تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

المقاربة الجدلية في تأسيس المنهج عند هربرت ماركيوز

عطار أحمد

 الجذور الفكرية لمنهج ماركيوز

}لك أن الفلسفة الألمانية منذ كانط (Kant) إلى نيتشه (Nietzsche) جعلت من النقد مكوناً أساسيًّا للتأمل الفلسفي، إذ يعتبر الكثير من الباحثين في نشأة وتطور مدرسة فرانكفورت (Ecole de Frankfort) أن هوركهايمر قد أقام تفرقة حاسمة بين نموذجين أساسيين لاكتساب المعرفة، النموذج الأول هو النظرية التقليدية الشكل الذي ارتبط بالمناهج الوضعية ومحاولة تقليد مناهج العلوم الطبيعية، أما النظرية النقدية فهي على العكس من ذلك تؤكد على الصبغة النقدية للعقل وتجعل الإنسان صانعاً لظروفه التاريخية بأسلوب لا يخلو من النقد المستمر فيقول: «إن النظرية النقدية تحافظ على تراث الفلسفة برمتها فهي ليست فرضية ما للبحث تشهد بصلاحيتها في النظام القائم بل عاملاً لا ينفصل عن المجهود التاريخي في سبيل خلق عالم ملائم لحاجات الإنسان ولملكاته... تهدف إلى تحرير الإنسان من القيود التي تجثم عليه» ويقصد هوركهايمر بالتراث الفلسفي للفرويدية والماركسية بالخصوص، ذلك «أن مدرسة فرانكفورت قد أعادت كشف الماركسية على مستوى الطاقة النقدية الكامنة فيها وقدرتها المنهجية على التحليل، بعيداً عن الأغلال الأيديولوجية التي كبّلت بها من خلال الممارسات البيروقراطية للأحزاب ورجال السلطة».

بمعنى آخر: }هذا الاتجاه الفكري قد أخذ على عاتقه مهمة نقد الممارسة الديمقراطية داخل المجتمع الرأسمالي من خلال فضح الهيمنة اللامباشرة لمؤسسات الدولة على مسار تطور الوعي الجماعي والكشف عن الديناميات «العقلانية» لردع كل محاولة جذرية تمتلك طاقة الرفض».

وهذا التطور لوسائل السيطرة الرسمية وهيمنتها عولج داخل استراتيجية عامة لترسيخ هيمنة الدولة وتوحيد الذهنية الاجتماعية، ففي المجتمعات الرأسمالية التي أخذت طابع كلياني أكثر فأكثر تم تفعيل فكر استسلامي عبر«القابلية الواعية أو اللاواعية على الاندماج أو الخضوع، ملكة الموافقة على الظرف الحاضر بما هو عليه بالفكر أو الواقع، والعيش في تبعية الأنساق المفروضة والإرادات الأجنبية»، وتظهر الدولة للجماهير الممارس عليها فعل الهيمنة عبر وسائل الإعلام مبررة بشرعية التقنية والعلم، فالناتج العلمي أصبح مسوغاً أكثر لإبقاء سلطة الفكر الرسمي للدولة عبر مؤسساتها، وهذا التوجيه المباشر للمجتمع يصبح فيه الفرد لا هم له إلا الاستهلاك كغاية وهدف لذاته.

كما «حظيت مدرسة فرانكفورت بنشوء نمط آخر من الأبحاث النقدية ذات المرتكز السوسيولوجي السياسي هو دراسة (السلطة السياسية و سيادتها) ونقد الأصول التقليدية لشرعيتها ومصادرها النظرية في التسلط والسيطرة»، وبالفعل ظهرت دراسات حول السلطة التوتاليتارية، «ففي سنة 1936 انطلق مشروع جماعي لدراسة السلطة والعائلة الذي ساهم ماركيوز فيه لبلورة فلسفية بتقديم فهم لتاريخ العلاقة بين السلطة والحرية منذ لوثر إلى الدولة السلطوية». ولو أن فلاسفة المدرسة يشيرون إلى صعوبة ضبط حدود بحثهم حول السلطة التي قام ماركس وإنجلز (F. Engels) بتأويلها من قبل على أنها، السلطة السياسية والنظام القانوني، والإداري اللذان يكونان كأداة لهيمنة طبقة اجتماعية معينة، تختفي وراء حجة الشرعية والأحقية، ويوغلان في التحليل والتقصي لدرجة أنهما يعتبران الحرب بين الطبقات تشتعل خلف ستار وهم الحق والسلطة السياسية (محاولة فرض تصور معين للسلطة والتنظيم الاجتماعي).

ومع ذلك «فإنه لا يمكن أن يتم إعطاء تعريف استباقي لها كما يشير هوركهايمر إلى ذلك في دراسته النظرية التمهيدية (السلطة والعائلة) لأسباب تكشف الطبيعة الدينامية الكليانية في المجتمع التي يجب على علم الاجتماع النقدي أن يأخذ علماً بها»، فتأسيس علم اجتماع نقدي مبني على التحليلات الماركسية، والتراث النقدي الألماني منذ كانط، إنما يراد به فتح الطريق أمام تشريح الدولة وبالمقابل نقد العقل (خسوف العقل) بوصفه ارتهاناً كليانيًّا، وطرح أسئلة ملحة مثل:

- لماذا فشل حلم عصر الأنوار بميلاد مجتمع سلمي أكثر تحرر وتقدم وانتهى الحلم بحربين عالميتين؟

- لماذا فشلت الثورة السوفياتية وانتهى المجتمع الاشتراكي، الذي كان يعد بغد أفضل إلى التوتاليتارية (totalitarismes)، الشكل الأكثر تعقيداً للعنف الممارس من قبل المجتمع على أعضائه؟.

وضمن هذه الإشكاليات الفلسفية والبحوث الفكرية، انضم ماركيوز إلى المعهد بعد سنة 1932، وساهم في العديد من الدراسات كدراسة «السلطة والعائلة»، ولعله الفيلسوف الأكثر إسهاماً في تأسيس النظرية النقدية، ومن أجل فهم الأسس الجوهرية لنظريته النقدية لا بد لنا من استعراض الخلفية الفكرية والفلسفية التي قام عليها، بالعودة إلى الأب المؤسس للتراث النقدي ألا وهو «إمانويل كانط» (E. Kant)، الذي يتخذ النقد عنده مفهوماً جديداً يتعين على النحو الآتي:

1- النقد من جانب إيجابي يحاول تقييم حدود العقل، ومدى إمكاناته في نطاق التجربة الحسية، وهو تقييم هدفه الدفاع ضد نزعة هيوم الارتيابية.

2- النقد من جانب سلبي يتضمن تقييماً نقديًّا للعقل، حينما يحاول تجاوز أسوار التجربة، وفي هذا المعنى بين تهافت الفلسفة الميتافيزيقية الكلاسيكية، التي كانت تعتقد بإمكانية معرفة ما وراء الظواهر المحسوسة، وضرورة الانصراف به إلى مشاكل الحياة والمجتمع فهي الشيء الوحيد الذي يمكن أن نعرفه بعقولنا، استفاد ماركيوز من مفهوم كانط للنقد إضافة إلى مفهوم الخيال Imagination كمفهوم له علاقة مع النقد، لكن بتغيير واضح، فإذا كان الخيال عند كانط هو ملكة تتوسط الملكة العقلية والملكة العملية، فإنه يكاد يصبح عند ماركيوز ملكة منفردة تتحقق بها الرؤية الثورية للمستقبل، تحرير الحساسية من رباط العقل.

وتتواصل مسيرة النقد في الفكر الألماني عند هيجل (Hegel)، فهو الآخر لا يحيد عن مجال النقد، حيث كان في البداية من أتباع النظرية الكانطية قبل أن ينقدها، ويتجاوزها إلى فضاء أرحب من النقد إلى مسائل السياسة التاريخ والمجتمع، معتبراً أن الحرية تتجسد في تحقق الروح في التاريخ، أو تحقيق الإنسان لذاته في المجتمع، لذلك فإن الثورة الفرنسية كانت ذات أهمية كبرى في نظر هيجل.

ويتضح مما سبق مكانة النقد في الفلسفة الألمانية عامة، وداخل مدرسة فرانكفورت خاصة، مما يدفعنا إلى البحث عن تأثيراتها على أعضائها وبالخصوص ماركيوز، لكن هذا التصور لمفهوم النقد نجده ملزماً بمفهوم آخر لا يقل عنه أهمية، إنها فكرة النفي التي لا يمكن إرجاعها فقط إلى النسق الهيجلي، بل إن ماركيوز مارس عليها تعديلات وتحويرات أضفت طابع الخصوصية عليها، فهو لا يحملها معنى القضية السالبة فقط كما هو موجود في المنطق الهيجلي بل يدفع بها إلى أقصى حدودها ليصل بها في آخر تحليلاتها بأن يقرنها بمفهومه الخاص «الرفض العظيم»، فالرفض العظيم كتصور ناضج ترتب عن النتائج النظرية لفكرة النفي، التي لا تحمل عنده فقط معنى منطقي هو تجاوز القضية السالبة فحسب، بل تحمل كذلك لحظة في الأنطولوجيا حين تتحرك السيرورة نحو مرحلة مغايرة للمراحل السابقة، حينما تأخذ أبعاداً تاريخية واجتماعية، أين تتبلور الفكرة النظرية إلى واقع عملي في صورة التمرد، ولو أنها تتلبس في الكثير من كتاباته الوعي السالب (القدرة العقلية على تجاوز الواقع)، وأحياناً تقابل ملكة التفكير الإيجابي الجزء الأكثر استعمالاً في العقل البشري، «وهكذا فإن العلاقة بين الفكر الديالكتيكي والواقع المعطى هي علاقة تناقض أكثر منها علاقة تطابق»، صحيح أن هذا الطرح يبقى يحوي الكثير من الالتباس والغموض مما يدفعنا أولاً إلى ضرورة معرفة مفهوم الفلسفة عند ماركيوز لنتمكن من فهم الشبكة المفهومية لفلسفته، فما هي الفلسفة عند هربرت ماركيوز؟

ما الفلسفة عند هربرت ماركيوز، وما التزاماتها التاريخية؟

إن معيار القيمة التاريخية لفلسفة معينة هو فاعليتها العملية، وإذ كان صحيحاً ما يقال بأن كل فلسفة تعبر عن المجتمع الذي أنتجها، فلا بد لها من أن تفعل بدورها في هذا المجتمع مولّدة تغيراً، ومدى فاعلية هذه الفلسفة في مجتمعها هو معيار قيمتها التاريخية، والبرهان على أنها ليست مجرد جهد فردي وإنما هي تجربة إنسانية لفهم الوجود وتغييره، ونتذكر جهود «انطونيو غرامشي» (Antonio Gramsci) لتحديد الأهمية التاريخية للفلسفة التي تملك فعلاً قيمة تاريخية، وهو الهم نفسه الذي حمله ماركيوز على الفلسفة المعاصرة التي أهملت هذه التقديرات، ويُستعمل لهذه المهمة النقدية منهج ذو مرجعيات «ماركسوهيجلية» تشوبها شذرات «هيدجرية» «ونيتشوية» هو مزج يعكس الطابع البانورامي لفلسفته فما هي الاعتراضات التي حملها ماركيوز على الفلسفات المعاصرة ؟

أولاً: يوضح ماركيوز تهافت موقف الوضعية المنطقية والتحليلية واتجاهها بالفلسفة إلى مجرد تحليل لغوي وفكري للوضع الراهن، «الاعتراض الذي يحمله ماركيوز للفلسفة المعاصرة ينقسم إلى جانبين: الأول فلسفي، والثاني اجتماعي، فهو يتأسف على أن الفلسفة الاجتماعية الحالية جعلت هدفها الوحيد إعادة تكييف ودمج الناس، فتنزع منهم القدرة على القيام بنقد عقلاني للمضمون الاجتماعي»، كما يحتج على هذا التقليص للفلسفة في ميدان اللغة وتحليل تراكيبها، ويواصل هجومه على الفكر الإيجابي للفلسفة المعاصرة كالوضعية (Positivisme) والفلسفة التجريبية الحسية كما هي سائدة في العالم أنجلوسكسوني ذلك لأنها مربوطة مع العلوم الامبريقية والتكنولوجيا المعاصرة خادمة عالم السيطرة والاستغلال، تقوم بنوع من إضفاء الشرعية على تطبيقاته المدمرة للفكر والإنسانية، كما قام بنقد الفلسفة التحليلية لفنتشتاين (Ludwig Wittgenstein) وفلسفة اللغة، ليصل إلى ما يسري في كل الكتابات الفلسفية المعاصرة وإلى أسئلة حاسمة: ما الفلسفة ؟، وعلى أي أرض تقوم!، وما مهمتها في عالم التكنولوجيا المعاصرة ؟.

- يتعلق الأمر إذاً بمهمة ووظيفة الفلسفة، هل وظيفتها تحليل الألفاظ والتركيب اللغوي؟، لتصبح الفلسفة هي إيضاح اللغة وتحليل مفاهيمها وألفاظها وفحص تراكيبها، وهي بذلك تقر بالإطار الاجتماعي كأنه مسلمة أو بديهة لا تنقض، عند هذا الحد يقوم موقفه، حيث نجد «اعتراضات ماركيوز في «الإنسان البعد الواحد» ذهبت إلى أبعد من الاحتجاج على النظام الاجتماعي، لقد اعتقد كذلك أن الفكر الفلسفي المعاصر، خاصة الفلسفة التي تسود في إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية ترزح تحت طابع القبول وتفتقر إلى صفة النقد»؛ لأنها ترضخ لتتبع المجتمع وكلامه دون أخذ بعد نقدي منه، فالفلسفة كانت دائماً تستنفر الوعي وتنبهه من خطر اختصاره إلى وعي جامد، إذاً ماركيوز يرفض استقالة الفلسفة وتحولها إلى ماكينة لشرح وتوضيح اللغة.

لهذا يتضح أن التحليل اللغوي يحول الكلام إلى خطاب أحادي البعد وحصر المعاني إلى معنى واحد، كل هذا مناف لجوهر الفلسفة التي كانت على الدوام تضع الوضع القائم موضع المسألة وتقف موقف الريبة إن لم نقل موقف سالب، فانخراطها في مجالات الصراع داخل الوجود الإنساني خاصة المستوى السياسي يبين غايتها التحريرية، لهذا «يعتقد ماركيوز أن المهمة العلاجية للفلسفة في العالم الاستبدادي الكلي يجب أن تكون مهمة سياسية... هنا يجب أن تتداخل السياسة في الفلسفة لا كمادة خاصة بل كموضوع للتحليل ويجب أن تحلل المفاهيم الفلسفية من أجل إدراك واقع لا يكون مبتوراً».

وأخيراً اعتراض ماركيوز على الفلسفة كمؤسسة احترافية (احتراف فعل التفلسف) وفلاسفة احترفوا الفلسفة كنزوع أو ميل لاحتكار المعرفة، فالفلسفة «لا تريد مريدين بل أناساً أحراراً»، ويحمل بشدة على طريقة ترويض التأمل الفلسفي في المدرسة كالأكاديمية الأفلاطونية همها الوحيد إعداد مواطنين مندمجين خاضعين أكثر من، تكوين مواطن حر مفكر ناقد، أين يتم تنصيب الفلسفة فيها كمحكمة تحرس قيم العقل والعقلانية على النمط السائد.

- إلا أن الناقد اليسدير (Maclntyre Alasdair) يحمل على ماركيوز العديد من المآخذ في هذه المسألة وفلسفته عامة، يمكن حصرها في ثلاث نقاط:

1- أسلوبه الذي لا يقدم حججاً ونقاشاً بل يملي الحقائق.

2- طريقة تلفيقه بين المذاهب الفلسفية وتوظيف نظرياتها في المجال السياسي والاجتماعي.

3- المفارقة بين فكره والممارسة أين ينخرط هو كذلك في النظام كونه شغل مناصب فيها، لا يحق لماركيوز نقد المجتمع الأمريكي، إنما كان الأجدر به نقد التجربة النازية الألمانية لأن المجتمع الأمريكي أقل شرًّا من المجتمعات الفاشية والديكتاتورية السائدة.

يتوقفنا هاهنا سؤال ملح، سؤال يتبادر إلى أذهاننا وذهن الكثير من الدارسين لفكر ماركيوز هو هل: «ماركيوز فيلسوف أم عالم اجتماع أم إبستيمولوجي لعلم الاجتماع ؟ فمن جانب نقد علم الاجتماع الأمريكي... ومن جانب آخر نقد الفرويدية الأرثوذكسية وفي الوقت نلفسه نقد الفرويدية الجديدة!، كل هذا الزخم يطرح الكثير من التساؤلات»، لهذا سننطلق أولاً في البحث عن الطرح الفلسفي عنده.

إن دراسة الظروف والملابسات التي اكتنفت حياة ماركيوز ليست عملاً اعتباطيًّا، بل ستبرز لنا الكثير من جوانب فلسفته أو على الأقل تساعدنا في غمار خوض هذا السؤال الفلسفي، ما هي الفلسفة لدى هربرت ماركيوز؟ إشكال محوري يطرح نفسه علينا حين نسعى إلى إدراج فلسفة ماركيوز ضمن أحد الأنساق الفلسفية المعاصرة، فمثل هذا التساؤل يمكن التأسيس له بطرح الطابع النقدي لهذه الفلسفة، أو يمكن أن نجعل إطاراً خاصًّا بها نسميه بـ«فلسفة البراكسيس» «La praxis».

تعددية المرجعية في الطرح الماركيوزي

«على الفلاسفة أن يغيروا العالم لا أن يفسروه»، لقد أسس هذا القول الماركسي لمرحلة جديدة في تاريخ الفلسفة أعيد النظر من خلالها في الدور الذي يمكن أن تلعبه الفلسفة في الواقع الإجرائي العملي، بمنهجية فكرية جديدة سعت إلى إخراج الفكر من تجريديته المتقوقع فيها إلى الواقع الاجتماعي، فلم يعد وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي –كما رأى هيجل– بل صار ذاك الوجود الاجتماعي هو المؤطر للوعي، وبات من الممكن للعقل أن يقوم بدور ثوري في حياة الإنسان.

ومن رحم هذه الأفكار تولدت نظريات نقدية للمجتمعات المعاصرة، حاولت التأسيس لوجود إنساني جديد بشكل أكثر تحرراً، ولعل من أبرز هذه الفلسفات الجديدة، الفلسفة النقدية لهربرت ماركيوز، التي أسست لمجموعة من المفاهيم العملية الجديدة، من خلال قراءات جديدة –خصوصاً- للماركسو–فرويدية (freudo-marxistes)، انبنت أساساً على نقد المجتمع المعاصر.

ولقد حاول ماركيوز أن يطرح أسئلة جديدة في البحث الفلسفي، فهو لا يقتصر على معالجة المفاهيم والتصورات بصورة تجريدية محضة تعزلها عن إطارها الاجتماعي، بل يحاول كشف هذا المضمون الاجتماعي حتى في أشد المفاهيم الفلسفية تجريداً، ولعل هذا هو أصدق تعبير عن مفهوم البراكسيس (Praxis)، ولم يقصر ماركيوز تاريخ الفلسفة على تاريخ جملة المفاهيم المنتسبة إلى عصر دون الآخر، بل إن هذا التاريخ يشمل تطور دلالات تلك المفاهيم من عصر إلى آخر، «فحتى المفاهيم الميتافيزيقية التي تبدو لأول وهلة لا تتغير، فإنها تتغير عند ماركيوز من حقبة زمنية إلى حقبة زمنية أخرى، من حيث علاقتها بالحقيقة الملموسة المحدودة».

ومن هنا أخذت وظيفة النقد الفلسفي لدى ماركيوز تبحث في ذاك الوجود الإنساني المجرد والواقعي، وبالتالي يمكن القول: إنها اتخذت منحنيين أو اتجاهين متلازمين يكمل كلاهما الآخر.

يهدف الاتجاه الأول لدى ماركيوز إلى كشف الأساس الواقعي لأكثر المفاهيم الفلسفية تجريداً، فقد لا تكسب هذه المفاهيم المجردة معناها الحقيقي إلا بارتباطها بسياق العلاقات الاجتماعية، فماركيوز ينفي نفياً مطلقاً فكرة التطور التلقائي المستقل للفلسفة، بل يرجع تطورها إلى ذاك التطور العام الذي عرفته المجتمعات البشرية، أي عبر الجدلية النقدية فكل فكر أصيل لابد له، شأنه شأن الفلسفة، أن يخطو هذه الخطوة إلى النقد، فما من إنسان يستطيع أن يفكر حقًّا إذا لم يجرد وينقد انطلاقاً مما هو معطى، إذا لم يربط الوقائع بالعوامل التي سببتها، إذا لم يضع الوقائع موضع تساؤل، إن القدرة على التفكير في تجاوز الواقع هي حياة الفكر بالذات والبرهان على أصالته.

يسعى ماركيوز في الاتجاه الثاني إلى إبراز قيمة الفلسفة كمعرفة منبثة في أكثر حركات التاريخ واقعية، وأقواها تأثيراً في حياة الناس العملية، وذلك بكشف الأساس الفلسفي لأكثر الحركات الاجتماعية واقعية، ومن خلال هذه الرؤية النقدية المتكاملة، يمكن تلخيص رؤية ماركيوز للفلسفة –أو للحقيقة الفلسفية– بأنه من غير الممكن إطلاقاً أن تعيش في عالمها الخاص، عالمها المفارق الذي تنقطع جميع صلاته بعالم الإنسان، بل على الفلسفة أن تلازم الحياة الاجتماعية للإنسان وتعايش هذا الكائن الوجودي في معناه الواقعي لا المجرد، فماركيوز يلح في أكثر من مكان على وجود مضامين اجتماعية وتاريخية حتى في أكثر المفاهيم الفلسفية تجريداً.

- إذ يعبر عن ذلك في مؤلفه السلب (Négations) بقوله: «توجد في الفلسفة مفاهيم أساسية لها طابع ميتافيزيقي يجعلها تبدو لأول وهلة بعيدة عن الجذور الاجتماعية التاريخية للفكر، كما أن بقاء مضامينها على ما هي عليه في أشد النظريات الفلسفية تبايناً يوحي بأن فكرة (الفلسفة الأزلية الثابتة) مبررة، غير أن الواقع يثبت أن التطورات الفلسفية مهما بدا عليها من مفارقة فإنها تخضع للتطور التاريخي»، وبهذا فالنظرية النقدية لدى ماركيوز عملت على تفسير الإنسان وعالمه في إطار وجوده الاجتماعي، بدلاً من تفسيره وفقاً لمفاهيم فلسفية مجردة –كما هو الحال لدى الفلسفات المثالية– فحتى الموضوعية العلمية لدى ماركيوز ليست ضماناً للحقيقة، إذاً لابد من التخلص من إضفاء طابع القدسية على العلم بتعريض أهدافه ومناهجه للنقد المتواصل، وانطلاقاً من هذا التصور حملت الفلسفات المادية بعدين أساسيين هما الاهتمام بالسعادة الإنسانية، والاقتناع بإمكانية تحققها عن طريق تغيير الظروف المادية للوجود، وهذا هو المصير الحتمي للإنسان لأجل خلاصه من كل طغيان وكل سلطة قمعية، «إنه مصير يفترض فيه أنه نموذج، فغياب الحرية السائد، وقوى التمرد يكشف بذلك النقاب عن زيف الواقع الاجتماعي وتحجره، وفاتحاً أفق التغيير (التحرر)».

ونستخلص من كل ما سبق أن المهمة الأخيرة للفلسفة ستكون مهمة نقدية، ولا يوجد مكان تقوم عليه إلا بالعودة إلى جوهرها الأصيل، فلطالما كانت الفلسفة لحظة نقدية للواقع المعطى، فنقد ماهو كائن يؤسس البعد الأكثر عمقاً للسؤال الفلسفي كونه يدخل في حوار ومساءلة مع الوجود كما هو معروض أمامنا، فالسلب يبقى الطور الأساسي لكل تمايز بين التفكير العادي والتفكير الفلسفي حيث يعتبر المحرك لكل تأمل خلّاق، ولا يمكن حصرها في مجال ضيق من الدراسات اللغوية الميتة، بل عليها الاستفادة من تطورات العلوم الإنسانية والانخراط في الوجود المتعين لتعرية مواطن الاستلاب الحاصل فيه، وتكشف عنف السلطة واستراتيجيات الهيمنة والسيطرة، فهي تضيء الوجود الإنساني، لقد كان الفكر دائماً في تطلّع إلى ما يجب أن يكون داحضاً ما هو كائن وكان النقد جذوة التفكير التي لا تنطفئ. لم ترث الفلسفة المعاصرة إلا ميراث كانط النقدي وتقف أمام ثلاث أساتذة أسسوا للحظة النقدية للفكر المعاصر هم: نيتشه - ماركس - وفرويد، ولعل العامل المشترك بين هؤلاء هو البعد النقدي لفلسفتهم، فنقد نيتشه للعقلانية الغربية كونها ليست المصير المحتوم للغرب وإنما اختيار أفلاطوني فهي لا تنم عن الحلم اليوناني، كما حلم نيتشه بميلاد «الإنسان المتفوق» المتحرر، عبر الحكيم المشرقي «زرادشت» الذي يهزأ من هذا الصنم المسمى العقل، يهزأ من الغرب من مسيحيته وعقلانيته، أما نقد ماركس وفرويد فسوف نفصل القول في نقديتهم فيما بعد، وستتواصل المسيرة النقدية كذلك مع ماركيوز عندما يحمل عبء نقد الديمقراطية المزيفة، والمجتمع الاستهلاكي ونقد المركزية الغربية، إن الخيط الخفي لفلسفته هو التأكيد على فرضية عميقة هي أن العقل يصطدم في مسيرته مع شساعة مملكة الأعقل، إن الأنطولوجيا الغربية منذ أفلاطون مروراً بديكارت (René Descartes) وهيجل لم تبرر إلا وجود العقلانية الغربية، حين انتهى المشروع الأنواري (Aufklarüng) بحربين عالمتين مدمرتين أثبتت محدودية العقل.

إذاً لم يبق للفلسفة إلا أن تنفتح على العلوم الأخرى إذ لا وجود للحدود بين الفلسفة والعلوم الإنسانية الأخرى، وعليها الانخراط في الوجود المتعين بالتأكيد على أن ما هو قائم ليس هو الحقيقة، بل اللحظة التي على الفلسفة أن تنشدها هي التطلع إلى ما يجب أن يكون (الأفضل)، وفتح الوجود الإنساني على كل إمكانياته، أي لا سلطة تعلو سلطة النقد لينتهي العقل الأداتي إلى عقل منفتح على الحساسية والخيال والاختلاف وتعدد الأبعاد، بالتواصل داخل الذات نفسها وبين الذات والآخر.

ومن خلال هذا الفعل النقدي للفلسفة والعلم برز ماركيوز كناقد للفكر المعاصر، في علاقته بالمجتمع الحداثي مستنداً على فلسفة النفي الهيجلية التي وجد فيها ماركيوز المرجعية الأساسية في نقد أسس ومبادئ الفكر المعاصر، فهيجل يرى «أن الوجود المباشر للعقل ألا وهو الوعي ينطوي على لحظتين، المعرفة الموضوعية، القائمة في مواجهتها كضد سالب»، واستناداً على هذا التصور الهيجلي أراد ماركيوز نقد وتفكيك المجتمع الصناعي المعاصر باعتباره مجتمع السيطرة الكلية، فزيادة على قدرته في إجهاض محاولة الاعتراض عليه، يملك القدرة كذلك على توظيف جميع طاقات الإنسان المعاصر الجسدية والروحية لغاياته المادية، فهذا المجتمع يمارس عنفاً من نوع خاص، إذا ما عرفنا العنف «بأنه لا شيء أكثر من التجلي الأكثر بروزا للسلطة»، فبدلاً من أن تكون التكنولوجيا قوة تحريرية في خدمة الإنسان المعاصر أمست عقبة في وجه التحرر، بتحويل الإنسان المعاصر إلى أداة، وعقله إلى عقل أداتي.

 

 

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة