تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

عبد الوهاب المسيري من المادية إلى الإنسانية الإسلامية

خلود أبو الخير

عرض: خلود أبو الخير

الكتاب: عبد الوهاب المسيري من المادية إلى الإنسانية الإسلامية.
المؤلف: ممدوح الشيخ.
الناشر: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، سلسلة أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي.
الصفحات: 286 صفحة من القطع الوسط.
سنة النشر: الطبعة الأولى، 2008م.

تعد الكتابة عن الأستاذ عبد الوهاب المسيري مهمة صعبة من وجوه عدة، أولاً لأنه عالم شديد الاتساع والثراء، ومن ناحية أخرى فهو مشروع مازال يتحقق حتى الآن، وقد كانت حصيلة إنتاجه دراسات تجمع بين الغزارة والعمق والتنوع: دراسات في الظاهرة الصهيونية وأعمال في النقد الأدبي والأدب الإنجليزي والعلمانية، وأعمال إبداعية: دواوين وشعر وقصص أطفال.
لذا وجد الكاتب أن الكتابة عن الدكتور عبد الوهاب المسيري وعن مشروعه الفكري ما هي إلا محاولة للإحاطة بنبات مازال ينمو ويعد بالمزيد، والكتابة عن الظواهر وهي لما تزل في حالة تشكّل وتحوّل وصيرورة تنطوي على قدر من المغامرة. والماماً من الكاتب لحياة المسيري ومشروعه وتقديم صورة عن هذا العالم الرحب قدّم الكتاب مكوَّناً من مقدمة وأربعة أبواب، في كل باب ثلاثة فصول وملحق.
مقدمة
ذكر الكاتب عن الدكتور عبد الوهاب المسيري أنه يمثّل حالة من حالات المراجعة الفكرية شهدها الواقع الثقافي المصري خلال سنوات السبعينات والثمانينات، فالمراجعة الفكرية في حياته لم تكن ردّ فعل لنكسة يونيو 1967 التي لعبت دوراً مهمًّا في دفع عدد من المثقفين المصريين لمراجعة قناعاتهم الفكرية، كما أنه دخل مرحلة المراجعة من باب التساؤلات الكونية والتأمل في قضايا شديدة العمق وفي مواجهة أسئلة تبلغ الغاية في التركيب والتعقيد.
وأضاف الكاتب أنه مما يضاعف صعوبة الكتابة عن المسيري أن كتابته التي تجمع بين الضخامة من حيث الكم والعمق، توالت خلال السنوات القليلة، تبدأ قبل صدور موسوعته «اليهود واليهودية والصهيونية» بقليل حيث ظل يراكم المشروعات ثم خرج على القارئ خلال هذه السنوات القليلة بعدد كبير من المؤلفات، وقد أثمر المشروع الفكري للمفكر العربي الإسلامي أنه بعدما يزيد عن ربع قرن قرر أن يخوض غمار العمل السياسي المباشر، أولاً عضواً مؤسساً في حزب الوسط المصري (تحت التأسيس)، ثم ناشطاً في عدد من الفعاليات السياسية تُوِّجت باختياره منسقاً عامًّا لـ«الحركة المصرية للتغيير» (كفاية).
المسيري الإنسان: التكوين
ولد عبد الوهاب محمد المسيري في الثامن من أكتوبر عام 1938م في مدينة دمنهور المصرية. التحق بمدرسة دمنهور الابتدائية وحصل على شهادتها عام 1949م وفي العام 1955م التحق بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وفي العام 1959م تخرج وعُيِّن مُعيداً، وفي عام 1963م سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة كولومبيا، ثم التحق بجامعة رتجرز، وحصل منها على درجة الدكتوراه عام 1969م، وفي العام نفسه عاد إلى مصر عضواً في هيئة التدريس بكلية البنات بجامعة عين شمس.
وفي العام 1970م عُيِّن مستشاراً لوزير الإرشاد القومي، وهي وزارة استحدثها ضباط يوليو، وشهد عام 1972م صدور كتاب «نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني» الذي يصفه المسيري بأنه أول مؤلفاته الحقيقية، ثم أصدر أول مؤلفاته الموسوعية عام 1975 «موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية»، وخلال هذه الفترة التي امتدت حتى عام 1979م عمل المسيري مستشاراً للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة، وقد بدأت مؤلفاته تتوالى بدءاً من عام 1996م بصدور كتابه: «الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ: رؤية حضارية جديدة» ثم صدرت الموسوعة عن اليهود والصهيونية عام 1999م. وفى يناير 2007م تولى الدكتور المسيري منصب المنسق العام للحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية).
وتلك كانت أهم المحطات في حياة المسيري، لكن الكاتب أشار إلى أن الأرقام والتواريخ وحدها لا تكفي للإحاطة بسيرته ولا غناء عن استعراض المعالم، فإلى جانب العمل الأكاديمي والنتاج الفكري ترك عبد الوهاب المسيري بصمة مهمة في مؤسسة من المؤسسات المصرية المعروفة، فقد شغل منصب رئيس وحدة الفكر الصهيوني، وعضو مجلس الخبراء بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام (1970م - 1975م).
وتعكس السيرة الذاتية للمسيري نقلاً عن الكاتب اعتزازه بأصوله واهتمامه بقضية الهوية بمعنييها الذاتي والعام، فهو يكشف عن أنه مبكراً بحث عن أصل عائلته، وتشكل مدينة دمنهور التي ولد فيها المسيري مؤثراً شديد الأهمية في تكوين شخصيته، فلم تكن مجرد مكان ولد فيه، بل مناخاً عاماً مفعماً بالأفكار والرموز، شكّل مصدراً مهمًّا لرؤيته للعالم، وهي رؤية تبلورت بعد أن رفدتها روافد أخرى عديدة، وحسب المسيري فإن هذه النشأة جعلت منه باحثاً مثابراً فـ«أبناء البرجوازية الريفية -وأنا منهم- ينشؤون في خشونة، خلافاً لأبناء البرجوازية الحضرية».
ويشبّه الكاتب -نقلاً عن المسيري- علاقته بالمجتمع في دمنهور بعلاقة علماء الاجتماع الألمان بمجتمعهم، والمعرفة الإنسانية -حسب المسيري- هي في نهاية الأمر معرفة مقارنة، فنحن لا نعرف الشيء في حد ذاته وإنما نعرفه من خلال مقارنته بشيء آخر، وبالفعل قام علماء الاجتماع والمفكرون الألمان مثل ماكس فيبر وغيره، بمقارنة المجتمع الحديث الذي كان يتشكل أمام عيونهم، بالمجتمع التقليدي الذي كان يتآكل من حولهم، فرأوا الحداثة بكل مزاياها وعيوبها، كما رأوا المجتمع التقليدي بكل مزاياه وعيوبه، وقد حدث بالنسبة لي -والكلام للدكتور عبد الوهاب المسيري-الشيء نفسه، حيث ولدت في دمنهور في أواخر الثلاثينات، وكانت دمنهور تعد من أكثر المدن تصنيعاً في العالم بسبب وجود عدد كبير من محالج القطن فيها، ولكنها كانت أقرب إلى القرية منها إلى المدينة.
وذكر الكاتب أن المقابلة بين المفهومين التعاقدي والتراحمي اكتسبت مكاناً مركزيًّا في مشوار المسيري الإنساني والفكري معاً، ويعبّر المسيري عن ذلك بقوله: «ويبدو أن مقولتي المجتمع التراحمي والمجتمع التعاقدي أصبحا مكوناً أساسيًّا في فكري، وهاتان المقولتان هما اللتان جعلتني فيما بعد أتبنى الماركسية، ثم في نهاية الأمر أتبنى الأيديولوجية الإسلامية كإطار لفهم العالم والتعامل معه، وربما يكون هذا أيضاً هو سبب عدائي مثلاً للإمبريالية والرأسمالية والصهيونية، ولكل أشكال الاستغلال ومسببات الصراع بين البشر، فالعالم في تصوري ليس ساحة قتال والإنسان ليس ذئباً لأخيه الإنسان».
وكما نقل الكاتب ذكر المسيري أن الإطار الذي تحرك فيه في طفولته هو «الأسرة الممتدة» وهي الأسرة التي تتسع لتشمل أفراداً غير الأب والأم والأبناء، وقد تمتد أفقيًّا فتشمل أفراداً من الجيل نفسه، وقد تمتد رأسيًّا لتشمل الأجداد والأحفاد. ويميز الدكتور المسيري بين البرجوازية الريفية والبرجوازية الحضارية، فالبرجوازية الحضرية في القاهرة والإسكندرية كانت تعاني أو تتمتع بمعدلات عالية من التحديث والتغريب والعلمنة والآن العولمة، أما البرجوازية الريفية فهي بمنأى عن هذه التحولات إلى حد كبير، وإن كان من الملاحظ أنها بدأت هي الأخرى تلحق بما يسمى ركب التقدم.
ثم يقدم الكاتب حياة المسيري، فقد نشأ في أسرة تجارية ثرية ليس عندها اهتمام كبير بالثقافة، وحينما كان عبد الوهاب المسيري في السنة النهائية في مدرسة دمنهور الثانوية بدأت بعض الأسئلة الأساسية تهاجمه بإلحاح شديد، وكان من أهمها أسئلة خاصة بأصل الشر في العالم والحكمة من وجوده وعن أصل الكون، وينتقل المسيري إلى مرحلة الدراسة الجامعية حيث انتقل إلى جامعة الإسكندرية، وكانت تجربة فريدة إلى أقصى درجة، وكان الأساتذة عبر سنوات دراستي -الكلام نقلاً عن المسيري- يدعونني إلى منازلهم لنتحاور، ولم يكن الحوار بيننا ينقطع، وفي هذه الأيام، كنت شيوعيًّا أصوليًّا وكانوا هم من الديمقراطيين الليبراليين إلا أنهم كانوا يتحملون تحليلاتي الطبقية الاختزالية!، وقد أعطتني هذه المناقشات الفرصة لارتياد آفاق جديدة، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، بدا عبد الوهاب المسيري يتحول من الاهتمام بدراسة الأدب الإنجليزي إلى دراسة الظاهرة الصهيونية التي طرحت عليه شأنه شان أي عربي يجد نفسه في الولايات المتحدة الأمريكية.
ويكمل الكاتب نقلاً عن الدكتور المسيري: «كتبت للملحق الثقافي في السفارة المصرية في هذا الوقت (عام 1965م) لتغيير موضوع بعثتي من دراسة الأدب الإنجليزي إلى دراسة الصهيونية والعبرية، وصدر لي في عام 1965م كتيب صغير عن الصهيونية باللغة الإنجليزية يسمى إسرائيل: قاعدة للاستعمار الغربي، وحينما عدت إلى مصر واصلت المسيرة فكتبت دراسة بعنوان «نهاية التاريخ» حررها الدكتور أسامة الباز ثم قدمني للأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي قرأ المخطوطة، وعينني باحثاً بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، وقام بإرسالي إلى الولايات المتحدة وأعطاني مبلغاً ضخما لشراء مجموعة كتب كانت بمثابة نواة لمكتبة مركز الدراسات، وبدأت رحلة التخصص في الصهيونية إلى أن استقلت من العمل بالجامعة عام 1990م.
جوانب عايشتها من حياة المسيري
يذكر الكاتب معرفته بالدكتور المسيري وقال: «تعرفت على الدكتور عام 1994م، ومن الملامح التي لا يمكن إغفالها في الجوانب التي عايشتها في علاقتي بالمسيري، ملمح الباحث الدؤوب، فهو يعمل بشكل يبعث على الدهشة، وقد كشفت تجربة المسيري عن حجم معاناة المثقف العربي وضآلة المردود المادي لهذا العمل الراقي، وقد توفي الدكتور عبد الوهاب المسيري عن سبعين عاماً في الثالث من يوليو 2008، بعد أن ترك عدداً كبيراً من المؤلفات المهمة التي أسست مدرسة جديدة في الفكر الإسلامي».
التحولات
عرف الكاتب في هذا الفصل مفهوم «المراجعة الفكرية» وهي تعبير يقصد به الانتقال من رؤية معسكر فكري لمعسكر آخر، ومن تبني رؤية فكرية للذات والآخر والعالم إلى تبني رؤية مغايرة، ورغم أن الظاهرة ليست طارئة على الساحة الثقافية المصرية، فإن المصطلح يعد حديثاً نسبيًّا. وتأكيداً من الكاتب لبعض الحقائق المتصلة بالفكرة المجردة، فالمراجعة تعبير عن حيوية فكرية، فمن لا يراجع أبداً إما أنه ممن يقدِّسون قناعتهم حتى لو كانت في أمر جزئي أو موضوع خلافي، وإما أنهم مرضى بالكسل العقلي القريب من «العاهة»، والظاهرة أقدم بكثير من اللحظة الثقافية العربية الإسلامية الراهنة، بل لها جذور دينية، فقد كان أئمة الإسلام يعتبرون أن العودة للحق نوع من التعبد، وقد زاد الاهتمام بها كظاهرة فكرية، فكانت للمرة الأولى موضوع رسالة أكاديمية نوقشت مؤخراً في إحدى الجامعات المصرية وتناولت الرسالة التحولات الفكرية لعدد من المفكرين العلمانيين نحو الاتجاه الإسلامي، وذكرت أنها جاءت متزامنة مع ظهور الصحوة الإسلامية في مصر، وهو ما أضفى على تلك التحولات أهمية خاصة، كما عرضها لاتهامات علمانية صورت تلك التحولات على أنها لم تنتج عن قناعات شخصية، وإنما جاءت للبقاء في المشهد ومحاولة اجتذاب قطاعات جماهيرية.
ووضح الكاتب أن النصف الأول من القرن العشرين شهد تحولات نحو التوجه الإسلامي تميزت بالاشتباه وعدم الحسم وضعف التأسيس النظري، وعدم الوضوح، ووجود الصيغ الاعتذارية عن كتابات سابقة، لكن مع عدم وجود مراجعة نقدية جادة، وكانت تحولات تلك الفترة معرفية ناتجة عن أزمة وجدان أكثر منها قناعة فكرية جديدة، وتكشف في أقصى تجلياتها عن محاولة لإعادة الاعتبار للوجدان الديني كدين بالمعنى القلبي وليس كمنظومة اجتماعية شاملة.
ويستنتج الكاتب على ضوء ما سبق أن التحول الفكري في حياة عبد الوهاب المسيري شكّل معملاً مهمًّا، أولاً لأنه يشير إلى شخص مهموم بالبحث عن هوية ونظارة يرى العالم من خلالها، ويرى المسيري أن أصوله الثقافية ساعدته على هذه المرجعية الجذرية، بل إنه يعتبر أن التحول كان حتميًّا لسبب بسيط، لأنه من البداية كان عنده إيمان بالإنسان ككائن مركب لا يمكن رده لقوانين المادة البسيطة، وإلى جانب هذا، كان هناك في نهاية الأمر المخزون الضخم من التراث الديني الإسلامي وتجربته مع المجتمع التقليدي في دمنهور في الطفولة والصبا، ولم يكن التحول عملاً «عقلانيًّا» محضاً بل كانت له أبعاده النفسية، بل إن المسيري -وحسب كتاب «حوارات مع الدكتور عبد الوهاب المسيري»- «قاوم» الإيمان بشدة قائلاً: أحياناً يخيل لي أنه لم يقاوم أحد الإيمان الديني أكثر مني، وذلك بسبب نزعتي العقلية الحادة، فلم تحل النماذج التفسيرية المركبة محل النماذج التفسيرية المادية البسيطة دفعة واحدة، بل كانت عملية طويلة شاقة استمرت أكثر من ربع قرن، ويضيف الدكتور المسيري في المصدر نفسه: كانت الأسئلة تطاردني وتنهكني، خاصة حينما آتي بفعل فاضل، يكلفني الكثير، إذ كان عليَّ كل مرة أن اتخذ قراراً وجوديًّا، ليس له أي أساس في النموذج المادي المهيمن: أن أفعل الخير وأتحاشى الشر وأدفع الثمن. وهذه الحزمة من الرغبات المتعارضة، ربما تكون من أكثر تحليلات المسيري صراحة وإثارة في حديثه عن المراجعة الفكرية، التي من الواضح أنها كانت شاقة وثرية لم تنفرد الأفكار النظرية بحسم نتيجتها على النحو الآلي الذي يتصوره كثيرون.
ويوضح الكاتب أول محطة وصول في هذا الطريق المضني في كتاب «الفردوس الأرضي»، الذي بدأه المسيري عام 1971م وانتهى منه عام 1979م، وأودع فيه كل تساؤلاته، فهاجم منطق التقدم الدائم وتسليع الإنسان. والعنصر الحاسم في انتقال الدكتور المسيري من عالم المادية الضيق إلى عالم أكثر رحابة، هو تبلور النموذج الكامن في وجدانه وتحوله إلى النموذج الحاكم، ويذهب إلى أن الإنسان كائن حر يصنع التاريخ، والمسيري يعتبر أنه وصل إلى الله من خلال الإنسان وليس العكس، وهو ما يقول عنه: «ولا يزال هذا هو أساس إيماني الديني، وهو ما أسميه (الإنسانية الإسلامية)».
ويقول الكاتب -نقلاً عن المسيري في وصف مراحل التحول-: «التحقت في بداية حياتي لفترة قصيرة بـ «الإخوان المسلمين» في مرحلة الصبا، ثم اتجهت إلى الماركسية، وعشت مرحلة من الشك، ولكن مع الالتزام بالقيم المطلقة مثل الحق والخير والجمال والإيمان بأن الإنسان كائن غير مادي وضرورة إقامة العدل في الأرض، وبالتدريج وعلى مدى رحلة فكرية استغرقت أكثر من ثلاثين عاماً عدت مرة أخرى إلى الإسلام، لا كعقيدة دينية وحسب ولا كشعائر، وإنما كرؤية للكون وللحياة وكأيديولوجية».
نظرة على المسيرة والمراجعات
قدم الكاتب عبارات قالها المسيري محاولةً للولوج إلى عالمه الفكري، فيقول المسيري: «هناك جانب آخر تعلمته في صباي وجزء من شبابي في دمنهور، هو الإيمان بفكرة المجتمع، فالإنسان ليس فرداً مطلقاً، بل هو جزء من مجتمعه، السائد الآن أن كل مجتمع يتكون من أفراد، وأن الفرد يسبق المجتمع، ولكني تعلمت في دمنهور أن المجتمع يسبق الفرد دون أن يلغيه، فالمجتمع التقليدي زاخر بالشخصيات المتنوعة على عكس ما يتصور الكثيرون»، ويقول: «عقب قيام ثورة يوليو انضممت إلى هيئة التحرير، فقد كنت شأني شأن الكثيرين في جيلي، نرى أن سبيل النهضة والتنمية هو الحزب الواحد، والدولة المركزية القوية. وأعتقد أن تجربتنا التاريخية في مصر والعالم الثالث أثبتت خلل هذه الرؤية».
وهناك من يرى أن المسيري كان يجب أن يوضع في سياق تطور الفكر المصري خلال القرنين التاسع عشر والعشرين لفهم مسار تحولاته الفكرية، فهو وليد الحالة التي تبلورت في أربع مدارس فكرية، المدرسة الأولى التي تبلورت على يدي محمد علي باشا وبعثته العلمية الأولى للطلاب المصريين إلى فرنسا ودعت إلى التحديث العلمي، والمدرسة الثانية تبلورت على يد طه حسين وكانت تدعو إلى اقتباس النموذج الأوروبي حضاريًّا وفكريًّا، أما المدرسة الثالثة ظهرت كرد فعل وتيار مضاد ينتقد الابتعاد عن حقيقة الدين الإسلامي وكان أحمد أمين من أبرز رموزها.
عبد الوهاب المسيري ناقداً أدبيًّا والملامح العامة لرؤيته النقدية
تتسم كتابات المسيري النقدية بدرجة مدهشة من التنوع والثراء، إذ كتب عن شعر المقاومة الفلسطينية، وكتب نقداً لعدد من الروايات مثل: «السيد من حقل السبانخ» لصبري موسى، وعلى الجانب الآخر قدم للقارئ العربي عدداً من الشعراء الإنجليز من تشوسر إلى هاردي مروراً بالشعراء الرومانتيكيين والفيكتوريين، ومن النتاج النقدي للمسيري بالإنجليزية كتابات عن: «التشيؤ والحداثة وما بعد الحداثة».
وعبّر الكاتب عن رؤية المسيري أن الناقد الأدبي يواجه ثنائية أساسية هي ثنائية الواقع الموضوعي في مقابل الواقع الأدبي (الذاتي)، أي الواقع كما يصوره الأديب، فأي نص أدبي له حدوده المستقلة عن الواقع، فهو ينتمي إلى عالم الأدب قدر انتمائه لعالم الواقع، ومثل هذه النظرة رغم أهميتها وضرورتها ليست كافية، فالنص الأدبي، في نهاية الأمر تعبير عن واقع إنساني، ورغم أنه تعبير غير مباشر، إلا أنه ليس نصًّا مغلقاً، معلقاً في الهواء، وإنما هو نص متعيِّن، جذوره في الواقع، يوجد في عدة سياقات، كما أن النص الأدبي يوجد داخل سياق أدبي واجتماعي أيضاً، وكلها سياقات متداخلة تؤثر في العمل الأدبي وتترجم نفسها إلى عناصر أدبية.
وعن العلاقة بين الشكل والمضمون في الدراسات النقدية يقول المسيري: إن استخدام الصورة المجازية العضوية لوصف عمليتي الإدراك والتفسير غير مفيد بالمرة من الناحية التحليلية، والناقد الأدبي لا يمكنه أن يقول ما يود أن يقول دون عودة للنص، والنص لا يمكنه أن يبوح بمعناه دون الناقد الأدبي. ويؤكد المسيري أن النص لم يكن قط نظاماً مغلقاً على ذاته، فثمة انفتاح بين العمل الأدبي من ناحية، ومن ناحية أخرى بين التنوع الثري للحياة الإنسانية، ولذا يرى أن على النظرية النقدية أن تتجاوز حدودها الجمالية الضيقة لتشمل «الثوابت الإنسانية»، وهو يطلق على هذا التوجه النقدي الموضوعي: «النظريات الموضوعية المبكرة أو المنفتحة».
وفي إطار انحياز عبد الوهاب المسيري إلى خيار القول بوجود صلات بين العمل الأدبي وعالم الإنسان بالمعنى الواسع، فهو ينتقد القول بأن حرية الإبداع مطلقة، فالإبداع ليس مطلقاً يتجاوز الإنسان، وحرية الإبداع لابد أن يقابلها حرية المجتمع في أن يدافع عن نفسه وعن قيمه، ويستطرد المسيري: «إن العلمانية شكل من أشكال الحلولية ووحدة الوجود المادية، وقد بدأت عملية الحلول في المجال الاقتصادي، ثم انتقل الأمر إلى السياسة، وإلى كل مجالات النشاط الإنساني الأخرى، بحيث أصبح كل مجال منفصلاً عن أي مرجعية إنسانية عامة، وقد حدث هذا في مجال الفن، أي أن الفن أصبح مطلقاً مؤلَّهاً»، ويذهب المسيري إلى أبعد من ذلك معتبراً «حرية الإبداع» صيحة يطلقونها في وجه كل من يتجرأ ويحتج على رأي ما، وهو يتهم من يدافعون عن حرية التعبير بلا حدود بأنهم جعلوا الفن مطلقاً، سحبوا الإطلاق من أي قيم مطلقة (أخلاقية كانت أم إنسانية أم دينية) وجعلوها شاناً خاصًّا، وأمراً من أمور الضمير.
عبد الوهاب المسيري ناقداً للتفكيكية
أول سمات رؤية المسيري للتفكيكية أنه لا يفصلها عن شخص مؤسسها جاك دريدا اتِّساقاً مع المنهج الذي اتَّبعه المسيري في دراساته لمعظم الظواهر الفكرية، ويتتبع المسيري الأصول الفكرية لنظرية دريدا في التاريخ الفلسفي الغربي، وحسب المسيري فإن دريدا يرى أن ثمة بحثاً دائباً عند الإنسان، أرض ثابتة يقف عليها خارج لعب الدوال الذي لا يمكن أن يتوقف إلَّا من خلال المدلول المتجاوز الرباني، ويؤكد المسيري أن أسطورة الكتابة الكبرى أو الأصلية هي محاولة من قبل دريدا لأن يرفض الرؤية التوحيدية للخلق، أي أن الله خلق آدم وعلمه الأسماء كلها (المعرفة - العقل - اللوجوس)، وبث النور في صدره، نوراً معقولاً وليس محسوساً، وانطلاقاً من هذا نطق آدم وسمى الحيوانات والنباتات، فهي متمركزة حول اللوجوس، والكلام المنطوق تنطق به ذات إنسانية متماسكة تتحدث عن أفكار مستقرة في الذهن. والمنطوق بذلك، يشير إلى الأصل (الحضور واللوجوس) بشكل مباشر ودون وساطة، فهو أقرب إليه وهو أكثر قرباً من نقطة الحضور من المكتوب وأكثر شفافية، ورغم الإحالات الكثيرة في نقد المسيري للتفكيكية على يهودية دريدا وتأثيرها في فكره التفكيكي، فإن المسيري يرى أن عدمية دريدا أكثر تأثيراً في مشروعه التفكيكي من يهوديته، وأنه أخذ من اليهودية آليات وبُنى.
نموذج من النقد التطبيقي
يعرض الكاتب في هذا الفصل نزوع المسيري المبكر إلى دراسة الأدب، في إطار يتجاوز «أدبية النص» الأدبي ووضعه في نقطة يلتقي فيها الأدب والفكر، ومن هنا كان جهد المسيري الأكبر في دراسة العلاقة بين الأدب المسمى «صهيونيًّا» والفكرة الصهيونية قد تحقق في صورة عظيمة الدلالة في دراساته العديدة للجوانب المختلفة للأيدولوجيا الصهيونية، ليس اعتماداً على الأدبيات الصهيونية فقط، بل على نصوص من «الأدب الصهيوني»، كما كتب المسيري في مدى شاسع من المواضيع تشمل النقد الأدبي والأدب الإنجليزي والشعر الرومانتيكي والأدب العربي شعراً وروايةً ومسرحاً وقصةً قصيرةً وشعراً عاميًّا، مع اهتمام خاص بما عرف بشعر المقاومة الفلسطيني.
كما يطرح الكاتب قضية على درجة عالية من الحساسية الناجمة عن الوضع المعقد للشاعر الثوري الذي يسعى إلى التغيير، فالفنان الثوري يعيش هاجس التغيير بدافع شعوره بالهوة العميقة التي تفصل الرؤية التي يحملها في قلبه وعقله عن الواقع الذي يخبره كل يوم، «لذا فإنه يجد نفسه دائم البحث عن كلمات جديدة دائم التجريب للوصول لأشكال جديدة».
ويتناول المسيري الشعر الفلسطيني المعاصر في إطاره الطبيعي بوصفه «جزءاً من منظومة ثقافية معقدة»، ويرفض المسيري «ذلك الميل إلى النظر إلى فلسطين من زاوية ارتباطها بالصهيونية»، ويرى أن من يفعل ذلك «إنما ينظر إلى تاريخها بوصفه مجرد ردّ فعل للاستعمار الاستيطاني الصهيوني»، وقد توّج المسيري دراساته لأدب المقاومة الفلسطيني بإصدار كتابه: «فلسطينية كانت ولم تزل: الموضوعات الكامنة والمتواترة في شعر المقاومة الفلسطيني (مقدمة نقدية ومختارات)».
قضايا المنهج في فكر المسيري: التحيز والموضوعية والنماذج الإدراكية
الرؤية العامة لقضايا المنهج في الفكر المسيري
يوضح الكاتب في هذا الفصل إسهامات عبد الوهاب المسيري الأساسية في مجالات الفكر العربي في توظيف النماذج التفسيرية باعتبارها أدوات تحليلية، ويستمد عبد الوهاب المسيري هذا البعد المنهجي التكاملي من إسهامات علماء الاجتماع خصوصاً ما قدّمه «فيبر» حول النماذج المثالية، كما يعد مفهوم النموذج التفسيري عند المسيري أهم مفاتيح فكره في قضية المنهج، ويتأسس هذا النموذج وفقاً لعمليات التجريد والتنسيق، وهي عمليات تدخل ضمن اختصاصات العقل التوليدي، ومعنى هذا أن العقل ليس آلة فوتوغرافية صماء دورها الأساسي تسجيل الصورة ونقلها كما هي بدعوى الموضوعية، بل إن للعقل دوراً فعّالاً في عملية إدراك الواقع.
وليس النموذج إذن -عند المسيري- «إطاراً للعلاقات النسبية، ولا نظرية لتحديد الأسباب، وليس إطاراً تجريبيًّا صارماً، وإنما هو إطار لتنظيم المعرفة وتحديد العلاقات والتركيبات الداخلية، كما يحتوي المعلومات وينظمها ثم يعيد ترتيبها مع كل معلومة جديدة».
ويذكر الكاتب أن مفهوم النماذج التفسيرية لدى المسيري يتأسس على بناء ثلاثي الأبعاد: العلمانية الشاملة والحلولية الكمونية والجماعات الوظيفية.
عبد الوهاب المسيري وقضية الموضوعية والتحيز
بدأ انشغال المسيري بقضية المنهج من قناعته بأن إجراءات البحث والأدوات التي يستخدمها الباحث والطرق التي ينبغي أن يسير عليها لمحاولة تفسير ظاهرة ما يتم من خلالها استبقاء التفاصيل والمعطيات والمعلومات واستبعاد أو تهميش البعض الآخر حسب خريطة الباحث الإدراكية، كما ينتقل المسيري إلى أنه لابد من تبني رؤية منهجية نابعة من إدراكنا لهويتنا وللأبعاد المعرفية والوجودية في تجربتنا. ولبداية المسيري بشكل منظم سياقان: وجداني إيماني تمثل في تغير الرؤية الدينية والفكرية صاحبه تغير في فلسفة المنهج وأدواته، وسياق معرفي، ومن هنا كوّن المسيري قناعة راسخة بأن المنهج ليس مجرد آليات وإجراءات بريئة، بل هي آليات وإجراءات تتضمن تحيزات محددة وأعباء أيدولوجية، وأساس اختيار الحقائق أكثر أهمية ودلالة من الحقائق في ذاتها.
ويميز المسيري بين الموضوعية الاجتهادية من ناحية، ومن ناحية أخرى الموضوعية الفوتوغرافية المتلقية، ويذهب إلى أن العقل صفحة بيضاء، شيء سلبي بسيط مثل الكاميرا يسجل كل ما حوله دون حذف أو اختيار، ومثل هذا التصور للعقل والإدراك يهمل علاقة الجزء بالكل، والواقعة بالنمط، والظاهر بالباطن، فالكل والنمط والباطن لا توجد في الواقع، وإنما هي أطر يجردها العقل الفعّال، كما يطلب من الباحث أن يكون «موضوعيًّا» بمعنى أن يتجرد من ذاته، والتي تعني أن يُسكت ذاكرته الحضارية وقيمه وضميره وخياله، ومن ثم إبداعه، مما يفقده المقدرة على الربط بين التفاصيل، وعلى رصد الظواهر في كليتها وتركيبتها وتناقضها.
ومن القضايا المنهجية التي يطرحها الكاتب، والتي أولاها عبد الوهاب المسيري اهتماماً كبيراً، ما يسمى «الحقائق الكاذبة»، وهو مصطلح يشير إلى حقائق غير مزيفة، ولكنها ليست كاملة، ومن ثم يمكن توظيفها لتوثيق أي أطروحة مهما كان زيفها، ولتبرير أي سلوك مهما كان ظالماً.
الخريطة الإدراكية والنماذج: نموذج العلمانية الشاملة مثالاً
يوضح الكاتب في هذا الفصل أن كتابات المسيري عن الصهيونية، رغم تعددها وثرائها، فهي «لا تمثل سوى دراسات تطبيقية يختبر خلالها الدكتور المسيري مقولات نظرية قام بتطويرها لدراسة الظواهر الاجتماعية في مواجهة الاتجاهات الداعية لتطبيع الدراسات الاجتماعية».
وقد كانت قضايا المنهج ثمرة طبيعية لرؤية المسيري الفكرية ومحوراً أساسيًّا من محاور مشروعه الفكري، التي يحددها الباحث أحمد مرزاق، ففي المحور الأول: يبتغي «نقد» المشروع المعرفي الغربي؛ لأن الغرب في نظر المسيري تحول «من بقعة جغرافية وتشكيل حضاري له خصوصيته ومفاهيمه إلى البقعة التي يخرج منها الفكر العالمي والإنساني الحديث»، أما المحور الثاني: هو محور «الإبداع»، وهو موجود في الموسوعة بشكل ضمني.
ويرى المسيري أن من بين الأسباب التي ساعدته على الانتقال من عالم الأدب إلى الفلسفة والسياسة، أن كثيراً من أفكاره مترابطة، وتشكل منظومة واحدة، ويرد مصطلح «النموذج» في جل كتاباته إما مفرداً أو مركباً، ويقدم بطريقتين مختلفتين؛ فمرة يسوق الباحث أمثلة متنوعة ثم يصوغ التعريف، وهذا ما يسمى بالانطلاق من الخاص إلى العام، ومرة يقدم التعريف أو بعض عناصره دون إن يُعطي أمثلة، وذلك عندما يأتي هذا المصطلح عرضاً في الحديث، ويقسم المسيري النماذج إلى أنماط ثلاثة: النموذج المثالي والنموذج الفعال والنموذج الفردي، وقد طور المسيري عدداً من النماذج أهمها تلك التي وظّفها في موسوعته «اليهود واليهودية والصهيونية»، فهي تقوم على بناء ثلاثي الأبعاد: العلمانية الشاملة والحلولية الكمونية والجماعات الوظيفية.
وبصورة عامة، يمكن القول -استناداً إلى النموذج التفسيري الذي اعتمده عبد الوهاب المسيري فيما أسماه المتتالية النماذجية العلمانية-: إن العلمانية بدأت بشكل جزئي في مراحلها الأولى حيث الفصل بين مؤسسة الكنيسة ومؤسسة الدولة، مع الاحتفاظ بالقيم الدينية والإنسانية في مجال الحياة الخاصة، لكن مع ظهور أجهزة الدولة والإعلام، اتَّسع مجال الحياة العامة وتقلص مجال الحياة الخاصة وهو ما يعني انفصال الإنسان عن قيمه.
المشروع الفكري لعبد الوهاب المسيري
الإطار العام والملامح الرئيسة
ألَّف المسيري موسوعة ضخمة لم يسبقه إليها أحد في عالمنا العربي والإسلامي، فهي إنجاز معرفي علمي ضخم وثقيل. وأهم ما يميز عالم عبد الوهاب المسيري الفكري: موسوعيته وتعدد مجالات عطائه وتكامل خبراته، من الكتابة الموسوعية إلى الكتابة للأطفال. ولم يكن لديه دافع مسبق للتوصل إلى فكر جديد، وإنما كان هناك بحث عن الحقيقة. ومن العوامل التي يشير المسيري إلى مساهمتها في تحوله من المادية الغربية إلى الإيمانية الإسلامية، أن الفكر الغربي سواء أكان مثاليًّا أو ماديًّا هو في النهاية فكر مادي وينطلق من منهج مادي بحت في النظر إلى الطبيعة والإنسان والحياة، وشعوره بعدم تحقق الإشباع الفكري إلى جانب الرؤية الإيمانية الكامنة في وجدانه، والرؤية الإيمانية بصفة خاصة كانت كامنة في وجدانه وأخذت شكل الإيمان بالإنسان ككائن متجاوز، وعندما وصل المسيري إلى أن النموذج المادي عاجز عن تفسير ظاهرة الإنسان، وأنه لا يمكن تفسير هذه الظاهرة إلا باللجوء لنماذج غير مادية، عاد إلى الرؤية الإيمانية، وحسب تعبير المسيري: «وصلت من الإنسان إلى الله، ولم أصل من الله إلى الإنسان».
وقد أدخل المسيري من خلال رؤيته الفكرية عناصر تم إقصاؤها من العقل العربي بل الإسلامي منذ ما يقرب من قرنين من الزمان، ومن هذه المفاهيم، ما يسميه عبد الوهاب المسيري: «المسافة»، ويرى أنها مرتبطة تمام الارتباط بفكرة الحدود، ووجود الحدود بين الخالق والمخلوق يعني أن المخلوق له حدوده لا يتجاوزها، ولكنها تعني أيضاً أن له حيزه الإنساني المستقل، ولذا يظل الإنسان صاحب هوية محددة وجوهر مستقل، ويفرق المسيري بين المطلقات في الرؤيتين الإيمانية والمادية مستخدماً مفردات: «المعنى والهدف والغاية»، ويعني بها الإيمان بأن العالم له معنى وغاية.
واستدل الكاتب في موقفه من العلمانية بقيام المسيري بعمله الفكري الأهم بعد الموسوعة، وهو «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة»، ويعرض فيه المسيري بعض الأمثلة من توجيه المجتمع عن طريق العلمانية الشاملة، كالتحولات الاجتماعية في الاتحاد السوفيتي، والأفكار التي تبدو محايدة وإن كانت تتضمن في داخلها رؤية علمانية معينة، وقد ركز المسيري في دراسته للمجتمعات العلمانية على الإنسان، ولكن ليس أي إنسان، وإنما الإنسان ذو البعد الواحد، كما وضح أن العلمانية الشاملة ترتكز على مبدأين هما: المرجعية الكامنة والواحدية المادية، ويضيف المسيري: إن نظرتها للإنسان أنه ذو علاقة قوية تبادلية مع الطبيعة، عكس تلك الواحدية الموجودة في العلمانية الجزئية ونظرتها للإنسان، فالعلمانية الشاملة ليست مجرد فصل الدين عن الدولة، بل هي فصل كل القيم سواء الدينية أو الأخلاقية وغيرها عن العالم.
عبد الوهاب المسيري في سياق الفكر الإسلامي
استطاع المسيري أن يجعل التوحيد يشكل نسيج بنائه الفكري بعيداً عن الكلامية التقليدية، وعن «منظومات» كتب العقيدة الجافة، فقدم الدكتور عبدالقادر مرزوق دراسة «التوحيد: كيف ينسج خيوط كتابات عبد الوهاب المسيري؟»، ويرسم فيه صورة متكاملة لهذا الإنجاز المعرفي، فيشير أولاً إلى: ثنائية الله والإنسان كمحور رئيس لمسار المسيري الفكري، فهو دائماً ينص في مشروعه على مركزية طرفي الثنائية، دون أن يبخس أيًّا منهما حقه، وهو يذهب «إلى أن ثمة نموذجاً معرفيًّا كامناً وراء كل قول أو ظاهرة إنسانية، وهذا النموذج هو مصدر الوحدة وراء التنوع، وهو الذي يربط بين كل التفاصيل، فتكتسب معنى ودلالة وتصبح جزءاً من كل، وليس مجرد معلومة جديدة أو طرفة فريدة، والنموذج هو تجلٍّ معين لرؤية الإنسان للكون، التي تدور حول محاور ثلاثة: الإله - الإنسان - الطبيعة»، ولهذا السبب يرى الدكتور المسيري أنه بدلاً من تصفية الثنائية، فـ«قد يكون من الأمانة أن نستدعي ثنائية أخرى ذات مقدرة تفسيرية عالية...»، هذه الثنائية الفضفاضة التكاملية، هي غير الأثينية التي هي ثنائية صلبة تفترض تساوى عنصرين تساويًّا كاملاً؛ ومن ثم دخولهما في حالة صراع، وهي في مقابل الواحدية المادية؛ بمعنى أن الطرفين فيها مختلفان.
ويكشف الكاتب عما أسماه المسيري بلغته «الإنسان الرباني»، إلى جانب التأكيد على الحضور الدائم للإله، وهو الإنسان المخلوق لله، وليس الإنسان الدارويني؛ وانطلاقاً من هذا الإنسان؛ عرف المسيري التوحيد، عرف الله؛ إذ الفضل في انتقاله الحاسم من عالم المادية الضيق، إلى عالم أكثر رحابة، هو تبلور النموذج الكامن في وجدانه، وتحوله إلى النموذج الحاكم، ويتسم هذا الإنسان بأنه الكائن الوحيد الذي يطرح تساؤلات عما يسبب العلل الأولى، وهو الكائن الوحيد الذي يبحث عن الغرض من وجوده في الكون.
وفي سياق التأثير المتبادل بين رؤيته الفكرية ومشروعه النقدي، يقدم الكاتب ما طرحه المسيري تصوراً لدور المجاز اللغوي كأداة لتقريب المسافة بين الدال/ الخالق والمدلول/ المخلوق، فهو يعتبر أن المجاز اللغوي أداة الإنسان للتعبير عن أفكار ورؤى مركبة لا يمكن التعبير عنها إلا بهذه الطريقة، بل إن المسيري يرى أن التوحيد -ومفهوم المسافة وفلسفة التجاوز- يعتبر المعيار الأساسي الذي تحكم في مسار الحضارة الإسلامية، ودون استحضار هذا البعد التوحيدي لا يمكن فهم جملة من القضايا وطائفة من الإشكالات التي ميزت مسار هذه الحضارة عن غيرها من المسارات الحضارية الأخرى.
ويلخص الكاتب السبب المركزي -في رأي المسيري- الذي قاد المعتزلة إلى الاجتهاد والجد في هذه المسالة، كان راجعاً بالأساس إلى كون هذه القضية بمثابة الباب الذي دخل منه «التثليث»، فأفسد توحيد المسيحية الأولى، ولتوضيح هذا «الدافع المعتزلي» قام المسيري بتوليد معاني فلسفية تصورية ذات دلالة عميقة.

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة