تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الفلسفة وسؤال المنهج

الدكتور مزي عبد القادر

مقاربة نقدية لمقولة الأنا أفكر الديكارتي

ـ 1 ـ

يعتبر سؤال المنهج من الأسئلة الأكثر حضوراً في الفلسفة الحديثة، ويظهر ذلك جليًّا في الفلسفة القاريَّة على وجه الخصوص، وتحديداً منذ بداية عصر النهضة إلى غاية ظهور المنهج التجريبي على يد «فرنسيس بيكون» (1561 - 1626)، ثم استمر التساؤل حول المنهج بعد ذلك فحاز على مساحة واسعة من مجال التفكير الفلسفي؛ فبينما كتب الفرنسي «رينه ديكارت» (1591 - 1650) «مقالة في الطريقة» (Discours de la méthode) عام 1633، نلاحظ أن الإنجليزي «جون لوك» (1632 - 1704) كتب من بعده «محاولة في الفهم البشري» (Essai sur l’entendement humain) عام 1690 حينما حاول الإجابة عن سؤال: ما الذي يمكننا معرفته وكيف يتسنى ذلك؟ ثم بعده كتب الألماني «إيمانويل كانط» (1724 - 1804) «نقد العقل الخالص» (Critique de la raison pure / Kritik der reinen Vernunft) سنة 1781 و «نقد ملكة الحكم» (Critique de la faculté de juger / Kritik der Urteilskraft) سنة 1790.

وكما هو واضح من الناحية التاريخية، يبدو أن نص «ديكارت» في القسم الرابع من كتابه «مقالة في الطريقة»، والذي أعلن فيه عن المقولة المركزية في فلسفته ممثلة في «الكوجيتو» = «أنا أفكر، إذن أنا موجود» (Cogito, Ergo sum / Je pense, Donc je suis)، هو بمثابة نص تأسيسي لسؤال المنهج في الفلسفة الحديثة.

فكيف يمكن فهم «الأنا أفكر الديكارتي» داخل مجموع الأنساق الفلسفية العلمية الأخرى؟ أو بعبارة أخرى؛ كيف يمكن التفكير مع «ديكارت» وضد «ديكارت» نفسه في مسألة «الكوجيتو»؟

ارتبطت الحداثة الفلسفية بمسألة العقل ومركزيته ومكانته في تفسير موضوعات المعرفة، غير أن الفلسفة الحديثة هي في حد ذاتها نتاج ذلك التطور الهائل الذي حصل في الفكر الأوروبي إبان عصر النهضة، الذي كانت إرهاصاته الأولى في «إيطاليا» منذ بداية القرن الرابع عشر، والذي استمر منتشراً في مراكز حضارية كثيرة من بلاد القارة الأوروبية إلى غاية نهاية القرن السادس عشر، حيث بدت ملامح الثورة العلمية التي ارتكزت أساساً على ضرورة إعادة النظر في مناهج المعرفة. هذا وإن كان من المعروف أن مصطلح النهضة لم يشع في الاستعمال إلا سنة 1855 من خلال الكتابات التاريخية للمؤرخ الفرنسي «ميشلي جول» (Michlet Jules) (1798 - 1874).

لقد سيطر المنهج الأرسطي على مجالات المعرفة المختلفة ردحاً من الزمن مما أدى إلى تخلف ظهور علوم الطبيعة وتطورها، فلم تحظ الأفكار العلمية الأولى التي ظهرت إلى الوجود منذ بواكير الفلسفات الطبيعية في ملطية على يد «طاليس» (625ق.م - 547ق.م) و«أنكسيماندر» (611 ق. م - 547 ق. م) و«أناكسيمانس» (586ق.م - 526ق.م) و»فيثاغورس» (570ق.م - 490ق.م) وغيرهم بأي اهتمام خارج الغطاء العام للمنهج القياسي العقلي الذي يبني النتائج على مقدمات عقلية يجعل منها قواعد عامة غير قابلة للشك والدحض.

لقد أدخل «أرسطو» (384ق.م - 322ق.م) كل المعرفة بتنوعات مواضيعها داخل سياج عقلي سماه «الأورغانون» (Organon)، ورفض أن يعتبره جزءاً من العلم بل جعل منه آلة كل علم أو بمثابة القانون العام لكل العلوم والمعارف.

منذ «أرسطو» إلى غاية «فرانسيس بيكون» (Francis Bacon) (1561 - 1626) لم يتمكن الفلاسفة والعلماء من زحزحة المنطق الأرسطي باعتباره «أورغانوناً» للمعرفة، وذلك بالرغم من بعض المحاولات التي قدمها مفكرو الإسلام كـ«ابن تيمية» (661هـ/ 728هـ) مثلاً.

ـ 2 ـ

لقد كان للتحولات الثقافية الكبرى التي عرفتها العواصم الأوروبية في العصر الحديث دوراً هامًّا في فسح المجال أمام العقل الفلسفي الحر لكي يعيد النظر في جملة المسَلَّمات العقلية التي تأسست عليها المعرفة العلمية القديمة والتي اعتبرت بديهيات لا يمكن التنازل عنها. ويمكن اعتبار «نيكولا دي كوز» (Nicolas de Cuse) (1401 - 1464) من المفكرين الأوروبيين الأوائل الذين عارضوا الرؤية الأرسطية للكون وخالفوا جميع النظريات التقليدية القائمة على دعائم المنطق الأرسطي في فهم الطبيعة ونظام الأشياء، فكان لأفكاره تأثيراً واضحاً بعد ذلك على أعمال الفلكي الكبير «كوبرنيكوس» (Copernic Nicolas) (1437 - 1543) الذي قلب نظرة الإنسان إلى الكون رأسا على عقب.

لقد أخذ سؤال: كيف نعرف؟ حقه من التأمل الفلسفي الناضج بالرغم من المضايقات التي تعرض لها علماء كثيرون؛ من أمثال «جيوردانو» (Giordano Bruno) (1548 - 1600) الذي اتهم بالهرطقة وأحرق بالزيت حيًّا، والفيزيائي «غاليلي» (Galileo Galilei) (1564 - 1652) الذي تمت محاكمته في جوان 1633 بعد أن أصدر عام 1632 مؤلفه الشهير:

(Dialogo sopra i due massimi sistemi del mondo) / (Dialogue sur les deux grands systèmes du monde)

محاولاً إعطاء الدقة العلمية لفرضية «كوبرنيكوس» في الفلك، مما أثار إعجاب الفيزيائي الألماني «كبلر» (Kepler Johannes) (1571 - 1630) آنذاك بأفكار «غاليلي» العلمية.

لم يكن الفيلسوف الفرنسي «ديكارت» في منأى عن ملاحقة سلطة الكنيسة، لذلك همَّ بإحراق كتابه (Traité du monde ou de la lumière) الذي كتبه في العام نفسه الذي تمت فيه محاكمة «غاليلي» أي سنة 1633. مما يعني أن قدرة فيلسوفنا على التعاطي مع ظروف عصره هي التي سمحت لفكره بأن يعرف النور بعد ذلك، حيث يمكن القول: إن جل الفلسفات الحديثة إنما كانت بمثابة تعليقات هامشية على فلسفة «ديكارت»؛ كما هو الشأن بالنسبة لفلسفة «دي لمتري» (La Mettrie, Julien Offray de) (1709 - 1751) صاحب كتاب «الإنسان الآلة» (L’Homme-machine) و«إيمانويل كانط» الذي دارت جل فلسفته بعد ذلك حول سؤال المنهج.

لقد كان التكوين الأساسي لـ«ديكارت» دينيًّا محضاً؛ حيث انضم ما بين (1607 و1615) إلى ما كان يسمى آنذاك بـ(jésuites) (اليسوعيين) بمدرسة «لافليش» الملكية، وحصل عام 1616 على ليسانيس في القانون، لكنه عزم بعد ذلك على التنقل عبر مدن أوروبا حيث استقر على مراحل بالأراضي المنخفضة ثم ألمانيا وإيطاليا ليعود أدراجه إلى «باريس» ما بين (1625 و 1628) ليستقر أخيراً في بلاد الأراضي المنخفضة التي بها كتب جل مؤلفاته مستعيناً أحياناً بسلفه في مدرسة اليسوعيين «مرسون» (Mersenne, Marin) (1588 - 1648)، كما بقي طوال باقي حياته محافظاً على اتصالاته بعلماء وفلاسفة عصره وبخاصة منهم: «بيرول» (Bérulle, Pierre de) (1575 - 1629)، و«غاسندي» (Gassendi, Pierre) (1592 - 1655)، و«هوبز» (Hobbes, Thomas) (1588 - 1679)، و«بير دي فرمت» (Fermat, Pierre de) (1601 - 1665)، و«باسكال» (Pascal, Blaise) (1623 - 1662) وغيرهم إلى غاية وفاته في «استوكهولم» في الحادي عشر من شهر فبراير1650.

مؤلفات ديكارت

1- «رسالة في الموسيقى» (Traité de musique) عام 1618.

2- «قواعد من أجل توجيه الفكر» (Règles pour la direction de l’esprit) 1628/1629.

3- «العالم أو كتاب الضوء» (Traité du monde ou de la lumière) 1633.

4- «مقالة في الطريقة» (Discours de la méthode (suivi de Dioptrique, Météores et Géométrie)) 1637.

5- «تأملات ميتافيزيقية» (Méditations métaphysiques// Meditationes de Prima philosophia) 1641.

6- «مبادئ الفلسفة» (Principes de la philosophie) 1644.

7- «آلام النفس» (Les Passions de l’âme) 1649.

منذ إعلانه عن مجموعة القواعد التي من شأنها توجيه العقل (الفكر)، كان «ديكارت» قد أعلن وحدة المعرفة والفكر البشريين، وذلك على الرغم من تعدد وتنوع المواضيع التي يطبق عليها هذه القواعد. فكل العلوم هي في الحقيقة خاضعة لعلم أولي، وهو الرياضيات العامة (la mathesis universalis)، العلم الشمولي باعتباره معياراً للنظام والقياس.

ذلك الحدس هو أساس الخطاب الموسوم بـ«Discours de la méthode pour bien conduire sa raison et chercher la vérité dans les sciences»، والذي تم نشره عام 1637، ويظهر من خلال عنوانه أنه بمثابة التأسيس لعلم عام يمكن من خلاله الارتقاء بالعبقرية الإنسانية إلى أعلى مستويات الكمال المعرفي.

وهي الفكرة نفسها التي نلمسها في كتاب «مبادئ الفلسفة» (Principes de la philosophie) عام 1644؛ حيث يلاحظ أن «ديكارت» مثَّل الفلسفة كأنها شجرة جذرها الأصلي الميتافيزيقا وجذعها الفيزياء، بينما الفروع التي تخرج من ذلك الجذع هي جميع العلوم التي تترأسها علوم ثلاثة رئيسية هي: الطب، والميكانيكا، والأخلاق.

ـ 3 ـ

إن اكتشاف الحقيقة في حقل العلم هو مشروط بمراعاة القواعد الثابتة، وهي قواعد لا علاقة لها بالمنهج القياسي كما قد يزعم البعض، ولا بتوجيهات المنطق الأرسطي التقليدي الموروث عن المرحلة المدرسية والذي حكم عليه «ديكارت» بالعقم، لأن «أقيسته وأكثر تعاليمه الأخرى لا تنفعنا في تعلم الأمور بقدر ما تعيننا على أن نشرح لغيرنا من الناس ما نعرفه منها، أو هي كصناعة (لول) «Lulle» تعيننا على الكلام دون تفكير».

برفضه للمنطق القياسي الأرسطي وبحثه عن طريقة مجدية وقابلة للتطبيق في كل مجالات المعرفة، كان «ديكارت» يخطو خطواته على الدرب الذي كان قد رسمه في مجال المنطق كل من مواطنه الفرنسي «راموس» (Ramus) (1515 - 1572) الذي كتب عام 1543 «تخطئة أرسطو» (Aristotelicae animadversiones / Réfutation d»Aristote) والإيطالي «كامبانيلا» (Giovanni Domenico Campanella)، وفي مجال علوم الطبيعة والتجريب الانجليزي «بيكون» (Bacon).

إن أساس الطريقة الديكارتية تقوم على المزايا الحسنة للمنطق والرياضيات بشقيها؛ الجبر والتحليل الهندسي، وخالية من عيوبها. ويقوم أساس الطريقة الديكارتية على رفض كل المعارف التي لا تصمد أمام الشك، أي تلك المعارف الظنية التخمينية، وبذلك فالمعرفة الصحيحة هي التي تقوم على مبدأ البداهة والوضوح.

بدلاً من ذلك العدد الهائل من القواعد والشروط التي وضعها «أرسطو» كمبادئ من أجل النقاش السليم وكقانون أساسي للمعرفة، لخص «ديكارت» قواعد المنهج الذي أراده سبيلاً لجميع المعارف في أربع قواعد يجب تطبيقها بكل صرامة، وهي:

«الأولى: ألَّا أتلقى على الإطلاق شيئاً على أنه حق ما لم أتبين بالبداهة أنه كذلك، أي أن أتجنب التعجل والتشبث بالأحكام المسبقة. وألَّا أدخل في أحكامي إلا ما يتمثل لعقلي في وضوح وتميُّز لا يكون لدي معهما أي مجال لوضعه موضع الشك.

والثانية: أن أقسّم كل واحدة من المعضلات التي أنا بصدد بحثها إلى عدد من الأجزاء الممكنة واللازمة لحلها على الوجه الأحسن.

والثالثة: أن أرتب أفكاري فأبدأ بأبسط الأمور وأيسرها معرفة، ثم أتدرج صعوداً شيئاً فشيئاً حتى أصل إلى معرفة أكثر الأمور ترتيباً، بل أن أفترض ترتيباً بين الأمور التي لا يسبق بعضها بعضاً بالطبع.

والأخيرة: أن أقوم في كل الأحوال بإحصاءات وافية ومراجعات عامة تجعلني على ثقة من أنني لم أغفل شيئاً».

وهكذا فإن كل خطوة باتجاه المعرفة العلمية الصحيحة يجب أن تتبع مسلكاً واضحاً يبدأ من المفاهيم الأكثر بداهة ووضوحاً وتميزاً ثم بعد ذلك تتدرج إلى المعارف الأكثر تعقيداً عن طريق التدرج.

ويبدو أن أكثر الأفكار بداهة ووضوحاً هي كوني أفكر، لأن المرء كلما ازداد شكًّا في كونه يفكر ازداد تفكيره، وبالتالي ثبت باليقين عنده أنه يفكر، وهو ما يعني أنه موجود. ثمة إذن تماهٍ بين التفكير والوجود وليس الثاني نتيجة للأول، أي لست موجوداً لأنني أفكر بل أنا موجود لكوني أفكر والعكس. وبشكل أدق إن الفاعل «أنا» هو مشروط بالحال «أفكر»، ليصبح «الأنا» مبجلاً على حد تعبير «نتشه».

إن حقيقة أن المرء يفكر هي أكثر الأفكار صموداً أمام زوابع الشك التي أطلقها «ديكارت» حين ظن أن «لا شيء هو في الواقع على الوجه الذي تصوره لنا الحواس»، لذلك اعتبر باطلاً كل استدلال كان قد حسبه من قبل برهاناً صادقاً، فتساوت بالتالي عنده معرفة اليقظة بأحلام النوم من حيث القيمة. وعليه فإن «أنا أفكر، إذن أنا موجود (ego sum, ego existo)، هي من اليقين بحيث لا تزعزعها شكوك الريبيين، حكمت بأنني أستطيع دون حرج أن اتخذها مبدأ أولاً للفلسفة التي أبحث عنها». ومن ثم فالذات «جوهر (substance) كل ماهيته أو طبيعته لا تقوم إلا على التفكير، ولا يحتاج في وجوده إلى أي مكان ولا يتعلق بأي شيء مادي، بمعنى أن «الأنا» أي النفس التي أنا بها ما أنا (l’âme par laquelle je suis se que je suis) متميزة تماماً عن الجسم».

إن إثبات حقيقة النفس كجوهر يعكس حقيقة الذات الإنسانية ويجعلها بمثابة الماهية التي تسبق وجود الوجود المادي للإنسان، بل وتؤسس للوجود في ذاته كوجود حقيقي للإنسان. ومن ثم يقوم «الأنا» كل جزئيات وعناصر العالم المادي حتى يسهل الوصول إلى الذات المؤسسة لهذا الوجود؛ أي «الأنا» الجوهرية الماهوية حيث ينصت الإنسان إلى وعيه هو. وهي كما تظهر بوضوح فلسفة قائمة على دعامة ميتافيزيقية (مثالية) يكون إثبات وجود النفس فيها مبدأ لإثبات وجود الله ووجود العالم.

لكن إذا كان الكوجيتو هو محض نفس (جوهر ووعي مستقل)، فهذه الذات تبقى ذاتاً شكليةً ببساطة؛ لأنها ذات دون موضوع للتفكير، بمعنى يتحتم علينا طرح السؤال: أنا أفكر في ماذا؟ ذلك حتى لا يبقى الوعي وعياً فارغاً دون أي موضوع للتفكير.

انطلاقاً من هذا المبدأ كانت انتقادات الفيلسوف الظواهري «هوسرل» (Edmund Husserl) (1859 - 1938) لمقولة الأنا أفكر الديكارتي، ومن قبله «نتشه» (Friedrich Nietzsche) الذي سخر من هذه المقولة وكل الفلسفات التي تقوم على العقل وتحتقر الجسد وتمضي مستمرة في الوهم. إن الجسد هو «عقل عظيم وكثرة ذات اتجاه واحد»، وأما هذا «العقل الصغير الذي تسميه روحاً يا أخي، ليس سوى أداة لجسدك، بل أداة وألعوبة صغيرين لعقل عظيم».

ـ 4 ـ

إن حصيلة هذه الانتقادات تقودنا إلى الكشف عن إمكانية المعرفة عن طريق الجسد؛ أي أن المرء بحسب تعبير «ميرلوبونتي» (Merleau-Ponty (Maurice (1908 - 1961) يدرك بجسده الخاص الذي ليست استمراريته «حالة خاصة من الاستمرارية في عالم الموضوعات الخارجية فحسب، بل لا يمكن فهم الثانية أيضاً إلا بالأولى؛ ليست منظورية جسدي حالة خاصة من منظورية الموضوعات فحسب بل وأيضاً لا يفهم التقديم المنظوري للموضوعات إلا بمقاومة جسدي لكل تغير في المنظور. فإذا كان يجب على الموضوعات ألا تبدي لي أبداً إلا أحد وجوهها فذلك لأنني موجود في موقع ما أنظر من خلاله إليها ولا أستطيع رؤيته. إلا أنه إذا اعتقدت في وجود جوانبها الخفية مثلما أعتقد في وجود عالم يجمعها جميعاً ويتواجد معها فذلك باعتبار أن جسدي، الذي هو دوماً موجوداً بالنسبة إليَّ، ومنخرط مع ذلك وسط الأشياء بروابط موضوعية عدّة يجعلها مستمرة في تواجدها معه ويجعلها جميعاً تنبض على بنبض ديمومته». حينها يصبح الجسد بمثابة شرط للمعرفة ولإدراك الموجودات في هذا العالم ويصبح بالتالي «الأنا بصفته مركزاً تشع منه المقاصد والجسد الذي يحملها والموجودات والأشياء التي تتجه إليها ليست عديمة التميُّز بل إنها ليست سوى قطاعات ثلاثة لحقل وحيد».

كما تقودنا أيضاً إلى القول بإمكانية المعرفة الآتية من أصقاع الكون حيث الطبيعة تقدم نفسها جاهزة للتفسير وإن تفاوتت درجة التشدد في الرأي، كما هو الشأن عند «فرنسيس بيكون» (1561 - 1626) «جون لوك» (1632 - 1704) و «جورج بركلي» (1685 - 1753) و «دفيد هيوم» (1711 - 1776) و «كوندياك» (1714 - 1780).

يبقى المشكل «هو أن نفهم كيف تنشأ نسخة من الواقع أو ما يحاكيه داخل الجسد ثم داخل الفكر» الذي يبقى دائماً الهدف من وراء السعي الحثيث للفلاسفة عبر التاريخ لأجل ضبط العلاقة بين المُدرِك والمُدرَك (الواقع) أو بتعبير آخر الذات والموضوع.

 

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة