تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

المنهج في الفلسفة وإمكانية التجاوز البرغسوني

العربي ميلود

*

تُعايش الفلسفة المعاصرة وضعاً متأزماً ومعقداً، ليس على صعيد المنهج فحسب، بل في تغير تركيبة المعطيات العلمية، وانكفاء وتراجع المناهج الفلسفية أمام النزاعات العلموية المعاصرة، والتي تسعى لإحلال العقل التقني محل العقل الفلسفي التأملي، مما انجر عنه تراكم إعلان النهايات: نهاية الميتافيزيقا، نهاية التاريخ، نهاية المثقف، نهاية الإنسان (موت الإنسان)...

وبتنا أشبه ما نكون في عصر ما بعد الفلسفة، أو في عصر ما بعد مناهج الفلسفة، فيقول ميشال فوكو في تقديمه لكتاب نتشه (الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي): «إن ثمة جروحاً نرجسية ثلاثة في الثقافة الغربية: الجرح الذي سببه كوبرنيك، وذلك الذي سببه داروين حين اكتشف أن الإنسان مولود من القرد، والجرح الذي سببه فرويد حين اكتشف أن الوعي يقوم على اللاوعي»، هذه الجروح الثلاث يضاف إليها تغير تركيبة المجتمعات المعاصرة مما انجر عنه تشكلاً مغايراً لما بات يُعرف بمجتمعات المعرفة. لكن تبقى لهذه المعرفة شكلها الخاص يبتعد في كثير من ملامحه عمَّا شيده الدرس الفلسفي للإنسانية جمعاء.

وأمام هذا الوضع المتأزم للفلسفة المعاصرة يجب البحث والتأسيس في الآن ذاته، ليس لتعريف الفلسفة بل في الدور الذي من الممكن أن تمارسه الفلسفة في عالم اليوم. وتأتي هذه الدعوة في ضرورة إعادة البحث عن دور للفلسفة داخل المجتمعات الراهنة بعد أن تعاقبت وتراكمت إعلانات نهاية الفلسفة بشكل ملحوظ جدًّا، مع الماركسية حينما خاطب ماركس الفلاسفة بأن عليهم أن يغيروا العالم لا أن يفسروه؛ «فالفلسفة بما هي أيديولوجيا لا تملك تاريخاً، ولا تتمتع بأي استقلال ذاتي، فهي إذاً لا تملك وظيفة، إنها لا تساهم في تغيير العالم، وإنما في تغيير تفسير العالم»، ومع التصورات الوضعية لأوغست كونت حين اعتبر أن العلم ولّد مؤخراً نتيجة اقتصار الفكر الإنساني على البحث في الماهيات والمجردات وأن إعلان نهاية الميتافيزيقا هي الميلاد الفعلي للعلم، أي يمكننا أن نقرأ هذا التصور بأن الفلسفة ليست علماً.

وقد لا نستغرب هذه الرؤية إذا ما تأملنا بعض النصوص الفلسفية التي ترى العقل الفلسفي المعاصر قاصراً عن إدراك حقيقة الأشياء الفعلية، فلنتأمل جيداً في هذا النص لبرغسون في كتابه المادة والذاكرة إذ يقول: «تساءلت مراراً ماذا كان حدث لو أن العلم الحديث بدلاً من أن ينطلق من الرياضيات لكي يسير في اتجاه الميكانيك وعلم الفلك وعلم الطبيعيات وعلم الكيمياء، وبدلاً من أن يصب جميع جهوده على درس المادة بدأ يأخذ الروح بعين الاعتبار، أي لو أن كبلر وغاليليه ونيوتن كانوا مثلاً علماء سيكولوجيا، لا شك أننا كنا حصلنا أنذاك على سيكولوجيا لا يمكننا اليوم أن نُكوِّن فكرة عنها».

فكيف سنقرأ هذا النص الفلسفي، أليس هذا اعتراف صريح بقصور المنهج الفلسفي عن فهم حقيقة الروح، وإنما يجب علينا أن نستنجد بالمناهج العلمية لتنوب عن المنهج الفلسفي وتحقق ما لم يمكنه تحقيقه. أم علينا أن نزاوج بين المنهجين لتحديد الطبيعة الفعلية للأشياء كما يقول برغسون نفسه لاحقاً في التطور المبدع أنه: «لو اجتمعتا نظرية المعرفة ونظرية الحياة، وابتغتا طريقاً أقرب إلى التجربة ففي وسعهما أن تجدا حلًّا لأكبر المشكلات التي تثيرها الفلسفة.. ولاستطاعتا أن تبينا لنا كيف نشأ العقل، ومن ثمة كيف تكونت المادة».

ربما هذا ما نسميه بأزمة المنهج، وتعود هذه الأزمة التي باتت تعايشها الفلسفة على مستوى المنهج، عقب انفصال علم النفس وعلم الاجتماع بالأخص عنها، وإلى تلك النظرة السلبية التي باتت توسم بها الفلسفة عقب شيوع الفلسفة الوضعية وسيطرة مفاهيمها.

فما طبيعة هذه الأزمة التي تقوض الدرس الفلسفي المعاصر؟ وهل حلت التقنية فعلاً مكان المنهج الفلسفي؟ وكيف سينظر برغسون لهذه الأزمة؟ وما الجديد الذي سيطرحه لإعادة بعث الفلسفة ومناهجها؟

لعل البحث في قضية المنهج الفلسفي هو تعبير عن أزمة متجذرة في الفلسفة الغربية المعاصرة خصوصاً، والأزمة هي تعبير عن خلل في القيمة والفاعلية الاجتماعية للفلسفة، ونحن نعيش هذه الأزمة نتيجة شيوع التصورات المادية للحياة والفكر عموماً أمام اضمحلال العناصر الروحية التي شكّلت الإطار العام لما سميناه بالفلسفة منذ المراحل الأولى للفكر الإنساني، إذ إن العلم المعاصر بات يحدد معايير خاصة للفكر تتحدد من خلاله الفعالية الاجتماعية المتوخاة من ورائه. وبهذا ظهرت الفلسفة الوضعية محاولة تفسير الوجود بأكمله تفسيراً وضعيًّا معلنة نهاية الفلسفة الميتافيزيقية.

الفلسفة في مخاض صراع المادية والروحانية

إن تجلي الصراع والتعارض بين المادية والروحية وامتداد مظاهره إلى مسائل وجودية أعمق أدى إلى إعادة البحث والتفكير في طبيعة الحياة والمعرفة عموماً، والتي قد نمثلها على أنها قوة روحانية يمكن إدراكها أو حتى التعريف بها من خلال عالم الشعور الذي يحمل المعنى الحقيقي للوجود بحيث يجعل الإنسان في اتصال تام بالحقيقة، في حين أن إدراك الأشياء الظاهرة لا يحمل في طياته إلا أبعاد ظاهرية لهذا الوجود بعيدة كل البعد عن المعنى الفعلي له. فهذا الأخير ثاوٍ بشكل مطلق في ثنايا التجربة الشعورية، فالإحساسات والأفكار وأنماط الشعور المختلفة هي التقسيمات الفعلية لهذا الوجود أو هي الوجود بعينه، وبالتالي يمكن من خلال هذه الرؤية الوجودية أن نعرف الحياة بأنها ظاهرة شعورية، وفكرة الآلية والحتمية قد لا تناسب البحث أو التحليل أو حتى التأمل في المناحي المتعددة للحياة.

ولربما كان بزوغ النظرية الروحية في الفلسفة المعاصرة نتيجة شيوع التصورات المادية للحياة، وانتقال أفكارها وتحليلاتها من علوم المادة إلى العلوم الروحية كعلم النفس وعلم الاجتماع، حين تحولت الظاهرة النفسية والاجتماعية إلى شيء جامد قابل للقياس والتجزئة والتحليل والتركيب، وبعدما سيطرت تفسيرات العلم على العالم الظاهري والباطن على حد سواء، إذ تندس المادة في عالم الشعور لتجعل من العقل تلك القوة الخارقة التي تدرك وتحدد طبيعة الوجود العيني والوجود الروحي، وبالتالي تمنح للعلم سلطة إيجاد تفسيرات مطلقة للوجود الذاتي والكلي، تفسيرات تقيم قواعد الاختبار على الحياة عموماً، تفسيرات يراها الروحانيون أنها تقتصر على تلك النظرة الجزئية للعقل المتكيف أصلاً بالمادة والذي لا يستخدم في كل تفسيراته إلا المقولات الآلية للفكر. لكن ستظل هذه النزعة العلمية -حسب غادامير- «متناقضة بذاتها، فهي تحركها الرغبة في التعبير عن جوانب الحياة العميقة تعبيراً علميًّا على الرغم من أن هذه الجوانب لا تقع ضمن نطاق العلم».

لكن أول سؤال يمكن طرحه قبالة التجليات المتعددة للمادة والشعور، ولربما سنوجه سؤالنا خصيصاً للفلاسفة الروحانيين: ما هو عالم الروح؟ وكيف يمكن إدراك عوالمه المعرفية وتعميم هذه المعرفة على معرفتنا بما هو حياة؟ أليست عملية إدراك هذا العالم تتجاوز قدرة العقل في تحديد المعاني والمعطيات الوافدة إلينا من هذا العالم؟.

ونؤسس لمشروعية هذه التساؤلات من أن عالم الروح هو عالم النفس، والنفس موجودة فينا بالقوة لا بالفعل، ومع اختلاف قراءاتنا وتحليلاتنا للظواهر الآتية من هذا العالم إلا أنها تحمل الطبيعة ذاته، على عكس خصائص عالم الظواهر المتسم بتغير وتبدل حالاته الوجودية، تغيراً مستمراً موجود بفعل التجربة ومتكيف مع المتغيرات الأخرى الملازمة بنظام عقلي معين.

تساؤلات عدة قد تطرح في هذا السياق، لكن ما يجب إبرازه هو أن أي محاولة للبحث في سؤال أصل الوجود والحياة مع برغسون خصوصاً، لابد أن تنطلق من هذا التمايز بين المادي والروحي، ولعل امتداد حدود الصراع المادي الروحاني لتتداخل معه مواضيع الفلسفة والعلم خصوصاً، كان هو المرتكز الأساسي لنشوء فلسفة برغسون وتساؤلاته حول أصل الزمان والوجود، فلم يكن سؤال الأصل لدى برغسون مرتبطاً بالبحث العلمي بقدر ما كان محاولة مقاربة المعطيات الشعورية والتي يعمد العلم دوماً أن يضعها في سياق البحث الآلي الميكانيكي، مقاربة روحية محضة.

فلربما أنه من السهل البحث والإجابة عن أصل الموجودات المادية، بيد أن السؤال عن أصل المشاعر وإلى ماذا تستند في وجودها وأصل الزمان وحقيقته هو تساؤل مشروع.

فقد يعجز العلم أن يجيبنا في غالب الأحيان عن السؤال: من أين تأتي المشاعر؟ وإلى ماذا تستند في وجودها؟ وعن ماهية الحرية الإرادية التي يشعر بها كل كائن في داخله؟.

لكن في المقابل لم ينكر برغسون دور العلم في تحديد الطبيعة النهائية للأشياء، بل وحتى في معرفة الروح، إذ يمكن للفلسفة أن توظف مفاهيم العلم أو ما يسميها برغسون بمعطيات درس المادة في رسم معالم التجربة الشعورية بعيداً عن أفعال المادة، فالشعور هو المبدأ الأساسي في الحياة الروحية الخالصة والتي تختلف بالضرورة عن السلوكات الآلية التي تحتكم للتغيرات الخارجية، بيد أن عالم الشعور يخضع لتغير وخلق ذاتي مستمر.

وهاهنا بدأت تبرز مع برغسون صراعات متعددة لثنائيات أخرى متداخلة مضموناً ومتباعدة منهجاً وفهماً، ثنائيات كالعلم والفلسفة، المكان والزمان، سعى لأن يؤسس برغسون من خلال إبراز أوجه الاختلاف والتباين فيما بينها لطرح إشكالي جديد في الفلسفة يرتكز على المنهج الحدسي في البحث المتمأسس حسب جيل دولوز في خلق المشكلات وإبداعها أكثر من حلها، مستنداً إلى قول برغسون: «إن مشكلة نظرية ما تحل ما إن يتم طرحها بشكل جيد»، وبهذا انصب اهتمام برغسون أساساً بطرح المشكلات طرحاً صحيحاً من خلال تغيير نظرة الفيلسوف إلى الأشياء، والتي هي متمحورة في الغالب على نظرة عملية تسعى في محاولة دؤوبة لمد جسور الفهم والتآلف بين الفكر والواقع، إلى نظرة تأملية خالصة في الذات الإنسانية

أي أن برغسون حاول أن يوجه السؤال عن الوجود ويغير سياق البحث كله، من تلك الرؤية العملية المؤلهة لدور العقل في فهم ظواهر وبواطن الأشياء إلى معرفة حدسية تسعى لجعل الأنا العميق هو الحامل للمعاني الفعلية للوجود، وهو المحرك الفعلي للحياة إذا ما فهمنا الحياة بأنها ذاك التواصل الزماني المستمر.

البرغسونية وأزمة المنهج: الحدسانية في مواجهة العلموية

«إن الحدس هو منهج البرغسونية، والحدس ليس عاطفةً ولا إلهاماً، أو انجذاباً مشوشاً، بل هو منهج مُعَدّ، وحتى أحد مناهج الفلسفة الأكثر إعداداً. له قواعده الصارمة، التي تشكل ما يسميه برغسون (الزمان) في الفلسفة».

عبارة دولوز هذه المعرّفة للحدس البرغسوني تدفعنا إلى أن نعيد النظر كليًّا في التعريف الشائع لمفهوم الحدس على أنه الإدراك المباشر للأشياء دون توسطات، غير أن المنهج تشكله مجموعة علائق عقلية وحتى إجرائية تهدف إلى بلوغ المعرفة وتحقيق الذات الإنسانية، أو بتعبير أدق فالمنهج يسعى دوماً لأن يحقق العلاقة الترابطية بين الذات العارفة والموضوع المعروف. فكيف يمكن إذن للحدس كقوة اختبار باطني أن يحل محل المناهج العلمية الصارمة مع مجاوزة مطلقة لوظيفة العقل كأداة في بلوغ المعرفة؟.

قد لا يمكن فهم الموقف الدولوزي هذا دون مقاربة الثنائية: حدس –عقل، مع الثنائية المقابلة لها روح– مادة. أي أن المنهج الحدسي لدى برغسون هو أحد تجليات الصراع المادي الروحاني في الفلسفة المعاصرة خصوصاً، التي اهتمت في فترة زمنية محددة (القرن 19) بالوجود المادي للموجودات منتفضة على فكرة المطلق الهيغلية، مُعلية من شأن الوجود الفردي العيني الخارجي على الماهيات المجردة. وجاءت فلسفة برغسون لتحدث ثورة مفاهيمية بإعادة صياغة بعض المفاهيم الوجودية وتحديد أطرها العامة كالقيم والحرية، الصيرورة والثبات، الكم والكيف، المادة والروح، المكان والزمان، الوجود والماهية. وغيرها.

كل هذه المفاهيم تنطوي تحت التمايز الذي يقيمه برغسون بين مجال بحث كل من الفلسفة والعلم، فإن كان العلم يبتغي طريق التحليل والتركيب مُؤَلّهاً دور العقل في بلوغ الحقيقة وفي تحديد طبيعة الأشياء المادية والروحية على حد سواء. فإن برغسون يجعل من الحدس الأداة الفعلية في إدراك حقائق الأشياء والكشف عن مكنونات ذواتنا بغية معرفة وتفسير الظواهر الحالّة في عالم المادة – أو ما يسميه برغسون بعالم المكان -.

فإشكالية العلاقة بين الحدس والعقل تحمل في طياتها حدود السؤال الدولوزي حول الحدس كمنهج فلسفي قادر على مجاراة أكثر المناهج الفلسفية إعداداً وقادر في الوقت ذاته على إدراك وتوصيف العلاقة بين الذات والعالم. هذه العلاقة التي يمكن التأسيس لها فعليًّا من خلال إبداع وخلق المشكلات الفعلية أولاً.

فمن الأهمية بمكان مع المنهج الحدسي أن نبحث في الإشكالات الحقيقية التي تعبر عن مكنوناتنا، متخلصين من سلطة المجتمع، اللغة والعادات. ومن التفكير في ذاك العالم النقطي المادي المنغمس تماماً في عالم كمي مغلق، وهذا ما يؤكده برغسون حين يقول: «إن العالم الذي يتناوله الرياضي يموت ويولد في كل آن، وهو لا يختلف عن العالم الذي فكر فيه (ديكارت) عند كلامه عن الخلق المستمر». فالعالم المادي عاجز عن النفاذ إلى بواطن الذات لأنه يعتمد الرموز كوسائط أصلية في بحث المشكلات القائمة، والتي هي في حد ذاتها مشكلات مفروضة علينا تنطوي على خلط دائم بين الكيف والكم، فقد توجد في عالم المكان أحوال مادية غير أنه من غير الممكن أن توجد أحوال نفسية، لأن حياتنا الباطنة تدرك إدراكاً مباشرا بالحدس فهي شبيهة باللحن الموسيقي المنفصل كليًّا عن فكرة العدد المكانية.

لكن سؤال يظل يلازمنا حين التفكير في المنهج الحدسي من خلال الشعور: ألسنا نعبر عن شعورنا بواسطة الرموز، والأكثر من ذلك أننا نبحث في مشكلاتنا النفسية من خلال وسائط رمزية؟.

يجيبنا برغسون عن هذا التساؤل بقوله: «إن الشعور كثيراً ما يجد نفسه فريسة لتلك الرغبة الحادة في التمييز، إذ إنه يستعيض عن الواقع بالرمز أو هو لا يرى الواقع إلا من خلال الرمز». لكن المنهج البرغسوني سيؤسس لنمطية تفكير جديدة طبيعتها التغير الدائم والحركة المتواصلة إذ إنها غير قارة في الإطارات الثابتة التي تمنحنا إياها اللغة والمجتمع والأعراف. والتي يضعنا فيها العلم ذو الوظيفة التحليلية لمشكلات جاهزة، يسميها ماركس بالمشكلات التي تقدر البشرية على حلها، والتي دأبت دوماً على طرحها وتكرارها. وهي مشكلات زائفة حسب برغسون باعتبار أنها لا تعبر عن المشكلات الوجودية الفعلية «فالأمر يتعلق في الفلسفة وحتى في غيرها بإيجاد المشكلة وبالتالي طرحها أكثر مما بحلها، لأن مشكلة نظرية ما تحل ما إن يتم طرحها بشكل جيد».

فالعالم حسب برغسون هو بناء من حركات خلَّاقة مبدعة متواصلة تقارب إشكالات الطبيعة وفق حركية الزمان المتصلة وعن طريق إدراك ماهيتها بقوة الحدس الباطني، إذ إن الحدس هو تجربة ميتافزيقية تتكشف ذواتنا من خلالها وتستجيب دوماً لفعل التطور الخلَّاق في الحياة وتهيئ لنا أفضل السبل لإدراك ماهية الحقيقة المتمثلة أساساً بالشعور بالزمان المستمر، «فما هو مطلق لا ينكشف إلا عن طريق الحدس، وما عداه فهو وليد التحليل.. ونسمي هنا الحدس المشاركة الوجدانية التي ننفذ بها إلى باطن أي موضوع». وهو مرتبط بالناحية التأملية للحياة، بينما العقل مرتبط بجانبها العملي الإجرائي.

فالحدس هو قوة مبدعة لمفاهيم الوجود وهو ثاوٍ في مجال الفلسفة وأحد مناهجها الحامل لمعاني ودلالات الإشكالات الوجودية المستعصية أحياناً عن الفهم. وهو المنهج الأكثر إعداداً الذي من الممكن أن تعتمده الفلسفة في خلق مفاهيمها وإدراك المعنى الحقيقي للوجود، فالفلسفة مع هذا المنهج قد تحمل تعريف دولوز لها بأنها «الحقل المعرفي القائم على إبداع المفاهيم». هذا الإبداع يحمله كذلك تعريف برغسون للوجود والموجودات، إذ يقول: «بالنسبة للموجود الواعي، أن يوجد هو أن يتغير، وأن يتغير هو أن ينضج، وأن ينضج هو أن يخلق نفسه باستمرار».

نعود لنتساءل عن هذا المنهج: هل الحدس منهج في التفكير أم في البحث، أم معرفة مباشرة خالصة؟.

يضعنا جيل دولوز في كتابه عن برغسون قبالة منهج بحث وتفكير يُدعى الحدس البرغسوني، له قواعد ضابطة وآليات محددة في فهم حقائق الأشياء، تتأتى هذه القواعد من خلال أفعال ثلاث يأنف برغسون دوماً تقديمها كأفعال الحدس، تتعلق بطرح المشكلات وخلقها، ومن ثمة يتم اكتشاف الاختلافات الحقيقية بينها في الطبيعة، ليتم بلوغ الهدف المراد ألا وهو إدراك الزمان الحقيقي.

أولى هذه القواعد المنهجية تتطلب ضبطاً سليماً وتحديداً دقيقاً لمشكلاتنا المنتسبة إلى الوجود العام والخاص، مع تحديد علاقة التأثير والتأثر بين الإنسان والطبيعة، أو بتعبير أشمل بين الذات والموضوع؛ إذ إن أغلب المشكلات التي تعودنا طرحها تحمل في تركيبتها العديد من التناقضات، فعلى سبيل المثال ليس هنالك «في فكرة اللاوجود، أقل، بل أكثر مما في فكرة الوجود، في الفوضى مما في النظام، في الممكن مما في الواقع، فهنالك في فكرة اللاوجود، فعلاً، فكرة الوجود، مع عملية نفي معمّم منطقية». هذا ما يدعوه برغسون بالمشكلات الزائفة أو المشكلات التي أسيء طرحها. فالطبيعة ليست شيئاً قاراً في مكان معين لا تحتكم لمبدأ التغير والتبدل، بل هي تركيب من حوادث أهم خصائصها التدفق اللامتناهي، لذا يجب أن ندرج على تعقب كل مناحيها وزواياها المتعددة كي نحسن صياغة إشكالاتها.

ولربما يتضح لنا هذا البعد المنهجي في فلسفة برغسون من خلال قراءتنا لمؤلفه (محاولة في المعطيات المباشرة للشعور)، إذ كانت أول مشكلة يطرحها ويسعى لمعالجتها هي تفكيك المعرفة إلى طرفيها العلمي والفلسفي، متجاوزاً بذلك تلك التفسيرات الميكانيكية والآلية التي عرفتها الفلسفة والعلم لجميع مناحي الحياة حتى الروحية منها، فمع بزوغ نجم الفلسفات العلمية ممثلة أساساً في داروين، سبنسر، وأوغست كونت، صار كل ما هو موجود خاضع للقياس، ولعل هذا ما خلق أزمة فعلية للعلوم الأوروبية –كما يرى إدموند هوسرل-، إذ أن سبب هذه الأزمة هو انغماس العقل الأوروبي في المذاهب الطبيعية، العلماوية والوضعية. فهذه المدارس العلمية سعت إلى علمنة وعقلنة كل ما هو ذاتي. ولعل هذا البحث المضني للفكر العلمي الغربي، لرفع العلوم الإنسانية إلى مصاف العلوم الإمبريقية لهو هاجس فعلي اكتنف العقل الغربي مذ تداعيات المد الجارف للعقلنة التي جاءت بها الأنوارية، والذي انتهى بفشل في جميع المجالات ليتبخر حلم السلام الدائم الكانطي وفق منطق لا عقلاني، ما دفع برغسون وهوسرل في التفكير في الكينونة والذات بغية سريان الروح العامة للفرد وتجاوز الأنا الفيزيولوجي السطحي.

ثاني قواعد المنهج الحدسي البرغسوني يتمثل في اكتشاف الاختلافات الحقيقية في الطبيعة، بين عالمي الزمان والمكان، لما لهما من تداخلات عدة تجعلنا في الكثير من الأحيان نخلط بينهما، أي بين ما هو مدة وما هو امتداد، بين ما هو تعددي كيفي وعددي كمي، بين ما ثابت وما هو متحرك... إلخ.

مع هذه القاعدة نلج إلى المعنى الفعلي للحدس البرغسوني أين تصبح الحياة متاحة المعرفة بواسطة هذا المنهج، إذ يقول: «هناك معنى أساسي، أن تفكر حدسيًّا هو أن تفكر في الزمان المستمر». وأن تفكر وفق المنهج الحدسي معناه أن تقيم حدًّا فاصلاً في تفكيرك بين ما هو علم، وما هو فلسفة.

ولعل هذا ما دفع برغسون لأن يميز بين دائرتين من المعرفة، دائرة العلم وحدد مجالها بالكم والامتداد والمكان «فالعلم يعمل أولاً وقبل كل شيء في نطاق الرموز، وحتى إذا تطلعنا إلى أكثر العلوم الطبيعية بعداً عن التجريد ألا وهي علوم الحياة، فإننا نجد أنها تختص بالصورة المرئية للكائنات الحية».

ودائرة الفلسفة وهي تهتم بالكيف والشدة والزمان، فالعلم موضوعه المادة ومنهجه التجربة الحسية، أما الفلسفة «فموضوعها الروح ومنهجها التجربة الباطنية والروحية ومصدرها الحدس الذي أساسه التعاطف (sympathie) الروحي أو الغريزة السامية». ويشير برغسون (في مؤلفه الفكر والمتحرك) إلى أنه يمكن أن يكون العلم ميتافيزيقا المادة، ويمكن أن تكون الميتافيزيقا علم الروح لاعتمادها على المنهج الحدسي.

لكن حضور كلا البعدين الزماني والمكاني، الفلسفي والعلمي، المادي والروحي، في عالم الذات وارتباطاتها المكانية، مع تداخل بين تجربة الذات الباطنية وتجربتها في عالم الوقائع، يجعل من المنهج الحدسي، منهجا متعاليا على التجربة الخارجية ومنغمسا كل الانغماس في عالم الأنا العميق ما يؤدي لا محال إلى إحلال القاعدة المنهجية الثالثة والمتمثلة في طرح المشكلات وحلها بعدما تخلصنا من جميع الاعتبارات العقلية العملية، لنخوض في التأمل ودراسة المعطيات الوافدة من عالم الشعور.

حركية منهجية حدسية برغسونية حملت وفق تراتبية منهجية منطقية ملامح السؤال الفلسفي الذي تحمله علوم الروح وتعايشه التجربة الشعورية دوماً، ألا وهو كيف يمكن للذات أن تدرك ذاتها وأن تباشر العالم المحيط بها.

تجربة برغسون مع المنهج الحدسي، وإدموند هوسرل وميرلوبونتي مع المنهج الفينومينولوجي كلها مشاريع فلسفية سعت لتقويض ذاك الصراع بين الذات والموضوع، أو بالأحرى إحداث خلخلة داخل الفهم العام للإنسان. فمع برغسون وحدسانيته سنتحدث عن علاقة يمثل كلا طرفيها الذات، لأن المعرفة تتولد وفق هذا المنهج من خلال إدراك الذات لذاتها من خلال الزمان المبدع والمتواصل. أما قصدية هوسرل فهي حركة دؤوبة للذات في إدراك العالم، بينما سيحاول ميرلوبونتي العودة إلى برغسون، أو بالأحرى إلى مركزية الذات حين يقول: أنا وجسدي واحد.

كل هذه التجاذبات بين المنهجين الحدسي والفينومينولوجي إنما تهدف أساساً إلى بعث روح الفلسفة والعلوم الروحية من جديد، وذلك من خلال عودة موضوع الذات كإشكالية مركزية تُبنى عليها الفلسفة عموما.

الحدس كتأسيس منهجي للبحث الفلسفي

يقول برغسون: «في الواقع إن المشكلة الأساسية في البحث الفلسفي كما نفهمها هي التعقل في أفكار مجردة وسهلة، والتركيب الميتافيزيقي لا يمثل سوى لعبة اللغة»، فالمعرفة العقلية كما نفهمها من هذه العبارة قاصرة عن استيعاب الواقع الحي والمتغير وكل أشكال الحركة التي يعمد العقل في تجريديته إلى تقسيمها إلى مجموعة من اللحظات المتقطعة والنقط الهندسية. وهكذا تصبح الحياة في التصور البرغسوني متاحة المعرفة بواسطة المنهج الحدسي المتضمن في الزمان المستمر، إذ يقول برغسون: «هناك معنى أساسي، أن تفكر حدسيًّا هو أن تفكر في الزمان المستمر».

المنهج البرغسوني إزاء معالجة الإشكالات الفلسفية والهواجس الفكرية نجده يتعدد ويتغير بتعدد المسائل الفلسفية المعالجة، إذ يتناول كل مسألة معينة بنظرة خاصة وأسلوب مغاير، كما هو الحال في تناوله لإشكالية الزمان والحرية، إذ عالج هذه المسألة في مؤلفه (محاولة في المعطيات المباشرة للشعور) بتقويضه للتصورات الميكانيكية والآلية للحياة النفسية، وكذا تهديم تصورات دعاة علم النفس الفيزيائي الذين حاولوا قياس شدة حالاتنا الشعورية والتعبير عنها بكم معلوم.

فما طبيعة التمايز الذي أقامه برغسون بين الفلسفة الروحية والآلية العلمية؟ وما هي أهم الأفكار التي ساقها برغسون لدحض الآلية وتقرير الحرية الإنسانية والديمومة المتصلة كمعطيين أساسيين من معطيات الشعور الإنساني؟.

ابتدأ برغسون بحثه في إشكالية الزمان بتقويض وهدم المبادئ والأسس التي انبنت عليها المذاهب العلمية، فحاول نقد التفسير العلمي الرياضي للظواهر النفسية، متجاوزاً تلك الحتمية الطبيعية الوثيقة الصلة بالنظرة الميكانيكية للمادة والتي تطبق قانون بقاء الطاقة على الحياة النفسية، كطرح جون ستيوارت مل -مثلاً- عن وجود كيمياء عقلية تماماً كوجود كيمياء مواد إذ نحللها إلى عناصرها البسيطة لندرك مركباتها، الأمر ذاته بالنسبة للحياة النفسية؛ «إذ يجب أن نحلل الأحوال النفسية إلى عناصرها البسيطة وأن نفحص بعد ذلك مركباتها».

وقد استند دعاة الحتمية السيكولوجية إلى مثل هذه التصورات الطبيعية والآلية «والتي تتمثل الكون كتلة من المادة يرى فيها الخيال، جزيئات وذرات تتحرك حركات مختلفة»، وبالتالي ففي استطاعة أي عالم رياضيات أن يحدد وضع وحركات مختلف ذرات الكون على اختلاف أنواعها وأحجامها، وبالتالي فهو يستطيع -حسب برغسون- «أن يحسب بدقة متناهية سائر الأفعال الماضية والحاضرة والمستقبلية للشخص الذي يملك هذا الجهاز العضوي، كما يمكن لعلم الفلك أن يتنبأ بأي ظاهرة فلكية».

وبتحليل مسهب يسلم فيه برغسون بمقدمات الجبرية الفيزيقية، فيكشف هشاشة بنيانها على مستوى الظواهر السيكولوجية غير الخاضعة للإمبريقية، فالنقطة المادية «تحيا في حاضر أبدي»، على عكس خصائص الزمان الذي يجعل استمرار التغير والتقدم المتصل مرتبط بالاحتفاظ بالماضي في الحاضر، ومن غير الممكن أن يحصل ذلك بتعميم قانون بقاء الطاقة على الحياة النفسية وعلى مختلف الأجسام الحية الشاعرة.

وفي محاولة برغسون نزع القشرة عن لب حقيقة الحرية دعا إلى ضرورة التخلص أو التحرر من التصورات العلمية والتصورات العامية المتأثرة بها، والمتمأسسة على عادات عقلية وأخرى اجتماعية، تحكمانها لغة توجه مطلق تفسيراتنا لمكنونات الأشياء. وبهذا يتجلى لنا بوضوح أن ولوج ميدان النفس الحق لا يتم «إلا بالتخلص من هذه العادات وأن نعود إلى حياتنا الباطنة لنتابعها في ديمومتها وحريتها»، وهذا ما نستخلصه من العنوان الذي اختاره برغسون لرسالته (محاولة في المعطيات المباشرة للشعور)؛ إذ يجب أن تفصل هذه المعطيات عن كل العادات المكتسبة وكذلك عن المواصفات أو الأحكام السابقة، لكن ليس بالأمر الهين أن نتخلص من سلطة العلم، المجتمع واللغة؛ لذا نلجأ في أحيان عدة إلى تصور حياتنا الباطنة من خلال الأشكال المستمدة من العالم الخارجي لندرك معطيات الشعور المباشرة، إذ يرى برغسون «أن السبب في إقحام فكرة المكان أو الامتداد في صميم فكرة الزمان أو اللاامتداد هو تغلغل التصورات الرياضية وخاصة فكرة العدد في مجال الفلسفة على يد دعاة علم النفس الفيزيائي»، وبهذا فقد تم تجريد حياتنا النفسية من طابعها الكيفي وإخضاعها لقانون العلية، المقرر أن ذات العلل لا تحدث إلا ذات المعلولات. «فالسيكوفزيقيون يبحثون عن الحقيقة الزمانية الشعورية من خلال المكان، ومن خلال معطيات مستقلة عن الأنا».

لكن سيحاول برغسون في دحضه لهذه الحتمية السيكولوجية أن يضع فارقاً بين كم العلة وكيف المعلول، وذلك بتحديد طبيعة هذه الحالات النفسية عن طريق إدراك الشدة في هذه الحالات.

وعقب هذه الارتحالة والقراءة البرغسونية لأزمة المنهج الناجم أصلاً عن خلط بين درس المادة ودرس الروح، فإن الفلسفة غالباً ما ترتبط مناهجها بطبيعة الإشكاليات الوجودية المطروحة، فليس مطلوب من الفلسفة أن تبحث عن وظيفة إجرائية لها في مجتمعاتنا، مرتبطة بنتائج عملية، لكن الفلسفة الفعلية –كما يقول هوسرل في كتابه الأزمة- إنها «.. هي التي تأخذ نصب عينيها وبين أيديها المشكلات الحقيقية وتطرح الأسئلة والقضايا الجوهرية والمصيرية التي تمس الإنسان وحياته».

وإذا أجبرنا الفلسفة أن تدافع عن نفسها وتحتج على دعاوى إقصائها، كما أراد لها نتشه ذلك فباستطاعتها أن تقول: «أيها الشعب التعيس! أهو خطئي إذا كنت مكرهة على التجول في بلادك كعرافة مغامرة، وعلى التستر والتقنع كما لو كنت المتهمة وأنتم قضاتي؟ أنظروا فقط حالة أخي الفن! إن حالته كحالتي، فنحن تائهان وسط برابرة، ولم نعد نعرف كيف نؤمن خلاصنا، صحيح أننا لا نملك هنا مبرراً، ولكن القضاة الذين سيحكمون علينا لسوف يدينونكم أيضاً ويقولون لكم: لتكن لكم بادئ ذي بدء حضارة، ولسوف تدركون فيما بعد ماذا تريد وماذا تستطيع الفلسفة أن تفعل».

وفي آخر هذه المداخلة لا بد من العودة إلى الفلسفة اليونانية باحثين عن ذاك التفسير الصباحي الذي وجهنا إليه هيدغر، وسنجده هذه المرة مع هراقليطس في جدل الحب والحرب؛ ليعرفنا بالدور الفعلي للفلسفة حينما يقول: «الوظيفة الأولى للفلسفة البحث عن الأرض المشتركة بين النفوس المستيقظة، البحث عن أرض الحب الموحّدة والمجمّعة، والتخلص من الكراهية التي هي البحث عن الأرض المتفردة بين النفوس النائمة. إن الأرض المشتركة هي أرض العقل؛ لأن العقل واحد عند الجميع. أما الأرض المتفردة فهي أرض اللاعقل».

ولعل سبيل الولوج إلى هذه الأرض الموحدة هو منهج الحدس البرغسوني.

 

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة