تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

ثقوب في الوعي الاجتماعي..تحديات في عالم متغير

محمد محفوظ

 مفتتح :-

عديدة هي المشاكل والقضايا التي تعانيها مجتمعاتنا، وتمارس دوراً سيئاً في نظام علاقاتها الداخلية، وما يترتب على ذلك من ضعف وإهتراء وتدهور، وغياب الحدود الدنيا من متطلبات الثقة وحسن الظن.

ولعل المخاطر التي تثيرها هذه الأدران والأمراض، هي أخطر بكثير من تحديات الخارج ومؤامراته المتواصلة. وذلك لأن هذه التحديات بأهدافها وآليات عملها تحفز الداخل على الاستعداد، وتوفر إمكانية القيام لمواجهتها من قبل جميع شرائح المجتمع. أما أدران الداخل وأمراضه فهي تنخر في الجسم الاجتماعي نخراً، وتقوّض أسس القوة والعزة ببطء وهدوء، مما يؤدي إلى تأثيرها العظيم دون انتباه الكثير من الناس والمعنيين.

يقول تبارك وتعالى {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً}(1).. فالنتيجة التي تؤكدها الآية الكريمة، وهي البوار والتردي، مرتبطة بشكل مباشر بالمقدمة التي تحدثت عنها الآية.. أي أن ظن السوء يقود إلى البوار والخسران. وذلك لأن هذا الظن يفتت العلاقات الداخلية وينخر في نظام المجتمع، مما يؤدي في المحصلة الأخيرة إلى غياب كل أسباب القوة في المجتمع مما يفضي إلى البوار والتردي..

لذلك ينبغي لنا باستمرار أن نفحص واقعنا الاجتماعي، ونعمل على طرد كل القضايا والمشاكل التي تساهم في ضعفنا وتدهورنا وخسرانناً سواء فيما يتعلق بمعارك التنمية والبناء أو معارك إفشال مخططات الأعداء.

وإن المنطقة وعلى ضوء تطورات الحرب الأمريكية والبريطانية على العراق، تعيش مرحلة حرجة، مما يتطلب من الجميع الانتباه والتعامل مع ما يجري بروح عالية من المسؤولية. ونحن وفق هذا المنظور ينبغي أن نتعامل مع مشكلاتنا الداخلية، التي تساهم بشكل أو بآخر في تضعيف المجتمع، وإدخاله في معارك جزئية وهامشية، لا تفضي إلا إلى المزيد من تراجع موقعنا على الصعد كافة..

ولعل من أهم القضايا التي ينبغي أن نعمل على علاجها بشكل سريع، هي تلك القضايا التي تثيرها عقلية التعصب الأعمى، وما تثيرها هذه العقلية من أحقاد وضغائن تربك ساحات العرب والمسلمين الداخلية، وتفتح جروحاً وحروباً وفتناً، تهدد الجميع بالاندثار والضياع.

تجديد الثقافة الاجتماعية

إننا كعرب ومسلمين، لا نستطيع أن نواجه أعداء الأمة وتحدياتها الكبرى، إلا بتنقية أجوائنا وأوضاعنا من تلك الأمراض والأدران، التي تربك أحوالنا الداخلية، وتسعى نحو تفتيتنا وتشتيتنا تحت عناوين ومسميات مختلفة. إن وحدتنا الوطنية والعربية والإسلامية، تقتضي منا جميعاً نبذ التعصب ومحاربة ثقافة الحقد والضغينة والكراهية. وذلك لأن هذه الثقافة بتأثيراتها ومتوالياتها النفسية والسلوكية، هي التي تدخلنا في نفق الضياع والتردي..

إننا أحوج ما نكون اليوم، إلى تعزيز وحدتنا الوطنية، وتمتين جبهتنا الداخلية.. ولا يتم كل هذا إلا بطرد تلك الثقافة، التي تربي الإنسان على الحقد والكراهية والفرز بين أبناء الوطن والمجتمع الواحد.. لا يمكن أن تنمو حقائق الوحدة في أي مجتمع مع ثقافة التعصب والكراهية، وذلك لأن هذه الأخيرة تقوّض كل أسس التوافق وأسباب الوحدة وضرورات الالتحام والائتلاف.

لذلك فإن عمق وحدتنا كعرب ومسلمين، مرهون إلى حد بعيد بقدرتنا على تأسيس ثقافة اجتماعية جديدة، قوامها التسامح واحترام الاختلاف والالتزام بمقتضيات حقوق الإنسان.

وإن إيماننا العميق بأفكارنا وتصوراتنا إلى الأمور والقضايا، ينبغي أن لا يدفعنا إلى تبني خيارات قسرية وعنفية في التعامل مع الآخرين. فالقسر لا يقود إلى الإقناع والالتزام، والعنف يزيد من ابتعاد الناس عن قناعاتنا وأفكارنا.

فلا يكفي أن تكون أفكار الإنسان صحيحة أو أهدافه نبيلة، وإنما من الضروري أن يتبنى أساليب ووسائل منسجمة ونبل الأهداف ومتناغمة وإنسانية الإنسان. وفي الكثير من الأحيان، الذي يقود الإنسان إلى الالتزام بفكرة ما أو عقيدة ما، ليس أهدافها وغاياتها، وإنما طبيعة الأساليب والوسائل المستخدمة للتعريف بتلك الفكرة والعقيدة. لذلك يقول تبارك وتعالى {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (2).

فالسلوك الايجابي والممارسة الحسنة المنضبطة بضوابط الأخلاق وحسن التعامل مع الآخر، هو الذي يقود إلى الإقناع والالتزام.. أما ممارسة العنف والقسر، فلا يقود إلا إلى المزيد من التفلت من هذه الأفكار والقناعات والأهداف.. لذلك نجد أن التوجيهات الإسلامية، تؤكد على ضرورة الرحمة والرفق في التعامل مع الآخرين. وهذه القيم والصفات هي القادرة وحدها على نقل الإنسان من موقع الخصومة والكراهية الى موقع الأخوة والصحبة، ومن موقع الاتهام وسوء الظن إلى موقع الاحترام وحسن الظن.

لذلك جاء في الحديث الشريف (إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه، ولا نزع عن شيء إلا شانه، وإن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف).. فالباري عز وجل يبغض العنف في العلاقات الإنسانية، كما أن تأثيرات هذا السلوك وهذه الممارسة وخيمة على استقرار المجتمع وأمنه.

فالعصبية بمتوالياتها المتعددة، والكراهية بما تنتجه من أعمال ومواقف تجاه الآخر، ساهمت في هزيمتنا وتأخرنا. وذلك لأننا أصبحنا دائماً نعاني من أمراضنا وأدراننا الداخلية، ولا نمتلك القدرة الكافية من جراء ذلك للخروج من هذه الشرنقة التي بناها أهل التعصب لمجتمعاتنا العربية والإسلامية. فحينما تهتك الحرمات وتزداد الافتراءات والأراجيف، يدخل الواقع الاجتماعي في أتون المعارك العبثية، التي لا تزيده إلا ضياعاً وبعداً عن صناعة المنجز الحضاري أو الدفاع عن قضاياه الجوهرية.

لذلك فإننا نرى أن ثقافة الكراهية والتعصب في العالم العربي والإسلامي، ساهمت في إرباك نظام الأولويات، كما أنها خلطت الأوراق وجعلت الجميع بشكل أو بآخر خاضعا لتداعياتها. ولعلنا نقترب من الحقيقة، حين نقول أن العلاقة جد قصيرة بين هذا الانشغال والخضوع، والمحاولات التي تبذلها الولايات المتحدة الأمريكية للهيمنة على العالمين العربي والإسلامي، والسيطرة على مقدراتهما وثرواتهما.

لهذا فإننا نرى هذه الثقافة بكل وسائطها ومنتجاتها من الثقوب الأساسية في وعينا الاجتماعي، والتي تساهم في زيادة وتيرة تراجعنا واندحارنا. لذلك ينبغي أن يعمل الجميع لسد هذه الثغرات والثقوب، حتى يتوفر الوعي الاجتماعي القادر على صيانة الوحدة الوطنية والمتجه بقوة وحكمة صوب خلق موجبات التطور والتقدم. فالقلوب المظلمة بالحقد والكراهية، لا يمكنها أن تضيء قلب أحد، وذلك لأن تراكم الضغينة يحول دون اكتشاف الطريق المناسب والسليم لممارسة الهداية والدعوة.. لذلك جاء في المأثور (احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك)..

وعليه فإن خلق الوعي الاجتماعي الجديد، بحاجة إلى الأمور التالية:

1 ـ لا ريب أن بناء الوعي الاجتماعي الجديد، وإحداث قطيعة حقيقية على المستويين المعرفي والسلوكي مع ثقافة التعصب والكراهية، بحاجة إلى عمل متراكم يتجه إلى بناء حقائق مجتمعية، تعلي من شأن التسامح والحوار. وهذا يتطلب من الجميع آحاداً وجماعات ممارسة مسؤولية تطوير الأداء والسلوك الاجتماعي المستند على قيم التواصل والمناقبيات الأخلاقية ومساواة الذات بالآخر.

فالوعي الاجتماعي الجديد، لا يبنى صدفة أو من خلال جهد شريحة أو فئة من المجتمع، وإنما يبنى من خلال جهود وسعي الجميع، كل من موقعه ينبغي أن يمارس دوره ووظيفته في القطع مع ثقافة التعصب وموجباتها الخاصة والعامة، وإرساء معالم ثقافة وعي جديد تنسجم ومقتضيات الأخوة الدينية والوطنية.

2 ـ إننا ومن مختلف مواقعنا بحاجة أن نتخلص من الأنفة والحمية والإحساس المرضي بالذات. وذلك لأن هذه العناصر تختزن الكثير من الآثار والأمراض التي تؤثر على طبيعة ومفهوم الاستقرار في المجتمع. فالشعور بخيريتك من الآخر يقود إلى التكبر وممارسة الظلم تجاهه. لذلك فإن المطلوب أن يكون الإنسان واقعياً وموضوعياً في نظرته إلى نفسه وإلى الآخرين، فيدرس ما عنده من خصائص وما عند الآخرين من خصائص، حتى يعرف حجمه أمام الآخر، ويعرف حجم الآخر أمامه.

فمن خلال النظرة الموضوعية والعادلة للذات والآخر، يكتشف الإنسان أبعاده الإنسانية العميقة التي تدفعه للمزيد من التواصل ونسج العلاقات الطيبة والأخوية مع الآخرين.

لذلك نجد أن القرآن الحكيم، يؤكد على حقيقة أن الباري عز وجل أنزل على المؤمنين سكينته، التي تنعكس في حياتهم الخاصة والعامة  طمأنينة وهدوء نفس وملازمة التقوى في السر والعلن.

إذ يقول تبارك وتعالى {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما (2).. فالإنسان بما يختزن من سكينة الإيمان ومقتضيات التقوى، يساهم مساهمة رئيسية في إرساء وعي اجتماعي جديد، ينبذ التعصب وكل أشكال الحميّة الجاهلية، ويعمل على نسج علاقات عميقة مع الآخر على قاعدة الاعتراف والمساواة.

فتعالوا أيها الأحبة ومن مختلف مواقعنا، نتدرب على ممارسة الفضيلة بكل تجلياتها ومقتضياتها مع المختلفين معنا، وأن نزيل من قلوبنا كل الأغلال التي تحول دون الحوار والانفتاح والتواصل مع الآخرين. فالاختلاف في الدائرة الوطنية والإسلامية لا يجب أن يقود إلى الخصومة بل إلى الحوار والفهم المتبادل، والتلاقي حتى تتبلور الرؤية ويزول الغبش وتزداد أسباب الألفة والمحبة.

الواقع ورهانات المعنى

تراكمت عبر العصور مظاهر التخلف وقائع وممارسات، أدت في المحصلة الأخيرة إلى تغييب النزعة الأنسية العميقة التي يحتضنها الدين الإسلامي في كل قيمه ومبادئه وشخصياته المحورية. فالجهل أدى إلى عدم اكتشاف هذا المخزون الإنساني الهائل التي تحتويه قيم الإسلام الفردية والاجتماعية، مما أدى إلى التعايش البغيض بين مرجعية فكرية تعلي من شأن الإنسان وحقوقه، وبين واقع سيئ يتجه إلى المزيد من تغييب البعد الإنساني للحياة.

والانحرافات الفكرية والسياسية، التي سادت في حقب تاريخية متفاوته، حالت دون إبراز المضمون الإنساني للإسلام والمسلمين.

وعلى كل حال نستطيع القول: إن هناك عوامل تاريخية ومجتمعية عديدة، ساهمت دون إبراز النزعة الإنسية في التجربة الإسلامية على المستويين النظري والسلوكي.. مما أدى إلى تراجع تلك الجهود العلمية والبحثية والنظرية، التي تعتني بشكل موضوعي بإبراز هذه النزعة الأصيلة في حياة الإسلام.

وأمام التحديات الكبرى التي تواجه عالم الإسلام اليوم، نحن بحاجة ماسة إلى العمل الجاد لإبراز النزعة الأصيلة في واقعنا وحياتنا، بحيث تكون كل شؤون حياتنا، منسجمة في يومياتها مع مقتضيات هذه النزعة.. وذلك لأن التقدم الحقيقي لا يقاس بمستوى توفر الأشياء المادية والظاهرية، وإنما بمدى التزامنا أفراداً وجماعات بكرامة الإنسان وحقوقه الأساسية..

لذلك نجد أن بداية التقدم في التجارب الإنسانية هي حينما تمكنت هذه المجتمعات، من إحداث قطيعة حقيقية مع كل قيم وأشكال امتهان الإنسان، وسعيها الحثيث نحو إرساء معالم نزعة و ثقافة جديدة، محورها الأساسي هو الإنسان.. فلا تنمية حقيقية بدون تنمية الإنسان في أبعاده المختلفة، كما أنه لا استقرار مجتمعياً بدون سيادة ثقافة تحول دون التعدي على حقوق الإنسان الأساسية.

فالأديان القديمة دمرت شخصية الإنسان، وجعلت منه مجرد قربان للآلهة، أو كائناً عاجزاً أمام قدرة إلهية مطلقة، لذلك لم تبرز في تلك التجارب البشرية النزعة الإنسانية.. ولقد عانى الأوروبيون قبل عصر النهضة من هذه الرؤية، حيث كانت السلطة الكهنوتية تلغي في الإنسان ذاته وإرادته وحريته، لتجعل منه مجرد مخلوق عليه أن يدفع ضريبة الخطيئة الأولى استعباداً وتدميراً وتجهيلاً..

وبدأت النزعة الإنسانية في التجربة الأوروبية كرد فعل على هذا الواقع الكنسي المرير. وتمكنت هذه التجربة بعد صراعات عميقة وطويلة من إزاحة الجبرية اللاهوتية التي كرستها مسيحية القرون الوسطى في أوروبا.

أما على المستوى الإسلامي، فإن الإسلام ينظر إلى الإنسان باعتباره خليفة الله في الأرض، وأنه يمتلك القدرة على الاختيار، إذ قال تعالى {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا(4).  وهذا المعنى يتضمن أصالة الكرامة الإنسانية، وذلك لأن الحرية من خصائص الإنسان وحده، وتوفر الاستعدادات والقابليات البشرية، وغياب العوائق والأغلال.

وعلى ضوء ذلك فإن نزعة الأنسنة بما تحتضن من قيم وحقوق وإجراءات، هي تكليف وواجب قبل أن تكون حقاً.  ولكي تتضح هذه الرؤية من الضروري أن نوضح علاقة هذه المسألة بنظام القضاء والقدر. فالقضاء الإلهي هو عبارة عن حكم الله القاطع في الأحداث، والقدر الإلهي عبارة عن تقدير الظواهر و الأحداث. ومن الثابت على صعيد علم العقيدة والكلام عدم تعلق القضاء الإلهي بأي حدث مباشرة وبلا واسطة، وإنما يوجد كل حدث عن طريق علله وأسبابه فقط. أي أن القضاء الإلهي يحتم أن يكون نظام العالم نظام أسباب ومسببات. وعلى هذا فإن القضاء والقدر ليسا ضد حرية الإنسان واختياره.

من هنا نجد أن الدين الإسلامي على المستوى التاريخي، حارب كل المظاهر والأعراف التي تغيب حرية الإنسان، أو تهين كرامته، أو تميز بين الإنسان وأخيه على قاعدة طبقية ـ مادية، وأرسى دعائم نظرية التعارف وتجاوز كل الحواجز التي تحول دون إنسانية الإنسان. إذ قال تبارك وتعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم (5).

وربط الإسلام هذه القيمة الكبرى بمبدأ دفع المضار وجلب المصالح.. إذ أن نزعة الأنسنة بكل مقتضياتها لا تنجز على الصعيد العملي، إلا على قاعدة  توفير المصالح التي يسعد بها الإنسان ويحيا حياة كريمة، ودفع الأضرار التي تجلب له الشقاء والبعد عن الجادة والحياة الكريمة.

لذلك فقد اعتنى الدين الإسلامي إيما اعتناء بهذه المسألة، وأسس الفقه الإسلامي استناداً على النص العديد من القواعد الفقهية والقانونية، التي تحول دون الشقاء، وتجلب للإنسان الفرد والجماعة كــل أسباب المصلحة والسعادة.  فقد جاء في الحديث الشريف «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»..

إذ يقف الإسلام ضد كل الأضرار النفسية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والسلوكية، التي تؤثر سلباً في حياة الإنسان الخاصة والعامة. ولا يكتفي الدين بتأصيل وتأسيس البعد السلبي من مفهوم الأنسنة (إذا جاز التعبير)، وإنما يسند هذا التأسيس، بنظام آخر هو استدعاء وجلب كل المصالح التي تضمن الحياة الكريمة للإنسان، التي قوامها القدرة والحرية والمسؤولية.

فالإنسان في المحصلة الأخيرة، هو الذي يختار بإرادة حرة صفاته ومميزاته، عالماً أو جاهلاً، شجاعاً أو جباناً، لصاً أو شريفاً. وبما أن الإنسان مسؤول عن أفعاله فعليه أن يتحمل نتائجها.

وأن مسئولية الإنسان أمام الله في الإسلام، لا تعني بأي حال من الأحوال، أن يفقد الإنسان حريته. بل أن المسئولية لا وجود لها بدون الحرية.

وعليه فإن الهدف الأعلى للإسلام في هذا الإطار، هو خلق الإنسان الحقيقي بإرادته الحرة ووعيه المفتوح على كل الدوائر، لينشئ علاقة حميمة وأخوية وإنسانية مع أخيه الإنسان.  وعلاقة تسخير ونماء وتطوير مع الطبيعة بأشكالها المختلفة. وإن إزالة ركام الواقع، وتطوير منهجيات النظر والرؤية، سيوصلنا إلى قيم إنسانية عليا مستمدة من المرجعية الإسلامية، تلبي حاجات واقعنا إلى هذه النزعة الأصيلة، وتخرجنا من حـــالات الخصام مع هذا البعد على مستوى الواقع والممارسة.

فالنص الإسلامي في هذا الإطار، يزخر بإمكانات غنية وحية ومشبعة بالمعنى، ومهمتنا تتجسد في تظهيرها وخلق الحقائق المنسجمة معها، والعمل على جعل واقعنا وممارساتنا في سياق واحد مع هذه المعاني النبيلة.

وإننا اليوم وإزاء التداعيات الخطيرة لأحداث 11/ سبتمبر أحوج ما نكون على مستوى الداخل العربي والإسلامي ومستوى العلاقة مع الأمم والعوالم الأخرى، إلى إبراز القيم الإنسانية لديننا الإسلامي الحنيف.. وهذا الإبراز لا يتم فقط عبر الإطار النظري وبيان فضائل الإسلام ورؤيته للعدالة والتسامح وحقوق الإنسان، وإنما أيضاً عبر تقديم نموذج وقدوة واقعية.

وهذا يحملنا مسؤولية خطيرة في هذا الإطار، إذ المطلوب ومن مواقعنا المتعددة، تجسيد قيم العدالة والعفو والتسامح في حياتنا.  بحيث تكون هذه القيم، هــي سمة حياتنا ولازمة من لوازم ممارساتنا الخاصة والعامة.

وإن تحسن أوضاعنا وخلاصنا من العديد من الأمراض المجتمعية، مرهون إلى حد بعيد إلى قدرتنا على الالتزام بمقتضيات ومتطلبات نزعة الأنسنة التي تحتضنها مرجعيتنا الإسلامية في كل قيمها وأنظمتها وإجراءاتها. وإن التطور الحضاري العالمي، أبان أيضاً جملة من القيم والحقوق الإنسانية، التي أصبحت جزءاً من الشرعة الدولية ومواثيق الأمم المتحدة.. مما يدفعنا إلى ضرورة الاحترام العميق لهذه القيم، التي هي جسر الاستقرار السياسي والاجتماعي، وسبيلنا إلى الوفاء لمبادئ ديننا وقيمنا العليا.

وفي إطار ضرورة تجلية وتظهير هذا البعد الهام والحيوي في واقعنا ومحيطنا، فإنه من الأهمية بمكان التأكيد على النقاط التالية:

1 ـ من المفارقات الخطيرة التي يعاني منها واقعنا العربي والإسلامي، وساهمت بشكل أو بآخر في تشويه هذا الواقع على الصعيد الدولي.. أننا حينما نتحدث عن البعد الإنساني والحقوقي، نستند في حديثنا إلى البعد النظري والتاريخي، فيأتي حديثنا في سياق تاريخي وقيمي رفيع، مع واقع وممارسات قائمة ليست لها صلة حقيقية بهذا السياق والقيم الأساسية التي نتحدث عنها.. فهي مفارقة عجائبية، حيث أن ما ينبغي أن يكون، مليء باليوتيبيا والقيم النبيلة، وما هو قائم ومحسوس يرتكس في التخلف والبعد الجوهري عن تلك القيم والمثل العليا.. وستبقى هذه المفارقة، تساهم في تشويه واقعنا في الداخل والخارج.. وإن الجهد ينبغي أن يتجه نحو توحيد المثال والواقع وتجسير الفجوة بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن.. فلا يكفي أن نتحدث عن أخلاق الإسلام وتسامحه والحقوق التي يمنحها للإنسان، وإنما الضرورة الدينية والحضارية تلزمنا بضرورة أن يكون واقعنا كله منسجماً وهذه القيم الكبرى التي نطرحها بإسم الإسلام.  وإن كفاحنا الحقيقي لا بد أن يتجه صوب الالتحام بهذا المطلق والقيم الكبرى، التي نعتبرها حجر الأساس في مشروع استقرارنا وتقدمنا.

2 ـ إن المسؤولية الإنسانية، هي أساس الحق والواجب، وبالتالي فإن الرؤية الإسلامية تستدعي في إطار المسؤولية ونيل الحقوق التمسك بحرية الإرادة. بمعنى أن الطريق الذي ترسمه الرؤية الإسلامية لنيل الحقوق هو الالتزام بالواجب.. فكلما التزم الإنسان بوظائفه وواجباته، تهيأت الظروف الذاتية والموضوعية لنيل حقوقه. وإن أي خلل يصيب هذه العلاقة، سينعكس سلباً على عموم الحياة الاجتماعية.  ولكي يمارس الإنسان مسؤوليته على أكمل وجه، فإنه بحاجة لأن يتحرر من كل الشهوات والأهواء التي تحاول أن تدفعه إلى الحضيض.  فبمقدار تمكن الإنسان من التحرر من أهوائه ونزعاته الشيطانية بذات المقدار يتمكن من الاستفادة من بركات المسؤولية الإنسانية والاختيار الحر..

لذلك جاء في المأثور (وأكرم نفسك عن كل دنيئة وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً).  من هنا فإن الحرية المعنوية (التحرر من الأهواء والشهوات) هي بوابة ممارستها في الواقع الخارجي بصورة منسجمة والمنظور الحقوقي.

3 ـ ضرورة الانفتاح والتواصل العميق مع مفهوم الكرامة الإنسانية المستنبط من قوله تعالى {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (6). وذلك لأن هذا المفهوم الذي أرسى دعائمه الباري عز وجل في كتابه العزيز، يعد جذر الحقوق كلها.. وإن المطلوب في كل العصور والأزمنة، هو الوفاء والالتزام بمقتضى ومتطلبات هذا المفهوم وآفاقه المفتوحة على القيم الربانية ومنجزات الإنسان في العصر الحديث.

وخلاصة القول: إن تطورات العالم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تدفعنا في المجالين العربي والإسلامي إلى ضرورة العمل على إبراز وتجسيد قيم الإنسان وحقوقه في مختلف مجالات حياتنا، وذلك لأن خلق النموذج الراقي في الداخل العربي والإسلامي، هو أنجع استراتيجية للرد على الحملات الإعلامية الغربية المضادة لعالمنا العربي والإسلامي.

العلاقة مع الآخر

كثيرة هي الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى الصدام والعنف والصراع في التاريخ الإنساني. إذ أن المشهد الإنساني بكل حقبه ومراحله عاش حالة من الصدام بين أممه وشعوبه أو في داخل هذه الأمم والشعوب.

ولقد لخص أحد المفكرين الوجود الإنساني بقوله: إنه بالإمكان ومن خلال الاستقراء الموضوعي لهذا الواقع المتأصل انتزاع المعادلة الصعبة والموغلة في الحقيقة في آن، وهي أن الوجود يعادل دائماً نفي الآخر أياً كان هذا الآخر بشراً أو حجراً أو حياة. ولعل السبب الحقيقي الذي يقود إلى سيادة هذه المعادلة البشرية عبر التاريخ، يعود إلى طبيعة المصالح وتناقضاتها التي تراها المجموعات البشرية حافزاً لتدمير الآخر وإلغاء خصوصيته وإلغاءه من الوجود.

ويتغذى هذا السبب باستمرار من منظومة فكرية تغرس الاعتقاد لدى المؤمنين بها بأنها تحتكر الحقيقة الوجودية وحدها، وتنكر على الآخرين ما عندهم من فكر ومصالح و قناعات.لذلك نجد أن التاريخ الإنساني مليء بمشهد الحروب والنزاعات والصدامات المفتوحة على كل الاحتمالات، والتي تتغذى من خلال ذهنية العدوان وثقافة إلغاء الآخر كوسيلة لضمان مصالح الذات. بمعنى أن الإنسان الفرد والمجتمع ومن خلال تلك الذهنية الثقافية، يرى أن السبيل الوحيد لضمان مصالح الذات والحفاظ على مكتسبات الأنا، هو النبذ والإقصاء والإلغاء. فذهنية العدوان تؤسس إلى خيار اجتماعي ـ ثقافي، لا يرى وسيلة للحفاظ على مصالح الذات إلا إلغاء الآخرين وسفك دمائهم.

ولكن ومن خلال هذا السبيل، فإن التاريخ الإنساني يعلمنا أن إلغاء الآخر ونبذه، لا يحافظ على مصالح الذات ومكتسباتها، وإنما يدخل الجميع في دورة متواصلة من العنف لا تنتهي أو تتوقف إلا بتدمير الذات والآخر. وعليه نستطيع القول، ومن خلال تجارب الإنسان في هذا الوجود، أن إلغاء الآخر لا يحافظ على مصالح الذات، وأن ممارسة العنف والقوة العارية تجاه المختلفين والمغايرين لا ينهي الاختلاف والمغايرة، وإنما يمدهما بكل أسباب وشروط التمسك بالذات وقناعاتها وخصوصياتها. لهذا كله نشعر بأهمية أن نؤسس ونبلور رؤية حضارية في طبيعة التعامل مع الآخر، حتى لا نكرر أخطاء التاريخ، أو نؤسس لواقع حروب وصدامات مدمرة لواقعنا الاجتماعي والإنساني.

ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول: إن الآية القرآنية التي تقول {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (7).  هي التي تبلور نمط العلاقة الحضارية مع الآخر.

فالآية تقرر في بداية الأمر، أن الاختلاف شأن طبيعي وجبلة إنسانية وناموس كوني، وهو موجود وراسخ في حياة الإنسان في عصوره المديدة. وبالتالي فإن هذه الآية الكريمة، لا تطلق حكماً قيميا وسلبيا على هذا الاختلاف اللصيق بحياة الإنسان والأمم والشعوب، وإنما تعتبره حافزاً رئيسياً لأن ينطلق الناس منه لبناء علاقاتهم وتواصلهم على قاعدة التعارف..

وقد قال الشيخ (محمد الطاهر بن عاشور) في تفسيره (التحرير والتنوير): وجملة (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وإنما أخرت في النظم عن جملة (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)، لتكون تلك الجملة السابقة كالتوطئة لهذه وتتنزل منها منزلة المقدمة لأنهم لما تساووا في أصل الخلقة من أب واحد وأم واحدة كان الشأن أن لا يفضل بعضهم بعضا إلا بالكمال النفساني وهو الكمال الذي يرضاه الله لهم والذي جعل التقوى وسيلته. ولذلك ناط التفاضل في الكرم بـ (عند الله) إذ لا اعتداد بكرم لا يعبأ الله به.

ومقولة التعارف هنا تؤسس للحقائق والمنهجيات التالية:

1 ـ الاعتراف بالآخر، حيث أنه لا يمكن أن تنطلق في مشروع التعارف مع الآخر بدون الاعتراف بوجودهم وآرائهم وأفكارهم. فالتعارف يقتضي الاعتراف أن في الوجود أو المجتمع أو الوطن آخرين، وهذا الاعتراف هو الذي يقود إلى مشروع التعارف على أسس واضحة ومثمرة.

2 ـ توفر الاستعداد النفسي والاجتماعي والأخلاقي لبناء علاقة تعارف متواصلة مع الآخرين. فالنص القرآني الذي يحث على نسج معارف وعلاقات بين القبائل والشعوب يوفر لنا إمكانية القول، أن التعارف مع الآخرين هو مشروع مفتوح على كل المبادرات والخطوات الإنسانية النبيلة، والتي تتغذى باستمرار من وجود استعداد نفسي وأخلاقي واجتماعي عند جميع الأطراف لبناء علاقة تواصل مستديمة تفسح المجال لبناء علاقة سوية و سليمة بين جميع الأطراف والمكونات.

والتفاضل الذي تؤسس له الآية الكريمة، يتجسد فقط في القيمة التي يحملها كل نوع أو طرف إنساني، فالأفضلية عند الباري عز وجل هي للأتقى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وهذه الأفضلية ليست ذاتية وإنما كسبية. بمعنى أن عمل الإنسان وجهده وسعيه وكسبه في الحياة هو الذي يحدد معيار الأفضلية.

والتعارف هنا ليس محصوراً بين الأتقياء، وإنما هو مع كل الشعوب والقبائل. والآية تضع التعارف بكل شروطه ومستلزماته، هو الصيغة الأفعل لتلاقي المجموعات الإنسانية.

3 ـ إن التعارف في مضمونه وآفاقه، ينطوي على دعوة عميقة وجوهرية لمعرفة الآخر من خلال استكشافه وولوج منظوماته وقراءته كما هو، بعيداً عن الذاتية التي تسقط على هذا الآخر عصبيتها الاجتماعية والفكرية. وهذا يقتضي الحوار المتواصل والمستديم بين جميع الأطراف والمكونات، حنى يتسنى للجميع المعرفة المتبادلة واكتشاف الآخر بعيداً عن المسبقات والقناعات الجاهزة. فالحوار هو الإطار الأمثر لتتلاقى فيه الأفكار والقناعات وتتقابل وتتواجه، وإنما تحت سقف المحبة الذي لا يجعل من تغايرها وافتراقها سبباً في تأسيس تنازعات، بعدد تنوعها. فالحوار الواعي والصادق يؤسس للاحترام الإنساني بمعزل عن الفكر والقناعات الذاتية. وإن الفهم الإنساني للآخر القائم على الحوار والتواصل، هو الذي يحول دون الصدام والتضارب. وإن وعينا (على حد تعبير أحد المفكرين) لقيمة الآخر ولمغايرته ، لا يجب أن تكون أبداً دافعاً لنبذه واستبعاده أو احتقاره ومعاداته، لأن التغاير التمايز هو سنة الله في الخلق. والتعارف يجب أن يكون الركيزة الأساسية في التعاطي الإنساني المختلف، وهو الرابط في ما بينهم من ضمن منظومة الوشائج الإنسانية، المرتكزة على مبدأ التعايش على قاعدة احترام أفضل تكوين في الخليقة الإلهية أي الإنسان.

فالتعارف يوفر علينا جميعاً الكثير من النزاعات والصدامات التي لا طائل منها. وبدل أن تصارع من تجهل، تعارف معه لأنك ستجد عنده الكثير من مواطن اللقاء التي تحيل التنوع إلى غنى والتغاير إلى حوافز إضافية لاستكشاف سبل التواصل الجديدة.

والتعارف المتواصل بين مختلف التعبيرات والمكونات، هو الذي يؤكد خيار الاحترام المتبادل، ويجذّر ويعمق حالة الشفافية في العلاقة بين مكونات المجتمع والأمة. فالعلاقة مع الآخر لا تتشكل من جراء نبذه وتهميشه، وإنما من جراء التعامل الحضاري معه على قاعدة التعارف والتواصل والحوار.

لذلك فإن العلاقة مع الآخر المختلف والمغاير في المنظور الإسلامي، هي علاقة التعارف والاعتراف والاحترام.

وإن التوجيهات الإسلامية تحثنا على احترام الآخر في إنسانيتهم وأفكارهم وخياراتهم. وإن التباين في وجهات النظر والأفكار، ينبغي أن لا يقود إلى الاقتتال والنبذ المتبادل، وإنما إلى التعارف والحوار والاحترام. فقد جاء في الحديث الشريف «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب إمرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم ».. وحث النص القرآني على نبذ سوء الظن والتطاول والسخرية واللمز والنبز والغيبة إذ قال عز من قائل {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون (8).

وإن المجال الإسلامي اليوم، أحوج ما يكون إلى سيادة ثقافة التعارف والحوار بين كل تعبيراته ومكوناته، وذلك لأن أمن الأوطان واستقرار المجتمعات اليوم مرهون إلى حد بعيد بقدرة هذه المجتمعات على إزالة عناصر التوتر الداخلية وتنظيم العلاقات الداخلية بين مختلف المكونات وسيادة ثقافة التسامح والحوار. بدون ذلك سيبقى المجال الإسلامي بأسره عرضة للكثير من الأزمات والتوترات.

وعليه فإن العلاقة الإيجابية والحضارية مع الآخر المختلف في الدائرة الفكرية أو الوطنية أو السياسية، هي أحد مداخل الاستقرار الاجتماعي والسياسي في المجالين الوطني والقومي.

فالتحديات الكبرى التي تواجهنا جميعاً، بحاجة إلى فكر جديد يحترم الآخر ويؤسس الظروف والمناخات المناسبة للتعارف والتواصل بين مختلف التعبيرات والمكونات.. فالآخر ليس شيطاناً، والذات ليست منزهة من الأخطاء والثغرات. لذلك فإن المطلوب هو تطوير علاقتنا بالآخر المختلف وذلك لأنه مرآة ذواتنا.

حيث إننا لا يمكن أن نستكشف جوهر ذواتنا إلا من خلال معرفة الآخر. فهو بوابة اكتشاف جوهر ذاتنا. فالآخر وفق هذا المنظور هو ضرورة مجتمعية ومستقبلية لذواتنا. وإن المطلوب هو الانعتاق من نرجسيتنا والتحرر من هواجسنا ومخاوفنا، والانطلاق في مشروع علاقة إيجابية وحضارية مع الآخر المختلف سواء في الدائرة الوطنية أو القومية أو الإنسانية، فلتتسع صدورنا للآخر، وفكرنا للمغاير، وثقافتنا للمختلف، وذلك من أجل بناء علاقة سليمة وسوية بين الذات والآخر على قاعدة العدالة والمساواة والاحترام المتبادل. وإن الوفاء للقيم الإسلامية والإنسانية  ـ  بصرف النظر عن مزاجنا وأهوائنا وعاداتنا  ـ  يقتضي صياغة علاقتنا مع المختلف على قاعدة العدالة والحوار والتواصل. إذ قال تعالى {ولا يجر منكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (9).

فالعلاقة مع الآخر ينبغي أن تنطلق من مفهوم العدل وتستهدفه في آن واحد. فمقتضيات العدل هي التي تدفعنا إلى صياغة علاقة إيجابية وحسنة وحضارية مع الآخرين. كما أن هذه العلاقة تتحرك في مفرداتها وآفاقها باتجاه تجسيد قيم العدل في الواقع الاجتماعي والإنساني. ولا بد أن ندرك أن مفهوم التعارف الذي أرسى دعائمه الدين الإسلامي ليس خاصاً بفئة أو شريحة دون أخرى، وإنما هو للإنسان بصرف النظر عن أفكاره وآرائه.

لذلك من الضروري أن لا نحمل في نفوسنا أو عقولنا عقدة من الآخرين أو اتجاههم، ونعمل على أن تكون علاقتنا مع الآخرين وفق مقتضيات ومتطلبات القيم الإسلامية الخالدة، وبعيداً عن الأحن والانحلال والتراكمات التاريخية السيئة. فالإسلام بكل تشريعاته ونظمه دعوة لكي يعيش الإنسان إنسانيته مع نفسه ومع الآخرين، والعلاقة مع الآخر المختلف، ينبغي أن تكون تعبيراً أميناً عن عدل الإسلام وإنسانيته.

في النقد الذاتي

ثمة حقيقة أساسية ينبغي أن ننطلق منها، وهي أن قوة أي مجتمع لا تقاس بمدى ما يمتلك من قدرات مادية أو سلع استهلاكية، وإنما بمستوى استقراره النفسي ونظام العلاقات الداخلية الذي يربط بين مختلف مكونات المجتمع.

فحينما يكون نظام العلاقات الداخلي يشرع للقطيعة والجفاء والتباعد، فإن قوة المجتمع تتراجع لغياب الترابط العميق بين أبناءه ومكوناته. أما إذا كانت العلاقات الداخلية قائمة على الاحترام المتبادل والفهم والتفاهم وحسن الظن، فإن هذا المجتمع يتمكن من حماية نفسه ومكتسباته من كل الأخطار والتحديات. والذكر الحكيم يحذر من جملة عناصر أن تسود في مجتمعنا، وذلك لأن هذه العناصر تنخر قوته وتشتت مكوناته وتباعد بين أبناءه. إذ يقول تبارك وتعالى {ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم(10) . فالانطباعات التي نحملها عن بعضنا البعض، ينبغي أن تكون منسجمة وتوجيهات قيم الإسلام العليا، التي تدعونا إلى اجتناب الظن. وإن انطباعاتنا ومواقفنا تجاه الآخرين ينبغي أن تكون مستندة ومنطلقة من أدلة وبراهين دامغة. والآية الكريمة تحذرنا جميعا من تشكيل قناعاتنا ومواقفنا من الآخرين من خلال الشائعات أو الحدس أو سوء الظن والتخرصات.  فالمطلوب دائما و في كل الأحوال: إزالة كل الرواسب والعناصر التي لا تؤدي إلا إلى تضعضع البناء الاجتماعي. لذلك نجد أن التوجيهات الإسلامية تحثنا على حسن الظن والاحترام العميق للآخر شخصا وفكرا ووجدانا.. حيث جاء في التوجيه الإسلامي (ضع أمر أخيك على أحسنه، حتى يجيء ما يغلبك منه ولا تظنن بكلمة خرجت  من في أخيك المسلم سوءً وأنت تجد لها في الخير محملا)..

فالقوة الحقيقية في المجتمعات، تقاس بمستوى العلاقات والروابط بين فئات ومكونات المجتمع الواحد.. فإذا كانت العلاقة سيئة، سلبية، قائمة على سوء الظن والاتهام والكراهية والحقد، فإن هذا المجتمع حتى لو أمتلك العديد من الإمكانات والثروات، فإنه لن يتمكن من بناء قوته على أسس صلبة وعميقة. أما إذا كانت العلاقة بين مكونات المجتمع الواحد، قائمة على الاحترام والتفاهم والمحبة وحسن الظن فإن هذا المجتمع سيتمكن من بناء قوته على أسس صلبة وعميقة. ولن تتمكن تحديات الواقع ومخاطره من النيل من أمن واستقرار هذا المجتمع..

من هنا فإننا ينبغي باستمرار أن نولي أهمية فائقة وقصوى إلى طبيعة العلاقة بين مكونات المجتمع الواحد. ونعمل باستمرار على فحص هذه العلاقة، والسعي المتواصل لتنقيتها من كل الرواسب والشوائب التي تؤزم العلاقة وتدخلها في نفق غياب الوئام والتفاهم المتبادل.

لذلك فإن الأولوية الكبرى اليوم هي في تصليب وحدتنا الاجتماعية والوطنية، وذلك حتى نتمكن من مواجهة التحديات وتجاوز المخاطر التي تواجهنا في هذه اللحظة التاريخية العصيبة.. وهذا لا يتأتى إلا بنظام علاقات داخلية بين مكونات المجتمع والوطن على أسس أخلاقية ودينية ووطنية، نتمكن من خلالها من إزالة كل العناصر المسيئة للعلاقة الإيجابية بين مكونات المجتمع والوطن الواحد.  وهذا يلزمنا جميعا بإطلاق مشروع حوار دائم ومتواصل بين مختلف الشرائح والمكونات، حتى نتمكن جميعا من تطوير مستوى التفاهم بين مكونات المجتمع.

وإن الخلاف في القناعات والآراء والمواقف ينبغي أن لا يدفعنا إلى أن نغلق أبواب الحوار. بل على العكس من ذلك، حيث أن وجود الخلافات بمختلف مستوياته، ينبغي أن يدفعنا إلى الحوار المستديم والتواصل الإنساني الذي يساهم في تعريف بعضنا البعض بأفكارنا وقناعاتنا.

فالخلاف وتباين وجهات النظر بين أبناء المجتمع والوطن الواحد، لا يشرع للجفاء والقطيعة، وإنما يحفزنا للمبادرة للانخراط في مشروع الحوار والتواصل، حتى نحافظ على أمننا واستقربواب الأبواب اأبواب ارنا السياسي والاجتماعي. فقوتنا مرهونة بوحدتنا، ووحدتنا بحاجة إلى تنظيف بيئتنا ومناخنا وفضائنا الاجتماعي والثقافي والسياسي من كل الشوائب والأوساخ المعنوية، التي تفرق بين أبناء المجتمع الواحد، وتبني حواجز نفسية وعملية تحول دون التفاهم والتلاقي..

إننا اليوم لا نتمكن من إزالة رواسب الواقع السيئة، إلا بإزالة شوائب النفوس وأحقادها وأغلالها، لأنها هي التي تنتج باستمرار حقائق البغضاء والكره والتنافر. فليبدأ كل إنسان من نفسه، ويعرض قناعاتها  ومواقفها وأوضاعها على قيم الوحدة والألفة والمحبة، ويعمل بإرادة مستديمة على طرد كل العناصر السيئة التي قد تعشعش في نفسه وتحوله إلى كائن يمارس الحرب بكل صنوفها تجاه الآخرين.. فـ (أحصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك).. فأمننا واستقرارنا ووحدتننا، بحاجة إلى الفتنا ومحبتنا لبعضنا البعض وتجاوز حقيقي لكل أحن الماضي وسيئات الواقع.

وهذا بطبيعة الحال، لا يتأتى إلا بحوار داخلي عميق ومتواصل بين مكونات المجتمع المتعددة. حوار لا يتجه إلى المساجلة والمماحكة، وإنما إلى الفهم والتفاهم. حوار لا يشرع للقطيعة والتباعد، وإنما يؤسس للتلاقي وتنمية المشترك الديني والوطني والإنساني. حوار لا يجامل ولا يداهن، ولكنه يؤسس للاحترام والاعتراف بالآخر دون التعدي على حقوق الآخرين وقناعاتهم ورموزهم وشخصياتهم.

إننا أحوج ما نكون اليوم، للخروج من أحن الماضي، والانعتاق من أسر التخلف، والتحرر من الانطباعات المسبقة والمواقف الجاهزة التي تبرر لنا جميعا الفرقة والتشتت، وتؤسس للحقد والكره.

إن الأمن الاجتماعي والوطني اليوم، بحاجة إلى كل خطوة ومبادرة، تتجه صوب الآخر وتنسج علاقات إيجابية معه، على أسس الحق والعدالة والمساواة. إننا نفهم معنى الوحدة في المجتمع الوطني، من خلال فهم معنى التلاقي والاحترام والتفاهم بين شرائح المجتمع ومكونات الوطن. فالوحدة ليست مجرد شعار ويافطة، هي رسالة ينبغي أن تتجسد في واقعنا، ولا يمكنها أن تتجسد وتبنى إلا بالحوار والتلاقي والتواصل والتفاهم والاعتراف بالآخر المختلف والمغاير.. إننا ينبغي أن نبني إنسانيتنا وأوضاعنا على أساس أن لا نعيش الظلم والانحراف في أنفسنا وعلاقاتنا بالآخرين. لأن هذه هي بوابة الوحدة والأمن والاستقرار.

وحينما نمارس العسف والظلم بحق المختلفين معنا في الرأي والفكر، فإننا في حقيقة الأمر ندق إسفيننا خطيرا في البناء الوطني والاجتماعي. فالاختلاف مهما كان شكله ونوعه، لا يبرر للإنسان ممارسة العسف والظلم تجاه المختلف معهم.

وعوامل الاختلاف وأسبابه، لا تنتهي وتندثر من ممارسة الظلم والعسف، بل على العكس من ذلك تماما. إذ أن هذه الممارسات تزيد الاختلافات اشتعالا، وتدخلها في دوائر جديدة تهدد أمن الجميع واستقرارهم. وقد آن الأوان بالنسبة لنا جميعا لفك الارتباط بين الاختلاف والشحناء والبغضاء.

فالاختلاف في الرأي والفكر والموقف، لا يبرر بأي شكل من الأشكال ممارسة الحقد وشحن النفوس بالبغضاء والكراهية. وقيم الدين والأخلاق الإنسانية، لا تقر هذه الممارسات والمواقف، التي تنطلق  من رؤية ضيقة وموتورة للاختلافات والتنوعات المتوفرة في عالم الإنسان.. فالباري عز وجل يوجهنا إلى القول الحسن والذي ينطلق من نفس تحمل الحب والخير كله للآخر. إذ يقول تبارك وتعالى {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا (11). فلنقتلع الكره والبغض من عقولنا وقلوبنا ومشاعرنا، حتى نتمكن من تطهير واقعنا الاجتماعي من كل الأمراض والأوساخ، التي تضر حاضرنا  وتهدد مستقبلنا.

وحتى ينجح الحوار الوطني، ويؤتي ثماره الوطنية المرجوة، بحاجة إلى توفير الشروط الثقافية والمجتمعية التالية:

1) الانخراط في مشروع الإصلاح الثقافي والفكري، لأنه لا يمكن أن ينجح  الحوار والتواصل بين مكونات ثقافية تحمل في داخلها وتحتضن في مفرداتها بعض العناصر السلبية في العلاقة والموقف من الآخر.. وهنا أوجه دعوتي لكل الأطراف والمواقع لممارسة نقد ثقافي صريح وشجاع لموروثاتنا الثقافية والاجتماعية وبالذات فيما يرتبط والعلاقة من ومع الآخر. حيث لا يمكن نجاح الحوار وتفعيل مفرداته في الواقع المجتمعي بدون عملية إصلاح ثقافي وفكري، تتجه إلى مراجعة جادة وجريئة لمواقفنا من الآخر. حيث إننا جميعا في بعض عناصر ثقافتنا وموروثاتنا الشعبية، نحتضن موقفا سلبيا من الآخر المختلف والمغاير.. وعملية الحوار الوطني، بحاجة إلى جرأة ونقد ثقافي ذاتي على هذا الصعيد، حتى نتمكن من طرد كل مكونات السلب في رؤيتنا وموقفنا من الآخر.  ولا ريب أن النظرة الاصطفائية إلى ثقافاتنا وقناعاتنا المجتمعية، هو الذي يحول دون الانخراط الجاد في مشروع النقد والإصلاح.

وبدون عملية النقد والإصلاح الثقافي والفكري، تبقى دعوات الحوار والتواصل قشرية وبعيدة عن المسار المجتمعي الحقيقي.. إن الحوار والتواصل بين مكونات المجتمع والوطن الواحد، هي من الخيارات الاستراتيجية التي ينبغي أن نوفر كل الشروط المفضية إلى تجسيده في فضائنا الاجتماعي.

وهذا بطبيعة الحال، بحاجة إلى مشروع إصلاح ثقافي، يتجه إلى إعادة صياغة ثقافتنا الوطنية والاجتماعية على أسس أكثر عدلا ومساواة واعترافا بالآخر واحتراما لكل أشكال وحقائق التنوع المتوفرة في محيطنا الاجتماعي.

ففعالية الحوار الوطني، تتطلب عملية إصلاح ثقافي حقيقي، لطرد كل معوقات وكوابح الحوار من ثقافتنا وفضائنا الاجتماعي. فالإصلاح الثقافي الحقيقي، شرط جوهري ورئيسي لنجاح مشروع الحوار الوطني.. إذ لا حوار فعال بدون نقد عميق لموروثاتنا الثقافية، التي ساهمت بشكل أو بآخر في تكريس الجفاء والقطيعة بين مختلف مكونات المجتمع.

2) الموازنة بين نقد الذات ونقد الآخر، حيث أن العديد من الناس لا يحسن إلا نقد الآخرين وتحميلهم مسؤولية الفشل والإخفاق في العديد من الأمور والقضايا.. بينما حقيقة الأمر إننا جميعا وبدون استثناء نتحمل مسؤولية واقعنا وراهننا. وإذا أردنا التحرر من هذا الواقع، فعلينا أن نمارس نقدا لممارساتنا ومواقفنا وأفكارنا، كما نمارس النقد لأفكار الآخرين وممارساتهم ومواقفهم. وحيوية الحوار والتواصل دائما تنبع من عملية البحث الحقيقي الذي تبذله جميع الأطراف لمعرفة الحقيقة والوصول إلى صيغ عملية وممكنة وحضارية لإدارة الاختلاف والتنوع المتوفر في الفضاء الاجتماعي. والخطر كل الخطر حينما نحمل الآخر كل شيء ونزكي ذواتنا ونخرجها من دائرة المسؤولية.. بينما المطلوب دائما وأبدا محاسبة ذواتنا ومحاكمة قناعاتنا ومجاهدة أهوائنا، وذلك من أجل أن نتحمل مسؤولياتنا على أكمل وجه. لــذلك يقول تبارك وتعالى {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن أتقى (12).

والحوار الوطني اليوم يتطلب وبإلحاح شديد، من جميع الأطراف والأطياف أن يفحصوا قناعاتهم ويراجعوا أفكارهم ويمارسوا بصدق عملية نقد ذاتي، وذلك من أجل أن نتخلص جميعا من زوائدنا ومن رواسب التاريخ وأعباءه، وننطلق في بناء غدنا ومستقبلنا بعيدا عن الأحن والأحقاد والمواقف الجاهزة والمعلبة.  ووجودنا الحقيقي سواء على المستوى  الخاص أو العام، مرهون على قدرتنا على مساءلة واقعنا ومحاسبة أفكارنا وفحص قناعاتنا باستمرار. ونحن هنا لا ندعو إلى جلد الذات وتحميلها مسؤولية كل شيء، وإنما ندعو إلى الخروج من حالة النرجسية في النظر إلى ذواتنا وقناعاتنا العامة وبالخصوص فيما يرتبط بطبيعة العلاقة والموقف من الآخر.

فلنغسل قلوبنا ونطهر نفوسنا من نوازعها الشريرة والخبيثة، وندخل في رحاب الحوار برؤية وثقافة ونفسية جديدة.

&تطورات الراهن والأفق الثقافي
من الطبيعي القول: أن التحولات والتطورات المتلاحقة التي تجري في مجالنا العربي والإسلامي، تستدعي منا قراءتها بعمق، حتى يتسنى لنا كفضاء مجتمعي، من الاستفادة القصوى من هذه التطورات، والحؤول دون خضوعنا السلبي لمسيرة هذه التحولات.

وهذا يتطلب منا بطبيعة الحال، استدعاء القيم الثقافية القادرة على سبر جوهر هذه التحولات والمعرفة العميقة بطبيعة هذه التطورات واتجاهاتها الراهنة والمستقبلية.

فالأحداث والتحولات السياسية والاقتصادية لها قاعدة وجذور معرفية وفلسفية وثقافية، ولا يمكن صياغة موقف أو رؤية متكاملة تجاه هذه الأحداث والتحولات، بدون معرفة الجذور الثقافية والمعرفية لهذه الأحداث والتحولات.

من هنا فإن ما تمر به المنطقة من تحولات وتطورات، بحاجة إلى رؤية شمولية تتضمن الأبعاد الثقافية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية، حتى تتوفر لنا الإمكانية المناسبة لقراءة هذه التطورات وصياغة الرؤية الجمعية تجاهها.. فهذه التحولات تحمل في أحشائها الثقافي والسياسي والحضاري، ولا يمكن إدراكها ووعي اتجاهاتها بعمق بدون الرؤية المركبة والشاملة، والتي تتعاطى مع هذه التحولات برؤية متكاملة، لا تلغي السياسي كما أنها لا تختزل الثقافي، وإنما رؤية تحتضن متطلباتهما معا، وتسعى من الإفادة من معاييرهما وضوابطهما المنهجية وآفاقهما المجتمعية.

وعلى ضوء هذا تتأكد الحاجة في مجالنا العربي والإسلامي إلى إعادة الاعتبار إلى العقل، وذلك لأنه لا يمكن أن نستجيب استجابة حقيقية لهذه التحولات والتطورات، من دون إعادة الاعتبار إلى المكاسب الإنسانية السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهذا الاعتبار لا يتحقق بدون تأكيد مرجعية العقل، الذي يتجه إلى استيعاب كل منجزات الإنسان عبر التاريخ، ويسعى نحو تأكيد تلك الإجراءات والأطر التي استطاعت أن تحقق الاستقرار والسلم المجتمعي للكثير من الأمم والشعوب.

فالمجال الإسلامي اليوم، يمر بظروف تاريخية حساسة، حيث الأحداث تتوالى، والتطورات والتحولات زاحفة في اتجاهات عديدة، وخياراتنا نحن كعرب ومسلمين تجاهها محدودة.

وفي تقديرنا أن حجر الأساس في بلورة الرؤية والخيار تجاه هذه التطورات والتحولات، هو إعادة الاعتبار إلى العقل الذي يعني الآتي:

1)    القبول والتفاعل مع مكاسب الإنسان الحضارية، والعمل الحقيقي والجاد على تبيئة هذه المكاسب والمنجزات، وذلك من أجل تطوير حياتنا السياسية والاجتماعية بما ينسجم ومقتضيات ذاتنا الثقافية والحضارية وتحولات الراهن.

2)    إذا كانت السمة الجوهرية في تجربة الأنوار الأوروبية، تتجلى في نزعة تمجيد العقل واعتماده مرجعية وحيدة لشئون الفكر والعالم. فإن اجتراح مشروع رؤية وإستراتيجية عربية وإسلامية، هو شأن لا يمكن تصور حدوثه دون ركيزة أساسية لقيامه تتمثل بإعادة الاعتبار لمكانة العقل.

فالمطلوب هو إعادة الاعتبار للعقل وليس اكتشافه. فنحن أتباع دين (كما يقرر أحد المفكرين) يحتم الالتزام بمرجعية العقل وسيادته ومعطياته إلى الدرجة التي يتقدم العقل فيها على الدين.  فالدين لا يعُرف إلا بالعقل ولكن العقل لا يعرف بواسطة الدين. فإعادة الاعتبار إلى العقل، لا تعني استنساخ التجربة الأوروبية، وإنما تأتي في سياق إسلامي يتجه إلى إزالة ركام التخلف والانحطاط، ويعمل جاهدا صوب تأسيس قيم الإنسان وحقوقه في الفضاء المجتمعي للمسلمين.

3)    إن السائد الثقافي والفكري، هو الذي أوصل العرب والمسلمين بشكل أو بآخر إلى ما هم عليه. لذلك فإن الخضوع للسائد الثقافي والتعامل معه باعتباره مقدسا، لا يمكن تطويره وتغييره، هو الذي يزيد من تدهور أوضاعنا وأحوالنا. لذلك فإن إعادة الاعتبار إلى العقل، يعني فيما يعني العمل على تحريك المياه الراكدة، والعمل على تطوير أوضاعنا الثقافية والمجتمعية، حتى تتوفر كل الظروف والعوامل المفضية إلى الانخراط النوعي في مشروع التحولات الراهنة.

وهنا نصل إلى حقيقة أساسية، ينبغي إدراكها بعمق في مجالنا العربي والإسلامي، وهي: أن كل محاولة أو جهد أو مشروع يستهدف التغيير والتجديد في الاجتماع الإسلامي، يأتي من خارج الإمكانات التي يختزنها النص الديني سوف تفشل، وبطريق أولى فإن الفشل سيكون نصيبها إذا جاءت من موقع العداء للدين والتناقض معه.

من هنا فإن إعادة الاعتبار للعقل، لا تعني ممارسة حالة القطيعة أو العداء مع قيم الدين ومتطلباته والعقلية والإيمانية. وإنما على العكس من ذلك تماما. حيث أن تأكيد مرجعية العقل، هي من أجل العودة الواعية إلى النص الديني لإستنطاقه وتوليد إمكاناته المختزنة.

وعلى هدى هذا نستطيع القول: إننا في هذه اللحظة التاريخية أحوج ما نكون إلى إعادة الاعتبار للعقل الذي يأتي في مواجهة الخرافة بكل أشكالها وصورها، كما في مواجهة أبعاد التقديس للمألوف والسائد المكتسبة من اعتبارات تاريخية واجتماعية.  وإن تحولات المنطقة

المتعددة، تدفعنا إلى ضرورة الانخراط السريع في مشروع التغيير والتجديد، ومحاربة كل أشكال الخرافة والاستقالة من المسئولية، والهروب إلى دهاليز الأسطورة والقصص العجائبية.

إننا لا يمكن أن نتطور ونستفيد الاستفادة القصوى من تطورات اللحظة الراهنة، بدون تأكيد مرجعية العقل، التي تطرد من واقعنا كل أشكال الهروب والانزواء، وتدفعنا بحكمة وبصيرة إلى الأخذ بعالم الأسباب في كل شئون حياتنا.

فالإنسان فردا و جماعة عبر التاريخ، لا ينشد وينجذب إلا إلى معالم النور والفكر والحياة. وإن توقف العطاء العلمي بكل مجالاته في الواقعين العربي والإسلامي، هو الذي أدخلنا في الظلام وجعلنا نعيش القهقري، ونبحث بلهفة عن كل نقطة ضوء بصرف النظر عن مصدرها وطبيعتها.

وإن إعادة الاعتبار إلى العقل في المجال الإسلامي، يعني العمل على إعادة الالتزام بمهمتنا التاريخية والحضارية (إخراج الناس من الظلمات إلى النور) وهذا لا يتأتى بالدعوة المجردة، وإنما بالعمل على تطوير واقعنا وتأكيد حقائق العقل في مجالنا، حتى نتجاوز السائد، ونوقف حالة الانحدار، ونبدأ بإرادة صلبة، وعزيمة راسخة، لربط راهننا بلحظات التاريخ المجيدة، ومكاسب الإنسان المعاصرة، وذلك ليس من أجل الانبهار أو الركون إلى التقاعس والدعة، وإنما من أجل الإضافة النوعية.

لهـذا نجد أن القرآن الحكيم، يؤكد في مسائل العقيدة والحياة على العقل والفكر والبصيرة.

وفي المنظور القرآني (العقل) يساوي الانسجام مع الفطرة في إدراك القوانين العامة والمواقف السلمية في إطار العلاقة مع الموجودات. لذا فإنه يكون في خاتمة الآيات التي تدعو إلى التدبر في المخلوقات، لإدراك وجود الله تعالى، كما يوجد في خاتمة الآيات التي تدعو إلى التأمل في مصير المنحرفين.

وقد قال تبارك وتعالى {بشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الالباب (13).

فالأفق الثقافي القادر على التعامل مع تحولات وتطورات الراهن، هو ذلك الأفق الذي يستند في رؤيته وتصوره للأمور على نسبية الحقيقة، وإنه لا يمتلك أحد القدرة على امتلاك الحقيقة المطلقة، وإنما الجميع على حد سواء في التعامل مع النصوص والقيم الدينية، وتتفاوت حظوظهم في تمثل وتجسيد هذه القيم. فتتأسس من جراء هذه الرؤية والعقلية، موجبات الحوار والتسامح، وتتأكد قيم الانفتاح والتواصل، وتزول كل دواعي الإقصاء والنفي والإدعاء بإمتلاك الحقيقة.

وعلى هذا فإن الأفق الثقافي القادر على التفاعل مع تحولات المنطقة، هو ذلك الأفق الذي يحتضن قيم الحوار والتسامح والانفتاح والتواصل والقبول بالآخر.  وإن مهمتنا الثقافية والفكرية في هذه اللحظة التاريخية، تتجسد في تظهير هذه القيم وإبرازها، وتعميق متطلباتها في الفضاء الاجتماعي والسياسي العربي والإسلامي.

وإن غياب هذه القيم، من واقعنا المجتمعي، هو أحد المسؤولين الرئيسيين عن تكلس أحوالنا، وتراجع مسيرتنا، وتقهقر أوضاعنا. وإن استمرار هذا الغياب سيكلفنا جميعا الكثير من الخسائر والكوارث الاجتماعية والسياسية.. وإن بوصلة التحولات تتجه صوب تأكيد هذه القيم والحقائق في الحياة العامة، وإن أي تراخي أو تردد في هذا السبيل، سيفاقم من المشكلات ويعلي من شأن التوترات، ولا يوفر الأرضية والمناخ المناسب للتفاعل الخلاق والمطلوب مع هذه التطورات والتحولات.

وإننا في المجالين العربي والإسلامي، أحوج ما نكون اليوم إلى تلك القيم التي تضبط نزاعاتنا، وتنظم اختلافاتنا، ويحشد كل الإمكانات والقدرات صوب صيانة حقوق الإنسان، والإعلاء من شأن الجوامع المشتركة، تلك الجوامع التي تؤكد على البعد الإنساني مع الاحترام التام بكل الخصوصيات الثقافية والنفسية.  فالله سبحانه وتعالى لم يفرق بين إنسان وآخر في القضايا الأساسية للإنسان، فالعدل لكل الناس، كما أن الظلم مرفوض من كل الناس.. لذلك قال تبارك وتعالى {ولا يجرمنكم شنئان قوم ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى (14). والدين الإسلامي لا يلغي إنسانية الإنسان، وإنما يحترمها في كل شئونها وحاجاتها وفق مقتضى الآية الكريمة {ولقد كرمنا بني آدم (15).

من هنا فإننا بحاجة إلى تنقية عقولنا ونفوسنا وواقعنا، من كل الشوائب والرواسب المضادة لإنسانية الإنسان.

حيث أن عصور التخلف، أنتجت ثقافة ووقائع مضادة للإنسان في إنسانيته، مما فاقم من الأحن والنزاعات.

وإننا مع هذه الهجمة الشرسة التي تتعرض إليها العديد من الدول الإسلامية، بحاجة ماسة إلى إبراز الرؤية الإسلامية للإنسان.تلك الرؤية القائمة على اعتبار أن دم الإنسان وعرضه وماله حرام، ونسعى وفق هذه الرؤية إلى صناعة الحقائق والأطر المناسبة لصيانة إنسانية الإنسان.

الهوامش

(1) القرآن الحكيم، سورة الفتح  الآية 12.

(2) القرآن الحكيم، سورة فصلت الآية 34.

(3) القرآن الحكيم، سورة الفتح الآية 26.

(4) القرآن الحكيم، سورة الإنسان الآية 3.

(5) القرآن الحكيم، سورة الحجرات الآية 13.

(6) القرآن الحكيم، سورة الإسراء الآية 70.

(7) القرآن الحكيم، سورة  الحجرات الآية 13.

(8) القرآن الحكيم، سورة الحجرات الآية 11.

(9) القرآن الحكيم، سورة المائدة، الآية 8.

(10) القرآن الحكيم، سورة الحجرات، الآية 12.

(11) القرآن الحكيم، سورة الإسراء، الآية 53.

(12) القرآن الحكيم، سورة النجم، الآية 32.

(13) القرآن الحكيم، سورة الزمر، الآية 18.

(14) القرآن الحكيم، سورة المائدة، الآية 8.

(15) القرآن الحكيم، سورة الإسراء، الآية 70.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة