تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

أين «نحن» من تحديات مجتمع المعرفة؟

حسن علوض

إعداد: حسن علوض*

* مستشار في التوجيه التربوي/ باحث في قضايا التربية والتكوين - المغرب.

تمهيد

يعيش العالم حاليًّا في زمن العولمة، حيث انتقلت اقتصاديات المجتمعات، خاصة المتقدمة منها، من العهد الصناعي الذي ارتبط أساساً بالمواد الطبيعية ورؤوس الأموال المادية، إلى عهد المعرفة المبنية على الموارد ورؤوس الأموال غير المادية (المعارف، المعلومات، المواصلات، البرمجيات...)، حيث حوَّل هذا الانتقال العالم إلى «قرية صغيرة»، فأصبحت المعرفة المورد الرئيس للاقتصاديات الجديدة، التي انبتقت من ثورة المعلومات، والشبكات الرقمية. إن الثورة الإعلامية اليوم أصبحت أمراً واقعاً من المستحيل تجاوزه، ففي الوقت الذي بدأ العالم يتجه فيه نحو مجتمع الإعلام والمعرفة، بدأت تظهر في أرجائه هوة معرفية بين مجتمعات متقدمة ومؤهلة تكنولوجيا للمعرفة والرقانة، وأخرى فقيرة غير مؤهلة، مازالت تعاني من الأمية التقليدية. هذا الحيف الحضاري يجعل الفوارق تزداد بين المجتمعات. إن ما تحمله مسارات العولمة من اكتساح اقتصادي وثقافي شامل، الذي تقوده المجتمعات الغربية المتقدمة والمحتكرة للعديد من آليات وقيم ومقومات الهيمنة والتحكم في جل مسارات هذا العالم، سيعرض لا محالة بنيات واقعنا ومجتمعاتنا العربية ككل لتأثيرات هذا التحول العالمي. إن الفاعلية والإنتاجية للمجتمعات في هذا العصر قد أصبحت مرتبطة أكثر، وأساساً، بمدى تأهيل العنصر البشري، وقدرته على تملك ناصية العلم والتكنولوجيا. لقد تحوَّلت المعرفة العلمية، أكثر من ذي قبل، في إطار نظام العولمة، الذي يمكن نعته بعصر البقاء للأقوى، إلى صناعة واستثمار استراتيجي لإحكام السيطرة على شعوب العالم المتخلف. وبالتالي من لا يملك العلم لا يمكن له أن يدخل السوق الدولية ومنافستها الشرسة. ويبدو واضحاً اليوم أننا إزاء شكل جديد من التطور المجتمعي، تعدّ المعرفة والرأسمال البشري أهم دعاماته، وهو ما يطلق عليه اقتصاد المعرفة. فلم تعد المعرفة سلطة وقوة فقط، بل أبرز مظاهر القوة في عالم اليوم. إن ما يميز هذا الاقتصاد الجديد إذاً هو الاعتماد على قوة العمل المؤهلة والمتخصصة في مختلف ميادين الحياة، فأصبح مفروضاً على الانسان الفاعل في هذا النظام الجديد أن يكون متعدد المهارات والكفاءات وقادراً على خوض التعلم الدائم والمستمر مدى الحياة.

في ظل هذه الظروف الكونية المتحولة برزت معضلة مدى قدرة مجتمعاتنا العربية على الدخول والانخراط في مجتمع المعرفة، علماً بأن هذه المجتمعات لم تدرك لحد الآن أن المعرفة هي العامل الرئيس لإحداث النمو وتغيير نوعية الحياة نحو الأفضل، للانتقال من التخلف إلى التطور ومن الفقر إلى الغنى، كما أن النخب السياسية العربية وراسمي السياسات التنموية لم تقتنع بعد بأن الاستثمار في مناجم العقول هو الاستثمار الأمثل والأكثر جدوى وفاعلية. وقد خلص تقرير التنمية الإنسانية العربية الثاني (2003) إلى ضعف نشر المعرفة وإنتاجها في البلدان العربية على الرغم من وجود رأسمال بشري عربي مهم يمكنه في ظروف مغايرة أن يكون بنية أساسية قوية لقيام نهضة معرفية. إن ما يؤرق بالنا وبال الكثير من الباحثين المهتمين بمشاكل وطننا العربي، وقيام مجتمع المعرفة الذي سوف تقاس به درجات التقدم والتخلف، هو أين نحن -المجتمع العربي وبلدانه- من هذا التطور؟ وما هو مستقبل العالم العربي داخل مجتمع المعرفة العالمي؟ علماً أن عملية إنتاج المعرفة واستخدامها، بل وتسويقها تعتبر مسألة جوهرية بالنسبة للتنمية والتقدم واللحاق بركب المجتمعات المتقدمة، والحد من «الفجوة الرقمية» التي تفصلنا عن هذه المجتمعات سواء في النفاذ، أو استيعاب وتوظيف المعرفة القائمة، وتوليد معرفة جديدة.

1- خصائص مجتمع المعرفة

المعرفة هي: «الإمكانات والخبرات الفردية والمؤسسية والمجتمعية، الناشئة من التفاعل الديناميكي بين العقل والعلم والفكر والمهارة والتكنولوجيا، من خلال توظيف كل ذلك في العملية الإنتاجية، من سلع وخدمات وأفكار ومعارف، في إطار من التشابكات الأفقية والعمودية العميقة»[1]. المعرفة إذن بمفهومها المعاصر هي القيمة المضافة الناتجة عن العمل في التكنولوجيا، والتي أدخلت المجتمعات المعاصرة التي تحتكر الإنتاج في قطاعات جد متطورة كالذكاء الصناعي والبرمجيات، والاتصالات، وأنظمة التسلح... في المرحلة ما بعد الصناعية أو ما يطلق عليها «بالموجة الثالثة» حسب المفكر المستقبلي الأمريكي ألفين توفلر[2]. أما مجتمع المعرفة فيقصد به تلك المجتمعات البشرية المتقدمة التي تملك المعرفة وأدوات استغلالها. وتعتبر هذه المعرفة أهم مورد لتنمية جميع القطاعات الاقتصاديات والاجتماعية، حيث أن الأسهم وبطاقات الائتمان المحوسبة والتدفقات المالية عبر شبكة الإنترنت مثلاً قد حوَّلت الثروة أو مصدرها الرئيس من الأشياء إلى الأفكار، ومن الموجودات إلى الكفاءة والخبرة والابتكار. أما السمة الجوهرية الكبرى لهذا المجتمع المعرفي فتتمثل في «أن الحدود التي كانت، في الماضي، قائمة بين ميادين المعرفة المختلفة قد انتهت أو شارفت على الانتهاء... وأن التقسيم والتمييز بين حقول المعرفة المتشعبة أصبح أمراً متجاوزاً، على اعتبار أن المعارف قد أصبحت متشابكة، ولربما أيضاً شبكية»[3]. يقول إدواردو بورتيلا وهو أستاذ بجامعة ريو دي جانيرو الفيدرالية: «إن مجتمع المعرفة يمثل برنامجاً متكاملاً مخصصاً للفعل، وأن ذلك الفعل سوف يتضمن التعليم والعلوم والثقافة والاتصال مجتمعة كلها في وحدة متكاملة ومتماسكة، وإن إنتاج المعرفة سوف يكون سلعة رابحة تحمل معها السيطرة السياسية والمكانة الاجتماعية والهيمنة الثقافية والاقتصادية على المجتمعات الأخرى...»[4]. إن تأكيد الصفة المعرفية على مجتمع ما له القدرة الإنتاجية العالية والمعتمدة على التكنولوجيا المتطورة، تجعل منه يتصف بخاصية خطيرة وهي الانفجار المعرفي، فلا يمر يوم أو شهر دون أن تحدث اكتشافات واختراعات جديدة، حيث أصبح التراكم المعرفي يتزايد بمتواليات هندسية عالية. وتشير المعطيات إلى أن البشرية قد راكمت في العقدين الأخيرين من المعارف مقدار ما راكمته طوال آلاف السنين السابقة التي شكلت التاريخ الحضاري للإنسانية، فأصبح مجتمع المعرفة يتميز حاليًّا بـ:

* التغير الهائل والسريع للإنجازات العلمية التكنولوجية.

* تقلص الفترة الزمنية الفاصلة بين ظهور الفكرة وتطبيقها.

«إن قيمة السلعة اليوم ليس فقط ما يدخل في تكوينها من مواد خام، أو ما بذل في إنتاجها من مجهود، أو ما أنفق عليها من مال، وإنما حسب المعرفة التي أدت إلى ابتكار تلك السلعة وإنتاجها. فالمعرفة تعتبر هنا أهم عامل في الإنتاج، ومن هذه الناحية فإنها تفوق رأس المال والجهد المبذول في العمل، فالذي يحدد قيمة السلعة المعرفية إذن هو في المحل الأول الابتكار والفكر الكامن وراء إبداع تلك السلعة»[5]. لقد أصبح التنافس في الوقت والعمل في الزمن الحقيقي في كل مواقع العمل، والخدمات التي تعمل بلا توقف لتلبية حاجات المستهلكين في جميع أرجاء العالم هو السمة الأبرز للإنتاج بالرغم من الفواصل الزمنية واختلاف التوقيت، بمعنى أنه لم تعد هناك حدود زمنية لتوفير الخدمات وذلك بفضل التطور التكنولوجي لوسائل الإعلام والاتصال، فأصبح للإنسان حق الاختيار والقضاء على ضغوط الزمن والمسافة. إن العصر الحالي الذي نعيشه حاليًّا تتهاوى فيه النظم والأفكار على مرأى من بدايتها، وتتقادم فيه الأشياء وهي في أوجها بفضل الاكتشافات والاختراعات وتوغل المجتمعات الإنسانية في عالم المعرفة شيئاً فشيئاً. لقد أصبحت المعرفة الأداة الرئيسة لبناء جدار بين مجتمعات متقدمة تكنولوجيًّا ومعرفيًّا، وأخرى فقيرة غير مؤهلة ما زالت تعاني من الأمية التقليدية «لقد أصبحت الكرة الأرضية تضم أطيافاً من المجتمعات، بعضها بالغ التقدم والارتقاء والاعتماد المعرفي، كالولايات المتحدة الأمريكية، واليابان، والدول الأوروبية المتقدمة، مروراً بمجتمعات متوسطة التقدم، وانتهاء بمجتمعات معزولة وصغيرة على درجة كبيرة من التخلف، والفارق الأساس بين هذه المجتمعات هو الفارق المعرفي أو الفجوة المعرفية على المستوى الأوسع»[6].

2- واقع قوة المعرفة في الوطن العربي

ترتكز المعرفة المعاصرة على مجموعة من المؤشرات أهمها البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وانتشار مؤسسات البحث والتطوير ومؤسسات التعليم العالي والمهني، وجودة التعليم، وتوفر تكنولوجيا المعلومات... وإذا قارنَّا درجة تواجد هذه المؤشرات، بين الدول المتقدمة من جهة والدول النامية من جهة أخرى ومن بينها الدول العربية، حيث نلاحظ ضخامة الفرق المعرفي، وعمق الفجوة التي ينبغي تجاوزها. لقد شكل البحث العلمي والتطوير في التكنولوجيات الجديدة، عنصرين رئيسين من العناصر المحددة لإنتاج المعرفة المتقدمة فواقع العلم والتكنولوجيا يتسم في الدول بالمحدودية، إذ يتضح من المؤشرات الرئيسة أن الدول العربية التي يشكل سكانها 4.6 من سكان العالم تحتل المرتبة الأخيرة بين المجموعات السكانية في العالم في عدد من المؤشرات، مثل الإنفاق على البحث العلمي، وعدد براءات الاختراع، وحقوق التصنيع. وتنفق الدول العربية مبالغ ضئيلة، فلا تمثل نسبة الإنفاق على البحث والتطوير إلى الإنتاج المحلي الإجمالي سوى خمس ما ينفقه أي بلد متقدم، والوضع على الحال نفسها من التدهور عند تقييم الموارد البشرية العاملة في البحث والتطوير لكل مليون نسمة والتي تكون في بعض الأحيان نسبة واحد في المائة من الأرقام المماثلة في الدول المتقدمة، والجدول التالي يوضح ذلك:

مؤشرات البحث والتطوير في الدول العربية:

الدول

 

الإنفاق على البحث والتطوير من الناتج المحلي %
(1996 - 2002)

العاملون في البحث والتطوير لكل مليون نسمة
(1990 - 2001)

الأردن

0.36

1948

سوريا

0.20

29

تونس

0.50

336

ليبيا

 

361

مصر

0.20

493

الكويت

0.20

212

قطر

 

591

عمان

 

4

الدول النامية

0.6

348

الدول المتقدمة

2.6

3483

بقية العالم

2.5

1096

 

المصدر: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير التنمية البشرية العربية لسنة 2004.

أما فيما يتعلق بمخرجات البحث والتطوير، فتشير الدراسات إلى «أن مجموع براءات الاختراع في الدول العربية على سبيل المثال لم تتعد 24 براءة في سنة 1997، فهي لا تمثل سوى 0.1 لكل ألف نسمة من السكان. وعلى الرغم من محدوديتها فإن توزيعها بين الدول العربية يبقى متبايناً، فتأتي المملكة العربية السعودية في الدرجة الأولى بوزن نسبي قدره 59.5%، ثم تأتي الأردن بحصة قدرها 16.6%، ثم الكويت بنسبة 8.3%، أما الإمارات العربية والبحرين ولبنان ومصر، فلم يتجاوز وزن كل واحد منها ما نسبته 4.1%، وليس هناك ما يذكر بالنسبة لباقي الدول العربية»[7].

لقد عرف المجتمع الإنساني تقدّماً مذهلاً وسريعاً في مجال تكنولوجيا الاتصال، وذلك بفضل ثورة المعلومات والشبكات الرقمية التي ما فتئت تتجدد وتتسارع وتتنوع. ولعل أهم هذه التقنيات وأخطرها «الإنترنت» الذي يمكّن من تحويل معطيات فروع المعرفة المختلفة إلى معلومات رقمية يسهل الحصول عليها وتخزينها واسترجاعها ونقلها من جهاز لآخر بتكلفة منخفضة وفي وقت قصير للغاية. وقد اتسع نطاق استخدام الإنترنت، ليصبح أداة رئيسة لتصريف كثير من أمور الحياة، «تقول إيستير دايسون، وهي رئيسة مجموعة من الشركات المتخصصة في الإلكترونيات بالولايات المتحدة: إنني أعيش على الإنترنت، فهو الأداة التي أستخدمها للاتصال بأصدقائي وزملائي الكثيرين وأدير بها أعمالي، كما أنها هي الموضوع الرئيس الذي تدور حوله كتاباتي وأحاديثي، والمجال الذي أقدم فيه استشاراتي، بل إنها هي الركيزة الأساسية في كل الشركات التي أستثمر فيها أموالي سواء في الولايات المتحدة أو في أوروبا الشرقية... فشبكة الإنترنت تتمتع بأهمية بالغة لأن الناس يستخدمونها وسيلةً للاتصال وإدارة الأعمال وتبادل الأفكار والآراء... إنها أداة قوية ومؤثرة في دمج الاقتصادات المحلية في الاقتصاد العالمي وإثبات مكانة هذه الاقتصادات وترسيخ وجودها في العالم. وليس من شك في أن تأثير الإنترنت في ضوء استخداماتها في الاتصال الإلكتروني المتبادل سوف يغير كل شيء في حياتنا»[8].

إن النجاح المذهل الذي حققته الإنترنت، يجعل منها أداة مهمة، ومؤشراً رئيساً للمشاركة في العصر الرقمي، ويمكن أن يكون عدد الحواسيب الشخصية المتاحة لسكان بلد معين مقياساً لقدرته على اللحاق بالاقتصاد العالمي، وتعزيز إنتاجيته. وكثافة الحواسيب الشخصية مهما يكن معدلها، هي شرط مسبق لتوصيل الإنترنت. بالنسبة للدول العربية ما زالت الحواسيب الشخصية غير متيسرة للجميع، فبالأحرى الارتباط أو استخدام الإنترنت، فبالرغم من نمو متوسط عدد الحواسيب الشخصية لكل 100 نسمة في الدول العربية خلال العشر سنوات المنصرمة غير أن متوسط عدد الحواسيب الشخصية في البلاد العربية مجتمعة (6.72%) ما زال بعيداً عن معدل الكثافة العالمية والبالغ (9.22%). وشهدت بعض الدول زيادة ذات شأن في متوسط كثافة الحواسيب الشخصية ومنها الإمارات وقطر والكويت والبحرين، بحيث تجاوزت معدلات الكثافة العالمية، أما بقية الدول العربية فما زالت المعدلات فيها بعيدة عن المعدل العالمي»[9]. انطلاقاً من هذه المعطيات.يجب أن ندق ناقوس الخطر في الوطن العربي بشأن تأخرنا في مجال استخدام الإنترنت الذي يقيس مدى حضور الدول في الصراع الاقتصادي والثقافي المتمحور حول المجتمع الكوني المعلوماتي. «فمؤشر مستخدمي الإنترنت لكل 100 نسمة في الوطن العربي، هو أقل من نصف المستوى العالمي البالغ 9.72 %، وتتفاوت الدول العربية فيما بينها في هذا المؤشر، ففي الوقت الذي نجد فيه دول عربية تجاوز فيها استخدام الإنترنت المتوسط العالمي كالإمارات 36.7% والبحرين 24.74% ولبنان 11.71% نلاحظ ضعف تغلغله في دول أخرى مثل السودان، واليمن، وسوريا...»[10].

إن ثورة التكنولوجيا ولا سيما في ميدان الاتصالات والإنترنت أخذت تؤثر مباشرة في تعليم الإنسان وتربيته، فأصبح محتَّماً على الأفراد التأقلم بسرعة وبطريقة دائمة مع مستجدات هذا المجتمع المعرفي الذي لا يرحم بتعلم مستمر ومدى الحياة «لقد زاد العالم تعقّداً، وتسارع إيقاعه، واتسعت أسواقه، وتضاءلت موارده الطبيعية وتضخمت أعداد بشره، وزاد حراكهم الجغرافي والاجتماعي، واشتدت حدة تنافسهم وصراعهم، ولا سبيل إلى التصدي لكل هذا إلا من خلال التعلم، فهو المورد الإنساني اللامحدود الذي لا ينبض»[11]. إن نقطة البداية للدخول إلى مجتمع المعرفة والمساهمة فيه هو التعليم لأنه أساس المعرفة. لقد برهنت التجارب المتعددة (سنغفورة، واليابان، والدول الإسكندنافية...)، أن التعليم على المستويين الفردي والمجتمعي هو أحد أهم بناء أعمدة أدوات المعرفة، وهو السبيل الأمثل لبناء الطاقات البشرية المؤهلة. فهو «يعتبر أهم أدوات عبور خط التقسيم الرقمي وتخطي الفجوة الرقمية والتي يمكن تحديد موقعها من أسس أركان إقامة مجتمع المعرفة الأربعة:

- اتصال وإعلام.

- ثقافة مجتمع المعرفة وعلومه وأركانه.

- رأس مال بشري.

- مستوى تعليم راق»[12].

3- نوعية ومستوى التعليم بالوطن العربي

من المعروف أن العتبة الدنيا الضرورية للحاق بمجتمع المعرفة تقضي التخلص من الأمية الأبجدية، وتخفيض نسبة الأمية التكنولوجية إلى مستوى أدنى من مجمل السكان، وهذا يتطلب إعادة النظر في المكونات الرئيسة لأنظمتنا التعليمية للحصول على تعليم راقي النوعية، يتيح المجال لتدريب العقل النقدي والتحليلي والتركيبي، القائم على أساس علمي للتفكير، ويحفّز مهارات المتعلم. إن التربية العربية تواجه موقفاً صعباً للغاية، فقد أصبح لزاماً عليها أن تجدّد رؤيتها الفلسفية لمواجهة المتغير المعلوماتي في غياب فلسفة اجتماعية، وقصور الوعي العام في إدراك الجوانب التربوية العديدة لظاهرة المعلومات وعولمتها. إن العالم العربي يواجه تحدياً مزدوجاً، تحدي إصلاح ما أفسده نظام تعليمها الرسمي، وتحدي التغيير الاستراتيجي للانتقال من التعليم إلى التعلم الذي هو الأداة الأمثل لمواكبة تطورات عصر المعرفة. إن تمظهرات الوضع المأزمي التربوي الراهن في المجتمع العربي المعاصر، التي تعيق دخوله ومشاركته في اقتصاد المعرفة، وتحقيق تعلم راقي النوعية، تتمثل في الإشكالية الرئيسة التالية:

- تدني مستوى التعليم والمعرفة (مخرجات التعليم).

- ضعف مشاركة الأطراف خارج المؤسسة التعليمية في إثراء العملية التعليمية وتطويرها.

- حالة من النمطية تضعف الجانب الإنساني للطالب[13].

أما العوامل المسببة لهذه الإشكالية، والتي يصعب الإلمام بها كلها فيمكن اختزالها فيما يلي:

- ضعف الإدارة المؤسسية وإدارة العملية التعليمية.

- ضعف المناهج.

- ضعف إعداد المعلم.

- الخلل في مفاهيم ومعايير التقويم.

- غياب الربط بين نوعية التعليم واقتصادياته.

- غياب الوعي بالمفهوم التعليمي راقي النوعية بين المصادر والجهات الرسمية وغير الرسمية.

- ضعف التخطيط المسبق لعمليات التطوير التربوي[14].

ويحدد المفكر العربي الكبير إدوارد سعيد المعرفة المنشودة في المجتمع العربي بأنها «معرفة تقوم على الفهم بدلاً من السلطة والتكرار غير الناقد أو الإنتاج الآلي... نريد أن نعرف كيف نفكّر»[15].

إن هناك اتفاقاً شبه عام حول الغايات الأساسية للتعليم وهي:

- إكساب المعرفة.

- التكيف مع المجتمع.

- تنمية الذات والقدرات الشخصية.

وقد أضاف مجتمع المعرفة بعداً تربويًّا وتعليميًّا رابعاً وهو ضرورة إعداد الإنسان / المواطن لمواجهة متطلبات الحياة في ظل العولمة، وذلك من خلال تحقيق الغايات الأربع التي يتفق عليها المربون ومعدو تقرير اليونسكو تحت اسم «التعليم ذلك الكنز المكنون» learning the treasure within [16]. وهذه الغايات هي:

- تعلّم لتعرف.

- تعلّم لتعمل.

- تعلّم لتكون.

- تعلّم لتشارك.

إن تعلم عصر المعرفة سيتجاوز أسوار المدرسة، إذ بدأ الحديث عن «تبضيع التربية» وذلك من خلال بروز الناشرين للمنتوجات المتعددة الوسائط والمهندسين في الاتصالات اللاسلكية، والشركات المعلوماتية... كما أن التعلم سيصبح مدى الحياة (من المهد إلى اللحد)، وسيمتاز بالاستقلالية، لأجل تحقيق الكفاءة في الأداء «يسعى تعليم عصر المعلومات إلى أن يجعل من التعلم دستور مجتمع المعرفة، ليصبح التعلم نوعاً من الأيديولوجيا التي تعيد صياغة المجتمع وعلاقته، وتوجه سلوك أفراده وجماعاته ومؤسساته، ويصبح التعلم في ظلها حقًّا لكل فرد وواجباً عليه في آن، وسيصبح الجمع بين التعليم الرسمي إلزاماً والتعلم الذاتي التزاماً»[17]، إن نظم التعليم الحديثة تواجه مشاكل حقيقية في عصر العولمة والتحديث وما بعد التحديث، يجعلنا نحن العرب أمام تحديات خطيرة وعلينا مواجهتها. فقد قدم تقرير التنمية الإنسانية العربية الثاني (2003) تحليلاً لاكتساب المعرفة في البلدان العربية. وأكد أن التحدي الأكبر لنسق التعليم في الوطن العربي هو قصور النوعية. ففي المؤسسة التعليمية، يغلب أن نجد المناهج وأساليب التعليم، والتقييم، تكرس التلقي والخضوع، حيث لا تسمح بالحوار الحر والتعلم الاستكشافي النشط، ولا تفتح، من ثم، الباب لحرية التفكير والنقد، بل تضعف القدرة على المخالفة وتجاوز الراهن. ويرتكز دورها في إعادة إنتاج التسلط في المجتمعات العربية. وينتهي التقرير إلى رؤية استراتيجية لإقامة مجتمع المعرفة في البلدان العربية ينتظم حول خمسة أركان:

1- إطلاق حريات الرأي والتعبير والتنظيم وضمانها بالحكم الصالح.

2- النشر الكامل لتعليم راقي النوعية مع إيلاء عناية خاصة لطرفي المتصل التعليمي وللتعلم المستمر مدى الحياة.

3- توطين العلم وبناء قدرة ذاتية في البحث والتطوير التقاني في جميع النشاطات المجتمعية.

4- التحول الحثيث نحو نمط إنتاج المعرفة في البنية الاجتماعية والاقتصادية العربية.

5- تأسيس نموذج معرفي عربي، أصيل، منفتح، ومستنير يقوم على العودة إلى صحيح الدين وتخليصه من التوظيف المغرض، وحفز الاجتهاد وتكريمه، والنهوض باللغة العربية، واستحضار إضاءات التراث المعرفي العربي، مع إثراء التنوع الثقافي داخل الأمة والاحتفاء به، والانفتاح على الثقافات الإنسانية الأخرى.

إن الانفجار المعرفي والإعلامي الذي يعرفه العالم حاليًّا جعل مهام التربية تتركز على تأهيل الإنسان للاندماج في هذا المجتمع التكنولوجي الجديد. مما سيحتم على مجتمعاتنا المتخلفة تكوين مواطنين كونيين ومحتفظين في الآن نفسه بهويتهم. ولأجل تحقيق ذلك لا بد من خلق نمط من التربية يتلاءم مع التحولات الكونية، وإنهاء مفهوم التربية التقليدية، والتفكير في منظومة تربوية جديدة تسمح للفرد والمجتمع معاً بالاندماج داخل النسق العام وتحقيق المواطنة العالمية[18].

خلاصة

تبشر الحقبة القادمة من تطور المعرفة عموماً والعلمية منها على الخصوص بتأثيرات ونتائج سوف تكون أعمق وأشمل من تلك الحقب التي سبقتها حيث تتضاعف المعرفة البشرية، وبالتالي تتغير أساليب الحياة بكاملها، وتفسح المجال لنشوء أنماط وأساليب جديدة، ستسمح لنا بقطع ثمار ألفي عام من تقدم العلم من خلال الإمكانات والتطبيقات العلمية غير المحدودة التي ستمكننا من التحول من عصر الاكتشاف إلى عصر السيطرة والتحكم. لقد أدرك الأقوياء في عالم اليوم روح وآليات العصر، لذلك نراهم يتسابقون في مجالات تطوير البحث العلمي والبرمجيات وفي ميادين الاقتصاد المعرفي، ففي هذه الميادين سيكون صراع الأقوياء الذي يبدو بأنه سيكون صراعاً تكنولوجيًّا وعلميًّا في المقام الأول. إن هذه التحولات الخطيرة تحتم علينا، كأمة عربية متخلفة، التفكير بجدية في التحديات التي تواجهنا في الانتقال إلى مجتمع المعرفة. إننا نمتلك عدداً وافراً من الكفاءات والخبرات العلمية التي تحتاج إلى الثقة من خلال إعادة الاعتبار للعقل المستقبلي العربي. إن نقطة البداية في أي تحوَّل أو تغيير هو الاهتمام بالعنصر البشري، من خلال تطوير النظام التعليمي العربي لأنه المدخل الرئيس لأمتنا للمشاركة في الإنتاج والإبداع، وذلك من خلال وضع استراتيجية بعيدة المدى على:

- ربط التعليم بالإنتاج، وتطوير فكرة المدرسة الشاملة على ضوء التجارب العالمية والاحتياجات التنموية.

- تطوير برامج ومناهج التربية والتكوين على ضوء التطورات العالمية في العلوم الأساسية وكذلك على ضوء نتائج البحث والتطوير.

- توفير الإمكانات المعرفية والتكنولوجية لضمان التعليم المستمر بالإمداد المنتظم للمتعلم بالمعلومات المتجددة في التخصصات المختلفة وباعتماد مبدأ القنوات التعليمية المفتوحة.

- إدخال التكنولوجيا باعتبارها عنصراً أساسيًّا في العملية التعليمية، وذلك بتعميم استخدام الكمبيوتر وسيلةً تعليميةً، وربط مؤسسات التربية والتكوين بشبكة الإنترنت حتى تتحقق عملية التعلم عن بعد.

- تحديث الجامعات بما يواكب تطور العلوم الحديثة عن طريق استحداث فروع وتخصصات علمية تساهم في سد حاجات التنمية والمجتمع.

أما في مجال البحث العلمي والتكنولوجي فإن وضع سياسة معينة وتنفيذها لإدخال التكنولوجيا المتقدمة في إطار استراتيجية التنمية المستدامة لا يعني أن يقتصر الأمر على استيرادها من الخارج، بل يجب أن تكون لدينا القدرة على توليدها وتطويرها محليًّا حتى نساهم في خلق المعرفة عوض استهلاكها فقط، هذا الابتكار وتطوير أساليب التكنولوجيا يجب أن يتلاءم مع حاجاتنا وظروفنا الاقتصادية والاجتماعية وذلك من خلال:

- الثقة في علمائنا ومراكز أبحاثنا وإمدادها بأدوات الإنتاج المعرفي، وبالتالي الحد من هجرة الأدمغة العربية نحو البلدان المتقدمة والاستفادة منها محليًّا.

- إصلاح البنيان المؤسسي للعلم والتكنولوجيا وتقويته.

- توفير متطلبات منظومة العلم والتكنولوجيا من القوى البشرية والموارد المالية والمادية ومصادر المعلومات والمعرفة بالكم والكيف المناسبين.

- تشجيع ودعم عمليات الابتكار والتطوير التكنولوجي.

- الاستفادة والانفتاح على التطور العلمي والتكنولوجي لأمم أخرى قصد إتاحة الفرصة لتدفق التكنولوجيات والمعارف العلمية بطريقة عادلة ومفيدة.

- التعامل أكثر مع التكنولوجيا التي سيكون لها الأثر في تغيير عالم هذا القرن مثل الذرة والكمبيوتر والجينات...

لقد حان الوقت أن نعمل نحن الأمة العربية لوضع استراتيجية مستقبلية لبناء مجتمع المعرفة، وتسخير إمكانات تكنولوجيا المعلومات والاتصال للنهوض بأهداف التنمية، واستئصال الفقر والتخلف. وذلك في جو تسوده الحرية، حيث يشعر فيه المواطن بأنه حر ومثمر ومشارك، وأنه أرفع وأثمن أنماط الاستثمار. إن تجارب الأمم المتقدمة عبر التاريخ تبين أن الإبداع والرقي والتحول إلى مجتمع المعرفة، كان دائماً في تعايش مستمر مع سيادة الحرية، والديموقراطية، وحقوق الإنسان واحترام وتقبل التنوع والاختلاف...

 

 

 



[1] ذاكر آل حبيل: الملتقى العربي الأول للتنمية الإنسانية «نحو إقامة مجتمع المعرفة» مؤتمر المنامة 8 و9 ديسمبر 2004،

مجلة الكلمة، بيروت، العدد: 45، السنة الحادية عشرة، خريف 2004.

 

[2] Alvin Toffler:Future shock, Bantam Book, 8th edition,New york,1979,page26 

 

[3] د. المهدي المنجرة: عولمة العولمة، منشورات الزمن، كتاب الجيب، العدد 18، سبتمبر 2000، ص: 37.

 

[4] د. أحمد أبو زيد: المعرفة وصناعة المستقبل، كتاب العربي، العدد 61، منشورات وزارة الإعلام، الكويت، مجلة العربي،

يوليو 2005، ص: 98.

 

[5] المرجع السابق، ص ص: 100،101.

 

[6] ذاكر آل حبيل: مرجع سابق، ص: 154.

 

[7] علي مجيد الحمادي: فاعلية البحث والتطوير في مواجهة التحديات المعاصرة للاقتصادات العربية، مجلة التعاون، الرياض،

العدد 49، ديسمبر 2002، ص: 21.

 

[8] المعرفة وصناعة المستقبل، مرجع سابق، ص: 107.

 

[9] اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، مؤشرات العلم والتكنولوجيا والابتكار في المجتمع المبني على

المعرفة، نيويورك، 2003،ص: 19.

 

[10] المرجع السابق، ص: 97.

 

[11] محسن خضر: مجتمع المعرفة العربي، عائقه وآماله، مجلة أفكار الإلكترونية على موقع:

www.afkaronline.org (تاريخ التفحص: 30/ 09/ 2006).

 

[12] ذاكر آل حبيل، مرجع سابق، ص: 174.

 

[13] المرجع السابق، ص: 174.

 

[14] المرجع السابق، ص: 174.

 

[15] د. محسن خضر، مرجع سابق.

 

[16] تقرير مفصل للفرنسي جاك دولور صدر في سنة 1996 حدد ملامح التربية الدولية في القرن الحادي والعشرين.

 

[17] انظر: Riccardo Petrella:Lenseignement pris en otage , cinq piége tendus à leducation, le

monde diplomatique,octobre 2000, p p: 6 -7.

 

[18] مصطفى محسن: التربية وتحولات عصر العولمة: مداخل للنقد والاستشراق، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء -

بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص ص: (19 - 54).

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة