شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
الشيخ محمد جواد مغنيّة نموذجاً[1]
* مقدمة
إن من أهم أزمات مجتمعاتنا أزمة التعبير عن الرأي، حيث يتواطأ الاستبداد السياسي، والتشدد الديني، والتخلف الاجتماعي، لقمع أي رأي آخر، وأي وجهة نظر مخالفة.
وفي ظل أجواء القمع والإرهاب الفكري تتوقف حركة الإبداع ومسيرة التطوير، ولا تقدم لأمة لا تتجاوز هذه العقبة الكأداء.
ولكن تاريخ الأمم والشعوب يؤكد أن حرية الرأي لا تُعطى بقرار، وإنما تُنتزع بممارسة شجاعة، تدفع الثمن وتقدّم التضحيات.
إن مواجهة الإرهاب الفكري تتطلب وجود مفكّرين أحرار، يتمسكون بحقهم في التعبير عن آرائهم، ويقاومون ضغوط الترهيب والترغيب.
ومثل هؤلاء المفكرين يصبحون منارات هادية يضيئون لمجتمعاتهم طريق الحرية والتقدم.
وواجب المتطلعين للتغيير والتجديد إحياء ذكر أبطال الحرية الفكرية، ورواد الإصلاح، ليكونوا مصدر الهام وتحفيز لأجيال الأمة.
من هذا المنطلق تأتي أهمية الاحتفاء بشخصية الشيخ محمد جواد مغنيّة، ودراسة تجربته وسيرته، بوصفه واحداً من أبرز العلماء الإصلاحيين التنويريين في هذا العصر.
إن سيرة الشيخ مغنيّة توجّه رسالة مفادها: أن حرية التعبير عن الرأي واجب يمارس وليس حقًّا يُعطى.
وأن علينا أن نتضامن مع من يمارس هذه الحرية في حياته، لا أن نتفرج على معاناته ثم نكرّمه بعد وفاته.
إن تأييد حرية الرأي لا تعني التسليم بصحة كل رأي يُطرح، فالرأي يحتمل الصواب والخطأ، وإظهار الرأي يُعطي الفرصة لنقده وتبيين مواقع الخطأ فيه، أو يدفع للأخذ به والاستفادة منه إن كان صواباً.
وفي هذه المقال حديث عن أهم سمة أراها في شخصية الشيخ مغنيّة، وهي شجاعة التعبير عن الرأي.
أرجو أن يكون في نشرها شيء من الوفاء وردّ الجميل لشخصية الشيخ مغنيّة، ودافع للتأسي والاقتداء بهذه السمة الرسالية الحضارية في شخصيته.
* صناعة الرأي
يتكون الرأي عند الإنسان حول أي قضية من قضايا المعرفة والحياة، إذا اتَّجه بفكره نحوها، واجتهد في فهمها، حيث منح الله تعالى الإنسان قدرة عقلية خارقة، تمكّنه من معرفة الأسماء كلها، أي المعاني والمسميات، كما يقول تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}[3]. فالكون والحياة كتاب مفتاح أمام عقل الإنسان، يحتاج لفهم أي سطر من سطوره، إلى تركيز الفكر، وإمعان النظر، وبذل الجهد.
لكن مشكلة الإنسان تكمن في غفلته عن قدراته وإمكاناته التي ينطوي عليها، وفي انشغاله والتهائه ببعض المغريات والمكاسب الضئيلة، ثم في حالة الكسل والخمول التي تعوقه عن التقدم والإنجاز.
إن معظم أفراد البشر لا يجدون أنفسهم معنيين بالتفكير فيما حولهم، ويكتفون باجترار الأفكار المتداولة، والقبول بها بوصفها مسلمات وثوابت لا يمكن تجاوزها.
ولا يقتصر هذا الحال على عامة الناس، بل هو داء تعاني منه حتى النخب الاجتماعية التي يفترض فيها التخصص في اهتماماتها العلمية أو العملية.
لكن معظم أفراد هذه النخب لا يهتم بأن يصنع لنفسه رأياً، ولا يجد نفسه مؤهلاً لإعادة النظر في شيء من الآراء السائدة. وبهذا تستمر حالة التخلف والركود، وتنعدم فرص التقدم والتطوير.
إن الحاجة ماسة إلى تشجيع صناعة الرأي، خاصة في الأوساط العلمية والثقافية، وتجاوز حالة الركود، وتوارث الآراء، واجترار الأفكار.
إن أهم وأول عائق يواجه الإنسان في مجال الإبداع الفكري، هو الرهبة الداخلية الناشئة من ضعف الثقة بالذات، والوقوع تحت تأثير الانبهار بشخصيات أخرى ذات قداسة ونفوذ، تصبح سقوفاً تمنع انطلاق التفكير.
ثم تواجه الإنسان عوائق خارجية في محيطه الاجتماعي، تقمع لديه حرية التعبير عن رأيه، وتضعف حماسه لإنتاج رأي جديد.
وتتجذر هذه المشكلة بصورة أعمق في ساحة المعرفة الدينية، التي تعاني في معظم نواحيها من ركود مزمن، وتتصلب فيها عوائق الإبداع والتطوير.
إن حقل المعرفة الدينية كأي حقل آخر من حقول المعرفة والعلم، يعتمد في تطوره وتقدمه على إعمال الفكر والنظر، وتراكم الخبرة والتجربة، وعلى التجديد والإبداع.
من هنا كان باب الاجتهاد في الدين ضمن ضوابطه العلمية مفتوحاً على مساحة الزمن كله، أمام جميع أجيال البشر، لا يحتكره قرن من القرون، ولا يختص بعصر من العصور.
إن معارف الإنسان في اتساع مطرد، وحياته في تطور دائم، مما يجعله في مواجهة تحديات جديدة كل يوم، فلا بدّ وأن يستوعب الدين واقع الصيرورة والتغيير في حياة الإنسان، وهذا ما يحصل عبر ممارسة الاجتهاد، الذي يعني استمرار حال القراءة والمراجعة للنص والتراث الديني دائماً وأبداً، بحثاً عن فهم جديد، وتلافياً لثغرات آراء السلف، واستكشافاً لمعالجات النوازل الحادثة.
وقد ورد أن رجلاً سأل الإمام جعفر الصادق C قائلاً: ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ فقال: >لأن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كلِّ زمان جديد، وعند كلِّ قوم غضٌّ إلى يوم القيامة<[4].
* الركود في مسيرة المعرفة الدينية
كانت المعارف الدينية محدودة في عصرها الأول، ثم اتسعت مع تطور حياة الأمة، واتساع رقعة الإسلام، وانفتاح المسلمين على سائر الأمم والشعوب، وهكذا تواصلت مسيرة النمو والتقدم في المعرفة الدينية.
لكن هذه المسيرة عانت من الركود وطول التوقف في الكثير من محطات الزمن تبعاً لواقع حال الأمة.
فقد تأثرت حركة المعرفة الدينية بواقع الاستبداد السياسي، وحال التخلف الاجتماعي، حيث شُلّت فاعليتها، وتراجع إنتاجها، وتغيّرت وظيفتها أحياناً كثيرة، من مواجهة الاستبداد والتخلف، إلى تبريره وشرعنته.
وكان من أخطر آثار هذه الحال توقف حركة الإبداع والتطوير، والتمسك بالموروث دون تحقيق وتمحيص، وإضفاء القداسة على آراء السلف، وتجريم أي مخالفة لرأي المشهور.
إن الأجواء السائدة في معظم الأوساط العلمية لا تشجع على ممارسة العملية الاجتهادية ضمن إطارها العلمي بحرية وانطلاق، بل تكبّل حركتها بقيود ثقيلة من الأعراف والتقاليد، واحترام آراء القوى النافذة، وعدم تجاوز طروحاتها التقليدية.
وحين يتمرد باحث على تلك الأجواء الضاغطة، تتخذ بحقه إجراءات قاسية، تبدأ من التشكيك في الكفاءة العلمية، إلى الاتهام في الدين، وصولاً إلى إسقاط الشخصية والعزل الاجتماعي.
وقد واجه عدد من العلماء المصلحين حملات شعواء تستهدف شخصياتهم، من قبل أوساط دينية، بجرم التعبير عن رأي آخر، في مجال العقيدة أو الفقه، أو سائر مجالات المعرفة الدينية.
ولم يقتصر الأمر في هذه الأوساط المُمانِعة للتغيير والتطوير، على مواجهة الرأي الجديد والفكرة الحديثة، بل تعداها إلى مقاومة أي تغيير وتطوير حتى في الوسائل والأدوات، حيث تم الاعتراض -مثلاً- في عهد مؤسس الحوزة العلمية في قم، الشيخ عبدالكريم الحائري (1276هـ - 1355هـ) على تعليم اللغات الأجنبية لطلاب الحوزة[5].
كما تم الاعتراض في النجف الأشرف على تأسيس منتدى النشر بمبادرة الشيخ محمد رضا المظفر (1322هـ - 1383هـ)[6].
وحين أراد الشهيد السيد محمد باقر الصدر (1353هـ - 1400هـ) أن يبدأ بحثه العلمي في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف، وأن يتناول (فقه العقود) كبحث مقارن بين الشريعة والقانون، جرى الضغط عليه للعدول عن فكرته، وأن يبدأ بحثه وفق النهج المألوف من كتاب الطهارة في الفقه، لأنه بغير التقيّد بالمنهج السائد لن يُعترف له بمكانته العلمية[7].
وهناك أمثلة وشواهد كثيرة لوأد محاولات التغيير والتجديد في الأوساط الدينية، على مستوى الآراء والأفكار، وعلى صعيد البرامج والوسائل.
إن هذه الأجواء القامعة هي المسؤولة عن ركود حركة المعرفة، وتوقف مسيرة التطوير والتغيير في ساحتها.
ويجب أن نقف إجلالاً وإكباراً لأولئك العلماء الأبطال، الذين واجهوا ظروف الإرهاب الفكري، وتحلّوا بالشجاعة والبسالة، في التعبير عن آرائهم وقناعاتهم التي توصلوا إليها من مداركها الشرعية وفق اجتهادهم.
* مغنيّة يتحدى التحجّر والجمود
ويأتي في طليعة هؤلاء العلماء الرواد في هذا العصر الفقيه المجدد الشيخ محمد جواد مغنيّة (1322هـ - 1400هـ)، الذي توفرت شخصيته على درجة عالية من الشجاعة والإقدام، تجاوز بها كل التحفظات والعوائق، وتحدى أجواء الإرهاب الفكري، وترغيب وترهيب مراكز النفوذ الاجتماعي، وقدّم أروع مثل لعالِم الدين الحرّ الشجاع الذي لا يساوم على قناعاته ومبادئه، ولا يتنازل عن حقه في التعبير عن آرائه وأفكاره.
لقد امتشق الشيخ محمد جواد مغنيّة حسام القلم، وامتطى صهوة البيان، واقتحم ميدان المعرفة، ليصدع بما يعتقده حقًّا وصواباً، وليواجه ظلام الخرافات والأساطير، التي أُلصقت بالدين فشوّهت صورته المضيئة.
واتجه الشيخ مغنيّة بخطابه وبيانه إلى جمهور الأمة، ليكتب للمثقفين، ويؤلف للشباب، ويحدّث الناس بلغة واضحة، وبيان سهل ممتنع، بعيداً عن أساليب التعقيد والغموض، حتى يمكن القول: إنه يمثل نموذجاً فريداً قلَّ نظيره في أوساط الفقهاء، لجهة يُسر اللغة والقدرة على الإيضاح والتبيين، حتى عند تناول القضايا الفلسفية والعقدية، والأبحاث التخصصية العلمية كأصول الفقه، وعرض أدلة المسائل الفقهية.
وامتاز خطاب الشيخ مغنيّة بشفافية نادرة، لم تألفها الأوساط الدينية، حيث يكون العالَم الشخصي لعالِم الدين، في مشاعره وأحاسيسه واهتماماته ورغباته، بعيداً عن الأضواء، لا يرى الناس منه إلا مظاهر القداسة والالتزام، لكن كتابات الشيخ مغنيّة تظهره بشفافية أمام جمهور القراء، حيث يحدّثهم عن إنجازاته وإخفاقاته، ويصارحهم بمشاعره وأحاسيسه، ويكشف لهم عن الكثير من تفاصيل حياته اليومية.
وتجد نماذج ذلك في مختلف كتبه ومؤلفاته، وفيما كتبه عن سيرته الذاتية تحت عنوان (تجارب محمد جواد مغنيّة بقلمه).
إنه يسجل على نفسه بعض نقاط ضعفه وينشرها لقرائه، ومن شواهد ذلك قوله:
>وربما كان ينبغي أن أكون أكثر مرونة في معاملة الناس ومداراتهم، وألَّا أخاطب كل واحد على المكشوف إلى حدٍّ يشبه البله خاصة بعدما عانيت في حياتي ما عانيت بسبب هذه الجرأة والصراحة، ولكني أشهد بالله أنه يحدث هذا مني عفو الطبيعة ودون اختيار<[8].
كان الشيخ مغنيّة في الطليعة من فقهاء العصر المجدّدين، حيث مارس التجديد في المضمون والأسلوب، متجاوزاً كثيراً من الآراء السائدة في المجال العقدي والفقهي، متحدياً ضغوط الأوساط التقليدية، التي شنّعت عليه وأثارت العواصف، لكنه تحلّى بالجرأة والشجاعة في طرح آرائه وقناعاته إلى اليوم الأخير من حياته.
يقول J: >كتبت مقالاً حول الأضاحي التي تُذبح في الحج، ثم تُطمر في الأرض، أو تترك للتعفن، ونُشر المقال في مجلة رسالة الإسلام لدار التقريب في القاهرة بتاريخ كانون الثاني سنة 1950م بعنوان (هل تعبدنا الشارع بالهدي في حال يترك فيها للفساد؟). وفي سنة 1951م كتبت مقالاً بعنوان (نحو فقه إسلامي في أسلوب جديد) ونُشر في مجلة النشرة القضائية التي تصدرها وزارة العدل في لبنان، ودعوت في المقالين إلى إعادة النظر في بعض المسائل الفقهية على أساس المصلحة العامة، والعمل بروح النص لا بظاهره، والهدف في التشريع، فقامت قيامة الشيوخ التقليديين، وأثاروا العواصف<[9].
وقد تمسّك الشيخ مغنيّة بحرية التعبير عن الرأي وممارسة النقد لما يراه خطأً، بغضّ النظر عن مكانة الجهة التي يطالها النقد. فمع اعتزازه بالانتماء إلى حوزة النجف الأشرف، واعترافه بفضل تلك الحوزة العظيم عليه، حيث يقول: >وما أنا بمؤدّ بعض شكرها، وإن حرصت<، ومع حبه للنجف وحنينه الدائم لها، حيث يقول: >عندما تركت النجف ذهبت نفسي حسرات على فراقها<. ومع إشادته بإخلاص علمائها للعلم والمعرفة، وزهدهم في مغريات الدنيا، إلا أن ذلك لم يمنعه من تسليط الضوء على بعض السلبيات ونقاط الضعف التي تعاني منها الحوزة النجفية آنذاك، في ركود مناهج التدريس، والانكفاء عن التطورات العالمية، وقصور التوجيه التربوي، وتجاهل الإعلام والنشر الثقافي، وانعدام التخطيط الإداري. وقد تحدث عن هذه الملاحظات في عدد من أبحاثه وكتاباته.
ولا أحد يستطيع المزايدة على الشيخ مغنيّة في الدفاع عن مذهب أهل البيت، ونشر معارفه وثقافته، وفي الدفاع عن الشيعة وما تعرضوا له من ظلامات في تاريخهم الماضي والمعاصر. إلا أنه في الوقت ذاته لم يسكت على الممارسات التي يراها خطأً وانحرافاً في بعض الأوساط الشيعية، فقد شنّ هجوماً لاذعاً على بعض العادات والممارسات التي تجري بمناسبة عاشوراء لدى بعض الشيعة كضرب الرؤوس بالسيوف، منتصراً لرأي الإمام المصلح السيد محسن الأمين العاملي، مؤكداً أنها عادات دخيلة لا أصل لها في المذهب، وأنها تعطي الفرصة لتشويه المذهب[10].
* مقومات الشجاعة الفكرية
شجاعة الرأي وقوة الموقف في شخصية الشيخ مغنيّة وسيرته، كانت نابعة من مقومات ذاتية، ولم تكن نتاجاً لبيئة مساعدة، ولا إفرازاً لقوة منصب أو موقع، مما يجعله خير قدوة وأسوة، لمن يتطلع لهذه الصفة العزيزة، أو يطمح للتحلي بهذا الخلق القويم.
إن هناك من يتمنى تهيُّؤ الفرص ومساعدة الظروف، لكي ينطلق معبِّراً عن آرائه وقناعاته، ويحمّل الأجواء المحيطة به مسؤولية تقاعسه عن قول ما يعتقده حقًّا وصواباً، وعن عدم اعتراضه على ما يراه خطأً وباطلاً.
فيحلم بالعيش في مجتمع تسوده أجواء الحرية، ليمارس حرية التعبير، وينتظر تراجع اتجاهات الإرهاب الفكري ليتحدث بشجاعة، ويأمل في أن تُثنى له وسادة الزعامة، أو يمتلك موقع القدرة والنفوذ، لكي يجهر بالحق، وهذه أحلام الضعفاء العاجزين، وتبريرات المصلحيّين الانتهازيين.
إن روّاد التغيير والتجديد في المجتمعات البشرية، ينطلقون من موقع الإخلاص للحق، ويتحمّلون مسؤولية الإصلاح للظروف والأوضاع المحيطة بهم، ويوطّنون أنفسهم على التضحية بالمصالح الخاصة من أجل خدمة المعرفة والدين.
وهكذا كان الشيخ مغنيّة الذي تنطلق مقومات شجاعته الفكرية من صفاته الذاتية التالية:
الالتزام الديني القيمي
حين يكون إيمان الإنسان بالله تعالى إيماناً صادقاً، يصبح رضا الله تعالى هو البوصلة التي توجّه أقواله وأفعاله، وتكون الثقة بالله تعالى والتوكل عليه هي سلاح المقاومة أمام أي ترهيب أو ترغيب.
والشيخ مغنيّة كان عميق الإيمان بالله تعالى، عرف ربه بالفطرة النقيّة، والإدراك السليم، والتزم بالقيم والمبادئ عن وعي وإخلاص، فأصبح قول ما يعتقده حقًّا سجيّةً لازمة، يصعب عليه الانفكاك منها، وخاصة في مجال بيان شرع الله تعالى، أو ما فيه مصلحة الدين والأمة.
لقد وعى الشيخ مغنيّة أن عالم الدين مسؤول أمام الله تعالى عن تبيين معارف الدين، وأنه محاسب ومعاقب يوم القيامة إن كتم الحق أو سكت عن الباطل.
ففي القرآن الكريم إنذار وتهديد صريح للعلماء المتخاذلين عن بيان الحق، يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[11].
ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}[12].
وجاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: >أيما رجل آتاه الله علماً فكتمه، لقي الله يوم القيامة ملجماً بلجام من نار<[13].
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) >إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله<[14].
كما توافرت لدى الشيخ مغنيّة حصانة ومناعة في أعماق نفسه من الخضوع للمخاوف والضغوط، بسبب عظيم ثقته بالله تعالى وتوكله عليه، متأسياً بالأنبياء والرسل الذي وصفهم الله تعالى بقوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}[15].
لذلك كان يندفع للتعبير عن رأيه بشجاعة، دون أن يحسب لقوى الضغط السياسي، ومراكز النفوذ الاجتماعي أي حساب.
وتشير بعض عباراته إلى هذا الجانب من شخصيته بعفوية ودون تكلف، يقول J: >إن التهديد من مخلوق مثلي لا يثني شيئاً من عزمي... لأني أفعل وأترك بوحي من ديني وضميري، وليقل الناس ما طاب لهم من مدح أو قدح، أبداً لا ألهث وراء هذا، ولا أكترث بذاك، أما النقد فلا أخشاه ما دمت قادراً على الاعتراف بالحق والواقع، ودحض الافتراء والباطل... هذا هو شعاري منذ معرفتي بالله وجلاله، وإلى يومي الأخير، وهو سبحانه أعلم بما تخفي الصدور، وإذا استحال على مثلي أن يتخلق بصفات أهل العصمة فلا أقل أن يلتزم بواحدة منها، وأدناها أن يتجنب الفرية وقول الزور، وهل من شيء أهون من الصمت والإمساك عن الباطل؟ وأية قيمة لمن يقول أو يفعل خلاف ما يؤمن ويعتقد؟<[16].
>أنا على العهد بايعت الحق والعدل، ولن أنكث البيعة، وأناصر المظلوم ولن أتراجع، وإن تظاهر عليَّ القوم الظالمون، وكفى بالله وليًّا ونصيراً<[17].
كان الشيخ مغنيّة على رأس أرفع منصب ديني للشيعة في لبنان آنذاك، وهو رئاسة المحكمة الجعفرية العليا، وكان استمراره في ذلك الموقع يتطلب منه مراعاة مصالح بعض القوى السياسية، والاستجابة لطلباتها المخالفة للعدل، فلم يقبل المداهنة والمساومة حتى أُقيل ونُحِّي عن رئاسته.
وحين قال له مرة أحد الوزراء النافذين: >استجب لطلبي وأنا أثبّتك في الرئاسة!< أجابه الشيخ مغنيّة فوراً: >المهم أن يثبت ديني أما الكرسي فظل زائل<.
ثم يعقّب الشيخ على تسجيله لتلك الحوادث قائلاً: >ولو استجبت لهؤلاء الزعماء الفاسدين ورضخت للضغوطات لكنت غداً مع ابن سعد الذي باع دينه بملك الري، وابن العاص الذي باعه بولاية مصر. هكذا كان شعوري وإيماني حين حدثت الفجوة بيني وبين المتزعمين من أصحاب السلطة.. إن أرضيتهم حرصاً على رئاسة المحكمة أغضبت الله سبحانه، وإن أرضيته تعالى فاتت الرئاسة.. وآثرت الآخرة على الأولى عملاً بسنة البشير (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال لمن يحيي ويميت: (إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي)<.
الثقة بالذات
يدرك من يعيش في معظم أجواء الأوساط الدينية، أو يقترب منها، كيف تُستلب فيها ذات الإنسان، ليذوب في محيطه، وليتماهى مع شخصيات أساتذته ومرشديه، وليلتزم بعادات وأعراف بيئته الحوزوية حتى في جزئيات المظاهر السلوكية، ويتربى على تقديس وتعظيم آراء الكبار، دون أن يسمح لنفسه بالتفكير في المناقشة أو الاعتراض إلا ضمن حدود معينة في إطار البحوث العالية >بحث الخارج<.
هذه النشأة تسبب ضمور التفكير، وإضعاف الثقة بالذات، لذلك غالباً ما تكون آراء التلامذة إعادة إنتاج لآراء أساتذتهم، ويكون المبدعون منهم قلة نادرة تُعدُّ على أصابع اليد الواحدة في كل جيل من أجيال الحوزة، فيؤرخ لأجيال الحوزة بتلك الأسماء النادرة، فيقال: تلامذة النائيني، أو الآخوند الخراساني، أو السيد الخوئي.
وقد تمرد الشيخ مغنيّة على هذه الأجواء، فتمسك بالثقة بذاته، وأطلق العنان لفكره، ولم يمارس القمع لنفسه في داخله، بل كان يُعمل عقله ويحترم نتائج بحثه، دون أن يعني ذلك الاستهانة بآراء الآخرين.
إن الشيخ مغنيّة يفصل بين احترام أي زعامة دينية وبين النقد العلمي واختلاف الرأي، فالاحترام لأي جهة لا يعني التسليم بكل ما تذهب إليه من آراء، كما أن النقد البنّاء لا يعني المناوأة والعداء.
وقد ناقش الشيخ مغنيّة رأياً فقهيًّا لزعامة دينية كبيرة، يُقرّ لها بالاحترام والتقدير، ويشيد بدورها القيادي، لكنه يخالف ذلك الرأي الفقهي الذي تتبناه، فاحتج عليه بعض أتباع ومؤيدي تلك الزعامة، متمنين عليه سحب رأيه النقدي، لأن في إعلانه إتاحة فرصة للمناوئين، وإضعافاً لوحدة الصف.
فرفض احتجاجهم، وأصرّ على حقه في التعبير عن رأيه، وحذّرهم من تكريس روح الديكتاتورية والاستبداد، وأبان لهم أن النقد العلمي البنّاء أمر مطلوب، وهو لا يؤثر في وحدة الصف[18].
الانطلاق من العلم
إذا كان السكون والخمول ضارًّا بساحة المعرفة، فإن القول الجزاف، والرأي الفارغ، والإفتاء بغير علم، أشدّ ضرراً وأكثر خطراً. يقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ}[19].
لقد كان الشيخ مغنيّة عاشقاً للعلم والمعرفة، درس المناهج الحوزوية دراسة فهم واستيعاب، يقول عن دراسته: >وما تركت الكفاية والرسائل والمكاسب إلا كأستاذ درّستها وأنا متضلع فيها جميعاً<[20]، ويقول أيضاً إنه: >ما سوّف ساعة من وقته طوال إقامته في النجف، وإنه كان يجدّ ويجتهد في طلب العلم بحماس لا يعرف الكلل والملل، وأنه أتقن كل درس من دروسه ووعى كل كلمة سمعها من أساتذته<[21].
حضر أبحاث الفقهاء حضور وعي وانتباه، وأفنى عمره في المطالعة والبحث، حيث قرأ حسب كلامه آلاف الكتب والمجلات، في مختلف مجالات المعرفة.
ولم يترك مراجعة الكتب الأساسية في علمي الفقه والأصول بعد تخرجه من النجف وعودته إلى لبنان بل كما يقول عن نفسه: >وحين عدت إلى لبنان مكباً 22 سنة من 1936م إلى 1958م ملازماً كتب الفقه والأصول ليل نهار مطالعة وكتابة في مسائل الفقه وكان الكتاب الرئيسي في الأصول المجلد الأول من تقريرات النائيني بقلم الخوئي، والثاني بقلم الخراساني، أما الفقه فكان كتاب الجواهر والمسالك، وقد راجعت الأول مرات ومرات وكان هذان الكتابان هما الأصل لمطالعتي، ثم يأتي بالدرجة الثانية الحدائق ومفتاح الكرامة وملحقات العروة وبلغة الفقيه والمستمسك<[22].
وحين يريد الكتابة في موضوع، أو إعطاء رأي في مسألة، فإنه يبذل كل ما في وسعه من جهد لبحثها، حتى إذا ما تكوّنت له قناعة، وتشكّل لديه رأي، من خلال أدوات البحث العلمي، فإنه يبادر إلى إعلانه وإظهاره بكل شجاعة وإقدام، إنها شجاعة الانطلاق من العلم، والثقة بسلاح الدليل والبرهان، والقبول بالنقد العلمي، والاستعداد للاعتراف بالحق يقول J: >أما النقد فلا أخشاه ما دمت قادراً على الاعتراف بالحق والواقع<.
قوة الشخصية
التعبير عن الرأي في مجتمع قمعي وبيئة محافظة، يسبب ردود فعل مناوئة من مراكز القوة والنفوذ، وذوي المصلحة في استمرار واقع الجمود والتخلف، ومن خلفهم من الأتباع والمتملّقين.
وعادة ما تكون الضغوط من قبل هذه الجهات عنيفة قاصمة، لا يصمد أمامها إلا من يمتلك قوة الشخصية، وصلابة الإرادة.
لقد اضطر بعض العلماء للتراجع عن طرح آرائهم بفعل مثل تلك الضغوط، كما يتردد الكثيرون عن التعبير عن آرائهم تجنباً للمواجهة، واتقاء للضرر والخطر. لقد سحب الشيخ النائيني من الأسواق رسالته (تنبيه الأمة) التي تدعو إلى قيام حكم إسلامي على أساس المشاركة الشعبية، استناداً إلى إرادة الأمة، والتي أوضح فيها معالم النظام السياسي الشوروي، على ضوء الأدلة الشرعية.
وينقل عن السيد البروجردي حديثه عن التقية من الداخل، وأنها مورد ابتلاء للفقهاء والمراجع أكثر من التقية من الخارج[23].
أما الشيخ مغنيّة فقد عقد العزم على تحدي هذه الضغوط الداخلية، ولم يكن يأبه بها، ولا يكترث بصخبها، بل يتحدث عنها بنبرة التهكم والتحدي، كقوله مثلاً: >لكن بعض الشيوخ رأوا في كتبي وأقوالي خروجاً عن الأصول وتقاليد العلماء الأبرار، وهنا تكمن البدعة والضلالة في نظرهم، فانبرى إليّ العلماء والزعماء والرجعيون<.
وهو يبادر تلك الجهات بالهجوم على تخلفهم وتحجرهم كما يقول: >وكتبت عن لبنان وجنوبه المنكوب، ورسمتُ صورة لبعض الشيوخ المتبحرين في السخف والجهل<.
ويسجل بعض اتهاماتهم له قائلاً: >واشتدت محاربتي من العملاء والرجعيين... الرجعيون وأذناب الاستعمار في وجه الأشراف والأحرار... واتهموني بأني يساري وشيوعي هدّام<.
وترتفع لديه نبرة التحدي تجاههم فيقول حين أُتهم بحمرة شيوعية: >هذه الفرية وألف من أمثالها، لا تؤثر فيَّ، بمقدار تأثير الغبار في حذائي، لأني على يقين من ديني وإيماني وعدلي، وإني أحمده تعالى على حظي عند شرار خلقه<.
وكما لم يأبه للتهديدات التي استهدفت شخصيته المعنوية، فإنه لم يأبه للتهديدات بتصفيته جسديًّا من قبل جهات طائفية أزعجها دوره في الدفاع عن مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، حيث تلقى رسائل تهديد ووعيد كثيرة، بعضها وصل إليه بالبريد، وبعضها عبر بعض المسؤولين اللبنانيين، ومما جاء في إحدى تلك الرسائل: >سنريح منك الأمة الإسلامية<، وجاء في رسالة أخرى: >سوف نأكل من لحمك إن نشرت وأعلنت<. ويعلّق الشيخ مغنيّة على هذه التهديدات مستهيناً بها بقوله: >إن التهديدات من مخلوق مثلي لا يثني شيئاً من عزمي، بل يشده ويزيده قوة ورسوخاً<[24].
الزهد في المواقع والمكاسب
عادة ما يكون السكوت عن بيان الحق ثمناً للوصول إلى مواقع القوة والنفوذ، حيث يتواصى أبناء الصنف الديني فيما بينهم، بضرورة الحذر من التعبير عن أي رأي قد يعرقل الطريق إلى الزعامة، أو يمنع كسب الأتباع، أو يؤثر في الصيت والسمعة، وحين يتجرد الإنسان من هذه الأطماع، ويخرج من أسر هذه الطموحات، يكون أملك لحريته، وأقدر على التعبير عن ذاته.
وقد تمتّع الشيخ مغنيّة بهذه الملكة، فلم يطمح أن يكون مرجع تقليد، ولا إمام جماعة، ولا قابضاً لأخماس، ولا رئيس مؤسسة، ولا صاحب منصب..
كانت حرية الرأي والموقف أولويته المطلقة، ولا قيمة دونها لأي مكسب آخر. يقول J: >وقررت ألَّا أمارس شيئاً من مهمة الشيوخ إلا الجواب عما يُوجه إليَّ من الأسئلة، والتزمت بهذا المنهج، وأخذت به نفسي.. لا أزوّج ولا أطلّق، ولا أصلي بجماعة أو على جنازة، ولا أقبل الإيصاء من أحد، ولا أقبض الحقوق والصدقات ولا أقبل الأمانات، أبداً لا أستعطي وإنما أُعطي.. وأوصي إليّ مرات فتهربت من الوصية، وعُرضت عليّ أموال طائلة من حق الله فرفضت<[25] >وفوق هذا إني أزهد خلق الله بالهتاف والتظاهر والمظاهر، ولثم اليد والمفاخر، والسر علمي ويقيني بأن الرفعة والضعة بعد العرض على الله لا على الناس<[26].
* وفي الختام
إن تجربة الشيخ مغنيّة نموذج مشرق لثبات المصلحين واستقامتهم، وهي مصدر إلهام وتحفيز لكل صاحب رأي من أهل العلم أن يتحلى بالشجاعة للإجهار برأيه، كما أنها مؤشر قوي لتوفر فرص النجاح والتأثير أمام دعاة الإصلاح.
صحيح أن الشيخ مغنيّة واجهته حملات التهم والافتراءات من محيطه الديني، ولحق به الكثير من الأذى والعناء، ولم يتبوأ الموقع الذي يستحقه على الصعيد الاجتماعي، بل أُزيح عن منصبه في رئاسة المحكمة الجعفرية العليا.
لكنه حقّق نجاحاً باهراً في نشر أفكاره وآرائه التجديدية، وكان من أكثر العلماء في عصره تأثيراً في أذهان الشباب وشرائح المثقفين والمتعلمين.
وعلى صعيد مجتمع جبل عامل وشيعة لبنان، فإنه يمكن القول: إن فكره التنويري، وخطابه السياسي الثوري، قد ساهم بشكل كبير في صنع أرضية المقاومة الظافرة، وتأهيل المجتمع للمواجهة والصمود، وخلق جيل رسالي يحمل أكبر التطلعات لمستقبل الأمة.
ولا بد أن نشير هنا إلى عمق الأثر الذي تركته آراؤه وكتاباته في الأوساط الطليعية في الحوزات العلمية الشيعية، حيث وجدوا فيها تحفيزاً للإبداع، وتحريضاً على النقد، ودفعاً نحو الانفتاح والفاعلية، وتأسيساً لمقولات التجديد والإصلاح.
ويكفي للتدليل على ذلك شهادة الفقيه الكبير السيد محمد باقر الصدر، التي تحدث فيها عن تفاعله مع إحدى مقولات الشيخ مغنيّة التأسيسية في مجال استنباط الأحكام الشرعية، وعن إعجابه بموسوعة الشيخ مغنيّة (فقه الإمام جعفر الصادق) التي تقع في ستة أجزاء.
قال الشهيد الصدر: >أكبر الظن أنها أول مرة أقرأ فيها لفقيه إسلامي، من مدرسة الإمام الصادق C أوسع نظرية لعنصر الفهم الاجتماعي للنص، يعالج فيها بدقة وعمق الفرق بين المدلول اللغوي -اللفظي- للنص، والمدلول الاجتماعي، ويحدد للمدلول الاجتماعي حدوده الشرعية.
وبالرغم من أن الفقهاء في ممارستهم للعمل الفقهي ومجالات الاستنباط من النص، يدخلون عنصر الفهم الاجتماعي ويعتمدون عليه في فهم الدليل، إلى جانب العنصر الآخر الذي يمثل الجانب اللفظي من الدلالة.
غير أنهم لا يبرزون في الغالب الجانب اللفظي من عملية فهم الدليل، والجانب الاجتماعي بوصفهما جانبين متميزين، لكل منهما ملاكه وحدوده، بل يبرز الجانبان في مجالات تطبيقهم مزدوجين، وتحت اسم واحد هو الظهور.
كانت المرة الأولى التي قرأت فيها ذلك عن عنصر الفهم الاجتماعي للنص: هي حين قرأت بعض أجزاء الكتاب المجدد الخالد (فقه الإمام الصادق) الذي وضعه شيخنا الحجة الكبير (الشيخ محمد جواد مغنية) الذي حصل الفقه الجعفري على يده في هذا الكتاب المبدع على صورة رائعة في الأسلوب والتعبير والبيان<[27].
رحم الله الشيخ محمد جواد مغنيّة، وأجزل له الثواب، ووفق العلماء الأحرار لمتابعة مسيرته، وتطوير مدرسته التجديدية الإصلاحية.
والحمد لله ربّ العالمين.
[1] نص المشاركة في المؤتمر الذي أقيم في بيروت بتاريخ 25 مارس 2009م لإحياء فكر العالمين الكبيرين الشيخ عبدالله العلايلي والشيخ محمد جواد مغنيّة.
[2] عضو الهيئة الاستشارية.
[3] سورة البقرة، الآية: 31.
[4] محمد بن علي بن بابويه القمي. عيون أخبار الرضا ج2، الطبعة الأولى 1404هـ (بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات) ص93 حديث32.
[5] مرتضى مطهري. الاجتهاد في الإسلام، (طهران: مؤسسة البعثة، ترجمة: جعفر صادق الخليلي) ص57.
[6] أحمد الوائلي. تجاربي مع المنبر، الطبعة الأولى 1998م (بيروت: دار الزهراء) ص185.
[7] حيدر حب الله. مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد الأول شتاء 2006م، ص11.
[8] محمد جواد مغنيّة. تجارب محمد جواد مغنيّة بقلمه، الطبعة الأولى 1425هـ (قم المقدسة: أنوار الهدى) ص20.
[9] المصدر نفسه ص144.
[10] المصدر نفسه ص461.
[11] سورة البقرة، الآية:174.
[12] سورة البقرة، الآية: 159.
[13] محمد باقر المجلسي. بحار الأنوار، ج2، الطبعة الثالثة 1403هـ (بيروت: دار إحياء التراث العربي) ص68.
[14] محمد بن يعقوب الكليني. الكافي ج4، الطبعة الثالثة 1985م (بيروت: دار الأضواء) ص 54.
[15] سورة الأحزاب، الآية: 39.
[16] تجارب محمد جواد مغنيّة بقلمه، ص 19 - 20.
[17] المصدر نفسه: ص114.
[18] المصدر نفسه ص516.
[19] سورة الحج، الآية: 8.
[20] تجارب محمد جواد مغنيّة بقلمه، ص45.
[21] المصدر نفسه ص46.
[22] المصدر نفسه ص45.
[23] الاجتهاد في الإسلام. ص56 - مصدر سابق.
[24] تجارب محمد جواد مغنيّة بقلمه. ص19.
[25] المصدر نفسه ص117.
[26] المصدر نفسه ص21.
[27] اخترنا لك. مقالات متفرقة للسيد محمد باقر الصدر، الطبعة الأولى 1395هـ (بيروت: دار الزهراء) ص90.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.