تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

التسامحية بين المذاهب الإسلامية عند رواد الإصلاح الحديث

حسان عبدالله حسان

 

[1]

نعتذر لمخالفينا:

نعتقد هذا فنلتمس العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبداً حائلاً دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده، وأوسع مشتملاته، ألسنا مسلمين وهم كذلك؟ وألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك؟ وألسنا مطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا؟ ففيم الخلاف إذن؟ ولماذا لا يكون رأينا مجالاً للنظر عندهم كرأيهم عندنا؟ ولماذا لا نتفاهم في جو الصفاء والحب إذا كان هناك ما يدعو إلى التفاهم؟ (رسالة دعوتنا).

من أقوال الإمام الشهيد حسن البنا

مقدمة

مثَّلت العلاقات السنية - الشيعية حلقة مهمة من حلقات التاريخ الإسلامي، لعب فيها الاستعمار والوراثة والجهل دوراً أساسيًّا في إثارة الاضطراب والقلق بين الفرقتين فترة طويلة من الزمن -لازالت آثارها باقية حتى الآن- إلا أن هذه العلاقة لم تخلُ من بصيص من الأمل لإزالة هذا التوتر، وإعادتها إلى وعاء الأخوة الإسلامية مرة أخرى، والتي أعلن الله رباطها في الكتاب الكريم {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، وكان هذا الأمل يظهر دائماً في أفكار المصلحين في العالم الإسلامي. ومن المحاولات الباكرة في تاريخ التقريب بين السنة والشيعة محاولة نادر شاه (1099هـ - 1160هـ) الملك الإيراني الذي استطاع لأول مرة في التاريخ جمع علماء السنة والشيعة على وثيقة تقريبية مشتركة لأسس التفاهم المذهبي بينهما، ثم كانت محاولة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وآية الله الكاشاني، وآية الله البروجروري.

وفي مطلع العصر الحديث يطالعنا الإمام الشهيد حسن البنا (1906 - 1949م) بمنهج فكري وسطي تقريبي، يطرح قضية «الوحدة الإسلامية» عاملاً أساسيًّا لعلاج مشكلات العالم الإسلامي الراهنة -آنذاك- الاستعمار، وكذلك محوراً جوهريًّا لعلاج مشكلة التراجع الحضاري بعد سقوط الخلافة الإسلامية، لذلك جاءت رسائله وخطبه في تشخيص هذا الواقع المرير الذي تعيشه الأمة الإسلامية وبيان سببه الرئيسي والمتمثل في الخلافات بين المسلمين والتي أودت بحاضرهم ومستقبلهم إلى ماهم عليه حتى الآن. وانطلاقاً من هذه المسؤولية الحضارية التي تحمّلها الإمام الشهيد تجاه «الأمة الإسلامية» طرح برنامجاً ومنهاجاً التزمه هو أولاً، ثم جماعته «الإخوان المسلمون» تمثل في هذا النهج الوحدوي والتقريبي بين عناصر «الأمة»، وكان في ذلك أميناً على أمته ودينه في مقابل عناصر التفريق والتباعد.

ونعتمد في هذا الطرح على منهج القراءة وإعادة إنتاج النص ووضعه في إطارين: الأول الإطار التاريخي للفكرة، والثاني الإطار المعرفي، حيث إن إنتاج «أفكار الامام الشهيد» جاءت في ظروف تاريخية معينة مر بها العالم الإسلامي، كما أن أفكاره ليست بمعزل عن باقي الأفكار التي ظهرت في تلك الفترة ضمن «المشروع النهضوي الإسلامي» الذي بدأ عقب سقوط الخلافة الإسلامية والذي بدأه الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وواصله الإمام الشهيد حسن البنا، ثم إن هذه الأفكار تمتد إلى الواقع المعاش، من حيث كونها تتضمن رؤية مستقبلية لأحوال العالم الإسلامي، فلا يزال العالم الاسلامي في حالة تتشابه مع حالته الأولى من: التراجع الحضاري، والضغف السياسي، والتبعية الاقتصادية والغزو الثقافي مع ملاحظة تطور هذه السمات وفقاً للتوصيف العالمي القهري للمسلمين، ومن ثم فهذه الأفكار يمكن أن تكون دعوة لإصلاح اليوم كما كان دعوة لإصلاح الأمس فالواقع يبرز لنا الحاجة إلى نصوص تقريبية ووحدوية وإصلاحية يجتمع حولها المسلمون لنشدان نهضتهم التي ينتظرونها منذ زمن (!!). لذلك يقوم المنهج المتبع في هذا البحث على عدة مستويات:

1- عرض وتحليل بعض أفكار الإمام الشهيد من خلال مجموعة الرسائل.

2- المناقشة والحوار للآراء المعروضة في حد ذاتها وفي إطارها التاريخي وفي مستوى عصرها من أجل تعميقها وتحريكها استعداداً لإعادة كتابتها وإنتاجها وصياغتها في ظروف أخرى جديدة.

3- إعادة كتابة النص في إطار معرفي داخل «المشروع النهضوي الإسلامي» المعاصر، باعتبار أن أفكار الإمام ا لشهيد تحمل أفكاراً لمشروع النهضة الإسلامية.

ومن المفاهيم النهضوية التي حاولنا تحريكها وإعادة إنتاجها عند الإمام الشهيد:

مفهوم «الأمة» وأبعاده العقدية والمنهجية والفكرية، مفهوم «التقريب ومنطلقاته» أو «الوحدة الإسلامية ومنطلقاتها» في ظل تراث دُسّ فيه البعض سموم الاختلاف والفرقة، وواقع يوجد فيه من يستدعي هذا الاختلاف ويؤججه بين المسلمين، ومفهوم «الوجود الإسلامي» في ظل المتغيرات العالمية السياسة والاقتصادية والثقافية، وموقعة على الخريطة العالمية من حيث القوة والتأثير. وكذلك مفهوم «الاختلاف» وأبعاده الحقيقية والطريقة السوية للتعامل معه داخل الإطار الإسلامي ثم تطرّق البحث إلى استنباط مجموعة من الأصول الفكرية والعملية التي أرساها الإمام الشهيد لتكون نموذجاً فكريًّا في البناء التربوي للشخصية المسلمة.

أولاً: واقع الأمة الإسلامية عند الإمام الشهيد..
الأزمة والعلاج «رؤية تقريبية»

يعيش العالم الإسلامي المعاصر ظروفاً تتشابه مع الظروف التي عاشها الإمام الشهيد منذ مائة عام، فإذا كان سقوط الخلافة الإسلامية وتفتت العالم الإسلامي كان أبرز ملامح هذه الأزمة، فإن الواقع الإسلامي المعاصر يوافق ذلك تماماً، وإن زاد عليه أحد وجوه هذه الأزمة والمتمثل في الفتنة القائمة بين «الشيعية والسنة» الآن.. وقد تنبّه الإمام الشهيد إلى الأسباب التي أفرزت هذا الواقع وقراءته منذ مائة عام قراءة تتفق مع القراءة الواعية المعاصرة، فأشار (رضي الله عنه) في رسالة «بين الأمس واليوم» تحت عنوان «عوامل التحلل في كيان الدولة الإسلامية» إلى أن من أهم هذه العوامل[2]:

1- الخلافات السياسية والعصبية وتنازع الرياسة والجاه. مع التحذير الشديد الذي جاء به الإسلام في ذلك والتزهيد في الإمارة، ولفت النظر إلى هذه الناحية التي هي سوس الأمم ومحطمة الشعوب والدول {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[3] ومع الوصية البالغة بالإخلاص لله وحده في القول والعمل والتنفير من حب الشهرة والمحمدة.

2- الخلافات الدينية والمذهبية والانصراف عن الدين عقائدَ وأعمالاً إلى ألفاظ ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة، وإهمال كتاب الله وسنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) والجمود والتعصب للآراء والأقوال، والولع بالجدل والمناظرات والمراء، وكل ذلك مما حذر منة الإسلام ونهى عنه أشد النهى.

والإمام الشهيد في هذا النص يبرز بوضوح دور «الخلافات»، و «التنازع»، و «الجمود»، و «التعصب»، و «الجدل المذموم» في تمزيق أواصر مفهوم «الوحدة الإسلامية» وتغييب مفهوم «الأمة الإسلامية» وهذا الأخير ما حاول الإمام إحياؤه في منهجه التقريبي الذي يدعو إلى نبذ الخلافات، وإحياء مفهوم «الأمة الإسلامية». يقول الإمام الشهيد في رسالة «دعوتنا»: «.. إننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة... فكل بقعة فيها مسلم يقول (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وطن عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم»[4]. ثم يضيف قائلاً: «وأحب أن أنبِّهك إلى سقوط ذلك الزعم القائل: إن الجري عن هذا المبدأ يمزق وحدة الأمة التي تتألف من عناصر دينية مختلفة، فإن الإسلام وهو دين الوحدة والمساواة كفل هذه الروابط بين الجميع ما داموا متعاونين على الخير.. ويبقى بعد ذلك أن يعملوا لترفع راية الوطن الإسلامي على كل بقاع الأرض، ويخفق لواء «المصحف» في كل مكان»[5].

إن إحياء مفهوم «الأمة» -كما أشار إليه الإمام الشهيد- يمثل المنطلق الأساسي للبناء المنهجي والفكري لوحدة المسلمين، ذلك المفهوم الذي مزقته «الدولة القطرية» في القرن العشرين و «العولمة» في القرن الحادي والعشرين.

«والأمة» في اللغة تعني: «الدين، قال أبو إسحاق في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} أي كانوا على دين واحد، والأمة: الطريقة والدين يقال: فلان لا أمة له أي لا دين له ولا نحلة، وقال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} قال الأخفش: يريد أهل أمة أي خير أهل دين[6]. والإسلام هو دين أمتنا لذلك تنعت بـ«الأمة الإسلامية» {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[7]، {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[8].

الأمة الإسلامية: مفهوم إلهي أطلقه الله على الجماعة البشرية التي تؤمن به وتعبده، ورضي لها الإسلام ديناً وشريعة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}[9]، وهذا هو الذي يميز الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم التي ذكرها القرآن الكريم، وهي إضافة «الإسلام» إليها نهجاً استراتيجيًّا في الدنيا والآخرة، وقد أعطى «الإسلام» مجموعة من الأبعاد التي تشكل النسق الحضاري للأمة الإسلامية، وهذه الأبعاد هي:

1- البعد العقدي: ذلك البعد الذي يتضمن «التوحيد» في الاعتقاد والعبادة لإله واحد والمتمثل في شهادة «لا إله إلا الله» التي تعد مصدر قوة الإنسان المسلم ومصدر عزته، وتحريراً له من أغلال وعبودية غير الله، وتحريراً لطاقته من الشهوات والغرائز والأشياء والعلائق المتغيرة.

2- البعد الفكري والمنهجي: إن مفهوم «الأمة الإسلامية» يحدد للمسلم أصول فكره ومنهجه ونسقه المعرفي، فالأفكار الإسلامية هي نتاج التقاء (العقل) مع (النص أو الوحي) والعقل هو الذي يقوم بالاستنباط والإبداع لإيجاد الصيغة المعرفية الملائمة لإقامة واقع يتمثل فيه الفكر الإسلامي الناتج عن هذا التفاعل ومعه تنتج الحضارة الإسلامية.

هذا البعد يمثل «الهوية» التي يجب أن يعمل لها أصحاب الدعوة «لوحدة الأمة»، كما يتيح من خلاله تحديد نقاط الالتقاء بين العقل والوحي والتعرف على النتاج الإسلامي وتاريخيته، وما يمكن استمراره، وما يجب الاستغناء عنه، وما يجب أن يضاف من معارف وأفكار -ناتجة عن المستجدات- إلى المنهج الفكري الإسلامي في استنباطه لعلاقات وصيغ جديدة للواقع الجديد.

وهذا البعد الفكري والمنهجي يمكن أن يساعد في تحديد نظرة إسلامية واحدة حول:

- التصور الفكري للإنسان والعالم والكون.

- القواعد الأساسية التي تحدد العلاقة الراهنة بين العقل والوحي.

- الموقف من التراث الفكري والفقهي.

- الموقف من التراث البشري لغير المسلم.

- الوسائل والقواعد العامة لتفاعل المسلم مع اللحظة الراهنة والمستقبلية.

3- بُعد الوسطية: والوسط في اللغة يعني: ظرف بمعنى «بين» يقال: جلس وسط القوم، (الوسط). وسط الشي: ما بين طرفيه وهو منه والمعتدل من كل شيء، يقال: شيء وسط بين الجيد والردئ. وما يكتنفه بين أطرافه ولو من غير تساو وبعدل وبخير، وفي التنزيل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي عدولاً وخياراً»[10]، والوسطية صفة رئيسية للأمة الإسلامية وهي إرادة الله لهذه الأمة وقدرها {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ}[11].

وينفي محمد عمارة: أن تكون هذه الوسيطة انعدام الموقف الواضح والمحدد أمام المشكلات والقضايا المشكلة.. أو أن تكون وسط بين رذيلتين مثل «الفضيلة اليونانية»، ولكنها في التصور الإسلامي: «موقف ثالث حقًّا.. ولكن توسطه بين النقيضين المتقابلين لا يعني أنه منبتّ الصلة بسماتهما وقسماتهما ومكوناتهما.. إنه مخالف لهما، ليس في كل شيء، وإنما خلافه لهما منحصر في رفضه الانحصار والانغلاق على سمات كل قطب من الأقطاب وحدها دون غيرها.. منحصر في رفضه الإبصار بعين واحدة، لا ترى إلا قطباً واحداً!.. منحصر في رفضه الانحياز المغالي، وغلو الانحياز!.. ولذلك، فإنها، بوصفها موقفاً ثالثاً وجديداً إنما يتمثل تميزها، وتمثل جدتها في أنها تجمع وتؤلف ما يمكن جمعه وتأليفه نسقاً غير متنافر ولا مغلق.. من السمات والقسمات والمكونات الموجودة في القطبين النقيضين كليهما.. وهي لذلك: «وسيطة جامعة»[12].

ويذكر سيد قطب في تفسيره آية الوسطية: {أُمَّةً وَسَطًا} .. في التصور والاعتقاد.. لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد به روح.. وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد وتعمل على ترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، {أُمَّةً وَسَطًا}.. في التفكير والشعور لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة.. إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب، وشعارها الدائم: الحقيقية ضالة المؤمن أني وجدها أخذها، في تثبت ويقين[13].

إن بُعد الوسيطة يمكِّن المشروع الحضاري من:

1-     تحقيق التوازن، والشمول في الرؤية الفكرية والمنهجية.

2-     مراعاة السنن الحضارية وحركة الكون والأشياء.

3-     صياغة رؤية متكاملة عن المستجدات والمتغيرات المعاصرة.

4-     تحديد الثوابت والمتغيرات في حركة العمل الإسلامى.

5-     ترشيد الفهم الخاص بالخلافات المذهبية والتنظيمية.

6-     تحقيق التفاعل الخلاق بين المسلم وحضارة العصر الذي يعيش فيه.

7-     بلورة برامج التنمية الفكرية لتحقيق الوحدة الفكرية بين المسلمين.

يلاحظ -إذن- أن هناك مستويين للشهادة: مستوى التحمل، مستوى الأداء، وبتحقيق المستويين يتم الشهود للأمة المسلمة، وبُعد الشهود -وفقاً لذلك- يتطلب ما يلي:

1- الاستقلالية الفكرية والمنهجية: للذات التي تقوم بهذا الشهود، فلا يمكن لأمة أن تقيم شهودها وهي في حالة تبعية.

2- الحجة الحضارية: وهي شرط أساسي لقبول الشهادة، وتستلزم «الحضور الحضاري» و«الفعل الحضاري» للذات الشاهدة، لأن الغياب يؤدي إلى رفض الشهادة.

3- العدل الحضاري: فالشهادة يتطلب فيها أن يكون الشهداء عدول «والعدل الحضاري» يتطلب «القوة الحضارية» للذات التي تقوم بالشهادة، فلا شهادة لضعيف أو واهن أو متخلف.

4- البصيرة الحضارية: وتقتضي سلامة المنهج النظري والعملي للذات الشاهدة، حتى يثبت صدق شهادتها، لأن الكذب يلازم غياب المنهج أو مرضه.

5- وحدة الذات الشاهدة: لأن الانقسام والتعدد يؤدي إلى الانفصال ويشكك في قبول الشهادة وقيتها.

إن تحديد الأبعاد والمحددات الرئيسية التي تتسم بها «الأمة الإسلامية»، من شأنه أن يساهم أن تحقيق الوحدة المنهجية والفكرية بين المسلمين، وتساهم أيضاً في خلق إرادة واحدة فاعلة لها نسقها الفكري الموحد -بدلاً من تعدد الانساق وتعدد الإرادات- كما أن إحياء مفهوم «الأمة» -كما يؤكد عليه الإمام الشهيد حسن البنا- يجعل الولاء للإسلام وليس للمذهب أو لتنظيم أو لجماعة، أو يجعل ولاء المذهب والتنظيم والجماعة «للأمة الإسلامية»، فتكون الأمة قائداً ومحوراً وليست تابعاً أو فرعاً، ويعطي مفهوم الأمة -أيضاً- تميزاً في الهوية لكل المسلمين في العالم فيخرجهم من دوائر تصنيفات الهيمنة الغربية: «العالم المتخلف» «العالم النامي»، «دول الجنوب»، «الشرق الأوسط»، ويصبح الانتماء «للأمة الإسلامية» هو الركن الأساسي في عنوان المسلم المعاصر، والجنس في تعريفه، والمحدد الأول لهويته.

ثانياً: مشروعية الاختلاف ولا مشروعية النزاع والعداء

أكد الإمام الشهيد في منهجه للتقريب بين المذاهب الإسلامية على مشروعية الاختلاف الفكري والفقهي، إلا أنه نهى عن أن يكون هذا الاختلاف سبباً للنزاع والعداء بين المسلمين، وقد وضع لهذه القاعدة ثلاثة محاور جوهرية تنطلق منه دعوته في التقريب بين طوائف ومذاهب الأمة الإسلامية، وهذه المحاور هي:

المحور الأول:  الوحدة لا الفرقة

يقول الإمام الشهيد «فاعلم -فقهك الله- أولاً أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة عامة لا تنتسب إلى طائفة خاصة، ولا تنحاز إلى رأي عُرف عند الناس بلون خاص ومستلزمات وتوابع خاصة، وهي تتوجه إلى صميم الدين ولبه، ونود أن تتوحد وجهة الأنظار والهمم حتى يكون العمل أجدى والإنتاج أعظم وأكبر. فدعوة الإخوان دعوة بيضاء نقية غير ملونة بلون، وهي مع الحق أينما كان، تحت الإجماع وتكره الشذوذ وإن أعظم ما مُني به المسلمون الفرقة والخلاف وأساس ما انتصروا به الحب والوحدة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، هذه قاعدة أساسية وهدف معلوم لكل أخ مسلم، وعقيدة راسخة في نفوسنا، نصدر عنها وندعو إليها»[14].

يبين هذا النص بوضوح خاصة «الإسلامية» التي وصف بها الإمام الشهيد دعوته -في هذه الرسالة- وما تتميز به من اتساع وشمول بحيث أضحى منهج هذه الدعوة غير مقيد بزي خاص ولا عصبية مقيتة ولا مذهبية عمياء، وهذا هو الإسلام نفسه الذي أرسل الله به نبيه (صلى الله عليه وسلم) {رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، {لِتَعَارَفُوا} {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وبهذا التصور الفريد لدعوة الإمام الشهيد يتربى طائفة كبيرة من الأمة الإسلامية استناداً إلى هذا المنهج القويم الذي يدعو المسلمين إلى «الحب» و«الوحدة» و نبد «الخلاف» و«الفرقة» {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}[15]. فالإسلام جاء لتأليف القلوب لا لغرس البغضاء باسم الإسلام0

المحور الثاني:  ضرورة الخلاف

كان الإمام الشهيد -رحمة الله- مربياً دارساً لكتاب الله وطبائع النفس البشرية ومقاصد الخلق، لذلك فإن الوحدة الفكرية التي نشدها الإمام لا تعني بالضرورة صب المسلمين في قوالب فكرية واحدة جامدة لأن ذلك يخالف الشرع الذي أكد على اختلاف الناس، وهنا يذكر الإمام قوله: «ونحن مع هذا نعتقد أن الخلاف في فروع الدين أمر لابد منه ضرورة، ولا يمكن أن نتحد في هذه الفروع والآراء والمذاهب لأسباب عدة منها:

- اختلاف العقول في قوة الاستنباط أو ضعفه وإدراك الدلائل والجهل بها والغوص على أعماق المعاني.

- ارتباط الحقائق بعضها ببعض، والدين آيات وأحاديث ونصوص يفسرها العقل والرأي في حدود اللغة وقوانينها، والناس في ذلك جد متفاوتين فلابد من خلاف.

- سعة العلم وضيقه. وإن هذا بلغه مالم يبلغ ذاك والآخر شأنه كذلك.

- اختلاف البيئات حتى إن التطبيق ليختلف باختلاف كل بيئة.

- اختلاف الاطمئنان القلبي إلى الرواية عند التلقين لها.

- اختلاف تقدير الدلالات فهذا يعتبر عمل الناس مقدماً على خبر الآحاد مثلاً وذاك لا يقول معه به وهكذا»[16].

المحور الثالث: صعوبة الإجماع على أمر فرعي

يقرر الإمام الشهيد في هذا المحور -وبعد هذه المقدمات المنطقية في المحورين السابقين- أن «الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل، بل هو يتنافى مع طبيعة الدين، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير العصور ويماشي الأزمان، وهو لهذا سهل مرن هيِّن لين لا جمود فيه ولا تشديد»[17].

يؤكد الإمام الشهيد -هنا- على خاصية التعددية الفكرية التي تستند في جوهرها إلى النص القرآني، الذي يبرز لها أصولاً متعددة في وجه القائلين بالأحادية الفكرية التي نهى عنها الكتاب الكريم ونفاها باعتبارها -أي الواحدية- تخص الله وحده، ولا تخص أي من مخلوقاته، والإمام بذلك يساهم في إرساء أصول إسلامية للتعددية الفكرية في المجتمع الإسلامي، التي هي الوجه الحقيقي للتقريب بين المذاهب الإسلامية. ومنهج الشهيد في ذلك يعتمد في جوهره على الأصول القرآنية التالية التي تؤهل لمفهوم التعددية -بوجه عام-، ومن هذه الأصول: أصل التنوع، والاختلاف، الحرية.

وقد بلغ تعداد المذاهب الفقهية التي نشأت في ضوء هذه الأصول إلى ما يزيد على عشرة مذاهب ظل يُعمل بالكثير منها حتى اليوم، ومنها:

1-     مذهب أبي حنيفة النعمان (80هـ - ت 150هـ).

2-     مذهب مالك بن أنس (93هـ - ت 179هـ).

3-     مذهب الإمام الشافعي (150هـ - ت 204هـ).

4-     مذهب أحمد بن حنبل (164هـ - ت 241هـ).

5-     المذهب الزيدي (زيد بن علي) (80هـ - ت122هـ).

6-     المذهب الجعفري (جعفر الصادق) (80هـ - ت 148هـ).

7-     مذهب الأوزاعي (88هـ - ت 157هـ).

8-     مذهب سفيان الثوري (97هـ - ت 161هـ).

9-     مذهب داود الظاهري (200هـ - ت 270هـ).

10-    مذهب ابن جرير الطبري (ت 310 هـ).

وهناك مذاهب أخرى لم نعرفها ولم ينشرها أصحابها ولا تلامذتهم، ولم يجدوا من الحكام من يتبنى مذهبهم فيعمل على نشره وإذاعته بين الناس.

وقد تراوحت الاختلافات الفقهية في نوعية وترتيب الأدلة الشرعية وإن كانت كل المذاهب تتفق على أسبقية الكتاب والسنة وصدارتهما لكل الأدلة، إلا أن الاختلاف كان في الآليات التي يمكن أن نستنبط منها الحكم هل بظاهر النص؟ أم بتأويله؟ هذا فيما يتعلق بالوحي، أما الأدلة الأخرى فتراوحت بين العمل بالرأي كما عند أبي حنيفة، إلى الإجماع عند مالك، والقياس عند الشافعي، وفتوى الصحابي عند أحمد بن حنبل[18].

وباستقراء كتب أصول الفقه نجد أن «التعددية الفقهية» أنتجت ما يقرب من تسعة أدلة يمكن من خلالها إصدار الأحكام الفقهية، هذه الأدلة التي كانت على عهد النبي وصحابته اثنين أو ثلاثة ولكنها تطورت وفقاً لعوامل «الحرية الفكرية»، و«المكان والزمان» فأصبحت بعد الوحي (الكتاب والسنة) تسعة أدلة او يزيد وهي[19]:

1- الإجماع: ويعني: اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) على حكم شرعي في واقعة ما.

2- القياس: وهو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد نص بحكمها، في الحكم الذي ورد به النص، لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم.

3- الاستحسان: هو العدول عن قياس جلي إلى قياس خفي أو استثناء مسألة جزئية من أصل كلي أو قاعدة عامة لدليل يقتضي هذا العدول.

4- المصالح المرسلة: هي المصالح التي لم يشرع الشارع أحكاماً لتحقيقها. ولم يقم دليل معين على اعتبارها أو إلغائها.

5- سد الذرائع «الوسائل»: ويعني سد الوسائل والأفعال والطرق المؤدية إلى الشر والفساد أو فتح الوسائل والأفعال والطرق المؤدية إلى المصالح والإصلاح.

6- العرف: هو ما اعتاده الناس وساروا عليه في أمور حياتهم ومعاملاتهم من قول أو فعل أو ترك بما لا يخالف الشرع، أما العرف الفاسد فلا خلاف بين الفقهاء على تركه وعدم الاعتبار له.

7- مذهب الصحابي: ذهب بعض الفقهاء إلى أن قول الصحابي حجة يجب اتباعها، وللمجتهد أن يتخير من أقوال الصحابة ما يراه أقرب إلى الكتاب والسنة.

8- شرع من قبلنا: وهي الأحكام التي شرعها الله تعالى لمن سبقنا من الأمم وأنزلها على أنبيائه ورسله لتبليغها لتلك الأمم.

9- الاستصحاب: ويعني الحكم ببقاء الشيء على ما كان عليه في الماضي حتى يقوم الدليل على تغييره. أو هو بقاء الحكم الثابت في الماضي حتى يقوم الدليل على تغيره.

ويحصي الطوفي (ت 716هـ) تسعة عشر دليلاً عند الفرق الإسلامية جميعاً «أولها الكتاب، وثانيها السنة، وثالثها إجماع الأمة، ورابعها إجماع أهل المدينة، وخامسها القياس، وسادسها قول الصحابي، وسابعها المصلحة المرسلة، وثامنها الاستصحاب، وتاسعها البراءة الأصلية، وعاشرها العادات، الحادي عشر الاستقراء، الثاني عشر سد الذرائع، الثالث عشر الاستدلال، الرابع عشر الاستحسان، الخامس عشر الأخذ بالأخف، السادس عشر العصمة، السابع عشر إجماع أهل الكوفة، الثامن عشر إجماع العترة عند الشيعة عشر إجماع الخلفاء الأربعة»[20].

إن اختلاف الفقهاء كان علامة مضيئة في تاريخنا الإسلامي وهو نتاج واضح لأصل «التعددية» و «الحرية» و «التنوع» الذي أقره الإسلام متمثلاً في الوحي، وقد صدَّقه الواقع في أقرب شيء إلى الإسلام وهو «التشريع»، هذا لا ينفي بالطبع «الصدمات» و«الصدامات» المقلقة التي نشأت على هامش هذه الحرية الفكرية التي عاشها العقل حوالي ما يقرب من أربعة قرون.

ثالثاً: الأصول الفكرية والعملية للتقريب

يتسم منهج الإمام الشهيد بالإمكان واليسر العملي في التطبيق، بل إن منهجه في الأساس منهج تربوي يتعدى جدل الفلاسفة ونظريات المفكرين إلى التطبيق في الواقع العملي، لذلك اتسمت أفكاره بـ«الإجرائية» في بناء الشخصية المسلمة، ومن ثم فعندما نقول «الأصول الفكرية» للتقريب فهي لا تمثل فقط منهاجاً نظريًّا بل في الأساس إجراءات وخطوات تنفيذية في هذا الاتجاه الرشيد، وقد حدد الإمام الشهيد مجموعة من الأصول التي ينبغي للشخصية المسلمة التزامها في بنائها العقدي والفقهي والثقافي الإسلامي برؤية تقريبية عميقة، ومن أهم هذه الأصول ما يلي[21]:

أصل 1: شمولية الإسلام

الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء.

أصل 2: مصدرية الفكر

- القرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام، ويفهم القرآن طبقاً لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف، ويرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات.

- كلٌّ يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم (صلى الله عليه وسلم) وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقاً للكتاب والسنة قبلناه، وإلا فكتاب الله أولى بالاتَّباع، ولكنا لا نعرض للأشخاص -فيما اختلف فيه- بطعن أو تجريح ونكلهم مجموعة الرسائل. إلى نياتهم، وقد أفضوا إلى ما قدموا.

أصل 3: في المسألة الفقهية

- لكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماماً من أئمة الدين، ويحسن به مع هذا الاتِّباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صح عنده صلاح من أرشده وكفايته. وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر.

- الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سبباً للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء، ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب.

- كل مسألة لا يُبنى عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نُهينا عنه شرعاً، ومن ذلك كثرة التفريعات للأحكام التي لم تقع، والخوض في معاني الآيات القرآنية الكريمة التي لم يصل إليها العلم بعد، والكلام في المفاضلة بين الأصحاب رضوان الله عليهم وما شجر بينهم من خلاف، ولكل منهم فضل صحبته وجزاء نيته، وفي التأول مندوحة.

أصل 4: في معرفة الله

معرفة الله تبارك وتعالى وتوحيده وتنزيهه أسمى عقائد الإسلام، وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما يليق بذلك من التشابه، نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء، ويسعنا في ذلك ما وسع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}[22].

أصل 5: في البدعة

البدعة الإضافية والتركية والالتزام في العبادات المطلقة خلاف فقهي، لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان.

أصل 6: النهي عن التكفير

لا نُكفِّر مسلماً أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض برأي أو معصية، إلا إن أقر بكلمة الكفر أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة أو كذَّب صريح القرآن، أو فسَّره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال أو عمل عملاً لا يحتمل تأويله إلا الكفر.

فوائد من الأصول الفكرية للتقريب

استطاع الإمام الشهيد أن يؤصل لاستراتيجية فكرية وعملية للقضاء على الفتن بين المذاهب الإسلامية -لا سيما بين الشيعة والسنة- وذلك في حالة الالتزام بهذه الأصول الفكرية السابقة، التي لا يمكن أن يختلف عليها مسلمان عند النظر إليها بعمق، ومن الفوائد التقريبية لهذه الأصول ما يلي:

فائدة 1: نهى الإمام الشهيد على «التفرق في الدين» و«الاختلاف» و«المراء المذموم» و«إثارة البغضاء» بسبب اختلاف الآراء المذهبية، لأن ذلك يكون سبباً لإشاعة الكره والفرقة بين المسلمين وهو ما نهى عنه الإسلام.

فائدة 2: التأكيد على مصدرية الوحي (القرآن والسنة)، وأن أقوال الأشخاص مهما كانوا إذا خالفت هذا المصدر فإنه لا يعتد بها.

فائدة 3: إن الإسلام أوسع وأعلى من خلاف في الرأي، فهو نظام يشمل جميع ميادين الحياة والكون، وهذا ما يتفق عليه المسلمون جميعاً، وعليهم أن يجعلوه كذلك بسعيهم وجهدهم نحو تحقيق هذا الهدف.

فائدة 4: الدعوة إلى استخدام المنهج العلمي والموضوعية في الحوار بين المسلمين عند مناقشة خلافاتهم، وترك الأهواء والتعصب والعاطفة أن تتحكم في إصدار الأحكام بينهم.

فائدة 5: إنهاء الموجة التكفيرية بين بعض طوائف المسلمين لما في ذلك من مخالفة ونهي شرعي، وانتكاسة حضارية واجتماعية في المجتمع الإسلامي.

وبعد... من المؤكد أن ما قدمه الإمام الشهيد يتعدى هذه الفوائد بكثير، وأن النظر في منهجه الفكري التقريبي يجعلنا نعتقد أنه من أوائل المصلحين الذين دعوا إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية وإعلاء شأن «الأمة» في مقابل «المذهب» و«الطائفة»، وهذا في ذاته غاية العمل التقريبي المؤسس الذي ساهم في إنشائه الإمام الشهيد، مع العلامة محمد تقي القمي، والشيخ محمود شلتوت بإنشائهم دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في فبراير 1947، وكان الإمام الشهيد -رحمه الله- ضمن الأعضاء المؤسسين لهذا الدار التي شملت علماء ومفكرين من كافة المذاهب والفرق الإسلامية.

ويذكر الاستاذ عمر التلمساني عن الإمام البنا والتقريب قوله[23]:

لقد أدرك إمامنا الشهيد حسن البنا أول مرشد عام للإخوان المسلمين مدى الخير الذي يعود على المسلمين إذا ما توحدت مذاهبهم أو تقاربت ببذل الجهد الجهيد في تحقيق ما سماه (التقريب بين المذاهب) واستضاف في المركز العام السيد محمد القمي أحد فقهاء الشيعة وزعمائهم، وعيّن له مرافقاً يصحبه في غدواته وروحاته، هو السيد محمد طراد، وسارت الأمور خطوات موفقة، حتى شاء الله أن يستشهد الإمام الشهيد قبل أن يحقق أمنيته المنشودة. ولم تفتر علاقة الإخوان بزعماء الشيعة، فاتصلوا بآية الله الكاشاني، واستضافوا في مصر نواب صفوي. كل هذا فعله الإخوان، لا ليحملوا الشيعة على ترك مذهبهم، ولكنهم فعلوه لغرض نبيل يدعو إليه إسلامهم، وهو محاولة التقريب بين المذاهب الإسلامية إلى أقرب حد ممكن، توحيداً لكلمتهم، وتدعيماً لصفهم الذي يحاول أعداء الإسلام توهينه بكافة الطرق والوسائل.

وبعيداً عن كل الخلافات السياسية بين الشيعة وغيرهم، فما يزال الإخوان المسلمون حريصون كل الحرص على أن يقوم شيء من التقارب المحسوس بين المذاهب المختلفة في صفوف المسلمين. فعلى فقهائنا أن يبذروا فكرة التقريب إعداداً لمستقبل المسلمين، ولئن حالت الظروف دون قيامهم بواجبهم في الحرب الدائرة الآن، فإن هذه الظروف لن تحول بينهم وبين واجبهم الديني في التقريب، إذ لا يمكن اتهامهم بالتحيز لفريق دون فريق في هذا المجال. ولقد حالت الظروف السياسية دون قيام علماء الطائفتين بواجبهم في كل مجالات الحياة، فما السبب عيب الظروف السياسية، ولكنه عيب الذين استودعهم الله أمانة العلم، فلم يؤدوها كما يجب عليهم، وتركوا الأمر لمن لا يحسن تدبيره فساء حالهم وحال المسلمين.

خـاتمة

تعد الدعوة إلى الوحدة الفكرية والمنهجية بين المسلمين فريضة دينية وضرورة بشرية، فإذا كان «الشهود الحضاري» هو مسؤولية هذه الأمة فإنها لن تستطيع القيام به في حالة الانقسام والتفتت، لهذا فإن الهاجس الأول الذي يجب أن يؤرق مضاجع المفكرين والمثقفين والندوات والمؤتمرات هو إرساء قواعد هذه الوحدة، وإيضاح المعايير والمبادئ التي تقوم عليها، ووضع آليات لتقليل الخلاف بين فئات وجماعات وتنظيمات ومذاهب العمل الإسلامي، وغرس قيم الولاء «للأمة الإسلامية» ذلك الأصل الذي يجب أن تتمحور حوله كافة روافد الفكر والعمل الإسلامي.

إن الشهود الحضاري المنوط به الأمة الإسلامية يتطلب استنهاض همم المسلمين: الهمم الفكرية والمعنوية والمادية جميعاً، وهذا يتطلب بناء العقلية المسلمة الواعية التي تدرك وظيفتها في البلاغ والشهود ثم تحدد وسائل أداء هذه الوظيفة، فقد حققها السابقون بالإنجازات العلمية والاكتشافات. وكانت أداة مبتكرة في أيديهم لم تدركها الإنسانية قبلهم وكذلك اليوم -أيضاً- فالإنسان المعاصر بحاجة إلى أدوات مبتكر تخلصه مما فيه من شقاء دام قروناً طويلة، ومن ثم يأتي «الإنقاذ» ذلك الدور العالمي للرسالة الإسلامية والمسلمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.

كما يجب على القائمين على أمر العمل الإسلامي (أفراد وجماعات وفرق وطوائف) أن يعيدوا تقييم برامجهم الفكرية في ضوء الأهداف الاستراتيجية للأمة الإسلامية في القرن الحادي والعشرين، وهذا يتطلب مراجعة النظام المعرفي الذي يرتبط بهذه العناصر جميعاً حيث إن تقييم التجربة الإسلامية في القرن العشرين أنتجت لنا انقساماً واختلافاً، أكثر مما أنتجت وحدة وائتلاف، وهذا أدعى إلى «مراجعة المنهج الفكري» الذي يقوم عليه العمل الإسلامي المعاصر واستلهام رؤية الإمام الشهيد، ومنهجية أقرب إلى تحقيق الوحدة والائتلاف باعتبارهما الطريق الوحيد لإنتاج حضارة إسلامية، فالأفراد والجماعات والتنظيمات والطوائف والمذاهب لن تستطيع إنتاج حضارة -مهما بلغت قوتهم- والتجربة الإسلامية الأولى في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) تؤكد ذلك، حيث تم صهر جميع الفئات والأجناس والطبقات في «مشروع إسلامي» واحد في مصادره العملية، وأهدافه الاستراتيجية، وأولوياته الزمانية والمكانية، لهذا كان «الإنتاج الحضاري» و «القيادة الحضارية» نتيجة مترتبة على هذه الوحدة الفكرية والمنهجية.

وإذا كانت العوامل المادية (القدرات والثروات الطبيعية والبشرية وغيرها) والمعنوية (القرآن والسنة وما يحملان من قيم أخلاقية واجتماعية ونفسية) يقدمان للمسلم أسباب «الفعل الحضاري» فلم يبق سوى الالتقاء والتقارب حول هذه الأسباب لبدء العمل في تحقيق رسالة «الإنقاذ الإسلامي» للبشرية التي تعاني من سيطرة «القوة العمياء» التي تحكم أقدارها في الأرض. {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ}.

والله الموفق إلى سواء السبيل.

 



[1] كاتب وباحث مصري.

 

[2] مجموعة رسائل الإمام الشهيد : رسالة بين الأمس واليوم، الإسكندرية، دار الدعوة، 1990، ص، 149.

[3] الأنفال: آية 46.

 

[4] رسالة دعوتنا، ص 26.

[5] المرجع نفسه، ص 27.

[6] ابن منظور : لسان العرب، مج 1، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط2، 1997، ص: 213.

[7] المؤمنون: آية 52.

[8] الأنبياء: آية 92.

 

[9] المائدة آية 3.

 

[10] مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط ج2، استنابول، دار الدعوة، ط3، 1985.

[11] البقرة: آية 143.

[12] محمد عمارة : معالم المنهج الإسلامي، القاهرة، دار الشروق، 1991، ص: 78.

[13] سيد قطب : في ظلال القرآن، مج 1، القاهرة، دار الشروق، ط 15، 1988، ص : 131.

 

[14] رسالة دعوتنا، مرجع سابق، ص: 31.

[15] آل عمران: 103.

 

[16] رسالة دعوتنا، مرجع سابق، ص: 32.

[17] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

 

[18] يراجع فصل: «التعريف ببعض المجتهدين ومذاهبهم الفقهية» في: عبد الكريم زيدان، المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، بغداد، مكتبة القدس، ط 12، 1992.

وفصل «اختلاف مناهج الأئمة في الاستنباط» في : طه جابر العلواني: أدب الاختلاف في الإسلام، المعهد العالمي للفكر الإسلامى، ط6، 2000.

وللمزيد: يراجع الكتب الرئيسية لهذه المذاهب الأربعة المشهورة في الفقه الإسلامي وهي: «موطأ» مالك، و «الأم» للشافعي، و «مسند» الإمام أحمد بن حنبل، وما كتبه تلامذة الإمام أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد بن الحسن.

[19] انظر: عبد الوهاب خلاف: علم أصول الفقه، القاهرة، مكتبة الدعوة الإسلامية ط8، د.ت.، وعبد الكريم زيدان، مرجع سابق.

 

[20] انظر: عبد الوهاب خلاف: علم أصول الفقه، القاهرة، مكتبة الدعوة الإسلامية ط8، د.ت.، وعبد الكريم زيدان، مرجع سابق.

[21] انظر : الأصول العشرين، ص: 390.

 

[22] آل عمران: 7.

 

[23] انظر مجلة الدعوة - العدد 105، 1985م.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة