تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

سـؤال التقريب بين المذاهب عند محمد تقي القمي

د. حسان عبداللَّـه

 

[1]

مقدمـة

مثّلت العلاقات السنية - الشيعية حلقةً مهمةً من حلقات التاريخ الإسلامي، وعلى الرغم من علاقات الاضطراب التي سادت بين الفرقتين فترة من الزمن، إلا أنها لم تخلُ من بصيص من الأمل في تحسين هذه العلاقات، فبعد مرحلة «الأدلجة» للعقائد السنية والشيعية التي قام بها منظرو ومتكلمو الفرقتين حتى القرن الرابع الهجري، ظهرت مرحلة أخرى في هذه العلاقات وهي مرحلة المناظرات الجدلية كان يقوم بها متكلمو الفرقتين، كانت تدور تارة حول الأشخاص وتارة حول الفكرة. وقد تجلّت هذه المرحلة من قِبَل السنّة في كتاب «منهاج السنة النبوية» لابن تيمية، والردّ عليه من جانب الشيعة في «منهاج الكرامة في معرفة الإمامة» للحلي. وعلى الرغم من أن هذه المرحلة وضعت تقسيماً أيديولوجيًّا للفرقتين جعلت كل من جاء بعدهم يعتمد عليه دون تأمله أو نقده، إلا أنها تمثّل طريقاً يمكن من خلاله الوقوف على أهم الاعتراضات من جانب الفرقتين على الأخرى. وكان للتعرف على هذه الاعتراضات التي غالباً ما كانت تتصل بالفروع لا بالأصول -حيث كان دائماً الاتفاق على مبادئ التوحيد والنبوة والمعاد ومعطياتها في الحياة العبادية- ما من شأنه إدراك مسائل الخلاف أو الشائعات التي كانت تصل إلى أذهان عوام الفرقتين للوقوف عليها وتفنيدها (وقد حدث ذلك في المرحلة المعاصرة).

ومن المحاولات الباكرة في تاريخ التقريب بين السنة والشيعة محاولة نادر شاه (1099هـ - 1160هـ) الملك الإيراني الذي استطاع لأول مرة في التاريخ جمع علماء السنة والشيعة على وثيقة تقريبية مشتركة لأسس التفاهم المذهبي بينهما. ثم ظهرت الفكرة مرة أخرى من خلال جمال الدين الأفغاني وحسن البنا وآية الله الكاشاني، وآية الله البروجرودي وغيرهم من المصلحين، إلا أنها في الوقت نفسه كانت تجد المعارضين والمشككين في كل مرحلة سواء في الفكرة أو مناصريها ودعاتها.

وبمجيء عام 1947 انتقلت فكرة التقريب إلى مرحلة جديدة مغايرة تماماً لكل المراحل التي سبقتها حيث تم «مأسسة» الفكرة في مؤسسة جديدة أطلق عليها «جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية»، وحددت لها قانوناً ونظاماً أساسيًّا يعمل من خلاله دعاة الفكرة بدلاً من المشروعات الفردية التي كانت تقابل بالعداء من أفراد ومؤسسات -وُضعت لهذا الغرض- بما يضمن لها شيئاً من البقاء والتنظيم الفكري، كما يتيح لها إعداد المشروعات ونقلها إلى المستوى الجماهيري بدلاً من أن تظل حبيسة في عقول النخبة.

ولقد ساعد في نقل فكرة التقريب من الحركة الفردية إلى الحركة المؤسسية العلامة «محمد تقي القمي»، وسوف نتناول ملامح هذه النقلة لفكرة التقريب عنده من خلال المحاور الآتية:

-1-
الإمام القمي: حياته ودوافعه للتقريب

ولد محمد تقي الدين القمي في طهران عام 1908م من عائلة ميسورة الحال تعتمد على الزراعة في أملاكها الخاصة، وكانت أسرته عميقة الصلة بالدين فهو حفيد لسبعة أجداد كل منهم كان عالماً من علماء الدين، وكان والده المغفور له حجة الإسلام (أعلى لقب ديني وقتها) أقا أحمد القمي كبير القضاة الشرعيين بطهران. فنشأ نشأة دينية في منزل والده الذي كان يراه يجلس في مكان الصدارة ليلقي بفتاواه للمريدين والأنصار، ويحل لهم مشاكل الدين والدنيا، والجميع يُنصتون في خشوع واحترام. ويكبر الصبي وينتقل إلى المدرسة الابتدائية ويحفظ القرآن الكريم ويهوى صوره الأدبية والفنية ويقرر أن يدرس اللغة العربية وآدابها، وما أن ينتهي من المرحلة الثانوية حتى يلتحق بالمدرسة العليا للآداب ويواصل دراسته الدينية بالاستعانة بأساتذة متخصصين ليقرأ على أيديهم أصول الفقة الإسلامي والكلام وسائر العلوم الشرعية.

وبعد تخرجه وجد نفسه منشغلاً بسبب خلاف المسلمين حيث كانت القطيعة كاملة بين السنة والشيعة فلم تكن الشيعة تعرف عن أهل السنة شيئاً ولم يكن السنة يعرفون عن الشيعة شيئاً، وكان الأمر متروكاً لجهل كل طرف بالآخر وكل فريق يسند للآخر كل ما هو سيئ وغير حقيقي؛ ولهذا كان التنافر والابتعاد والقطيعة بينهم، ولم تكن قطيعة بين مذهبين لدين واحد، بل كانت وكأنها دينان مختلفان. وقد أدمى ذلك قلبه، وقرّر أن يقوم بعمل ما ليكشف للفريقين عن مدى الأخطاء والأوهام التي فرضتها قوى غير دينية لأسباب أغلبها متعلقة بالسياسة والجهل. وكان يؤمن بأن الفكرة الصحيحة لدى المسلم الحقيقي عامة ورجل الدين خاصة هي أمانة يجب أن تؤدى للناس جميعاً، فقرر أن يخرج لكشف تلك الحقيقة فترك إيران عام 1937م وبدأ رحلته الطويلة ضد التعصب والتخلف والتعلق بالأساطير الزائفة المدسوسة في الفقه الشيعي والسني معاً، فالإسلام كما يُعْلَم «دعوة الناس كافة إلى كلمة سواء.. كلمة العدل والحق»، فكتابه هو القرآن الذي لا يختلف سني وشيعي على سورة أو آية أو حتى حرف فيه.

وقد تشاور مع علماء الشيعة في العراق ولبنان وهو في طريقه إلى مصر التي اختارها منطلقاً لنشر فكرته وجهاده في التقريب بين المذاهب الإسلامية، فمصر هي قلب العالم الإسلامي وفيها الأزهر الشريف وهو أهم جامعة تحمي الإسلام، وفيها أكبر رجال أهل السنة، وكان لها دائماً محبة متبادلة بينها وبين أهل البيت، كما أنها هي الوطن الطبيعي لكل دعوة إسلامية صادقة، فإليها أتى جمال الدين الأفغاني وعشرات غيره من المدافعين عن الحق والحقيقة.

وعند وصوله إلى مصر اجتمع بشيخ الأزهر الإمام الجليل فضيلة الشيخ مصطفي المراغي الذي أيَّد الدعوة ورحب بالفكرة، وهيَّأ له فرصة الاتصال بعلماء المسلمين كالشيخ عبد المجيد سليم والشيخ مصطفى عبد الرازق وغيرهما، ومنهم تشكّلت نواة دعوة التقريب ودار التقريب فيما بعد، كما دعاه لإلقاء محاضرات بالأزهر الشريف حتى تتهيأ فرصة التقارب النفسي والفكري بينه وبين غيره من علماء السنة، لكن الحرب العالمية الثانية نشبت فاضطر للعودة إلى إيران يبشر بدعواه هناك، وكان آية الله العظمي الإمام البروجردي قد استقر في قم عام 1945م حيث التقى به وحاز على تأييده ودعمه لدعوة التقريب، وبذلك اكتسبت الدعوة تأييد أكبر أقطاب السنة والشيعة (وكان هذا التأييد من أهم العناصر لنجاح الدعوة).

وبعد انتهاء الحرب عاد إلى مصر ثانية والتقى بمن بقي حيًّا من إخوانه العلماء، وتم تأسيس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة في فبراير 1947م، وكان من أعضائها المؤسسين المغفور لهم فضيلة الشيخ عبد المجيد سليم، وفضيلة الشيخ مصطفى عبد الرازق، وفضيلة الشيخ محمود شلتوت، وفضيلة الشيخ عبد العزيز عيسى، وفضيلة الشيخ حسن البنا، وفضيلة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، والسيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي، ومحمد علي علوية باشا وغيرهم، وكان الإمام القمي هو سكرتيرها العام ومؤسسها الأول (مادة 6 من النظام الأساسي)، وبهم انعقدت أول جلسة في التاريخ الإسلامي الحديث يحضرها ممثلو المذاهب الإسلامية المختلفة. وقد تلقى أعلام المسلمين الدعوة منذ نشأتها ففتحوا لها قلوبهم وعقولهم، وكان ممن التحق بها لاحقاً المغفور لهم: فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري، وفضيلة الشيخ محمد الغزالي، وفضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي.

وأصدرت الجماعة مجلة (رسالة الإسلام) في يناير 1949م بإدارة: فضيلة الشيخ محمد المدني وفضيلة الشيخ عبد العزيز عيسى، وظلَّت تصدر قرابة أربعة عشر عاماً، تضمنت في أعدادها أقلام كبار علماء العالم الإسلامي، كما تضمنت تفسير القرآن الكريم للشيخ محمود شلتوت في فصول متتابعة حتى اكتملت كتاباً سويًّا، ثم أصدر فضيلته فتواه التاريخية في إبريل 1960م في جواز التعبد على المذاهب الإسلامية ومنها مذهب الشيعة الإمامية (الاثني عشرية).

-2-
أسئلة التقريب عند القمي

يطرح هنا القمي تحت عنوان «قصة التقريب» عدة أسئلة يرويها ليوضح لنا المقاصد الرئيسة لحركة التقريب التي كانت تدور في خاطره حال دعوته، كما يوضح لنا «مناط التقريب» وأهدافه، وقد حاولنا أن نضع تفسيراً آخر بجانب التفسير القريب لهذه الأسئلة باعتبارها «أسئلة للنهضة الإسلامية»، وهي ما حاول المشروع الإسلامي الإجابة عنه خلال القرن العشرين.

السؤال الأول:

هل في طاقة المسلمين أن يعالجوا مشاكلهم بأنفسهم؟[2]

لقد واجه العالم الإسلامي خلال القرن العشرين عدة تحديات أهمها الاستعمار وتحدي النهضة، وإذا كان المسلمون استطاعوا مواجهة التحدي الأول على المستوى الشكلي (حيث لا يزالون يخضعون للاستعمار بصور كثيرة بالإضافة إلى التحدي الصهيوني في فلسطين، والأمريكي في العراق وأفغانستان)، إلا أن تحدي النهضة لا يزال موجوداً بقوة في ذهنيات المصلحين، والسؤال هنا يركز على قوله: «بأنفسهم»؛ وهذا يعني أن حلول مشكلات المسلمين يجب أن تنشأ من ذهنياتهم هم لا من غيرهم.

والواقع أن المشاريع الإصلاحية في العالم الإسلامي تعاني من حالة انقسام حاد. ويبدو هذا الانقسام واضحاً في عدم تبني إطار مرجعي تجتمع عليه الأمة للحظة خروجها من «حالة الغياب الحضاري» مما أدى إلى تعدد المرجعيات ومن ثم الوسائل والآليات والأهداف التي يسعى كل مثقف إلى استحضارها لمشروعه، وإذا كان التعدد يبدو ظاهرة سوية غير مرضية إلا أن الانقسام هو الذي يكون كذلك، لأن التعددية تكون داخل الوحدة، أما الانقسام فهو يرادف التجزئة والتفتت.

ويُردّ هذا الانقسام الحاد إلى الاتصال الفكري بالمجتمع الغربي في آخر مراحل الانهيار الحضاري -مرحلة سقوط الخلافة العثمانية- وما أحدثه من صدمة فكرية لدى مثقفينا الذين رأوا في «المجتمع الجديد» بكل ما يحمل من قيم واتجاهات وأنماط سلوكية نموذجاً للنهضة والتقدم، بعيداً عن دراسة العوامل السسيولوجية والنفسية «لحادث التقدم الغربي» وظواهره الفكرية والسياسية التي ارتبطت بوجوده -مثل فصل الزمني عن المقدس- والاحتلال العلمي لوجدان وعقل الإنسان الغربي .. إلخ. وهو ما لم تعرفه البيئة (النفسية والثقافية والاجتماعية والدينية) الإسلامية.

وقد ترتّب على ذلك الانبهار إسقاط مقدمات وأسباب نهضة المجتمع الغربي بظروفه وبيئته وتاريخية حضارته الوسطى والقديمة والحديثة على المجتمع الإسلامي، فكان الناتج الطبيعي عدم تفاعل القادم من الغرب مع الحاضر الإسلامي، وبدلاً من أن يُعنى المثقف المسلم -الذي اتصل بالواقع الغربي- بتطوير منهجه وأدواته أو ابتكار مناهج وأدوات تتلاءم مع سسيولوجيته الإسلامية؛ راح في سهولة ينقل مناهج وأدوات ابتكرها غيره أو كانت نتاجاً إبداعيًّا لما حملته ظروفه المجتمعية إلى الواقع الإسلامي ببنيته الثقافية والمجتمعية دون مراعاة للفوارق والاختلافات الجوهرية بين الواقعين (الغربي والإسلامي).

وقد أدى هذا «الاستيراد الذهني» للعمليات الفكرية والمنهجية بعد بلوغ نضجها في العقلية الغربية إلى وجود تعارض واضح الملامح والتفاصيل بين المشروع الحضاري الغربي الذي «تم بالفعل واكتمل بناؤه» والمشروع الإسلامي الباحث عن «ذهنيات إسلامية» تمتلئ بأهدافه وتبحث عن الآليات المعرفية والعملية من أجل تحقيق تلك الأهداف، الأمر الذي من شأنه العمل على تشخيص الواقع بأمانة ودقة ثم بذل قصارى الجهد من أجل ابتكار الآليات المعرفية والعملية لتحقيق النهضة المنشودة.

والمتأمل لمشروع النهضة الإسلامية الذي بدأ بحركات إصلاحية فردية ثم حركات جماعية منذ بداية الضعف في الخلافة العثمانية وبداية عصر النهضة الأوروبية والاستعمار العالمي للعالم الإسلامي، يجد أن برامج هذه المشروعات كانت تهدف إلى إيقاظ الوعي الإسلامي بالاستعمار الأجنبي وضرورة العمل على تحقيق الاستقلال، وبدا ذلك واضحاً في حركة السيد جمال الدين الأفغاني (1838م - 1896م، 1254هـ - 1314هـ)، ومحمد عبده (1845م - 1266هـ، 1905م - 1323هـ) اللذين أصدرا «العروة الوثقى» التي كانت الإعلام الأول لمشروع النهضة الإسلامي؛ حيث احتوت مقالاتها على تشخيص أحوال العالم الإسلامي وبيان أسباب تعثره. واستندت هذه المقالات في منهجها إلى الأصول الإسلامية مع ربطها بواقع الأمة في هذه الفترة[3].

كما أكدت هذه المقالات على دور التربية الإسلامية لتحقيق الانتماء الإسلامي ومواجهة موجات التبشير والتغريب ورسمت -أيضاً- هذه المقالات ملامح التغيير السياسي والاجتماعي المطلوب في الأمة الإسلامية.

ثم كان لمحمد عبده -بعد ذلك- فلسفته الإصلاحية التي كانت تقوم على إحياء، دور العقل وتصحيح الفهم الديني الذي أصابه الجمود، والدعوة إلى فتح باب الاجتهاد في المعاملات، ثم ظهر بعد ذلك رشيد رضا الذي تتلمذ على يد الشيخ محمد عبده الذي أنشأ مجلة «المنار» التي بدأت على صفحاتها تظهر أفكاره الإصلاحية التي كانت امتداداً للشيخ محمد عبده.

وفي الجزائر كانت جهود الشيخ بن باديس (1307هـ - 1889م/ 1359هـ - 1940م) في حماية الشخصية الجزائرية من التغريب، بتحريم التجنس بجنسية المحتل، وذكر في نص هذه الفتوى أن «التجنس بجنسية غير إسلامية يقتضي رفض أحكام الشريعة، ومن رفض حكماً واحداً من أحكام الشريعة عُدَّ مرتداً عن الإسلام بالإجماع، فالمتجنس مرتد بالإجمال»، هذا بالإضافة إلى جهوده التربوية والتعليمية[4].

وكانت دعوة الشيخ حسن البنا (1928م) إلى إنشاء جماعة «الإخوان المسلمين» تطوراً في الفكر الإسلامي الذي بدأ يعتمد على العمل الجماعي منه إلى الجهود الفردية، وقامت هذه الجماعة مستهدفة في البداية هدفاً مباشراً قريباً هو الجهاد ضد الاستعمار الأجنبي في البلاد، وهدفاً استراتيجيًّا لعمل الجماعة وهو إقامة الخلافة الإسلامية وقدمت الجماعة منهجاً تربويًّا يشمل كافة جوانب تربية الفرد المسلم وفقاً لنموذج الجماعة الإسلامية الأولي، وعلى الرغم من مرور سبعين عاماً على إنشاء هذه الجماعة وما تعرضت له من مواجهات مختلفة -داخلية وخارجية- إلا أنها تحقق الانتشار السريع أفقيًّا ورأسيًّا، وهي مع ذلك بحاجة إلى تطوير برامجها وآلياتها بما يخدم المشروع الإسلامي كله. كما ظهرت جماعات إسلامية أخرى مثل الجماعة الإسلامية في باكستان، والتبليغ والدعوة، وأنصار السنة المحمدية. وغيرهم من الجماعات التي تزيد على الأربعين جماعة تعمل على الساحة الإسلامية.

وتأكدت أهمية الأفكار التي طرحها سيد قطب خاصة في كتابه الشهير «معالم في الطريق» حينما أكد فيه على ضرورة قطع جميع العلائق بالأنظمة الوضعية وأفرد تصوره «للحكومة الإسلامية» المنشودة التي تستمد كل مقوماتها من النظام الإسلامي الرشيد، ثم هو يبرز في كتاباته الأخرى التصور الإسلامي لمفهوم العدالة الاجتماعية الغائب في الأفكار والأنظمة الوضعية في العالم الإسلامي، وقد كانت لأفكار سيد قطب ردود فعل واسعة في العالم الإسلامي ما بين مؤيد ومعارض في قربها أو بعدها للمشروع الإسلامي، خاصة أولئك الذين يرون هذه الأفكار من منظور تجريدي فلسفي بعيداً عن التطورات الاجتماعية والسياسية للمجتمعات الإسلامية حينئذ.

وكانت أفكار سيد قطب امتداداً للمفكر الباكستاني «أبو الأعلى المودودي» الذي كانت كتاباته تدور حول «المحور السياسي» في المشروع الإسلامي، ويرى المودودي أن الخصائص الأولية للدولة الإسلامية تتلخص في ثلاث[5]:

أ- ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أو لسائر القاطنين في الدولة نصيب من الحاكمية؛ فإن الحاكم الحقيقي هو الله والسلطة الحقيقية المختصة بذاته لله وحده، والذين من دونه في هذه المعمورة إنما هم رعايا في سلطانه العظيم.

ب- ليس لأحد، من دون الله شيء من أمر التشريع، والمسلمون جميعاً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً لا يستطيعون أن يشرِّعوا قانوناً.

ج- إن الدولة الإسلامية لا يُؤسس بنيانها إلا على القانون الذي جاء به النبي (صلى الله عليه وسلم) من عند ربه مهما تغيَّرت الظروف والأحوال.

ويطالعنا مالك بن نبي بمجموعة من الأفكار التي دشّنها حول «استعادة الدور الحضاري» للأمة الإسلامية والتي فقدته لأنها تخلّت عن شروط هذا الدور الحضاري، ومن ثم فقدت معه الريادة الحضارية حيث يرى مالك أن «لكل حضارة شروطاً نفسية وزمنية تقوم عليها وهذه الشروط لا تحققها مجرد ثقافة مهنية، بل ثقافة جذرية تُغيِّر فنيًّا معالم الذات، ومنطلقة من كيان الإسلام الحضاري. لذلك فإن تمسك الإنسان المسلم بتعاليم ومبادئ القرآن جعله مُشيِّداً لأعظم حضارة عرفها التاريخ، فإذا ما وهنت الدفعة القرآنية، توقف العالم الإسلامي وما كان لأي معوض زمني أن يقوم خلال التاريخ، مقام المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية، ألا وهو الإيمان، ولذا لم تستطع النهضة الحديثة، أن تمنح العالم الإسلامي «حركة» لم يعد هو في ذاته يملك مصدرها»[6].

وهذا ما جعل مالك بن نبي يرفض النقل والاقتباس للأفكار والمناهج الغربية وأكد على ضرورة الاستقلال الفكري واستعادة الأصالة في ميدان الأفكار، فالفكر الإسلامي قد وضع حلولاً لمشكلات العالم الإسلامي، وما يعانيه إنسان العصر الحديث من قضايا ومواقف، وأنه يجب الرجوع إلى القرآن الكريم الذي وضع حلولاً للمشكلات التي تواجه الإنسان.

أما الشيخ محمد الغزالي (1917م - 1996م) فقد انشغل بتصحيح «المفاهيم الدينية» باعتبارها العامل المهم في إقامة المجتمع الإسلامي المنشود، ومن أهم القضايا التي أكد عليها في كتاباته وندواته وخطبه هي شخصية المسلم المعاصر وبيان عوامل الضعف فيها، مؤكداً على ضرورة التربية الإسلامية التي يجب أن يتلقاها المسلم المعاصر في جميع المؤسسات التربوية (البيت والمدرسة والأعلام)، كما اهتم -رحمه الله- بالدعوة إلى فتح باب الاجتهاد ليس في أبواب وفروع العبادات فهذا على حد قوله: «قد باشرته الأمة الإسلامية بأسلوب بلغت الحرية فيه حد السرف، لذلك فيجب إغلاق باب هذا النوع من الاجتهاد، والموقف على العكس تماماً بالنسبة للاجتهاد في أبواب المعاملات، فإن القول بانتهاء عهده جريمة، والزعم بأن الأولين بلغوا حده الأقصى زعم لا يقوم إلا في أذهان البله»[7].

وكان للتطورات السياسية في إيران -بعد الثورة الإسلامية عام 1979- أثر كبير في تطور النموذج السياسي للمشروع الإسلامي، فقد كانت الثورة الإسلامية أول محاولة في العصر الحديث لنقل تجربة الحكم السياسي الإسلامي من مجال الفكر النظري الإسلامي إلى مجال السلطة. وكذلك فإن الثورة الإيرانية هي الثورة الأولى في العصر الحديث التي قامت على أثر حافز إسلامي وضد عملية التغريب أو أوربة المؤسسات السياسية والإدارية والثقافية داخل البلاد في عهد الشاه[8].

وقد حرص دستور الثورة الإيرانية وقوانينها على تقديم تمايز «للنموذج السياسي، الإسلامي».. ونلاحظ ذلك من خلال بعض مواد هذا الدستور:

- المادة السابعة تنص على مبدأ الشوري الإسلامي.

- المادة الثامنة نصت على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

- المادة الحادية عشرة نصت على مبدأ وحدة المسلمين وواجب النظام في العمل على تحقيقها.

- المادة الرابعة عشرة نصت على معاملة غير المسلمين بالحسني.

- المادة السادسة عشرة نصت على الاهتمام باللغة العربية باعتبارها لغة الدين الإسلامي.

- المادة السابعة عشرة نصت على أن يكون التقويم الرسمي للدولة هو التاريخ الهجري[9].

وعلى الرغم من وجود بعض الإشكاليات الخاصة بالنموذج السياسي الذي تتبناه إيران، فلا يمكن استبعاد هذا النموذج من الواقع الإسلامي بل يجب الاقتراب منه بالدراسة والفحص والتقييم من أجل تفعيل نموذج سياسي إسلامي هو القائم وحده حاليًّا بين الأنظمة العلمانية، ويتم من خلاله إدراك الآخرين لنا ولأصالتنا الفكرية والسياسية.

وعلى المستوى المؤسسي للعمل الإسلامي، فلم يشهد القرن العشرين حتى الربع الأخير منه وجود مؤسسات تقوم بإنتاج وابتكار الأفكار النهضوية للمشروع الإسلامي على نمط ما يوجد في الغرب من مؤسسات ومراكز للتبشير والتغريب وأخيراً للعولمة، مما جعل «الفردية» و «التناثر» و «التكرار» أهم ما اتسمت به مشاريع النهضة الإسلامية في القرن العشرين، إلا أنه في الربع الأخير ظهرت بعض المؤسسات الفكرية أهمها المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1981م، الذي حدد اهتماماته في توفير الرؤية الإسلامية الشاملة، وتأصيل قضايا الإسلام وتوضيحها، واستعادة الهوية الفكرية والثقافية والحضارية للأمة الإسلامية، إصلاح مناهج الفكر الإسلامي المعاصر، وكذلك إنشاء «المعهد العالمي للبحوث الإسلامية»، وتوالى في بداية القرن الحادي والعشرين زيادة الاهتمام «بالعمل الإسلامي المؤسسي» الذي يضمن التفاعل وتوفير الوقت والجهد وضبط العمل الإسلامي من خلال مجموعة محددات وأهداف واستراتيجيات حتى وإن لم يتم الاتفاق عليها بشكل نهائي إلا أن ذلك النوع من العمل المؤسسي يظل هو الأمل في وضع مشروع إسلامي متكامل ينهض بالمسلمين في القرن الجديد.

ومن خلال ما تقدم يتبين أن ما تم تدشينه من عمل «الذهنيات الإسلامية» -خلال القرن العشرين وحتى بداية القرن الحالي- يدخل ضمن «مقدمات ضرورية» للمشروع الحضاري الإسلامي حيث لا يمكن اعتبار هذا المشروع تم واكتمل بناؤه، والمتأمل لهذه المقدمات يجد أنها تتسم بتعدد المرجعية، وأنها تفتقد المحددات المنهجية والفكرية التي تجعل من هذه المقدمات بناء في نسق متكامل متسق غير متناقض، فالواقع أفرز لنا الإشكاليات التالية:

1- تعدد واختلاف الرؤي المنهجية.

2- تناقض في مراعاة الأولويات «للعمل الإسلامي»، وفي تحديد الأصول والفروع، فتم تأخير ما حقّه التقديم، وتقديم ما حقّه التأخير، وصغّر الكبير وتم تكبير الأمر الصغير، ونشأ ذلك لافتقاد تحديد الأولويات ومرحليّتها الزمنية لدي أصحاب «الذهنيات الإسلامية».

3- التحزّب «الفئوي»، «الجماعي»، وتعدد «التنظيمات» التي أخذت الفجوة بينها تتزايد يوماً بعد يوم، مما عمّق «التفتيت» و «التجزئة» في العمل الإسلامي المعاصر.

4- اختفاء مفهوم «الأمة» من خطابات التنظيمات والجماعات وإعلاء شأن «الجماعة» و «التنظيم» اللهم إلا إذا استخدم لجذب الأنصار في الخطابات العامة والدعائية.

ومن خلال ما تقدم يتبين: أن المسلمين لم يستطيعوا بعدُ أن «يعالجوا مشاكلهم بأنفسهم» على الرغم أنه من المؤكد أن «طاقتهم» الفكرية والمادية والمعنوية توفر لهم هذه الحلول، إلا أن قوى الاستكبار العالمي وفرقتهم واختلافهم تقف حائلاً دون تحقق ذلك.

السؤال الثاني:

هل هناك مبادئ من صميم الإسلام تضمن للأمة الإسلامية وحدتها وبالتالي تضمن لها عزَّها ومجدها؟[10]

يحتوي هذا السؤال على مفهوم رئيسي هو: صميم الإسلام، ولا شك في كونه القرآن الكريم الذي اتّفق عليه المسلمون وعلى صحة ما فيه دون زيادة أو نقصان، وهو نفسه الذي يوجد بين دفتي المصحف في أيدي المسلمين. «فالمسلمون يتفقون في كتابهم وهو الأصل الأول، وهو الذي بقي سليماً، فلا يختلف مسلم مع مسلم على سورة أو آية أو كلمة»[11]. وهذا الكتاب هو الذي أعطى «للأمة» صفة «الإسلامية»؛ لذا يعتقد القمي أنه -أي الكتاب- والأمة فكريًّا واجتماعيًّا هما الطريق لوحدتهم.

إن تحديد الأبعاد والمحددات الرئيسة التي تتسم بها «الأمة الإسلامية»، من شأنه أن يساهم في تحقيق الوحدة المنهجية والفكرية بين المسلمين، وتساهم أيضاً في خلق إرادة واحدة فاعلة لها نسقها الفكري الموحد -بدلاً من تعدد الأنساق وتعدد الإرادات- كما أن إحياء مفهوم «الأمة» كما يؤكده القمي في سؤاله يجعل الولاء للإسلام وليس للمذهب أو للتنظيم أو الجماعة، أو يجعل ولاء المذهب والتنظيم والجماعة «للأمة الإسلامية»، فتكون الأمة قائداً ومحوراً وليست تابعاً أو فرعاً، ويعطي مفهوم الأمة -أيضاً- تميُّزاً في الهوية لكل المسلمين في العالم فيخرجهم من دوائر تصنيفات الهيمنة الغربية: «العالم المتخلف» «العالم النامي»، «دول الجنوب»، «الشرق الأوسط»، ويصبح الانتماء «للأمة الإسلامية» هو الركن الأساس في عنوان المسلم المعاصر، والجنس في تعريفه، والمحدد الأول لمفهومه.

السؤال الثالث:

يطرح القمي هنا عدة خيارات أمام «الخلافات بين السنة والشيعة» وهي: الاستبعاد لموقف الخلاف جملة وتفصيلاً، أو الإقرار بالواقع «وجود الخلاف» ومن ثم مناقشته في ضوء «الدليل» أو البحث العلمي و «الأصول» «أو أدب الخلاف بين المسلمين كما أقره نظام «الأخوة» و «الاجتماع» الإسلامي. فيسأل عن مدى فهم المسلمين وإدراكهم لهذا الأمر:

هل يفهم المسلمون أن التقريب معناه نبذ كل خلاف؟ أو أنهم لا يرون بأساً بأي خلاف يتبع الدليل، ويراعي الأصول التي لا يحق لمسلم أن يخرج عليها؟ هل تتحكم المصلحة في النهاية أو يسيطر التعصب؟[12]

ولقد كان هذا السؤال مما شغل فكر الشيخ القمي كثيراً لدرجة التكرار في الإجابة عنه وفي مواضع متعددة، فهو يبرز دائماً منطلقات التقريب، ومبادئ الفكرة، ويزيل اللبس حتى لا يحدث خطأ في الفهم لهذه الدعوة الجديدة ومن هذه المنطلقات التي وضعها الشيخ لفكرته:

أولاً: مشروعية الاختلاف وعدم مشروعية النزاع والعداء

يقول القمي: «لا ننكر أن الخلاف وقع بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولو زعمنا أن الأوائل لم يكن بينهم أي خلاف لجانبنا الحق، ومن له أقل إلمام بالتاريخ لا يمكنه أن يزعم ذلك. بيد أنهم حصروا الخلاف في دائرته المعقولة ولم يجعلوا له أثراً يضر بالوحدة الإسلامية، ولا أعطوا به فرصة لأعداء الإسلام. كان خلافاً في الرأي لا تشاجراً، والخلاف في الرأي من طبيعة الإنسان، وتحتمه البيئات وتطور الزمن، وليس لأية قوة أن تمنعه، ولا ضرر منه، بوصفه خلافاً، إنما الضرر في أن يتطور إلى تشاتم وتخاصم...»[13]. ويضيف قائلاً -في موضع آخر- «الحق كل الحق أنه لا ضرر على المسلمين في أن يختلفوا؛ فإن الاختلاف سنة من سنن الاجتماع، ولكن الضرر كل الضرر في أن يفضي بهم الخلاف إلى القطيعة والخروج على مقتضى الأخوة التي أثبتها الله في كتابه العزيز لا على أنها شيء يؤمر به المؤمنون، ولكن على أنها حقيقة واقعة رضي الناس أم أبوا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[14]»[15].

يكشف الشيخ القمي -هنا- وجهاً للعلاقات بين السنة والشيعة فالخلاف يكون في «الرأي» لا في «الأصل»، وله آدابه ووسائله كما أن له نواهيه مثل «الضرر» و«التشاجر» و«السباب» و«الشتائم» و«القطيعة». ولقد فتح الشيخ القمي -أيضاً- باباً فكريًّا عند المسلمين لإدراك هذا المنطلق في كتاباتهم وفكرهم ومنهجهم، فيكتب تحت عنوان «خلاف نرضاه وخلاف نأباه»:

«إننا نقبل الخلاف الفكري ما دام في دائرة معقولة. ونرحّب بالخلاف المذهبي لأنه وليد آراء اجتهادية مرجعها الكتاب والسنة أو ما أعطاه الكتاب والسنة قوة الحجية. ونرحّب بما عند الشيعة وأهل السنة لأنهما تؤمنان بما يجب على المسلم أن يؤمن به، وإن اختلفتا في مسائل فقهية، وتميزتا في مسألة الولاية والخلافة. ونرحّب كذلك بالمعارف الكلامية، لأنها ميدان من ميادين التفكير، للمسلم أن يجول فيه»[16].

ثم يرفض الخلاف الذي تمليه «المصلحة الخاصة» و «يسيطر عليه التعصب»: «أما الخلاف الذي لا نرحّب به ولا نقبله، بل نرفضه ونقاومه فهو الخلاف الذي تمليه الكراهية والبغضاء، وتغذيه الشُّبَه والأوهام، ويوجِد البلبلة في صفوف الأمة، ويؤدي إلى تفريق كلمة المسلمين»[17].

والشيخ القمي يشير إلى فئة من المسلمين تحزبت ضده فأخذت تشكّك في كل فكر لإصلاح الأمة بل وتوجه إليه التهم -أحياًنا- بأنه خارج عن حدود الإسلام والإيمان اعتقاداً منهم في أفكار في التراث اعتقاداً خاطئاً، فهم في الوقت الذي يرون فيه التقريب -خروجاً على الدين- يؤمنون بطاعة الطواغيت وحكم الجور والظلم، لا لشيء إلا لأنهم لم يعطوا عقولهم حرية التفكير في جوهر القرآن وروح الإسلام، بل يمكن لهم في بعض الأحيان أن يتقاربوا هم مع أعداء الإسلام الحقيقيين لهدم فكرة إصلاحية والتشنيع بها بلا استناد إلى قرآن أو سنة في عملهم هذا!!!

ثانياً: القرآن والسنة اعتقاد المتقاربين

أوضح الشيخ القمي في هذا المبدأ أساساً مهمًّا للتقريب وهو: أن المتقاربين في فكرته يبنون اعتقادهم وإيمانهم على المرجعية الإسلامية العليا التي تتمثل في: «القرآن والسنة»... «فالمسلمون -بحمد الله- متفقون في كتابهم مجمعون على ما بين الدفتين... ويتفقون في وجوب الأخذ بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنهم قد يختلفون في الفهم أو التفسير...»[18]. فالقرآن الكريم والسنة يمثلان المرجعية العليا للمسلمين، يحدد الشيخ القمي الفِرق التي تتفق مع هذه الأصول ومن ثم تتفق مع فكرته
-التقريب- فيقول: «إن الطوائف التي نعمل على التقريب بينها هي السنة بمذاهبها، والشيعة الإمامية والشيعة الزيدية...»[19]. وتتفق هذه الفرق الثلاث: أهل السنة، الإمامية والزيدية في الإيمان بمعناه العام أي: التوحيد، النبوة، المعاد، إلا أن الشيعة (الإمامية والزيدية) يختلفون عن السنة في القول بالإمامة، فالشيعة الاثني عشرية يعتقدون بوجود اثني عشر إماماً بعد الرسول
(صلى الله عليه وسلم) أولهم علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وآخرهم المهدي المنتظر. وكلهم ينسبون إلى الإمام الأول (رضي الله عنه) ومن ولد السيدة فاطمة الزهراء من ولد الحسين (رضي  الله عنهما) وأنها تكون عن طريق النص[20]. أما الزيدية «فهم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي  الله عنهم) ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة (رضي  الله عنها)، ولم يجوّزوا ثبوت الإمامة في غيرهم، إلا أنهم جوزوا أن يكون كل فاطمي عالم شجاع سخي خرج بالإمامة أن يكون إماماً واجب الطاعة»[21].

والزيدية بذلك يختلفون عن الإمامية في وجهين:

الأول: عدم القول بنصية الإمامة.

الثاني: جواز الإمامة في أولاد الحسن أو الحسين (رضي  الله عنهما).

ثالثاً: لا لتوحيد المذاهب أو دمجها

إذا كانت المذاهب الإسلامية نشأت في ظل الاجتهاد وتأسست في ضوء القرآن والسنة فلا دعوة لدمجها؛ إذ في التعدد المذهبي ثراء معرفي وتراثي للحضارة الإسلامية، لذلك ينعى الشيخ القمي على الذين يفهمون غير ذلك: «... ممن لا يعرف مهمة التقريب على حقيقتها ولم يدرس برامجها بل غاب عنه مدلول الاسم، فحسب أن التقريب توحيد؟ ... ليست جماعة التقريب تريد القضاء على كل خلاف، ولا تفكر في ذلك، ولا تبتغي أن يتشيع السني، أو يتسنن الشيعي»[22]، إن التقريب لأسمى من هذا وأجل شأناً، إنه -على العكس مما يتخيلون أو يريدون أن يُخيّلوا للناس- ينادي بوجوب أن تبقى المذاهب وأن يحتفظ المسلمون بها، فهي ثروة علمية وفكرية وفقهيه لا مصلحة في إهمالها ولا في إدماجها»[23].

رابعاً: الإيمان بفرضية التعارف بين المسلمين

إن ما نعانيه اليوم من آثار الانقسام التاريخي بين المسلمين يرجع في جانب منه -على الأقل- إلى الجهل المتبادل بين الفريقين أكثر مما يرجع إلى التفاوت الحقيقي في الرأي حول مواطن الخلاف[24].

ولا شك في أن التقريب بين المسلمين لا يتأسس أو يتماسك إلا على أساس العلم، فإصلاح العلاقات بين المذاهب الإسلامية لا يتحقق إلا بإصلاح المعرفة بين هذه المذاهب، والمعرفة لا تعني بالضرورة الاتفاق معها، وإنما الاتفاق والاختلاف الشرط فيهما أن يكون على أساس العلم أولاً، فالمعرفة العلمية بين المذاهب الإسلامية بإمكانها أن تساهم في التقريب حتى على قاعدة الاختلاف[25].

وقد تنبّه الشيخ القمي إلى هذا الأمر «المعرفة العلمية بين المسلمين» بل اعتبر هذه القضية هي ما جاء التقريب من أجله: «لقد جاء التقريب على أساس فكرة التعارف العلمي، وأوجد مركزاً لمن يريد أن يعرف كثيراً أو قليلاً عن المذاهب الإسلامية...»[26]، «إن من غايات التقريب أن يعرف المسلمون بعضهم بعضاً، وإن أول من يجب عليهم التعارف هم العلماء وأهل الفكر في كل طائفة، والعلم لا يُصادر ولا يُكتم، فلا بأس على الشيعة أن يعلموا علم السنة، وهم يدرسونه فعلاً، وكثير من مجتهديهم يتوسع في درسه. ويتعمق في بحثه. ولا بأس على أهل الأزهر أن يعلموا علم الشيعة، بل ذلك واجبهم الذي يدعو إليه الإخلاص العلمي ولا يكون النظر تاماً إلا به...»[27]. وعلى الرغم مما قد يتصوره البعض من «نخبوية فكرة التقريب» واقتصارها على العلماء فقط، فإن الشيخ القمي ينفي ذلك، بل يري «أن فكرة التقريب ليست فكرة جماعة بذاتها مركزها دار التقريب، وإنما هي فكرة كل مناصر لها في أي بلد من البلاد، وإن أية دار تُلقى فيها محاضرة أو يجتمع فيها مؤتمر أو غير ذلك لتعريف المسلمين بعضهم إلى بعض لهي دار للتقريب»[28].

ويضع القرآن الكريم قضية التعارف بين البشر في مكانها الإنساني الهام {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[29].

فالمعرفة بين البشر تساهم في حل الكثير من المشكلات التي تنشأ بسبب الجهل «فكثير من الخلافات تحل في ظل التعارف:

- إما لأنها نشأت -أي الخلافات- عن اعتقاد الطائفتين خطأ أن الأخرى تعتقد أموراً يتضح بعد التعارف خطأ نسبتها إليها.

- أو لأنها جاءت نتيجة دليل معقول أو أصل مقبول فتقبلها الأولى.

- أو لأنها تستند إلى أساس وأدلة إن لم تكن مقبولة عند الأولى، فقد ثبت عندها اعتبارها، وعندئذ تلتمس عذراً لمن يعمل بها...»[30].

إن هذا «المنحى العلمي» الذي تنبّه إليه الشيخ القمي من شأنه أن يضع كل قضايا الخلاف موضع الطرح والبحث العلمي، كما يوفر للمسلمين التفكير الحر الذي يعتمد على طرح العصبيات والأوهام التي وضعت على العقل المسلم فترات طويلة. وهو لا يدعو إلى مناقشة القضايا الخلافية بصورة علمية أكثر مما يدعو العقل المسلم إلى التحرر من أغلال التقليد والجهل اللذين يلازمانه منذ عهود ليست ببعيدة، ويرجو له أعداؤه أن يظل فيها لعهود أكثر وأكثر. كما يساهم هذا «المنحى العلمي» -أيضاً- في توظيف حالة من الحوار الإسلامي - الإسلامي الذي يعتبر من القواعد الأساسية لأي فكرة أو مشروع نهضوي.

ويشير أحد الأبحاث المهمة التي رصدت بالنقد والتحليل النفسي الخلافات بين المسلمين إلى الدور الذي يلعبه الجهل بين المسلمين أو صعوبة الاتصال أو التخاطب، أضف إلى ذلك تدخُّل طرف ثالث في عملية تبادل المعلومات مما يؤدي إلى إعاقتها، إن هذه الإعاقة تنتج في المقام الأول عن صعوبة تبادل الاتصال (التخاطب) المباشر بين فردين أو جماعتين، فهذه الصعوبة تخلق الفرصة لتدخُّل الطرف الثالث لإعاقة عملية تبادل المعلومات بين أفراد الجماعتين، وتتمثل صعوبة الاتصال في:

أ- صعوبة قيام أحد المتخالفين بدور مصدر المخاطبة، حيث يتوقع المتلقي الموقف الذي سيتبناه مخاطبه في مخاطبته فيرفض الاستماع له بغض النظر عن مضمون خطابه.

ب- يلعب انتماء الفرد لجماعة ما دوراً مهمًّا في إعاقة تلقيه ومخاطبته عضو جماعة أخرى، وتزيد هذه الإعاقة من هوة الخلاف بين أعضاء الجماعتين»[31].

إن توفير القواعد العلمية لقضايا الخلاف يمكن أن يكون أحد أهم قواعد الحوار والتقريب الإسلامي - الإسلامي في الوقت الحالي أو المستقبلي، وهو ما يؤدي إلى زيادة الوعي والنضج في علاقات المسلمين ويجعلهم على مستوى حضارتهم في تناول قضاياهم المصيرية كما يساهم في إصلاح مناهج الفكر والنظر نحو النهضة والتقدم.

السؤال الرابع

هل المسلمون يريدون حقًّا أن يعيشوا أو أنهم سيظلون يتهاونون حتى في وجودهم ويتركون الأمر لأعدائهم الذين يعرفون كيف ينتهزون الفرصة ويحسنون الانتفاع بموقف كل من المتزمتين الذين يسيطر عليهم الجمود، وأصحاب الهوى الذين يخدمون السياسات الأجنبية. وبذلك يزداد ضعفهم ويعجزهم عن صد أي تيار خارج على مبادئهم، فيسهل تحطيمهم والقضاء عليهم؟[32]

والشيخ القمي هنا يقدم السؤال الأساسي «للنهضة الإسلامية» وهو السؤال الذي انشغلت به ذهنية المصلحين في القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين: وهو «الوجود الإسلامي» أو بالمعنى المعاصر «وضع المسلمين في الخريطة العالمية» أو «مكانة العالم الإسلامي».

وإذا نظرنا إلى العالم الإسلامي المعاصر من ناحية الجغرافيا السياسية نجد أن رقعته الجغرافية تضم 44 دولة تمتد مساحتها على 25.018.270 كيلو متراً مربعاً. والحدود السياسية التي تحدّ البلدان الإسلامية التي تشكل هذه المساحة هي الرقعة التي تشكل في الوقت نفسه المفهوم الجغرافي الطبيعي المرتبط بالحدود السياسية له، أي أن هذه المساحة الجغرافية تشكّل العالم الإسلامي مفهوماً جغرافيًّا وكذلك مفهوماً جغرافيًّا سياسيًّا، أي بوصفه عالماً قائماً بذاته يمكن له أن يشكّل بكليته ومجموعه العام تكتلاً حضاريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا خاصًّا به مقابل التكتلات الدولية الأخرى[33].

إن هذا المفهوم أي الرقعة الجغرافية السياسية هو الوعاء الذي يحتوي داخله على بقية كل الخصوصيات والمفاهيم الخاصة بالعالم الإسلامي مثل المفهوم الديني - الحضاري، ثم الثروات الاقتصادية للعالم الإسلامي، وبقية الخصوصيات المتعددة التي تُسهم في تحديد قوته السياسية عالميًّا، أو تجعل القوى الدولية الأخرى تهتم به وتضعه ضمن حساباتها الاستراتيجية الراهنة[34].

وإذا كانت هذه الإمكانات تفضي إلى القول بوجود عالم إسلامي ذي قوة ومنعة وحضارة إلا أن الواقع يناقض ذلك؛ فالمسلمون يصنّف عالمهم ودولهم بـ«العالم الثالث» أو «العالم المتخلف»، ولا يزالون بالصورة التي كانوا عليها في النصف الأول من القرن العشرين سوقاً لمنتجات الاستعمار وأرضاً ومنبعاً للمواد الخام لصناعته(!!).

فعلى المستوى السياسي: نجد الضعف الإسلامي واضحاً، الأمر الذي أعطى حالة من «الانفراد الأمريكي» والتدخل في شؤونه مرة بالحرب (مثل أفغانستان)، ومرة بالحرب والتقسيم (مثل العراق)، ومرة بالاحتلال (مثل فلسطين)، ومرات بالمحاصرة السياسية والاقتصادية (مثل إيران، ليبيا، السودان،...). وحديثاً تمخض العقل الأمريكي عن عملية أكثر مسخاً للشرق الإسلامي أو ما أسموه (الشرق الأوسط الكبير) حيث تنوي أميركا القيام بفرض نموذج إرشادي -بقوة القهر والضغط والعسكر- على دول العالم الإسلامي يطبق فيه ما يخدم مصالحها بصورة أكثر علانية ووضوحاً في مرحلة استعمارية جديدة للعالم الإسلامي.

وعلى المستوى الاقتصادي: نجد أن كل دول العالم الإسلامي تستورد المواد الغذائية، والمواد الأولية اللازمة للصناعة... إلخ، ولا يزال العالم الإسلامي يرتبط بتبعية اقتصادية سواء للغرب الأوروبي أو الأمريكي.

وعلى المستوى الثقافي: يعاني العالم الإسلامي من تغريب لثقافته وتهميش لقيمه ومبادئه التي أصبحت غريبة في أرضه ودياره.

ويصف محمد سيد محمد الواقع الإسلامي بأنه واقع ضعيف يسهل للقوى الإمبريالية السيطرة عليه عسكريًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا لعدة أسباب[35]:

1- غياب القوة العسكرية القادرة على تحقيق الطموح القومي وإشعار المواطن العربي المسلم بالأمن بدلاً من الإحساس بالعجز والفشل، مما سهّل عملية الاختراق النفسي والعقلي.

2- غياب التصور القومي لطبيعة الثقافة الواجب سيادتها في الوطن الإسلامي والعربي، وينعكس ذلك على برامج التربية والتعليم في كل قطر عربي مما يحول دون تشكيل وجدان مشترك، فتظل الاهتمامات والتطلعات المختلفة من قطر إلى آخر ويؤثر ذلك في تقييم الحاضر وطموحات المستقبل.

إن قراءة الواقع الإسلامي المعاصر تجعلنا نعود إلى الصورة التي كان يحذر منها الشيخ القمي في نهاية السؤال الخامس «... وبذلك يزداد ضعفهم ويعجزهم عن صد أي تيار خارج على مبادئهم، فيسهل تحطيمهم والقضاء عليهم». مما يدعم افتراضنا حول أسئلة التقريب عند القمي بأنها أسئلة نهضة إسلامية، وأن التقريب يمثل أحد دعائم هذه النهضة.



[1] كاتب مصري.

[2] القمي: قصة التقريب، رسالة الإسلام، السنة الحادية عشرة، العدد الرابع، ص 348.

[3] عبد الجواد السيد بكر: «تحليل مضمون العروة الوثقى»، المسلم المعاصر، السنة العشرون، العدد 77، 1995، ص (45 - 46).

[4] مصطفى محمد حميداتو: عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية (مقدمة عمر عبيد حسنه)، كتاب الأمة، قطر، العدد (57)، يونيو 1997، ص 33.

[5] أبو الأعلي المودودي: نظرية الإسلام السياسية، القاهرة، دار الفكر، د. ت، ص ص 28 - 29.

[6] سليمان الخطيب: فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي: دراسة إسلامية في ضوء الواقع المعاصر، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1993، ص 292.

[7] الغزالي، كيف نفهم الإسلام؟

[8] علاء طاهر: العالم الإسلامي في الاستراتيجيات المعاصرة، مركز الدراسات العربي الأوروبي، 1998، ص: 615.

[9] انظر: دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، طهران، رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية، 1997.

[10] القمي: قصة التقريب، مرجع سابق، ص348.

[11] القمي: «للعقول لا للعواطف» رسالة الإسلام، العددان 51 - 52، ص 247.

[12] القمي: قصة التقريب، مرجع سابق، ص: 349.

[13] القمي: «جولة بين الآراء»: رسالة الإسلام، السنة الثالثة، العدد الأول، ص: 37.

[14] سورة الحجرات، الآية 10.

[15] القمي: «نقط على الحروف أو مزيد من الإيضاح»: رسالة الإسلام، السنة الخامسة، العدد الثاني، ص: 151.

[16] القمي: «خلاف نرضاه وخلاف نأباه»، رسالة الإسلام، السنة العاشرة، العدد الأول، ص: 16.

[17] المرجع السابق، ص: 18.

[18] المرجع السابق، ص: 16 - 17.

[19] القمي: «نقط على الحروف أو مزيد من الإيضاح»: رسالة الإسلام، السنة الخامسة، العدد الأول، ص: 147.

[20] انظر: جعفر السجاني: العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت، محمد رضا المظفر: عقائد الإمامية.

[21] الشهرستاني: الملل والنحل، بيروت: دار المعرفة ط4، 1995، ج1، ص: 179.

[22] القمي: «جولة بين الآراء»: رسالة الإسلام، السنة الثالثة، العدد الأول، ص: 37.

[23] القمي: «القافلة تسير»: رسالة الإسلام، السنة الثامنة، العدد الأول، ص: 42.

[24] أحمد كمال أبو المجد: حوار لا مواجهة، القاهرة، دار الشروق 1988، ص 269.

[25] زكي الميلاد: «التقريب رسالة العقلاء»، بيروت، الكلمة، السنة الثامنة، العدد 32، صيف 2001، ص: 26.

[26] القمي: «القافلة تسير»: مرجع سابق، ص: 41.

[27] القمي: «نقط على الحروف»: مرجع سابق، ص: 150.

[28] القمي: «الزمن في جانبنا»: رسالة الإسلام، السنة التاسعة، العدد الأول، ص: 24.

[29] سورة الحجرات، الآية 13.

[30] القمي: «جولة بين الآراء»: مرجع سابق، ص: 37.

[31] عبد المنعم شحاته: «خلافات المسلمين رؤية نفسية»، المسلم المعاصر، العدد 84، يوليو 1997، ص172.

[32] القمي: «قصة التقريب»، مرجع سابق، ص: 349.

[33] علاء طاهر: مرجع سابق، ص: 64.

[34] المرجع السابق: الصفحة نفسها.

[35] محمد سيد محمد: الغزو الثقافي والمجتمع العربي المعاصر، القاهرة، دار الفكر العربي 1994، ص: 250.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة