تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

معضلة «العنف» رؤية إسلامية

نجلاء مكاوي

 

[1]

الكتاب: معضلة «العنف» رؤية إسلامية.

المؤلف: أبو زيد المقرئ الإدريسي .

منشورات جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، طرابلس، 2007.

 

العنف من الموضوعات التي أثارت الكثير من الكتّاب والمفكرين والباحثين، للكتابة والرصد والتحليل والتناول، سواء من منظور فكري، أو سياسي، أو ديني، فقد طفت على مسرح السياسة العربية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، ظاهرة «العنف»، كمرادف لنشاط بعض الجماعات الإسلامية، وحركات المقاومة ذات الأيديولوجية الإسلامية، وكان ظهور هذا المصطلح مرتبطاً بالدور الخارجي للدول الغربية، صاحبة المصالح والنفوذ في العالم العربي، حتى بات هذا المصطلح قريناً -من وجهة نظر الغرب- بالدين الإسلامي، والدعوة إليه، وجماعاته، وحركاته، بل ونظمه الحاكمة في بعض البلدان العربية؛ لذلك فإن العنف في الفترة الآنية كظاهرة، ومفهوم، ومصطلح، أخذ قالباً سياسيًّا، ظاهره الإسلام؛ مما جعل تفحصه، وتحليله، ودراسته على أكثر من مستوى، ضرورة فكرية ملحة.

كتاب معضلة «العنف» رؤية إسلامية، للكاتب أبو زيد المقرئ الإدريسي، يأتي ضمن جهود المفكرين العرب والمسلمين لوضع هذا المفهوم في إطار نظري، والنظر إليه برؤية إسلامية؛ لطرح القضية التي من الواجب إفراد لها العديد من الكتب والدراسات؛ لتتبّع جذورها، وأبعادها، وتداعياتها على المجتمع العربي والإسلامي، وهي: الإسلام والعنف، وكيفية التصدي للظاهرة المصطلح المسماة، «الإرهاب الإسلامي»، التي فرضها علينا الغرب خدمة لمصالحه وأطماعه، ناخراً في الجسم الإسلامي، محاولاً القضاء عليه، وتفتيت قواه، وتحطيمه كاملاً.

يقدم لنا كتاب معضلة العنف الذي جاء في مدخل، وثلاثة فصول، وخاتمة، وملحق، تناولاً شاملاً لهذا الموضوع، وعلاقة الإسلام به، فبدأ المدخل بإضاءة مفاهيمية للمصطلحات المرتبطة بالموضوع، وهي: القوة، والعنف، والإرهاب، من وجهة نظر الإسلام، فقال الكاتب: إن القوة مصطلح يستعمل في القرآن استعمالاً إيجابيًّا، سواء كانت قوة مادية أو معنوية، فالقرآن يدعو للقوة بمعناها الإيجابي، ويدينها عندما تستعمل استعمالاً غير صحيح، فتتحول إلى «عنف».

وأوضح الكاتب أن «العنف» مفهوم سلبي ومرفوض في الأديان، وفي القيم الإنسانية، والقرآن يتحدث دائماً عن العنف المستعمل بطريقة سلبية، ويدينه إدانة شديدة، ويتكلم عن مآلاته الرعناء في ذروتها، وهي إزهاق الأرواح، ثم أعطى الكاتب بعض الأمثلة من القرآن على ذلك، منها، قصة فرعون، ورفض القرآن للعنف المتمثل في شخصية فرعون، ومنظومته الفكرية، وطريقته في الحكم، وكيف أنه كان يستضعف بني إسرائيل، ويقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ويذل شعبه. ثم يتوصل الكاتب في نهاية عرضه لمفهوم العنف إلى أن ممارسته عندما تصل للذروة، فإنها تصبح «إرهاباً» بالمعنى المعاصر للكلمة Terrorism.

أرجع الكاتب ظهور مصطلح الإرهاب إلى هيمنة الغرب على اللغة الإعلامية، فهو الذي يصوغ المفاهيم، ويسوقها إعلاميًّا، وسعى إلى وصم المسلمين بالإرهاب في سياق من المفاهيم التي تبدأ بالتشدد، إلى التطرف، إلى التعصب، فالأصولية، فالإرهاب، وتاريخ الإمبريالية يشهد بأنها دائماً ما كانت تصف كل حركة مقاومة للاستعمار بالتشدد والأصولية، إلى أن أصبح بعد ذلك مصطلح «الإرهاب» مصطلحاً جامعاً كليًّا مضخماً، ودافعاً بهذا المعنى إلى أبعاد قومية عند الإنسان الغربي.

لجأ الكاتب إلى مقارنة مفهوم مصطلح الإرهاب بمفهوم الغرب الحديث Terrorism، ومفهومه في القرآن؛ لبيان التعارض الشديد بين ما جاء في القرآن الكريم عن كلمة الإرهاب ودلالتها، وبين المصطلح الحديث، فقد استخدم الباحثون الغربيون بعد أحداث 11 سبتمبر بعض الآيات القرآنية؛ للتدليل على تأصيل القرآن لفكرة الإرهاب، مثل الآية الكريمة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ}، فشرح الكاتب دلالة كلمة «ترهبون» في الآية، مؤكداً أن الإرهاب في القرآن مفهوماً ردعيًّا، يؤول في معناه العميق إلى طلب السلم، وهو بالتالي محاولة للوقاية من الاضطرار إلى العنف المضاد بوصفه ردًّا طبيعيًّا وعادلاً ومشروعاً ضد العنف.

* الإسلام وقبول الآخر

بعد توضيحه للمفاهيم الأساسية التي يرتكز عليها موضوعه، يبدأ الكاتب فصله الأول تحت عنوان: «الأسس العامة لموقف الإسلام من العنف»، رافضاً التصدي لربط مفهوم الإرهاب بالإسلام عن طريق الخطابات العاطفية، بل لابد أن يقوم الفكر الذي يقف إلى جانب السلم على تصورات بنيوية معمقة في أصول الإسلام التصورية والعقدية، وإلا فإنه سيكون فكراً سلميًّا سطحيًّا يتبخر عند أية ردة فعل أو حالة غضب.

ربط الكاتب حقيقة رفض الإسلام للعنف، بتأصيله لفكرة قبول الآخر، ورفضه كل أشكال العنصرية تجاه هذا الآخر، وتصنيفه بسبب اللون أو الجنس أو العرق، وبالتالي لا يمكن أن ينشأ في ظل التصور الإسلامي موقف يرفض الآخر، ويؤدي إلى تسويغ العنف ضده، لمسبب لوني أو عرقي أو ديني، وهدف الكاتب من ذلك إلى نفي كل أسباب ممارسة العنف أو الإرهاب ضد الآخر لإذلاله، أو إقصائه، ومحوه ماديًّا من الوجود؛ ما دام يتأسس في ضمير الإسلام التلقائي والمنطقي كل أشكال قبول الآخر.

رصد الكاتب أسباب العنف أو الإرهاب، وبدأ بالسبب الديني الذي يبدو لدين كالإسلام قال: إنه آخر الأديان، وناسخها، والمهيمن عليها، سبباً وجيهاً، ولكن الهيمنة في الإسلام هي مفهوم تكاملي، وليس مفهوماً إقصائيًّا، بدليل السلوك النبوي، وسلوك الصحابة في فقه التعامل مع غير المسلمين، فعندما فتح عمر بن الخطاب بلاد فارس، ووجد نفسه أمام إشكالية التعامل مع المجوس الخارجين من مفهوم (أهل الذمة)، وهي ديانة غير سماوية، وغير مذكورة في القرآن الكريم، فتعامل معها من منطلق قول رسول الله: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»؛ فوسّع مفهوم الذمية، من حيث كونه تأسيساً لعلاقة إنسانية راقية تقبل الآخر، وتضمن له حقوقه، وحرية العبادة والاعتقاد، وحرية المؤسسات الدينية.

قارن الكاتب في هذا الصدد بين الغرب وخطابه التسامحي، والإنساني، والديمقراطي، وبين فعله الرافض للآخر وحقوقه، والمتمركز حول الذات، فقبل الأمريكان كان الرومان المؤسسين لعقيدة القوة عن طريق الانتصار، ثم أمريكا التي تعتبر من ليس معها فهو مع الإرهاب، فالغرب يريد أن يكون الآخر نسخة له بالشكل الذي يريده، وليس ما يريده الآخر لنفسه. ولا يختلف عن ذلك كثيراً ما جاء في الفكر اليهودي، فالتوراة والتلمود يتأسسان على إلغاء الآخر ورفضه، واليهود طينة غير طينة البشر، وأن الله خلق غير اليهود على هيئة إنسانية ليكونوا لائقين بخدمة اليهود.

أما الإسلام وموقفه من قبول الاختلاف، فيتحدث عنه الكاتب بإسهاب مبيناً نظرة الإسلام للاختلاف كطبيعة، وليس كانحراف، استناداً إلى قول الله عز وجل: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}. وفي هذا تأكيد بأنه خلقهم ليختلفوا، كما أن الاختلاف يؤسس للاجتهاد في الرأي في زوايا النظرة الشرعية، أو الفقهية، أو السياسية، فالعلماء ينظرون جميعاً، في أصول الفقه، إلى الاختلاف في الأحكام الشرعية بوصفه اختلافاً طبيعيًّا ولازماً، والفقه في طبيعته يتشكل من آراء مختلفة، كما أن الإسلام يقبل الآخر ذاتاً وفكراً، ولذلك يضع نظرية في تدبير التعايش بناء على أن الآخر أمر واقع، والاختلاف معه أيضاً أمر واقع، هذا التعايش الذي بُني على جملة عناصر أولها تصوري وثانيها أخلاقي وثالثها عملي.

أخذ الكاتب في تحليل العناصر الثلاثة التي يبني عليها الإسلام تصوره لتدبير التعايش عليها:

وأولها: الأرضية المشتركة، فالإسلام يبحث دائماً ويدعو إلى توفير أرضية مشتركة، كي تجعل الخلاف قابلاً للتعايش في إطار مشترك، وتتمثل هذه الأرضية في الإيمان بالله، وهي ضامن أكيد لتعايش أصحاب الديانات الثلاث وتعاونهم.

الحوار هو العنصر الثاني للتعايش، فالإسلام أمر بالمجادلة بالحسنى مع المخالف، بل بدرجة أعلى من تحسين الخطاب معه عن الخطاب مع الموافق، لأن المخالف قد يكون عرضه للانفلات والانزلاق إلى العنف المادي أو الرمزي؛ فيحتاج إلى ضبط النفس، ومستوى عالٍ من التحكم.

أما التعاون فهو العنصر الثالث، والمجال العملي لتدبير التعايش، ليتحول إلى إنجاز إنساني مشترك بين جميع الأطراف، والإسلام يحض على هذا التعاون في كافة أشكاله، حتى أنه أمر بنصرة المظلوم ولو كان كافراً.

* قوة الإنسان الروحية لا تقهر

انتقل الكاتب بعد ذلك لإيضاح طبيعة الإنسان كما صورها الإسلام، الذي يعتبر الإنسان قائماً على مكون روحي وفكري، بالإضافة للجسد المادي الذي يمكن أن يطوع أو يكسر بكل أشكال الإكراه، ولكن المكون الروحي يستعصى على القهر والقوة المادية؛ لأنه خارج مجال هذه القوة؛ لذلك فالإسلام يلغي آليًّا من الناحية المنهجية والتصورية أية وسيلة لإكراه الآخر، وأي سلوك مادي يمكن أن يستخلص بالقهر والإكراه والتعذيب والمساومة، فإن درجات المسؤولية فيه تخف إلى أن تنعدم عند الإكراه، فيقول الرسول الكريم: «رُفع عن أمتي ثلاث: الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، حتى العقيدة إذا أكره المسلم على النطق بما يخالفها؛ فلا يحاسبه الله على ذلك.

خلص الكاتب بعد عرضه لمسألة قبول الآخر، وقبول الاختلاف معه، والإدراك السليم لطبيعة الإنسان، إلى النتيجة المنطقية التي أثبتها التاريخ، وهي أن الإسلام يقبل الآخر من موقع القوة، وهي سمة تفرّد بها الإسلام، فعندما تكونت الحضارة الإسلامية، وانتصرت عسكريًّا وحضاريًّا وروحيًّا، وصلت ذاتيًّا للاعتراف بالآخر، دون ضغط أو مدافعة منه، كما أن الإسلام قبل أن يصبح قوة نظر لوجود الآخر داخله، وشرعن هذا الوجود، فسوغ فكرة وجود الكنيسة، أو المعبد اليهودي، وحتى المجوس داخل أرضه، ومنذ البداية وهو ما زال عقيدة، ورسالة تربوية مجردة، يؤصل لحق الآخر في الوجود، ويؤصل للتعاطي والتواصل معه.

حاول الكاتب بعد ذلك أن يربط بين خصائص الإسلام العامة، وتعارضها مع فكرة العنف، مشيراً إلى أن هذه الخصائص وهي: الوسطية، والاعتدال، واليسر، والسماحة، ونبذ التعصب، والدعوة للتعارف، تنفي تماماً دخول العنف كآلية معتمدة في البناء، أو في تأسيس العلاقات، أو مشروع الدولة. والقرآن الكريم كمشروع للهداية جاء آمراً المسلمين بالتي هي أحسن، رافضاً الاعتقاد بالقوة الذي يتحول إلى حالة نفاق، والنفاق مدان في القرآن باعتباره انحرافاً، ومسخاً للروح، ينبغي أن يقاوم، ولا يقاوم إلا بالحرية، وتجنب العنف، كما أن الله تعالى أمر المسلمين بأن يمتنعوا عن استعمال القوة إلا إذا ظُلموا واحتاجوا إلى أن ينتصفوا من القوة بالقوة.

* الإسلام والسلام الاجتماعي

ذهب الكاتب إلى الفصل الثاني ليتحدث عن: حضور القوة في العلاقات الاجتماعية، ويوضح بداية موقف الإسلام من العلاقات الاجتماعية، وهو موقف يعزز لعلاقات التكافل، والتعاون، واحترام الحرية، ويحذر من كل ما يتعرض لكرامة الإنسان المستخلف في الأرض {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}[2].

ويأتي قول الرسول الكريم: «لا يحل لمسلم أن يروّع مسلماً»، كدليل على أنه في أبسط وأدنى مجالات الاحتكاك الإنساني، وهي الممازحة، فإنه لا ينبغي أن تصل إلى درجة الترويع، فما بالنا بالعنف، وما يؤدي إليه، والنهي النبوي واضح: «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي ربه مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله».

يؤكد الكاتب في هذا الإطار أن الإسلام أسس دولة إسلامية مدنية تقيم الحدود، وتحد من الانتصاف الفوضوي، لكنها ليست دولة دينية ثيوقراطية، كالتي كانت في عصر الإقطاع الكنسي، الذي تحالفت فيه القوة الإقطاعية مع الكنيسة، وألغت حق الإنسان في الحرية، والاختلاف، والاعتقاد، فالدولة الإسلامية هي دولة مدنية تقوم على تكريم الإنسان، واحترام حقه في ممارسة حريته، وحقه في اختيار من يحكمه، وحقه في مخالفته، وتقوم على نسيج علاقات اجتماعية مقوماتها التدبير التعاقدي، والتدبير التعايشي والتعاوني، وليس على التدبير القهري، ولا يجوز في هذه الدولة أن يمارس العنف ضد المختلف، أو حتى ضد المخطئ، فالمجتمع المسلم يعطي كل الحقوق للفرد حتى حق الخطأ.

في إطار التدليل على رؤية الكاتب للمجتمع الإسلامي النموذجي الذي تتوافر فيه كافة أشكال الحريات، انتقل لقضية هامة، وهي رفض الإسلام، «الضرب»، في الممارسات التربوية، واستشهد بآيات من القرآن الكريم تمنع الضرب كسلوك اجتماعي، ونفى ما يدعيه البعض من أن القرآن يؤصل لفكرة الضرب، مؤكداً أن من يفسرون الآية الكريمة الخاصة بضرب الزوج لزوجته، إنما يخرجونها عن سياقها: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}[3].

استشهد الكاتب برأي ابن مالك في هذه القضية القائل بأن العرف يقيد النص، وبذلك لا يجوز ضرب المرأة في المجتمعات التي ترى الضرب إهانة لها، واعتبر أن تقييد النص {وَاضْرِبُوهُنَّ} بالعرف «الإهانة» ثورة معرفية حقيقية في مجال فهم النص، كما اعتبر الكاتب موقف ابن مالك دعوة إلى الرقي بالمجتمع، وتربية الناس على علاقات بلا عنف.

* الإسلام والعنف السياسي

الجهاد، ووصف الإسلام بأنه أكره الناس بالسيف، كان الركيزة التي انطلق منها الكاتب في فصله الثالث، والأخير، الذي يحمل عنوان «حضور القوة في العلاقات السياسية»؛ ليقدم كما ذكر، المحددات، والمبادئ التي يفند من خلالها ربط الإسلام بالعنف السياسي، والقتل، والإكراه بالسيف؛ فكان أول هذه المحددات هو تأصيل الفكرة القائلة بأن القتال كما حث عليه الإسلام هو حالة استثنائية، والأساس أن القرآن ذكر في آيات الجهاد والقتال أن الفطرة الإنسانية، والفطرة الإسلامية، تنبذ العنف، وتكره استعمال القوة، والقاعدة الكلية في الإسلام هي أن التشريعات تتأسس على أساس الفطرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}[4].

المحدد الثاني هو السياق السياسي والتاريخي لتشريع القتال في القرآن الكريم، فالإذن بالقتال نزل في سياق الدفاع والاقتصاص، وهو الشرط الوحيد، والاستثناء الوحيد، الذي يجيز فيه الإسلام استعمال القوة لمواجهة الأعداء، كما يجب ملاحظة أن القرآن نزل، والدولة الإسلامية قامت، وجميع الأمم والدول تعبد القوة وتقدسها، من الرومان للحبشة؛ فكان لابد من مواجهة حالة كانت بالفعل قائمة، وما زالت لليوم قائمة.

على الرغم من ذلك؛ فالقرآن يبين بوضوح أن الموقف من الآخر ليس موقفاً من دينه، ولا من عقيدته، ولا من حضارته، ولا هيمنته على جزء من هذه الأرض، أو منافسته للمسلمين في مجالات اقتصادية، أو سياسية، أو ثقافية، وإنما موقف من اعتدائه على المسلمين، فمن اعتدى عليهم حرمت معاشرته، والتعاون معه، فالأصل هو البر والإحسان وعدم الاعتداء، وقد تجلى ذلك في كل الحروب التي خاضها النبي (ص)؛ فكانت حروباً دفاعية، ولو كانت رغبة النبي في القتال لمارس القتال بعقلية المقاتل، ولما أنهاه بالعفو عمن آذوه، وأخرجوه، وطردوه، وهددوا وجود الإسلام طيلة فترة الدعوة. والخلفاء الراشدون رغم خوضهم لمعارك شديدة؛ فقد اجتهدوا لتحرير الشعوب المجاورة من طغيان الفرس والروم، مع تقليل الخسائر الروحية والمادية قدر الإمكان، وكان الجهاد في توسعه يستهدف ضرب القوة السياسية والعسكرية للدول الديكتاتورية، التي تقوم على حرمان الناس من حق الاختيار، وحرية اتِّباع الدين الذي يريدونه، والدليل على ذلك، أن المسلمين كانوا يخيّرون الناس بين أن يسلموا، أو يبقوا على ما هم عليه.

أنهى الكاتب حديثه في هذا الفصل بالتأكيد على أن الإسلام يتحدث عن القوة، والحرب، والجهاد، باعتبارها كُرهاً، وحالة استثنائية دفاعية يقيدها بكل الاحتياطيات، وبكل ما يخفف من وطأتها، ويدعو لإنهائها بأسرع وقت عندما يتوقف الداعي.

* الوعي الفارق

كان هذا العنوان خاتمة لكتاب معضلة العنف، والذي أدرج الكاتب تحته أسباب فهم بعض المسلمين الخاطئ للقوة، وافتخارهم بالعنف، واتخاذه طريقاً يوسعون له في الأحكام الشرعية، وكان أولى أن يأتي هذا الجزء داخل فصول الكتاب، أو أن يُخصَّص له فصل كامل، بدلاً من جعله خاتمة للكتاب، فهو بعيد تماماً عن مفهوم الخاتمة التي تخرج دائماً بنتائج الدراسة، وما توصل إليه الكاتب بعد الانتهاء من الكتاب، وعلى أية حال، فإن الكاتب رصد هذه الأسباب، وكان أولها ما أسماه «قانون سيكولوجية القهر»، الذي يجعل المقهور يتبنى منهج القاهر، فالوقوع تحت ضغط القهر يعزز أخلاقيات وعقليات سيكولوجية القهر.

السبب الثاني من وجهة نظر الكاتب، هو الحالة الإعلامية التي يقودها الغرب بكثرة حديثه عن الإرهاب في الإسلام، في حين عدم وصفه لما يحدث من عنف ضد حركات ومنظمات في بلاد مسيحية بأنه «إرهاب مسيحي»، وأيضاً عدوان الصهاينة على المسلمين في فلسطين لا يسمى «إرهاباً يهوديًّا»، فلا يذكر الإرهاب مقروناً بدين إلا الدين الإسلامي، ولا ينسب لأي جنسية، أو قومية، فيما عدا المسلمين.

أما السبب الثالث فهو «الإشكال الثقافي» عند كثير من المسلمين، وسوء فهمهم لسياقات استعمال القوة في القرآن، ونزع النصوص من سياقها، فمن المسلمين من يعتمد في نزوعه إلى العنف على جملة من الأقوال والنصوص، التي انبثقت لحظة القتال، والتي تحض على مواجهة العدو، فيتم بذلك خلط مرحلة الدعوة بمرحلة الدولة، أيضاً خلط الحق بالصواب، الأمر الذي يؤدي إلى رفض سنة الاختلاف، والنزوع إلى الإقصاء والعنف، مما أظهر الإسلام عنيفاً في أعين من يخالفونه.

أضاف الكاتب مصطلح «العقلية العسكرتارية» كمسبب للفهم الخاطئ لبعض المسلمين لمفهوم القوة في الإسلام، وهي العقلية الناتجة عن قراءة مجحفة للسيرة النبوية، وتاريخ السلف الصالح، فنظر بعض المسلمين إلى فترة المدينة على أنها فترة معارك فقط، واختزلت الأبعاد الأخرى الحضارية والإنسانية والعمرانية في الفعل العسكري الخالص؛ فتشكلت بذلك لا شعوريًّا عقلية عسكرتارية، واختزلت انجازات النبوة والخلافة والدول بعد ذلك في الإنجاز العسكري.

أخيراً فإن الكاتب تناول الموضوع من زاوية على جانب كبير من الأهمية، وهي علاقة الإسلام (القرآن والسنة والتشريع) بالعنف والقوة، وما يسمى «الإرهاب»، فنجح في دحض كل المغالطات التي نسبت هذه المصطلحات إلى الإسلام العقيدة، والإسلام التاريخ والدولة، واتسم تحليل الكاتب بالمنطقية، فوفّق في توصيل أفكاره، وبالتالي نجح في مهمته الأساسية التي من أجلها صنع هذا الكتاب القيّم، وهي إلقاء الضوء على الجانب العظيم والحضاري للإسلام، الرافض للعنف والقوة، والمؤصل لكل قيم التسامح، والسلام، والتعاون البنّاء بين البشر أيًّا كان دينهم، وتوجهاتهم وفكرهم؛ ولذلك فإن هذا الكتاب يعد لبنة في بناء فكري كبير يجب على كل الباحثين والمفكرين والكتاب المسلمين المساهمة في علوه؛ ليصبح سدًّا منيعاً أمام كل أبنية الباطل والوهم والافتراءات.



[1] كاتبة من مصر.

[2] سورة البقرة، الآية 30.

 

[3] النساء، الآية 34.

 

[4] البقرة، الآية 216.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة