور القائد والمحرك والموجه للعملية الإنتاجية والاستثمارية في البلاد الإسلامية بحسب ما تقتضيه مصالحها وحاجاتها. كما يمارس المجتمعُ الإسلامي على المستوى الفردي والعام تبعيةً اجتماعيةً تبرز في التقليد الأعمى لسلوك المجتمع الغربي في نمط الحياة والذي يستند إلى مبادئ الحرية الشخصية، والتحرر الاجتماعي، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وغيرها من شعاراتٍ لا تهدف في جوهرها لشيءٍ إلا السيطرة على فكر الإنسان المسلم وعقيدته بالدعوة إلى تحريره من الثقافة والعقيدة الإسلامية وإبعاده عن مصادر التشريع والتشكيك في نصوصها والتبشير إلى العمل بما يناقضها من قوانين وتشريعاتٍ وضعية.

إنَّ التنمية الاقتصادية الشاملة، لا يمكِن لها أن تأخذ طريقها إلا من خلال تفاعل واندماج الأمة الإسلامية بجميعِ أفرادها وطبقاتها مع نظامٍ ومنهجٍ متكامل الأركان شاملٍ لأمور الدين والدنيا، مبنية أسسه وقواعده على مبادئ العدل والمساواة والأخلاق والحرية. والدين الإسلامي هو النظام المتكامل الذي يحوي جميع هذه المقومات، وبتطبيقه في جميع المجالات تحقق الأمة الإسلامية وجوداً أفضلَ واقتصاداً أغنى. فحريٌ بالباحثين والمشتغلين في مجال الدعوة الإسلامية والدراسات الشرعية، أن يجتهدوا ويجاهدوا في البحث عن مقومات ومرتكزات هذا النظام، واكتشاف الأسس والقواعد والأصول والمبادئ التي تشكِّل بمجملها البناء الذي يستند إليه. كذلك يجب على كل من يبحث في الاقتصاد الإسلامي، ألَّا يدرسه منفصلاً عن مبادئ وأصول الشريعة، وذلك لأنَّه فرعٌ لمنهجِ حياةٍ أشملَ وهو الدين الإسلامي، الذي يضمن من خلال تشريعاته الشاملة لجميع وجوه الحياة تحقيق الأهداف الإنسانية والاجتماعية. فنراه يولي اهتماماً كبيراً للإنسان وشؤونه بوصفه الركيزةَ الأساسيةَ التي تُبنى عليها المجتمعات الإنسانية. ويلحظ هذا الاهتمام بشكلٍ واضحٍ في نصوص القرآن الكريم كقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الْطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا}[3]

 

، وقوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلَيِلاً مَّا تَشْكُرُونْ}[4].

 

 كما تعتني مبادئُ الاقتصاد الإسلامي بالطبيعة على نحوٍ خاصٍٍ بوصف

ها أهمَّ وأعمَّ مصادر الرزق والعملية الإنتاجية، ونرى هذا الاهتمام جليًّا في نصوص القرآن الكريم بخصوص الأرض وما تحويه من ثرواتٍ طبيعيةٍ. وتشدد الشريعَة على استغلال الثروات الطبيعية بأحسن الطرق وأفضلها وأكثرها أثراً ونفعاً على الفرد والمجتمع بغية تحقيق التنمية الاقتصادية، فقد أمر سبحانه عباده بعمارة الأرضِ باستصلاحها وإحيائها واستخراج خيراتها واستثمار ثرواتها، فقال تعالى: {هُوَ أنْشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}[5] أ

 

ي أمركم بعمارتها.

وإذ تهتم مبادئ الاقتصاد الإسلامي كثيراً بالجوانب المادية تحقيقاً للازدهار الاقتصادي، فإنها في الوقت ذاته تشدد على الجوانب المعنوية والأخلاقية وتعمل على ترسيخها في المجتمع بغية تحقيق التوازن الاجتماعي تطبيقاً لمبادئ التكافل والتعاون وضماناً لحياةٍ كريمة. قال تعالى داعياً للتعاون والتعاضد بين أفراد المجتمع: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِِّ وَالْتَّقْوَى}[6]،

وقال في حثه على الجهاد في سبيله بالأموالِ: {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ}[7]،

 

وقال في دعوته للإنفاق في وجوه الخير: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ}[8]،

وقال أيضاً: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[9].

 

إنَّ المنهج المتبع في الاقتصاد الإسلامي يضع الحل المناسب للمشكلة الاقتصادية من خلال تعزيز المفهوم الاعتقادي بالخالق ونعمه التي لا تحصى، وقدرته على توفير الرزق، وتجديد خلقه بما يتناسب وحاجات خلقه، وتنزيل الأرزاق بأقدارٍ معلومةٍ، وتعزيز مفهوم العمل الإنتاجي والتعاوني والتكافلي بين أفراد المجتمع. ويتَّبع الاقتصاد الإسلامي في خطابه الشرعي بغية تحقيق أهدافه، أسلوبين يتميَّز بهما عن غيره من الأنظمة الاقتصادية:

أولاً: التوجيهُ الإرشادي، وهي نصوصٌ شرعيةٌ ترشد الإنسان من دون إلزامٍ أو فرضٍ إلى القيام بمسؤوليته الاجتماعية وتدفعه ذاتيًّا إلى تحمُّلها، كالدعوة إلى التكافل الاجتماعي، والإنفاق في سبيل الله، وإعمار الأرض وغير ذلك.

ثانياً: التشريعُ الإلزامي، حيث يفرِض المشرِّعُ واجباتٍ معينةً على كل فردٍ، كإخراج زكاة الأموال، ودفع خمْس المال الذي يجب فيه، وغيرها من الواجبات المالية مع تنجُّزها.

وهذا التنويع في الخطاب الإسلامي بين الإرشاد والتشريع يحقِّق تناغماً وتكاملاً في الدعوة إلى تطبيق النظام الاقتصادي في الشريعة الإسلامية بمُرونةٍ وكفاءةٍ عاليةٍ على المستويين الفردي والعام، وهو الذي يشكِّل منهجاً عقائديًّا مُتكاملاً يؤمن المسلمون بقدسيته وحرمته ووجوب تنفيذه.

وإنَّ من أهم الأمثلة على التنويع في تشريعات الإسلام، تشريعه لأشكالٍ مختلفةٍ للملكية، حيث تُراعى فيه جميع الحقوق والمصالح، العامة والخاصة، الأمر الذي يتحقَّق بتطبيقها جميعاً التوزيع الأمثل والعادل للثروات.

فالملكية العامة وإقرار الإسلام لها يكفل لجميع الناس تلبية الحاجات الضرورية من ثروةٍ مائيةٍ ومأكلٍ وطاقة. كما أنَّ ملكية الدولةِ موردٌ مالي مهم يكفل لولي الأمر بوصفه المسؤول عن رعاية وحماية مصالح الدولة والمسلمين، تأمين النفقات العامة والإمكانات التي تمكِّنه من رعاية مصالح الأفراد ورفع الحاجة عنهم، وضمان الحد المطلوب من تنظيم وإدارة المشروعات واستثمار الثروات التي تتطلَّبُ إمكاناتٍ كبيرةً لا يتمكَّن الأفراد عادةً من القيام بها.

أما الملكية الخاصة فقد شُرِّعت وأُقرَّت في الاقتصاد الإسلامي تجسيداً لمبدأِ الحرية الاقتصادية التي يكفلها الإسلامُ للأفراد ليتمكنوا من العمل والإنتاج والإبداع، واستجابة لميول الإنسان الطبيعي في حب التملك وتكريماً للإنسان ليحيى حياةً طيبةً، وتمكيناً له للقيام بمسؤوليته في إعمار الأرض وتحقيق العدالة الاجتماعية. فإنَّ الإنسان يحمل عن خالقه مسؤولية الخلافة العامة بجعلٍ من الله تعالى كما جاء في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[10]،

 

والملكية الخاصة التي يمنحها النظام الإسلامي للأفراد تمكِّنهم من القيام بمسؤولياتهم الاجتماعية وفق مفهوم الاستخلاف بنص القرآن الكريم {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[11].

 

وبهذا تكون الملكية الخاصة أسلوباً من أساليب أداء الوظيفة الاجتماعية، ومظهراً من مظاهر الخلافة العامة، وفرع التكليف بها.

ولا ريب أنَّ المال في هذه الحياة ركيزة أساسية تدور حولها عجلة التنمية بجميع جوانبها وإنَّ حُسن استغلال الثروة واستثمارها وتوزيعها، على الصعيدين الفردي والعام، هو القاعدة التي على أساسها يؤدي المال بوصفه وسيلةً لتحقيق الأهداف الإنسانية دوره الفعَّال في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي.

وبما أنَّ المال بمفهومه الشامل للأعيان والمنافع والحقوق هو موضوع الملكية الخاصة وركنها الأساس، فإنَّها تكتسب أهميةً كبرى في الدراسات الاقتصادية بشكلٍ عام، بل قد تشكِّل الجزء الأهم منها. فالملكية الخاصة ترتبط ارتباطاً وثيقاً ومؤثراً بموضوعاتٍ تشكِّل جزءًا مهمًّا في علم الاقتصاد النظري الكلي، كالاستهلاك والاستثمار والادخار والتوزيع. كما أنَّ حق الملكية في الاقتصاد والفقه الإسلامي موضوعٌ في غاية الأهمية لما يترتب عليه من حقوقٍ وآثارٍ شخصيةٍ واجتماعيةٍ واقتصادية.

ولهذه الأسباب وغيرها كان موضوع الملكية ومازال مثار جدلٍ منذ زمنٍ بعيد، فكانت تختلف حوله الآراء والنظريات والفلسفات، بل كان ومازال سبباً لنزاعٍ كبيٍر بين مختلف الاتجاهات الفكرية والاقتصادية، الأمر الذي أنتج نظريتين متباينتين، ذهبت إحداهما إلى تبني مبدأ الملكية الخاصة قاعدةً أساسيةً، واعتمدت الأخرى مبدأ الملكية الاشتراكية أو ملكية المجموع قاعدةً عامةً.

فحق الملكية مبدأ اقتصادي وشرعي هام بمفهومه الاعتقادي الخاص في الاقتصاد الإسلامي، فهو يحدد سلوك الإنسان وعلاقته مع خالقه المالك الحقيقي للمال، ويحدد أيضاً سلوك الإنسان وتعامله مع الثروة، كما يضع المنهج الصحيح لعلاقة المالك مع أفراد مجتمعه وبالخصوص الفئة المحتاجة.

وإنَّ دراسةً شاملةً للملكية الخاصة تتضمَّن البحث في جميع جوانبها وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والفقهية، لهي دراسةٌ في غاية الأهمية، حيث تضع بين أيدي الباحثين والدارسين والقراء نظاماً ومنهجاً ومرجعاًً شاملاً في خصوص الموضوع وآثاره.

وانطلاقاً من هذه الأهمية للملكية الخاصة كان اختيارنا لهذا الموضوع الحيوي، فكانت الأهداف المنشودة من هذه الرسالة تتلخص في النقاط التالية:

* دراسة الأسس والأصول الشرعية لحق الملكية الخاصة في الاقتصاد الإسلامي وإبرازه بوصفه مبدأ ومنهج حياةٍ يترك أثراً إيجابيًّا في سلوك الفرد والمجتمع كافة، ويتجسد هذا الأثر في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي.

* يهدف البحث إلى دمج الجانبين الاقتصادي والاجتماعي، بالجانب الفقهي في دراسةٍ شاملة.

* التركيز على الآثار الاجتماعية والاقتصادية للملكية الخاصة بوصفها إحدى صور الحياة، وبهذا يبرز دور المال بمفهومه الشرعي في تحقيق التنمية الشاملة باعتباره وسيلةً لتحقيق الأهداف الإنسانية وليس غايةً لذاته.

* مقارنة الأسس والأصول الشرعية التي يستند إليها حق الملكية في الاقتصاد الإسلامي بالأسس والقواعد التي تستند إليها الأنظمة الاقتصادية الأخرى.

* توضيح الأساس الذي ينهجه الاقتصاد الإسلامي في التوزيع ودور الملكية الخاصة بمفهومها الاعتقادي في الإسلام في تحقيق التوازن الاجتماعي.

* دراسة الأثر الفقهي للملكية الخاصة في المعاملات الشرعية واستعراض ومناقشة آراء مختلف المذاهب الإسلامية وأدلتها، بأسلوبٍ فقهيٍ استدلاليٍّ مقارِن.

* تهتم الدراسة بصفةٍ خاصةٍ بموضوع الملكية الفكرية وبيان موقف الشريعة منها بوصفه موضوعاً حيويًّا لا يزال في دائرة البحث الفقهي.

ولكي تبرز هذه الرسالة بشكل جديد ومعاصر ومكتمل، فقد اعتمدت منهجين أساسيين هما:

أولاً: الدراسة الاقتصادية التحليلية، وفيها يتم البحث في الأسس الاقتصادية المتعلقة بموضوع البحث ومقارنتها بأسس وأصول الملكية في الاقتصاد الإسلامي.

ثانياًَ: الدراسة الفقهية الاستدلالية المقارنة، وفيها يتم بيان ومناقشة الآراء الفقهية لمختلف المذاهب الإسلامية بأسلوبٍ علمي وموضوعي

وبهاتين الطريقتين تستوعب الدراسة الجانبين، الاقتصادي النظري والفقهي الاستدلالي.

وقد جاءت أبواب الرسالة وفصولها على النحو التالي:

يقسم البحث إلى مقدمة وأبواب ثلاثة وخاتمة، يحتوي كل باب على مجموعة فصول، وكل فصل على مباحث، والمبحث ينقسم إلى مطالب، فيكون التقسيم العام على النحو التالي:

أولاً: مقدمة البحث:

وهي تحتوي على مقدمة عامة لبيان أهمية مثل هذا النوع من الدراسات، فالحديث عن موضوع البحث وأهميته، ثم الغاية من البحث، وبعد ذلك منهجية البحث، وأخيراً خطة البحث.

ثانياً: أبواب الرسالة:

الباب الأول: وقد خصصته للكلام عن تعريف الملكية وبيان أساسها الشرعي، والبحث في أركانها وتطورها التاريخي، ثم الكلام عن أنواعها المختلفة، وينقسم هذا الباب إلى فصول أربعة:

جعلت الفصل الأول منه للبحث في مفهوم الملكية، فاستعرضت مجموعة من التعريفات وقمت بمناقشتها بالتحليل والنقد، أتوصل في النهاية إلى تعريف جامع ومانع للملكية. ثم أبحث في أركان الملكية التي يجب اكتمالها مجتمعة لكي تصح معها الملكية من الناحية الشرعية، وهي المالك وهو صاحب العلاقة فأقوم بتحديد هويته، والركن الثاني متعلق الملكية وهو المال بمفهومه الشامل للأعيان والمنافع والحقوق التي تقبل المعاوضة ماليًّا. ثم الركن الثالث وهو أسباب الملكية أتكلم في تقسيماتها ومن أهمها تلك الأسباب الأصيلة التي لم تسبق بملك وهي الحيازة والإحياء فأتوسع في الكلام عنهما باعتبارهما سببين مباشرين للثروات الطبيعية يترتب على ممارستهما حقوق خاصة. وأخيراً الركن الأخير وهو الجهة الحاكمة للملكية التي تعتبر الملكية وتجعل لها أسباباً وحدوداً شرعية.

وأما الفصل الثاني، ففيه أبحث في تطور الملكية التاريخي، والكلام عن أشكال الملكية في مختلف العصور والمجتمعات والأنظمة الاقتصادية. فأبدأ أولاً بنشأة الملكية ثم أنتقل إلى البحث في شكل الملكية في مختلف العصور والمجتمعات والديانات مستعرضاً التقلبات والتغيرات التي طرأت على نمط الملكية من زمن إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، فكانت في بعض الأزمنة والمجتمعات والأديان تأخذ الشكل الفردي وفي بعضها الآخر تأخذ الشكل الجماعي، وكانت في مراحلها التاريخية بين مد وجزر، وتطبيق يسوده التعسف والاستغلال والاحتكار تارة بسبب حريات مطلقة، وتارة أخرى حرمان بسبب حريات مقموعة وممنوعة.

ثم أبحث في شكل الملكية في النظامين الرأسمالي والاشتراكي والأساس المذهبي الذي يعتمده كل نظام، حيث يطبق الأول مبدأ الملكية الخاصة والثاني مبدأ الملكية الجماعية ويلغي كل منهما النوع الآخر إلاّ في نطاق محدود.

أنتقل بعد ذلك إلى الكلام عن شكل الملكية في الاقتصاد الإسلامي، والبحث في هذا الموضوع يستدعي بيان القاعدة الأساسية التي يعتمدها النظام الاقتصادي الإسلامي، وأساسها هو الأخذ بمبدأ الملكية ذات الأشكال الثلاثة، الملكية الخاصة والملكية العامة وملكية الدولة (الإمام C)، الذي يحفظ للأفراد حقوقهم وللأمة توازنها. ولا يفوتنا الكلام عن المبادئ الرئيسة التي يعتمد عليها نظام الملكية في الاقتصاد الإسلامي وهي ثلاثة: مبدأ الحرية الاقتصادية المحدودة، ومبدأ العدالة الاجتماعية، ومبدأ إشراف ولي الأمر.

وفي الفصل الثالث، أتناول أنواع الملكية التي يقرها الاقتصاد الإسلامي وبيان أسسها الشرعية، أبدأ بملكيات النفع العام وهي الملكية العامة وملكية الدولة فأبحث بشكل مختصر في نطاقهما ومواردهما وأدلتهما الشرعية. ثم أنتقل للبحث في الملكية الخاصة وهي الموضوع الرئيس للرسالة، أتكلم بداية عن الحكمة من تشريعها، ثم بيان أساسها الاعتقادي وهو كونها حقًّا ذا وظيفة اجتماعية أو مظهراً من مظاهر الوظيفة الاجتماعية، الذي يستند إلى مفهوم الخلافة العامة بتكليف من الله سبحانه وتعالى.

الباب الثاني: خصصت الباب الثاني للبحث في أثر الملكية الخاصة في توزيع الثروة، وفيه فصول أربعة:

مهدت في الفصل الأول بالبحث في المشكلة الاقتصادية، وأسباب نشوئها والحل الأنسب الذي يضعه كل نظام اقتصادي للحد منها أو تخفيفها. ثم البحث في موقف الإسلام من المشكلة الاقتصادية وأسباب نشوئها من منظور إسلامي والشروط التي يراها ضرورية لتفادي وقوعها.

وأما في الفصل الثاني فالبحث يدور حول أثر ودور الملكية الخاصة بحسب المفهوم الاعتقادي الخاص لها في الاقتصاد الإسلامي، في توجيه الأموال وتوزيعها بين نطاق المصلحة الخاصة والمصالح العامة. فأبدأ بالكلام عن مشكلة التعارض بين المصالح الفردية والمصالح الاجتماعية العامة التي هي مثار جدل واسع بين مختلف الثقافات، ثم البحث في تحديد وأسباب التعارض بين المصالح الذاتية والمصالح الاجتماعية من منظور إسلامي.

ثم ركزت بعد ذلك على البحث في الحقوق الخاصة المترتبة على حق الملكية وكيفية توجيه الأموال في ظل ممارسة الفرد لحقوقه، أبدأ فيها بدراسة حق الاستهلاك والمنهجية التي يضعها المشرع الإسلامي لطريقة الإنفاق ليكون أمراً بين أمرين بين الإسراف والتقتير فيمنع من هدر الأموال وضياعها، ويدفع بجزء من الأموال الخاصة تجاه الإنفاق العام، فيضمن بذلك أداء أفضل لمسؤولية الأفراد الاجتماعية. ثم الكلام في حق الاستثمار وكيفية توظيف الأموال والموارد بالطرق المشروعة التي يضمن بها المشرع الإسلامي حسن سير العملية الاقتصادية وتنمية الأموال بما يعود نفعاً على الفرد والمجتمع، والابتعاد بذلك عمَّا نهت عنه الشريعة كالمتاجرة بالمحرمات وإنتاج المحظورات والغش في التجار والاحتكار في السوق والتعامل بالربا. وفي ضمن ذلك أبحث في الموقف الفقهي من توظيف الأموال ببعض الطرق الاستثمارية كالودائع المصرفية الثابتة والمضاربة الجماعية في المصارف (إيداع الأموال وتشغيلها بواسطة المصارف)، ثم أنتقل للبحث في حق الادخار وموقف الشريعة الإسلامية منه وبيان الضابط الشرعي الذي بمراعاته يجوز ادخار الأموال مهما عظمت وطال زمن الاحتفاظ بها.

وأخيراً الكلام في مدى تقييد الاستعمال في حق الملكية الخاصة إذا ما استلزم الإضرار بالغير والجواب عن سؤال وهو: هل يقيد حق التصرف في المال الخاص إذا نتج عنه الإضرار بالآخرين؟ فأبحث في الموقف الفقهي وآراء الفقهاء في هذه المسألة.

وفي الفصل الثالث، يدور البحث حول العمل الإنتاجي والأسس المتبعة لتوزيع الثروة المنتجة على عناصر الإنتاج المشاركة في العملية الإنتاجية، وهل للملكية دور وأثر في توزيع الثروة المنتجة. أبدأ أولاً بتعريف الإنتاج وعناصره في العرف الاقتصادي النظري، ثم أنتقل إلى توضيح الأساس في توزيع الدخل في النظامين الاشتراكي والرأسمالي.

بعد ذلك أبحث في موقف الشريعة الإسلامية من عناصر الإنتاج وطرق توظيفها، ثم الكلام في الأساس الشرعي لتوزيع الثروة المنتجة وبالخصوص دور الملكية في نمط توزيع الناتج على العناصر المتعاضدة في الإنتاج.

أما في الفصل الرابع، فأبحث في المصادر الشرعية للملكية الخاصة وبالخصوص في فريضتي الزكاة والخمس وأثرهما في تحقيق التوازن الاجتماعي والاقتصادي.

أبدأ أولاً في بحث الزكاة وتعريفها لغة واصطلاحاً وبيان دليلها وأهميتها في الشريعة الإسلامية. ثم أتناول دور فريضة الزكاة في إعادة توزيع الدخول باعتبارها أداة ووسيلة لتفعيل المسؤولية الاجتماعية التي تفرضها الملكية الخاصة على الأفراد.

انتقل بعدها لدراسة الخمس باعتباره الفريضة المالية الثانية التي تؤدي عن طريقها الملكية الخاصة دوراً أساسيًّا في أداء وظيفتها الاجتماعية، والكلام في أهمية هذه الفريضة في حفظ التوازن الاجتماعي وتوزيع الثروة. أبدأ أولاً في الكلام عن معنى الخمس اصطلاحاً، ثم في الدليل الشرعي على وجوب هذه الفريضة ومواردها وكيفية تقسيم المال فيها. ثم بيان أهمية الخمس في تحسين الوضع الاجتماعي، وكيف أن الخمس وسيلة فعالة في حفظ التوازن الاجتماعي وأداء الفريضة الاجتماعية التي تفرضها الملكية الخاصة على أصحابها. بعد ذلك أبحث في مسؤولية الدولة باعتبارها تشغل المنصب الشرعي المنوط بالإمام C، في رعاية مصالح المسلمين والعمل على إدارة أموال الخمس وتوزيعه بطريقة عادلة بحيث لا يبقى محتاج في المجتمع.

الباب الثالث: وقد خصصته للكلام عن أثر الملكية في إجراء وصحة المعاملات الشرعية، وهو بحث فقهي صرف ينقسم إلى فصول أربعة:

جعلت الفصل الأول تمهيديًّا، أبدأ فيه بتعريف المعاملة الشرعية ثم بيان أنواعها وشرائطها العامة، التي من أهمها ثبات الملكية الخاصة.

في الفصل الثاني، أبحث في الملكية الخاصة باعتبارها شرطاً رئيساً لإجراء وصحة المعاملات، فثبوت الملكية الخاصة واستقرارها تامة كاملة شرط أساس لصحة المعاملة الشرعية، ويتم هذا الشرط من جهتين، الجهة الأولى طرفي المعاملة، فيجب أن يكونا مالكين أو مأذونين من المالك أو الشريعة. والجهة الأخرى محل المعاملة حيث يشترط لصحة المعاملة أن يكون صالحاً للتملك الشخصي، وأن يكون طلقاً وغير محجوز، وألَّا يكون مسلوب المالية شرعاً أو عرفاً.

أما الفصل الثالث، فالبحث فيه يدور حول الحقوق المعنوية وموقف الشريعة من جعلها محلاً للمعاملات المالية، أبدأ بالكلام عن حق التأليف وبيان الآراء الفقهية التي تختلف بين مؤيد ومعارض ومقيد، ثم الكلام في حقوق براءة الاختراع، والاسم التجاري، والعلامة التجارية واستعراض الموقف الفقهي حولها أيضاً.

أنتقل بعد ذلك للبحث في التكييف الفقهي لمختلف الآراء، باستعراض ومناقشة أدلة جميع الأقوال.

وأختم بالفصل الرابع، الذي أتناول فيه حدود التصرف في الملكية الخاصة بما يتعلق وإجراء المعاملات. أبدأ فيه بالبحث عن حدود التصرف في الرهن، ثم أتكلم عن مقدار مال الوصية وحدود التصرف فيها، ثم البحث في معاملات المريض مرض الموت من معاملات معاوضية وتبرعية وتنجيزية وتعليقية، وفيه يتم الجواب عن سؤال: هل يحق للمالك التصرف في ماله كله ببيع أو هبة أو صلح أو وقف؟. وأخيراً وليس آخراً البحث في مال الشركة، وحدود وكيفية تصرف الشريك فيه، وفي النهاية الكلام في حق الشفعة واستعراض الآراء الفقهية فيها وأدلتها.

ثالثاً: الخاتمة

وقد لخصت فيها أهم نتائج البحث بالتسلسل حسب ما جاءت في الرسالة، وفيها أذكر ما اخترته من أراء وما توصلت إليه من نتائج. فهنا نتيجة عامة ونتائج تفصيلية:

أ- نتيجة عامة

يستند الاقتصاد الإسلامي بشكل أساس إلى الدين، حيث تقوم أركانه ومفاهيمه على مبادئ وأصول الشريعة الإسلامية. وإذا ما أراد الباحث أن يدرس الاقتصاد الإسلامي أو أي موضوع منه، فلا يصح له أن يدرسه منفصلاً عن أصول الشريعة ومبادئها. كأصول العقيدة، والمفاهيم الإسلامية، والأسس الأخلاقية التي يتبنى الإسلام بثها وتنميتها حفاظاً على نظافة الفرد والمجتمع وضماناً للتوازن الاجتماعي.

وتشكل المبادئ والقيم والمثل الإسلامية بمجملها نظاماً صالحاً للتطبيق في أي مجتمع وفي كل زمان، لأن الإسلام جاء بتلك المبادئ والقيم والمثل ليبث في الإنسان روح الإنسانية، ويغذي فكره بالعقيدة الراسخة، ويزرع فيه حب التعاون والعطاء، وبذلك تنمو وتتطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية وفق تلك الأسس الأخلاقية العليا، بعيداً عن العوامل المادية والقوى الطبيعية. فالإسلام لم يربط بشكل أساس التطور والنمو في العلاقات الاجتماعية بتطور ونمو العوامل الاقتصادية والمادية فحسب، وإنما جعل الأسس العقائدية والأخلاقية أساساً لبناء وازدهار الحياة الاجتماعية والاقتصادية.

إن النظام الاقتصادي الإسلامي، واقعي في غاياته وأهدافه، فهو يضع بتوجيهاته وتشريعاته منهجاً متكاملاً لسلوك الإنسان في علاقته مع خالقه وعلاقته مع الطبيعة وما فيها من ثروات متنوعة، وعلاقته مع أخيه الإنسان في مجتمع متوازن اجتماعيًّا. وبهذا المنهج الإلهي، يضع المشرّع الإسلامي أنجع الحلول للمشكلات التي تواجه البشرية، حيث يراعي بتشريعاته وإرشاداته الجانبين المعنوي والمادي من الحياة الإنسانية، ويقيم توازناً وتوافقاً بين المصالح الخاصة والمصالح العامة، من خلال طريقتين أساسيتين هما التوجيه الإرشادي، والتشريع الإلزامي. ويجسد التنوع في تشريعات الإسلام، تطبيقه لأشكال متنوعة للملكية، مما يدل على إحاطته وشموليته لجميع وجوه الحياة، فهذا التشريع الشامل يهدف إلى تحقيق توازن اجتماعي واقتصادي في المجتمع، حيث يعتني بمصالح الأفراد الخاصة ويكفلها بإقراره للملكية الخاصة، ويراعي مصالح المجتمع العامة ويضمنها بتشريعه للملكية العامة، ويعين الدولة على تحمل مسؤولياتها تجاه المجتمع وأفراده بملكية الدولة (ملكية الإمام C).

ولا تذهب الرسالة المحمدية بعيداً عن الإنسان وحاجاته الأساسية وعلاقاته، فهي لا تنظر إلى الثروة باعتبارها هدفاً يتحتم على الإنسانية أن تضع جميع طاقاتها وإمكاناتها في سبيل تنميتها، كما نهج النظام الرأسمالي والاشتراكي، حيث جعلا من المادة والعنصر الاقتصادي المحور والعامل الذي تدور حوله عجلة التطور بعيداً عن القيم الأخلاقية. فإن الشريعة الإسلامية تجعل الأساس في بناء المجتمع وتطوره، مبادئ التعاون والتعاضد بين أفراد المجتمع إضافة إلى حسن استغلال الأموال والثروات.

إن أساس العقيدة الإسلامية يرتكز على أن الإنسان وحاجاته، وعمارة الأرض، وترسيخ القيم المعنوية والأخلاقية، هي الغايات من التشريع، التي تدفع المجتمع الإنساني بجميع فئاته نحو القيام بالمسؤولية الاجتماعية، وعدم الانسياق وراء الدوافع الذاتية والأهداف المادية، التي تقطع الصلة بين الإنسان وخالقه وأفراد مجتمعه. فالفرد المسلم يستشعر المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية في داخله، وهي التي تعزز فكرة التعاضد والتعاون والتكافل، وهي بدورها أيضاًَ تجسد أهم مبادئ رسالة الإسلام.

إننا نرى في التشريع الإسلامي تركيزاً شديداً على الجوانب المعنوية والأخلاقية لضرورتها في بناء مجتمع متوازن، وهي التي لا يمكن أن توجد في مجتمع إلا من خلال عقيدة راسخة يحملها أفراد المجتمع في أعماقهم وتفكيرهم، فيؤدون رسالتهم ودورهم في الحياة وفق مفهوم الخلافة العامة التي كلفهم بها خالقهم {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[12]،

 

 «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»[13]، 

 

{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي

الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[14].

 

وإن إقرار الإسلام للملكية الخاصة وتشريعه لها وما يتفرع عليها من حقوق، يلقي بالمسؤولية الاجتماعية على عاتق الفرد، فهذا الحق كما يحمل تكريما للفرد {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}[15]،

 

فإنه كذلك يحمل تكليفاً له، فالفرد مسؤول بتطبيق دعوة الشريعة إلى اكتشاف الطبيعة واستخراج ما فيها من ثروات متنوعة، واستغلالها، وإلى توجيه الأموال الوجهة التي أرادها خالقها وموجدها ومالكها الحقيقي {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[16]،

 

ليضمن بذلك حسن سير العملية الاقتصادية والاجتماعية، فيحقق في نهاية الأمر الغاية والهدف الأسمى من وجود الإنسان على وجه الأرض وهو إعمارها {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}[17]،

 

 وذلك بما وضع تحت تصرفه من ثروة، وبما سخَّر له من إمكانات، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[18].

 

وبهذا تؤمِّن مبادئ الاقتصاد الإسلامي المستمدة من الشريعة وأصولها لجميع فئات المجتمع وطبقاته أرزاقهم، وتضع الحلول المناسبة للارتقاء بالأفراد والمجتمعات إلى المستويات المعيشية اللائقة، كما تضمن زيادة الخيرات وتدفقها بصورة مستمرة. فالنظام الإسلامي هو وحده من بين الأنظمة الاقتصادية الذي يحقق عدالة وكفاءة في توزيع الثروات، كيف لا وهو نظام يستند إلى رسالة السماء وسنّة الله وهديه {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}[19]،

 

التي لا تتأثر بالأهواء والآراء والمصالح الشخصية كما هي القوانين والنظريات الوضعية. {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}[20].

 

ب- أهم نتائج البحث التفصيلية

أولاً: أوضحت الدراسة أنَّ التعريف المناسب لموضوع البحث «الملكية الخاصة» هو أنَّها «سلطنةٌ أو قدرةٌ اعتبارية، تُمكِّنُ صاحبها من الاختصاص والتصرف أصالةً لا نيابةً بشيءٍ يقبل المعاوضَة والتبادل، إلا لمانعٍ شرعي». وبهذا يحدد التعريف طبيعة الملكية وأثرها ومتعلَّقها والجهة الحاكمة والمعتبرة لها.

ثانياً: اتضح من خلال البحث أنَّ متعلَّق الملكية هو المال بمفهومه الشامل، وهو كل شيءٍ ينتفع به منفعةً محللةً شرعاً ومقصودةً لدى العقلاء، فهو يشمَل الأعيان والمنافع والحقوق التي تقبل المعاوضة، وذلك لأنَّه ليس للمال حقيقة شرعية سوى اعتبار العقلاء إلا ما خرج بدليلٍ شرعيٍ خاص، أو كان مشمولاً للنهي العام عن أكل المال بالباطل.

ثالثاً: استناداً إلى مفهوم المال المتقدم، فإنه يجوز تملك الحقوق الفكرية.

رابعاً: أظهرت الدراسة أنَّ الملكية الخاصة، مظهرٌ من مظاهر الخلافة العامة التي كلَّف الله بها الإنسان، وأداةٌ فاعلةٌ من أدوات الوظيفة الاجتماعية، فهي مصدرٌ لأداء حقوق الله وحقوق المجتمع.

خامساً: يذهب الاقتصاد الإسلامي إلى أنَّ سبب المشكلة الاقتصادية الرئيس، هو سلوك الإنسان السلبي تجاه خالقه، والثروة، وأخيه الإنسان، بكفره بأنعم الله، وبعده عن تقوى الله والإيمان به، وسوء استغلاله للثروة وتبديدها فيما حرَّم الله، وعدمِ إخراجه لحق الله وحقوق المجتمع. ويرى الاقتصاد الإسلامي أنَّ مراعاة هذه الأمور يحول دون وجود المشكلة الاقتصادية أو تخفيفها.

سادساً: تبيَّن من خلال البحث أنَّ الاقتصاد الإسلامي يرى أنَّ أساس التوزيع العادل يقوم على التوفيق بين المصالح الفردية والمصالح العامة، ويقوم على الدعامة الأخلاقية للنظام الإسلامي وهي الدعوة إلى التعاون والتكافل استناداً إلى مفهوم الاستخلاف والوظيفة الاجتماعية. وهذا الأساس هو جوهر العملية التوظيفية للأموال في الملكية الخاصة، وهو ذاته الذي يجعل من الملكية أداةً رئيسةً للتوزيع، بتوجيه الأموال الوجهة التي أرادها مالكها الحقيقي وهو الله تعالى، واستغلال الأموال أحسن استغلال بمراعاة الضوابط الشرعية. فاستهلاك الأموال يجب أن يكون أمراً بين أمرين، بين الإسراف والتقتير، والاستثمار يكون بتوظيف الموارد فيما يعود نفعه على الفرد والمجتمع والابتعاد عن الربا والاحتكار وأكل المال بالباطل وإنتاج المحرَّمات. ويراعى في الادخار عدم تعطيل الأموال أو اكتنازها، وإخراج حقوق الله وحقوق المجتمع منها، وبهذا يخرج الادخار عن كونه اكتنازاً وإن كثر وطال زمن الاحتفاظ به، إذا أدى صاحبه حقوق الله منه وأهمها الزكاة وفقاً للنصوص.

سابعاً: يجوز للمالك التصرف في ماله وإن استلزم ضرر الغير، إن كان في تصرفه غرضٌ عُقلائي ومنفعةٌ له، لأنَّ منع المالك حرجٌ له وتعطيلٌ لحقه المشروع. نعم يحتمل تقييد التصرف إن أصاب الغير بسببه ضررٌ فاحش، وذلك بتقديم قاعدة الضرر على قاعدة نفي الحرج.

ثامناً: توصَّل الباحث إلى أنَّ الاقتصاد الإسلامي يعتمِد في توزيعه للثروة المنتجة على مبدأين أساسيين:

* الهدف الإنساني والاجتماعي في الغاية من الإنتاج، ويراد به تلبية احتياجات الإنسان الأساسية ومراعاة أحكام الشريعة والقيم الأخلاقية في الإنتاج، والتقليل من أهمية الأهداف المادية في تجميع الثروة وتضخيمها.

* مبدأُ إعطاء كل ذي حقٍ حقه، ويتضمَّن هذا المبدأ عناصر أربعة:

1- الجهد المنفق أي العمل، وهو الأساس في تملك العامل للأجرة.

2- المشاركة في الإنتاج وهو الأساس في استحقاق العامل للنسبة من الناتج في عقود المزارعة والمساقاة والمضاربة، واستحقاق الأرض للنسبة من الناتج في عقدِ المزارعة.

3- الملكية الخاصة، وهي الأساس في تعويض رأس المال (كالأداة والآلة)، والأرض بالأجرة.

4- الملكية الخاصة وهي الأساس في تملك صاحب المال (أي المواد الخام المستعملة في الإنتاج) للمنتوج النهائي.

تاسعاً: يرى الباحث أنَّ الاقتصاد الإسلامي ينظر إلى فريضتي الزكاة والخمْس بوصفهما أداتين تؤديان عن الملكية الخاصة دوراً أساسيًّا في إعادة توزيع الثروة وتحقيق التوازن الاجتماعي.

عاشراً: تبيَّن من خلال الدراسة أنَّ العلاقة بين الملكية وفريضتي الزكاة والخمس، علاقةٌ ذات طابعٍ مزدوج. فالملكية الخاصة مصدرٌ للفريضتين، كما أنَّ الفريضتين سببٌ للملكية بنوعيها الخاص والعام.

الحادي عشر: أوضحت الدراسة أنَّ الملكية الخاصة شرطٌ أساسٌ لصحة المعاملات، ويلاحظه المشرع من جهتين، جهة طرفي المعاملة حيث يشترط أن يكونا مالكين، وجهة محل المعاملة حيث يشترط أن يكون قابلاً للتملك الخاص.

الثاني عشر: تبيَّن من خلال البحث أنَّ الاقتصاد الإسلامي يشترط لصحة المعاملة شرعاً، أن يكون محلها صالحاً للملكية الخاصة، فلا يجوز التعامل على ما سقطت ماليته شرعاً أوعرفاً، إما لنهي المشرِّع الصريح عنه كما في الخمر والخنزير والميتة، أو لعدم منفعته فلا يكون مقصداً عقلائيًّا للعامة من الناس فيكون دفع المال بازائه أكلاً للمال بالباطل.

الثالث عشر: أوضحت الدراسة أنَّ سقوط الملكيةِ في بعضِ الوجوهِ بسببِ سلبِ الماليةِ شرعاً لا يعني سقوط حقِ صاحبِ المالِ فيهِ مطلقاً، بل يثبُت له حق الاختصاصِ فيجوز له التصرف فيه كإعارتهِ أو هبتهِ، ولكن لا يجوز بيعه للدليلِ الصريح على تحريمِهِِ وتحريم ثمنه.

الرابع عشر: إنَّ الرأي القائل بجواز جعل الحقوق الفكرية محلًّا للمعاملة الشرعية وجيهٌ، والاحتياطُ -كما يرى بعض فقهاء الإمامية- في عدم جعل هذه الحقوق مبيعاً أو ثمناً في معاملة البيع خاصة، لما يظهر من بعض الأدلَّة اشتراط أن يكون المبيعِ من الأموال العينية والثمن من جنس المبيع.

وفي الختامِ،

أسأل الله العلي القدير أن يحوز هذا العمل القبول من الله تعالى، وأن يضعه في ميزان أعمالي، وأن ينتفع به عامة الناس والمشتغلون بالعلم.

واللهَ أدعو أن يحفظ الأمة الإسلامية ويبعد عنها كيد الكائدين، وأن يوفقَّني لخدمة الإسلام وأهله، وألَّا يكلني إلى نفسي طرفة عين، فهو حسبنا ونعم الوكيل، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الأبرار المنتجبين.

 



[1] سورة التوبة، الآية: 33.

 

[2] سورة الروم ، الآية: 30.

 

[3] سورة الإسراء، الآية: 70.

 

[4] سورة الأعراف، الآية: 10.

 

[5] سورة هود الآية: 61.

 

[6] سورة المائدة، الاية: 2.

 

[7] سورة التوبة، الآية: 41.

 

[8] سورة البقرة، الآية: 254.

 

[9] سورة الحديد، الآية: 7.

 

[10] سورة البقرة، الآية: 30.

 

[11] سورة الحديد، الآية: 7.

 

[12] سورة المائدة: الآية 5.

 

[13] البخاري، صحيح البخاري، ج 1، مرجع سبق ذكره، ص 215.

 

[14] سورة يونس: الآية 14.

 

[15] سورة الاسراء: الآية 70.

 

[16] سورة الحديد: الآية 7.

 

[17](9) سورة هود : الآية 61.

 

[18](1) سورة النخل : الآيات 10-14.

 

[19](2) سورة الأحزاب : الآية 62.

 

[20](3) سورة البقرة : الآية 120 .

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة