تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الإسلام في تياراته الحديثة.. وقفة مع المفاهيم

حسين الشيخ

*
* كاتب من السعودية.
مع انهيار عصر الخلافة، وظهور حركة النهضة في العالم العربي مع وصول الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت، أخذت المجتمعات العربية والإسلامية تعيش تمظهرات وتقلّبات اجتماعية وثقافية جديدة، انتقلت إليها عبر تأثرها بالثقافة الوافدة مع هذه الحملات الاستعمارية الطامعة.
مما أدى إلى ظهور ثقافة وفكر جديد امتدّ إلى البُنى الدينية التي نشأت عليها هذه المجتمعات، مما دفع القيادات الدينية إلى ما يشبه ردّة الفعل، برزت إثرها أطروحات جديدة للدين الإسلامي، وكان على رأس هؤلاء جمال الدين الأفغاني، وتلاه محمّد عبده ورشيد رضا وغيرهم.
وقد تولّد عن ذلك ظهور تيارات إسلامية جديدة، بعضها يدعو إلى التجديد والتحديث، فيما يدعو الآخر منها إلى تقليد واتباع السلف.
وقد وُصفت هذه التيارات الإسلامية تارةً بالتجديد وأخرى بالإحياء، وثالثة بالإصلاح، ورابعة بالنهضة، وخامسة بخلاف هذه وتلك.
وقد رأيتني منجذبًا إلى دراسة هذه المصطلحات والوقوف عندها، من حيث الأصل اللغوي، والمعنى الاصطلاحي الذي استقرّت عليه داخل بيئتنا الإسلامية، ومؤرِّخًا لبعضها.
وسأدرجها هنا تباعًا وفق التسلسل الألفبائي:
1. إحياء الفكر الديني
«الإحياء: كلمة عربية استعملت في اللغة الفارسية أيضًا، لتعني إثارة صحوة جديدة، وتحرك جديد في الدين. وفي اللغة العربية استعملت مكانها -غالبًا- كلمة: (التجديد)» .
يفاد من النص السابق أن التعبير ﺑ(إحياء الفكر الديني) تعبير نشأ خارج البيئة العربية، ووفد إلينا من الثقافة الفارسية، فهو التعبير الذي استعمله كل من:
1. أبو الأعلى المودودي في كتابه: «موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه».
2. والدكتور محمد إقبال اللاهوري في كتابه: «إحياء الفكر الديني في الإسلام».
3. وقد صدر للشهيد مرتضى مطهري كتابان حول هذا العنوان، هما: «إحياء الفكر في الإسلام»، أسهب فيه الحديث عن كتاب الدكتور محمد إقبال، وكتابه الآخر: «إحياء الفكر الديني»، تحدّث فيه عن أهمية تجديد النظر في تراثنا الديني بشِكل واعٍ مواكب للعصر.
وتوالت بعد ذلك بعض المؤلفات العربية والدراسات تحت عناوين مشابهة، تأثرًا بهذا الطرح الذي وفد إلينا من البيئة الإسلامية الفارسية.
- الأصل اللغوي
الإحياء مصدر من الفعل الرباعي المزيد (أحيا)، والإحياء المقصود به هنا الإخراج إلى الحياة، والبعث بعد الموت، وهو فعل استعمله القرآن الكريم كثيرًا في الدلالة على القدرة الإلهية في خلق الحياة من لا شيء، وكذلك الإحياء بعد الموت، وهو المعبَّر عنه ﺑ(البعث)، يقول تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ .
كما أن الإحياء يطلق على إخراج النبات من الأرض التي لم تكن مزروعة، حيث ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن من أحيا أرضًا فهي له.
يقول ابن منظور في لسانه: «وإحياؤها [أي: الأرض]: مباشرتها بتأثير شيء فيها، من إحاطة أو زرع أو عمارة، أو نحو ذلك، تشبيهًا بإحياء الميت؛ ومنه حديث عمرو: قيل لسلمان: «أحيوا ما بين العشاءين»، أي: اشغلوه بالصلاة والعبادة والذكر، ولا تعطلوه فتجعلوه كالميت بِعُطْلَتِه... وإحياء الليل: السهر فيه بالعبادة وترك النوم، ومرجع الصفة إلى صاحب الليل» .
ويفاد من السابق أن المعنى اللغوي للإحياء هو: إضفاء الحياة على الشيء، حقيقةً أو مجازًا.
- المعنى الاصطلاحي
لا يوجد -إلى الآن فيما بين يديَّ من مصادر- معجم عربي يُعنى بتعريف المصطلحات الحديثة المتداولة في اللغة العربية المعاصرة، سوى ما جمعه كلٌّ من الدكتور جيرار جهامي والدكتور سميح دغيم تحت عنوان: «الموسوعة الجامعة لمصطلحات الفكر العربي والإسلامي»، حيث حاولا جمع التعريفات التي وجداها في أهمّ مصادر الفكر العربي والإسلامي المعاصر، والمادّة التي تحتويها الموسوعة -رغم أهميتها- لم يراعَ فيها أن تكون هذه التعريفات دقيقة، ولم أجد فيها تعريفًا واضحًا لهذه المفردة، وقد حاولتُ أن أجد بعض الدراسات الفكرية الحديثة التي قد تتناول المصطلح الذي نحن بصدده، ولم يكن أمامي الكثير الذي اهتمّ بهذا الجانب في مسألة إحياء الفكر الديني، من حيث التأصيل اللغوي له.
وقد وجدتُ التعريف الذي وضعه الشهيد مطهّري له جيدًا فأثبته هنا، يقول فيه: «إحياء الفكري الديني ليس هو إحياء الدين نفسه، بل إحياء التفكير بشأن الدين، وبعبارة أخرى: غسل الأدمغة مما تراكم فيها من انحرافات وتشويهات بشأن الدين.
وما ورد في الروايات عن الدور الذي يمارسه المهدي الموعود (عليه السلام) بشأن تجديد الدين، فإنما يعني هذا اللون من التجديد، تجديد يتجّه إلى إحياء السنّة وإماتة البدعة» .
وحول ما ورد حول لفظ (إحياء السنة وإماتة البدعة) في النصوص الدينية يشير الشهيد مطهّري -بعد ذلك- إلى ما قاله أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة يتذكّر أصحابه البررة، فيصفهم ويقول عنهم بأنهم: «أَحْيَوُا السُّنَّةَ وأَمَاتُوا الْبِدْعَةَ» .
وهناك نصوص كثيرة بهذا المعنى، ولكنها لا تؤدي المعنى الذي يقصده الشهيد مطهري أو من سبقه في الكتابة عن أهمية إحياء الفكر الديني، فالمعنى المقصود من إحياء الفكر الديني هو تجديد النظر في المسائل التي يتناولها الدين، بحيث تشمل قضايا حديثة، يَشعر الإنسان المتدين معها بهذا الدين بأن معتقده وفكره الذي ينتمي إليه يعيش معه في عصره وواقعه الحياتي اليوميّ، بحيث يظلّ الدين -من دون المساس بهذه القضايا والمسائل- وكأنه ميت، يعيش في القديم والموروث فقط.
وهذا أمر يختلف نوعًا مَّا عن المقصود في الروايات والنصوص الدينية التي تتحدث عن إحياء السنة، حيث تشير هذه النصوص إلى الدور الذي يقوم به البعض في نشر سنة الرسول K التي ما عاد يعمل بها في بعض المجتمعات الإسلامية، واستبدل بها البدعة، ويقصد بالبدعة هنا ما لا صلة له بالدين، وينسب إلى الدين.
وهو أمر يختلف عن إحياء الفكر الديني، ولتوضيح هذا الفرق يمكننا أن نطالع العناوين التي يتناولها الدكتور محمد إقبال اللاهوري -كأحد أسبق من كتب تحت هذا العنوان-، إذ يتناول في كتابه العناوين الرئيسة التالية:
1. المعرفة والتجربة الدينية.
2. المحكّ الفلسفي وتجليات التجربة الدينية.
3. الحرية وخلود الذات البشرية.
4. روح الثقافة والحضارة الإسلامية.
5. مبدأ الحركة في الإسلام.
6. تصور الله ومعنى الدعاء.
7. هل الدين ممكن؟ .
لذا قد لا نوافق الشهيد مطهري فيما ذهب إليه من مقاربة، بين ما يدعو إليه من إحياء للفكر الديني، وبين المعنى الذي ورد في النصوص الدينية.
2. الإصلاح الديني
- ظهور حركة الإصلاح الديني
«الإصلاح الديني (Reformation): حركة دينية ظهرت في أوروبا في القرن السادس عشر تدعو إلى إصلاح الكنيسة وتخليصها من الشوائب والممارسات الخاطئة، وتمخّضت عن ظهور ما يعرف بالكنائس الإنجيلية» .
وتسمى بحركة الإصلاح الديني اللوثري، نسبة إلى مارتن لوثر، الذي دعا إليها عام 1517م، «حين هاجم البابوية، وقال بمبدأ الخلاص من طريق الإيمان، وبأن الكلمة العليا في شؤون هذا الإيمان هي الكتاب المقدّس، لا لرجال الدين» .
وقد ذاع صيت هذه الحركة، وأصبح مصطلح «الإصلاح الديني» مرادفًا لهذه الحركة، التي أدت فيما بعد إلى ظهور البروتستانتية كمقابل للكاثوليكية في المسيحية، ما أدى -بعد ذلك- إلى ظهور مصطلح «الإصلاح المقابل (Counter Reformation)، وهو: اسم أطلقه المؤرخون الألمان على الإصلاح الكاثوليكي الذي تمّ في القرن السادس عشر، ردًّا على الإصلاح البروتستانتي، وكان هدفه الأساس إعادة الكنيسة إلى الحياة الروحية المستندة إلى العقيدة والتقليد معًا، واسترجاع البلاد والنفوس إلى أحضان روما، بعد أن انفصلت عنها» .
ولهذا يقول الشيخ محمد شقير -فيما يخص الإصلاح الديني في شقّه الإسلامي-: «إن مفهوم الإصلاح الديني لا يعني -بالضرورة- إنتاج مذهب جديد، أو إبداع منظومة من المفاهيم الدينية، بل إن مفهوم الإصلاح يتسع ليشمل حتى القضاء على مدرسة فكرية قد ارْتَدَتِ اللباس الديني، وهي لا تمتّ إلى الدين بصلة» .
وذلك ليؤكد انفصال الحالة الإسلامية في الإصلاح الداخلي الإسلامي عن الحالة المسيحية، فليس بالضرورة أن يحصل عنها ظهور مبدأ أو مذهب جديد كما هي الحالة مع الواقع المسيحي.
وذلك لينفي عن الإمام الحسين (عليه السلام) أن حركته -التي قال عنها إنها بغرض إصلاح حال الأمة الإسلامية- كانت وراء ظهور مذهب الشيعة، وأنه مذهب دخيل عن البيئة الإسلامية السائدة وقتذاك.
- الأصل اللغوي
(الإصلاح) من الفعل (أصلح)، «والإصلاح نقيض الإفساد... والاستصلاح ضدّ الاستفساد» .
والإصلاح يوصف به العمل والأداء، بينما الصالح يوصف به العمل ذاته، بأنه صالح أو فاسد، يقول الأزهري في تهذيبه: «والصالح في نفسه، والمصلِح في أعماله وأموره» .
- المعنى الاصطلاحي
معنى الإصلاح الديني في مفهومه الغربي -الذي تبنته الموسوعات والمصادر العلمية- هو: الحركة التي قام بها مارتن لوثر من نقد للكنيسة الكاثوليكية نشأ عنها مذهب مسيحي جديد، هو المذهب البروتستانتي.
بينما بقي مفهوم الإصلاح الديني في الساحة الإسلامية مفهومًا ملتبِسًا غير واضح أو محدَّد.
يقول الباحث محمد الحداد في هذا الصدد: «منذ أكثر من قرن، احتلّ مفهوم (الإصلاح الديني) مساحة كبرى في الخطاب الإسلامي المعاصر، وكغيره من المفاهيم التي تحيل إلى شيء لم يتحقّق بعد، فإن استعماله ظل مضطربًا، شعاراتيًّا، على عكس مقالاته باللغة الأوروبية... التي اتخذت معاني دقيقة محدّدة.
لا شكّ في أن كلمة (إصلاح) ومشتقاتها قد استعملت منذ القديم في الخطاب الإسلامي، إلا أن استعمالها كان لغويًّا، ولم تصبح مفهومًا مركزيًّا إلا مع الحركة التي بعثها جمال الدين الأفغاني (1838 - 1897م)، ومحمد عبده (1849 - 1905م).
حتى إن كلمة (الإصلاح الديني) أصبحت تستعمل في الغالب للإشارة إلى هذه الحركة، دون سابقتها [الحركة الوهابية]... أو لاحقتها [الإخوان المسلمين]» .
وفي موضع آخر يقول الأستاذ الحداد: «في التواريخ الأوروبية فإن مرادفات كلمة (إصلاح) تكتب بحرف بداية كبير: (Majuscle)، لأنها تعني حدثًا تاريخيًّا معيّنًا، هو تلك الحركة التي قادها لوثر (1483 - 1546م)، وزنغلي (1484 - 1531م)، وكلفن (1501 - 1564م)، وأنتجت الانقلابات السياسية والعسكرية والفكرية المعروفة.
وفي حين لا يهتم المسلمون بتاتًا بإجراء مقارنة بين الحركتين، كذلك لا يخطر على بال الأوروبيين القيام بهذه المحاولة،...
هناك إذًا سؤال منهجي مطروح: هل يمكن تعميم كلمة (الإصلاح) لتمثل تجارب دينية خاضتها مجتمعات مختلفة، مع البحث بعد ذلك عن خاصيات كل تجربة، أم ينبغي المحافظة على نقاوة المصطلح، فنفرق بين الإصلاح المسيحي الذي أفرز حركة معروفة ومحدّدة، هي البروتستانتية، وحركة الأفغاني وعبده التي لم تتحول إلى تيار ديني واضح المعالم، وبالتالي لم تحقق إصلاحًا كذلك الذي تحقق في الغرب؟» .
وأنقل هنا ما ذكره الدكتور حسن الترابي تعريفاً لمصطلح (الإصلاح) يظهر فيه ما يحكم هذا اللفظ من التباس داخل بيئتنا الإسلامية، يقول الدكتور الترابي: «و(الإصلاح) كلمة تستعمل -الآن- في العربية مقابلة للاتينية الأصل (Reform) التي تعني تغيير ظاهر الحياة أو تبديله، وفي المناهج السياسية «الإصلاحية» تعني -إلى جانب ذلك-: اتخاذ التدرُّج في سلامٍ وسيلةً لذلك الغرض.
لكن (الإصلاح) في لغة القرآن أجمع لابتغاء كل الصلاح أصولاً وظواهر بكل الوسائل المشروعة، دعوةً رفيقة صبورة متدرّجة أو جهادًا حميًّا مسارعًا نحو المقاصد الخيِّرة.
و(الإصلاح للأمر العام) هو محاولة تغيير سياسي حركة نحو المُثُل العامّة إذا غفل أو قصّر عنها المجتمع بواقعه، أو إذا جمد على مواقف الحقّ ومظاهره القديمة رغم ابتلاءات وظروف طرأت فرّقت بين المجتمع والمُثُل، مما يستدعي مذاهب وصورًا جديدة لتصلح وتستقيم مع الحقّ أبدًا.
و(الحركة الإصلاحية) للمجتمع هي حركة (إحياء) بعد (موات) في لغة القرآن. وبدو في النفوس (يقظة) أو صحوة إيمانية (Revival, Rebirth)، لا تقتصر على حال النفوس الخاصّة كما هو شأن العقائد الدينية التي انتهى إليها الغرب، بل هي تتصدق بحركة نشاط (الاجتهاد) الفكري وتجديد الرؤى الفقهية للدين بعد الخمود والتقليد، وذلك (الإحياء) (Renaissance) هو بدوافع الإيمان المذكّر (بعث) للطاقة والنهضة المادية في الحياة، لا تجمد أو تعقم أو تموت، بل تتحرّك وتنمو وتنتج جديدًا،...
ومهما تكن سنن التحوّلات السلطانية البشرية فإن شرعة الدين ومنهاجه حقًّا أن يقوم (بالإصلاح) سواد المجتمع المؤمنين الموحّدين الذين إن مُكّنوا في الأرض -دعوةً أو جهادًا- أقاموا شعائر الصلة بالله دفعًا وتقوى، وآتوا الزكاة، تكافلاً وعدلاً، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، إجماعًا على سياسة استقامة في سبيل الصلاح والفلاح في الخاتمة» .
فتارةً الإصلاح -في نظر الدكتور الترابي- هو حركة سلمية تدعو إلى الرجوع إلى القيم الإسلامية التي ترك العمل بها المجتمع، وتارة هي حركة ثورية تلغي الوضع القائم وتأتي بوضع جديد، وتارة هي حالة نفسية فردية، بينما هي في نهاية المطاف حركة يقوم بها سواد المجتمع بروح ثورية تغييرية جامحة.
- الإصلاح بين الرجعية والتقدمية
لا يقتصر معنى الإصلاح في داخله على معنى التجديد والنظرة المتقدّمة للأمر الذي تمارس عليه عملية الإصلاح.
وهي نقطة تشير إليها الباحثة الفرنسية صابرينا ميرڤان في كتابها (حركة الإصلاح الشيعي) تقول في ذلك: «العرف لدى المستشرقين الفرنسيين يقول باستعمال لفظة (Reformism)، أي: حركة الإصلاح، أما العرف لدى الناطقين بالإنكليزية والألمانية فهو استعمال لفظة (Modernism)، أي: حركة الحداثة والمعاصرة، على أنه من الواضح أن الفريقين يشيران إلى الظاهرة نفسها، وهي ظاهرة تلجأ إلى الإصلاح والتحديث معًا، فيما يتعلّق بأمور الدين. فالفرنسيون -على ما يبدو- يرجحون كفة العودة إلى نصوص الدين في صورته الأصلية، أما الناطقون بالإنكليزية أو بالألمانية فيركزون على التصادم بين الدين والعلوم الحديثة وتقنياتها، متجنبين بذلك الخلط بين موضوع دراساتهم وحركات إصلاحية أخرى متقدّمة في تاريخ الإسلام، كحركة ابن تيمية (ت 1328م)، أو حركة الوهابيين التي لا صلة لها بالحداثة» .
وقد عدَّت الدكتورة ميرڤان الحركة الوهابية من الحركات الإصلاحية في تاريخ الإسلام المعاصر، كما عدها كذلك كثيرون، منهم الدكتور محمد الحداد، الذي نقلنا عنه نصًّا في صدر بحثنا للمعنى الاصطلاحي لمعنى (الإصلاح الديني).
وذلك لأن فكرة الإصلاح لدى المفكرين المسلمين تختزن في داخلها ذلك التناغم القائم على عنصرين مهمين، هما:
1. «أخذ ما يمكن أن يضع المسلمين على سكّة التقدّم من أوروبا، من غير أن يؤدي إلى إفسادهم [أي: المسلمين].
2. واستقاء القيم الأخلاقية من مناهل الإسلام، وهي قيم يحتاجونها للدفاع عن أنفسهم في مواجهة الأفكار الفاسدة التي انتهجتها أوروبا نفسها» .
وهذه المواءمة بين هذين العنصرين تعتمد مخرجاتها التطبيقية كثيرًا على الخلفية الثقافية لدى المصلح، فإن كانت هذه الخلفية قائمة على الانفتاح والفكر التجديدي، كانت الحركة التي يقودها سائرة في هذا الاتجاه، وعلى العكس من ذلك، حينما يكون المصلح ذا فكر منغلق، يمجّد السلف إلى حدٍّ لا يرى في الحاضر ما هو صالح، فإن حركته ستكون حركة إصلاحية ذات توجه منغلق.
3. تجديد الفكر الديني
أشرنا في مطلع حديثنا عن مفهوم الإحياء إلى أن المصطلح الذي شاع بديلاً عنه في الثقافة الإسلامية العربية هو مصطلح (التجديد).
وسأحاول -هنا- أن أعرض لأصله اللغوي، متبعًا له بما وجدته له من معنى اصطلاحي فيما بين يدي من مصادر:
- الأصل اللغوي
التجديد مصدر الفعل (جدَّدَ)، وهذا الوزن (فَعَّل) يأتي في ثمانية معانٍ، منها: «صيرورة شيء شبه شيء، كَـ(قَوَّسَ زيد)، و(حَجَّر الطينُ)، أي: صار شبه القوس في الانحناء، والحجر في الجمود» .
فَـ(جدّد الفكر الديني)، بمعنى جعله شبه جديد، أي: ألبسه -من حيث تناول المسائل والقضايا فيه- الشؤون الجديدة المعاصِرَة.
- المعنى الاصطلاحي
جميع الأطروحات التي تتناول إعادة النظر إلى الشؤون الدينية لا تتحدّث عن جوهر وأصل الدين، وهو أمر ينطبق على مسألة (تجديد الفكر الديني)، ذلك أنه يتناول إعادة النظر إلى الفكر والدراسات والنظريات التي تتناول الشأن الديني، دون النظر إلى أصل الدين، فالدين باقٍ، كما نزل على رسول الله، و«حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة».
ولذا يقصد بتجديد الفكر الديني: إعادة النظر إلى التراث الإسلامي، ومراجعته، مع موازنته بما يطرح من فكر حديث، لإظهار الرأي الإسلامي في هذه المسائل الحديثة، من قبيل: حقوق الإنسان، بما يتضمن حقوق المرأة، والطفل، ومسألة النظام السياسي الحاكم، ومسألة التعاقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، وغيرها من المسائل.
فكل هذه المسائل تُعرَض على النصوص الإسلامية للتعرّف إلى وجهة النظر الإسلامية فيها.
وبذلك يرى المتتبِّعُ الفكرَ الدينيَّ مواكبًا للطرح الفكري الإنساني الجديد، ليمكن وصفه حينها بالجديد.
وقد استحسن كثير من المفكرين المعاصرين التعبير ﺑ(التجديد)، لما يتناقله رواة الحديث من قول عن رسول الله K أنه يظهر في كل مئة عام من يجدد هذا الدين.
تقول الباحثة ميرڤان في مفاضلتها بين الإصلاح والتجديد: «ولئن كان منهل الإصلاح في القرآن، فإن أصل التجديد في السُّنة.
ويستند مفهوم التجديد إلى حديث يبعث بمقتضاه الله إلى الأمة من يجدد دينها أول كل مئة سنة. ويؤمِّن هذا الحديث إحياء الإسلام بصورة منتظمة، بمقتضى مبدأ صحة التطبيق لتعاليم الدين لدى جماعة المؤمنين، بحسب أحكام الرسالة، كما وردت في القرآن والسنة» .
ولا أستبعد أن يكون لهذا الحديث الذي تشير إليه الباحثة ميرڤان الأثر الواضح لاستعمال لفظ (التجديد)، وكونه أكثر مقبولية من غيره داخل البيئة الإسلامية.
كما أن لفظ (التجديد) لا يتضمن في معناه -استنادًا إلى أصله اللغوي- ما يشير إلى تغيير الجوهر أو استبداله، وهو -هنا- الدين، بل يحمل في داخله اللغوي إظهار الدين بمظهر الجديد، دون المساس به كأصل ومرجع أساس.
بينما لفظ (الإحياء) قد يحمل مفهوم البعث، الذي قد يفهم منه معنى الثورة على القديم ورفضه.
4. التنوير الديني
التنوير (enlightment) كان «اتجاهًا ثقافيًّا ساد أوروبا الغربية في القرن الثامن عشر بتأثير طبقة من المثقفين والمفكرين، عرفوا باسم (فلاسفة التنوير)، وكانوا صحفيين وكتّابًا ونُقَّادًا ورُوَّادَ صالونات أدبية، أمثال: فولتير، وديدرو، وكوندورسيه، وهولباخ، وبيكاريه.
ولكن هؤلاء المفكرين أخذوا عن الفلاسفة العقلانيين ديكارت واسبينوزا وليبتنز ولوك، الذين طبعوا القرنين السابع عشر والثامن عشر بطابعهم الثقافي، حتى أطلق على هذه الفترة: «عصر العقل (age of reason)»، وكان التنوير نتاجه.
ويقرن عصر التنوير بالتاريخ الفكري/ الاجتماعي لكل من: إنكلترا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، الممتدّ بين تاريخ إعلان الملكية الدستورية في إنكلترا (1688م) والثورة الفرنسية (1789م)، مع اختلافٍ في تحديد المرحلة الزمنية لشيوعه في كل بلد» .
- الأصل اللغوي
(التنوير) مصدر من الفعل الرباعي المزيد (نوّر)، وهو الوزن الذي يأتي في ثمانية معانٍ، منها: «التكثير في الفعل، كَـ(جَوَّل) و(طَوَّفَ)، أي: أكثر من الجولان والطوفان، أو في المفعول، كَـ﴿غَلَّقَتِ الأَبْوَابَ﴾ ، أو في الفاعل، كَـ(مَوَّتَتِ الإبل وبَرَّكَت)،...
وثالثها: نسبة الشيء إلى أصل العمل، كَـ(فَسَّقْتُ زيدًا)، أو (كَفَّرْتُهُ): نسبته إلى الفِسق أو الكُفر» .
وربما يكون الأصل اللغوي لِـ(التنوير) -هنا- هو المعنى الأول، بمعنى: كثرة النور، وبخاصّة إذا علمنا أن هذا العصر سمّي في بعض المصادر بعصر الأنوار، دلالة على الكثرة.
وقد يكون من نسبة الشيء إلى أصل العمل، وهو النور، فالتنوير عملية إرجاع الفكر إلى النور، المقصود به -هنا- نور العقل، وهو ما يقابل الحالة الظلامية المتخلفة.
- المعنى الاصطلاحي
مصطلح التنوير -عادةً- لا يقرن بالشأن الديني، وذلك للمرجعية التاريخية في ظهور هذا المصطلح، حيث قامت حركة التنوير العقلي في أوروبا على رفض القديم، بما يشكل الدين فيه العمود الفقري، بحيث عَدَّ دعاة التنوير الدين «لا يمثّل تنويرًا، ولا يكوِّن حداثةً، ولا يصنع تقدُّمًا، وهذا يعني أن التنوير لا يكون دينيًّا، وأن الدين ليس مرجعية للتنوير» ، هذا من ناحية الخلفية النظرية.
أما من ناحية التطبيق العملي في ذلك العصر، فإن «عصر التنوير نقل العلوم الطبيعية وعلم الإنسان والمجتمع إلى مقدّمة اهتمام المفكر والسياسي، وجرّد الفكر من أسر الدين والميتافيزيقية، وظهرت أول مرّة بوضوح في الإنتاج الفكري التناقضات الناجمة عن التطور المادي الاقتصادي/ العلمي، تناقض بين المعرفة والإيمان، نشأ معه العلم الجديد أداة لإخضاع الطبيعة وتحول في ممارسة الإنسان لحياته، تناقض بين الحق الطبيعي والمؤسسات المستتبة والمقدّسة التي عمل عصر التنوير على دكّ أسسها، وتناقض من نوع جديد بين المصلحة الفردية والجماعية في إقامة نظام اجتماعي» .
لذلك قد يكون هذا التعبير من التعبيرات المحدَثَة، التي قد لا تتناسب وما يحمله من ثقل تاريخي، يتعارض والفكرة التي يُراد نسبتها إليه داخل البيئة الإسلامية.
وقد وجدتُ من استعمله في بعض الكتابات الحديثة، كان من هذه المصادر كتاب الشيخ زكي الميلاد (الإسلام والإصلاح الثقافي)، حيث يقول في تعريفه: «وجماع القول: أن التنوير في الرؤية الدينية يتشكّل على قاعدة العقل الذي لا يتصادم أو يتفارق مع الدين، وهذا هو الفارق الجوهري بين الرؤيتين الدينية وغير الدينية.
ونحن اليوم بأمسّ الحاجة لاستكشاف وتعميق مكونات التنوير الديني لتغيير الصورة عن الإسلام والخطاب الديني» .
ولا أجدني مؤيدًا لسماحة الشيخ الميلاد في إقحام هذا المصطلح في بيئتنا الإسلامية، وذلك لما يختزنه من استتباع للغرب في تسمياتهم لمراحل التقدّم والنهضة عندهم، ونحن لسنا مضطرين لاستيراد مثل هذه المصطلحات.
كما أن هذا المصطلح -حسب الأستاذ الميلاد- يحمل في طياته اتهامًا للطرف الآخر بالظلامية والسوداوية في نظرته للأمور والسير على غير هدى.
وبالإضافة إلى ذلك، «أسجل بعض التحفظ على التعبير ﺑ(التنوير الديني)؛ ذلك أن الآيات التي استشهد بها الأستاذ الميلاد كانت تعطي صفة النور لله سبحانه، ولما يصدر عنه من تعاليم وشرائع ورسالات، ومنها شريعة الإسلام وما تحمل هذه الشريعة من نصوص، كالقرآن الكريم، لذلك يمكن إطلاق صفة التنوير الديني على ما يقوم به الأنبياء، أو على الكتب الإلهية، ويمكن إطلاق اسم التنوير الديني أو الإسلامي على حركة الدعوة الإسلامية التي قام بها نبينا محمد K.
أما ما يدعوه الأستاذ الميلاد ﺑ(التنوير الديني) في هذه النقطة الذي يقصد به الرؤية الحديثة والجديدة للدين، فلا أظن أنه من المناسب إطلاق عبارة التنوير الديني عليها، ما دامت فهمًا بشريًّا للنصوص الدينية، وأفضِّل -بدلاً من ذلك- أن يعبَّر ﺑ(التنوُّر الديني)، وهي العبارة التي توحي بأن من يمارس هذه العملية يحاول أن يتبصّر -بما لديه من النصوص الدينية- ويعالج ما يواجهه من قضايا حديثة بنظرة دينية منفتحة، ويكون هديه وَفْقَ هذه النصوص الدينية» .
5. الحداثة في الفكر الديني
مصطلح الحداثة من المصطلحات التي شاع استعمالها في منتصف القرن الماضي في مجتمعاتنا العربية، وبخاصّة فيما يتعلّق بالحداثة في جانبها الأدبي والفني، حيث ظهرت الدعوات إلى تبني نمط جديد في كتابة الشعر العربي، يتجاوز التفعيلة والبحور الخليلية برويها وقوافيها المحدّدة والمنضبطة.
وهو بخلاف المنحى الذي اتخذه هذا المصطلح في أوروبا والعالم الغربي، حيث لم تقتصر دعوات الحداثة -هناك- على الجانب الفني والأدبي، بل تعدتها إلى النظم السياسية والفكرية والعلمية.
«وقد عرفت الإنسانية -في تاريخها- حداثتين: الأولى: أدبية فكرية فنية سياسية فلسفية حقوقية، ولدت في أثينا، ومنها انتشرت في أرجاء العالم. وشغلت قرنًا ونصف القرن من الزمان، القرن السادس ومنتصف القرن الخامس قبل الميلاد، وقد انقطعت هذه الحداثة في العصور الوسطى بسبب الهيمنة الدينية الكاثوليكية، لكنها عادت مؤثرة فاعلة منذ عصر النهضة.
أما الحداثة الثانية فهي حداثة مادية، موطنها الجغرافي عواصم العالم المتقدّم علميًّا وتقنيًّا.
وهي تبدأ زمنيًّا من نهاية القرن التاسع عشر، وتنتهي بنهاية الحرب العالمية الثانية.
وقد بدأت نزعة الحداثة تظهر في الأدب منذ منتصف القرن التاسع عشر، في أعمال الأدباء الفرنسيين: شاتوبريان، وبودلير، ورامبو.
وقد انهارت الحداثة، وانهار معها ما تحمله من مضامين، وكان السبب الكامن وراء ذلك أن صناعها رفضوا كل قديم، وأعيتهم الحيلة والوسيلة في إيجاد البديل» .
وهذه النزعة في الحداثة التي ظهرت في الغرب كانت قد ظهرت كردّة فعل ضدّ الكنيسة، مما جعلها نزعة تقطع صلتها مع القديم وتناوئه، مما أسس تاليًا لتيار ونزعة جديدة تؤكّد أهمية الاستفادة من التراث، وأهمية أن يكون الفكر الحديث امتدادًا للفكر القديم، وهي النزعة التي سميت بتيار (ما بعد الحداثة).
وهذه مسألة لم تكن حاضرة في الحداثة العربية في جانبيها الفني والأدبي، حيث أكّد منظروها عمق اتصالها بالقديم وتواصلها معه، وعدم رفضها للقديم في سياقه التاريخي، الذي كان حديثًا وقت نشأته وظهوره، وهذه نقطة أكّدها كثيرًا الشاعر أدونيس، يقول في بيان الحداثة: «إن الحداثة -مبدئيًّا- ليست غربية أكثر مما هي عربية. وإذا كان ثمة تفاوت بين الغرب والشرق في ممارستها التطبيقية، فإنه فرق في الكم لا في النوع. وظني أن هذا التفاوت هو ما ينبغي أن يدفعنا أساسيًّا إلى أن نعيد النظر بشكل نقدي شامل وجذري، في ماضينا المعرفي وحاضرنا على السواء،...
هل يمكن لأحدنا اليوم أن يعرف عالمه الذي يعيش فيه بالمعرفة التي أنتجها الغزالي أو ابن سينا -مثلاً-؟... وهذا السؤال لا يتضمن إنكارًا لقيمة هؤلاء في تاريخية إنتاج المعرفة العربية ومشكليتها، إنما يتضمن التوكيد على أننا اليوم -رغم أن عالمًا ثقافيًّا/ لغويًّا واحدًا لا يزال يجمعنا- نُعنى بأشياء وموضوعات لم يعنوا بها، ولهذا فإن من المحتّم علينا -إن كُنَّا خلاَّقين بالفعل- أن نقاربها بطرق مغايرة لطرقهم،... ماذا يعني -إذًا- البقاء في أشكال المعرفة والمقاربات الماضية؟ إنه ببساطة يعني الخروج من التاريخ. لكن التخلي عن تلك الأشكال لا يعني تنكرًا لتاريخنا وأصالتنا،... ذلك لأن الأصالة هي الطاقة الدائمة على الحركة والتجاوز في اتجاه المستقبل» .
فأدونيس -هنا- يؤكّد نقطة مهمّة، وهي أن الحداثة التي يدعون إليها كتيار، لا تنتمي إلى خارج البيئة العربية أو الشرقية، وكأنه آتٍ من الغرب، كما كان يُتهم من مخالفيه، إنما هو امتداد للأدب العربي، ولكن بأشكال تتلاءم والعصر الراهن.
ويقول الدكتور محمد عابد الجابري مؤكّدًا هذه النقطة: «الحداثة لا تعني رفض التراث، ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه ﺑ«المعاصرة»، أعني مواكبة التقدّم الحاصل على الصعيد العالمي،... فطريق الحداثة عندنا [نحن العرب] يجب -في نظرنا- أن ينطلق من الانتظام النقدي في الثقافة العربية نفسها، وذلك بهدف تحريك التغيير فيها من الداخل،... والهدف: تحرير تصورنا لِـ«التراث» من البطانة الأيديولوجية والوجدانية التي تضفي عليه -داخل وعينا- طابع العامّ والمطلق، وتنزع عنه طابع النسبية والتاريخية» .
- الأصل اللغوي
الحداثة مصدر للفعل حدُث، وهو من الحديث ضدّ القديم، وهذا المصدر (فَعَالَة) يأتي من الفعل على وزن (فَعُلَ)، مثل: فصُحَ فصاحة.
ولم يرد من تصريفات مادة (حدث) المصدر (حداثة) قديمًا، فهو من الكلم الجديد، الذي استحدثه المثقفون العرب متأثرين بما ظهر في الغرب من نزعة الحداثة.
فالحداثة -هنا- بمعنى (الجِدَّة).
- المعنى الاصطلاحي
«يطلق مصطلح الحداثة (Modernism) على نتاجات المجتمعات المتقدّمة في التقانة والسياسة والاقتصاد والاجتماع،...
والحداثة مشروع غربي قام على أسس تتقدمها الفردية... ومن أسس الحداثة الغربية: العقلانية» .
وتعرفها الموسوعة العربية العالمية بأنها: «مصطلح واسع يشير إلى مذاهب وآراء وممارسات نقدية في الدين والأدب والمعمار والمجتمع، وتنطوي الحداثة -في الغرب خاصّة- على رفض التقاليد ومحاولة إلغاء الماضي والبحث عن اتجاهات ورؤى جديدة تلغي الميتافيزيقا، وتؤكّد دور الفرد» .
وبسببٍ من الخلفية التاريخية التي يحملها مصطلح الحداثة، قد يكون إلصاقه بالجانب الديني فيه شيء من الغرابة، إلى درجة عدم الملاءمة، وذلك بفعل الثقل التاريخي الذي يتضمّنه هذا المصطلح، بحيث لا يكون من المناسب وصف حركة التجديد في الفكر الديني الإسلامي بأنها نوع من الحداثة، إلا من باب إطلاق المعنى اللغوي عليها.
وقد دعا الدكتور توفيق السيف في كتابه (الحداثة كحاجة دينية) إلى أن تصل نوبة الحداثة إلى الفكر الديني، وألَّا تقتصر -في عالمنا العربي والإسلامي- على الشأن الأدبي والفني، منبهًا إلى عدم الإصابة بنوع من العقدة النفسية تجاه هذا المصطلح في حال أطلق على الشأن الديني والتراثي .
6. المعاصرة في الفكر الديني
ربما لا يطلق هذا التعبير -بهذه الصيغة التي أوردتُها كعنوان فرعي- كثيرًا في المقالات والدراسات التي تتناول الفكر الديني الحديث، وإنما كثيرًا ما نقرأ عبارة: (الفكر الديني المعاصر)، فيقال المفكر الفلاني من رواد الفكر الديني المعاصر، وهذه من القضايا الإسلامية المعاصِرَة، وغير ذلك.
- الأصل اللغوي
المُعاصَرَة من العَصْر، وهو: «الوقت في آخر النهار إلى احمرار الشمس،... والعصر: الزمن، ينسب إلى مَلِك أو دولة، أو إلى تطورات طبيعية أو اجتماعية، يقال: عصر الدولة العباسية، وعصر هارون الرشيد، والعصر الحجري، وعصر البخار والكهرباء» .
وهي مصدر للفعل (عَاصَر)، وهذا الوزن من الفعل له معانٍ عديدة، منها: «الإغناء عن الفعل المجرّد، نحو: عاقب، وحاول، وعافى، وبالى» ، تغني عن الأفعال المجرّدة التالية: عقب، وحول، وعفي، وبلي. وعاصر -هنا- تغني عن (عَصَر).
فالمعاصرة هي النسبة إلى العَصْر بمعنى الزمن.
- المعنى الاصطلاحي
لم أجد -فيما بين يديّ من مصادر- تعريفًا محدّدًا لمصطلح (المعاصرة)، ولكن يفهم من استعماله أن المقصود به: تحديث القضايا التي يتناولها الفكر الديني لتَمُسَّ العصر الذي تكتب وتدرس فيه، وعدم الإغراق كثيرًا في قضايا وشؤون الماضي.
ويؤيّد هذا المعنى ما يذكره الدكتور حسن حنفي، إذ يقول في حديثه عن المعاصرة: «لا تعني المعاصرة ما يحدث لكثير من مثقفينا من رغبتهم في التمتّع بمزايا العصر الحديث كطبقة مستقلّة متميزة عن غيرها، ومن ثمّ تنشأ دائرة صغيرة داخل الدائرة الكبيرة، ثمّ تصبح الدائرة الصغيرة في مركز السلطة أو أخذ القرارات...، بل تعني المعاصرة تفتُّت هذه الدوائر ونزولها إلى الواقع العريض وتعلّمها منه ورؤيتها لما يدور تحت أقدامها، لا لما يحدث فوقها.
لا تعني المعاصرة التأنق والتهندم، بل معاناة الحياة اليومية التي تعانيها كافة الطبقات ذات الأيادي القذرة. تعني المعاصرة -إذن- إعطاء الأولوية للواقع على الفكرة، حتى يصبح الفكر هو رؤية هذا الواقع نفسه، ويتمّ ذلك في قراءتنا للنصوص الدينية أو للتراث القديم، فإذا كانت الأصالة هي تحويل الفكر إلى واقع، تكون المعاصرة هي تحويل الواقع إلى فكر» .
7. النهضة الدينية
من أكثر المصطلحات رواجًا في وصف تحديث الفكر الديني -مع مصطلح الإصلاح- هو مصطلح (النهضة)، وهو مصطلح يعود إلى عصرٍ ساد أوروبا في فترة من الفترات، يشير إلى «حركة الانبعاث الفني والأدبي والعلمي التي نشأت في إيطاليا في القرن الرابع عشر الميلادي، واستمرّت حتى القرن السابع عشر، التي امتدّت إلى أنحاء مختلفة من أوروبا، وبذلك كانت مرحلة انتقالية بين القرون الوسطى والعصر الحديث.
من أسبابها
1. ظهور المدن وازدهارها.
2. وبروز طبقة جديدة من الناس تعمل في ميداني التجارة والصناعة، وتتحدّى طبقة أمراء الإقطاع، من حيث الثروة والقوة والثقافة.
3. وهجرة عدد من علماء القسطنطينية إلى إيطاليا عقب استيلاء السلطان محمد الفاتح عليها عام 1453م،...
4. واتصال الأوروبيين عمومًا بحضارة العرب في الأندلس والشرق،...
5. وحركة الكشوف الجغرافية التي أدت إلى اكتشاف رأس الرجاء الصالح والعالم الجديد (أمريكا).
وقد تميزت النهضة ﺑ:
- العودة إلى المفاهيم والقيم الكلاسيكية والإغريقية والرومانية.
- وبانتشار الاتجاه الإنساني.
- وازدهار الأدب والفن.
- واختراع الطباعة.
- وانبلاج فجر العالم الحديث» .
وهذا تأريخ للنهضة بوصفها حقبةً عاشتها المجتمعات الأوروبية، وفي مقابل هذه الحقبة التاريخية، عاش العالم العربي والإسلامي ما عُرِفَ بعصر النهضة أيضًا، يؤرّخ له عادةً بسيطرة نابليون على مصر وظهور الطباعة فيها.
يقول الباحث صقر أبو فخر: «ظهر مصطلح (عصر النهضة) في العالم العربي في أواخر القرن التاسع عشر، ليشير إلى الحقبة الزمنية العاصفة التي أعقبت مرحلة الانحطاط التركي العثماني التي سيطرت على المنطقة العربية برمّتها طوال أربعة قرون متواصلة.
ويكاد يجمع معظم المؤرخين على أن (عصر النهضة) هذا دشّن ظهوره بنزول قوات نابليون بونابرت على البرّ المصري في سنة 1798» .
ويقول الدكتور رضوان زيادة: «تحدّد الكتابة التاريخية عصر النهضة زمنيًّا بفترة الانتقال من العهد العثماني إلى عهد الانتداب الأوروبي» .
في حين يشير الباحث أحمد الموصللي إلى أن عصر النهضة يمكن تحديده بأكثر من ذلك، يقول: «يحدّد العديد من المفكرين عوامل النهضة بعدة قضايا خارجية فرضت على العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، منها على سبيل المثال:
1. الحملة الفرنسية على مصر (1798 - 1801م).
2. البعثات العلمية إلى أوروبا، التي ابتدأ بها محمد علي باشا، ثم استقدام الخبراء والتقنيين الفرنسيين ابتداءً من العام 1820م.
3. انتشار حركة تبشيرية واسعة في البلاد العربية في القرن التاسع عشر، فأنشأت جمعيات عديدة نشطت في ميادين الترجمة وتحديث اللغة العربية والإرساليات وإنشاء المدارس والجامعات،...
إن عملية التحدي بين الإسلام والعرب من جهة، والغرب من جهة أخرى، رسمت إذًا معالم الفكر النهضوي الذي تطوّر وسط التجزئة الإقليمية والاجتماعية، لذلك تحولت حركة الإصلاح الإسلامي إلى حركة ربطت الانحلال السياسي بالانحلال الديني» .
ولكن مصطلح النهضة لا يقيّد ﺑ(الدينية) أو غيرها من القيود، بل يقال عصر النهضة دون أي قيود في العادة.
وذلك لأنه لم يرتبط بالشأن الديني في بدء ظهوره، كما أن النهوض بالحركة الدينية لم يكن من سمات هذا العصر، بل غالبًا ما يرتبط بالنهضة العلمية والثقافية والاجتماعية والصناعية.
وهو مصطلح لا يحمل في داخله -من الناحية التاريخية- أيَّ تعارض والشأن الديني، بخلاف بعض المصطلحات، مثل: التنوير، والحداثة، وغيرهما.
- الأصل اللغوي
النهضة من الفعل (نَهَض)، يقال: «نهض ينهض نهوضًا: قام يقظًا نشيطًا، ويقال: نهض من مكانه إلى كذا، ونهض له: قام وتحرّك إليه مسرعًا. ونهض إلى العدوّ: أسرع إلى ملاقاته،...
(النهضة): الطاقة والقوّة. والنهضة: الوثبة في سبيل التقدّم الاجتماعي أو غيره. ويقال: كان من فلان نهضة إلى كذا: حركة... (محدثة)» .
- المعنى الاصطلاحي
لم أجد -فيما رجعت إليه من مصادر- تعريفًا دقيقًا يصف عصر النهضة، سوى ما رأيته له من تحديد زمني عاشته أوروبا، ظهر في القرن الرابع عشر الميلادي في إيطاليا سرعان ما وجد طريقه إلى بقية البلدان الأوروبية الأخرى، طاوَل مجالات الفن والأدب والصناعة والعلوم الطبيعية والأوضاع الاجتماعية، وشكّل مرحلة انتقالية من القرون الوسطى إلى العصر الحديث، الذي يؤرخون له بأنه ظهر في القرن السابع عشر الميلادي.
كما أنه (أي مصطلح النهضة) انتقل إلى العالم العربي مع بداية القرن التاسع عشر، مع الحملة الفرنسية على مصر.
وأحب هنا أن أنقل ما ذكرته الأديبة الراحلة مي زيادة من تعريف للنهضة، فهو يلقي شيئًا من الضوء على هذا المصطلح، تقول في ذلك: «لكلمة «نهضة» التي نستعملها بمعنى (Renaissance) معنيان اثنان، أحدهما: تجدّد الأمة في مجموع أحوالها بعامل أو عوامل استفزّتها وتغلّبت على العوامل الأخرى، كالنهضة الأدبية الفنية في أوروبا في القرن الخامس عشر، والنهضة العلمية والآلية في أوروبا وأميركا في القرن المنصرم، وفي هذا القرن العشرين. أما المعنى الآخر، فهو: الانتباه لوجوب إحداث التغيّر والشعور بابتداء وقوع ذاك التغيّر. فالتجدّد هنا هو: التيقّظ والرغبة في الأخذ بما أخذ به آخرون، فوسع عندهم مجال الحياة فاستفادوا به وخسروا، وتنعّموا وتوجّعوا. هو تحفّز ومباشرة جميعًا» .
خاتمة
وفي ختام هذا العرض، أجد من المهم الإشارة إلى بعض النقاط التي يمكن استفادتها ممّا مرّ أعلاه، وهي على النحو التالي:
1. عندما نطالع المصطلحات السبعة التي استعرضناها تباعًا في أعلاه، نجدها تنقسم قسمين: قسم وافد، وآخر أصيل، فنجد مصطلحات: الإصلاح الديني والتنوير والحداثة والنهضة، مصطلحات وفدت إلينا بفعل التلاقح الغربي الإسلامي، والانفتاح الإسلامي على الفكر الغربي في العصر الحديث. في حين نجد مصطلح التجديد، وإلى حدٍّ ما مصطلح (الإصلاح) لهما جذورهما الإسلامية. كما أن التأثر بالثقافة الفارسية ولّد ظهور مصطلح الإحياء في الفكر الديني، وهو مصطلح لاقى رواجًا جيِّدًا على مستوى الساحة العربية وافدًا إليها من الشرق.
2. جميع هذه المصطلحات تؤكّد نقطة مهمّة، وهي أن الدين يحمل في داخله من المرونة ما يجعله قابلاً للتجدّد والتحديث، مع تغير ظروف الزمان والمكان، مما يؤسس لفكرة: «صلاحية الدين في كل عصر ومصر».
3. بعض هذه المصطلحات يحمل في داخله -بفِعل العوامل التاريخية والخلفية الفكرية في ظهوره- موقفًا سلبيًّا من الدين، وهما مصطلحا: التنوير، والحداثة، ما يجعل تبنِّيهما لوصف تجديد الفكر الديني أمرًا متسامحًا فيه، وكذلك يحمل معه قدرًا من الاستتباع والاستنساخ للتجربة الأوروبية في التحديث، لذلك قد لا يميل البعض إلى استعمالهما في وصف الحركة التجديدية الإسلامية، إلا من باب الاستعمال اللغوي وليس الاصطلاحي.
4. جميع هذه المصطلحات التي استعرضناها لها أصولها اللغوية، وقد تستعمل في كثير من الأدبيات الدينية بهذه المعاني اللغوية، وليس بالضرورة أن تستعمل بالمعنى الاصطلاحي الذي قد يتناقض -في بعض الأحيان- والمعنى المقصود منها.
5. أشرنا أثناء تناولنا لمصطلح (الإصلاح الديني) إلى أن الإصلاح لا يعني -بالضرورة- الاتجاه نحو التحديث والتجديد، بل قد يكون اتجاهًا سلفيًّا رجعيًّا، كما هو الحال مع بعض الدعوات الدينية ذات الصبغة المتشدّدة، فيما يكون معناه في مكان آخر هو اتجاه تجديدي داخل البيئة الإسلامية.


 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة