تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

مدخل ومقدمة

الدكتور عبد القادر بوعرفة

يعتبر المنهج العمود الفقري للبحث العلمي، إذ لا يستقيم هيكله إلا به، ولا تنضبط نتائجه إلا من خلال حركته، ولا تتأتى أبعاده إلا من خلال مقاصده الإبستيمية، فالمنهج -كما وضحه روني ديكارت (مقالة في الطريقة)- هو الطريقة التي تعصم العقل من الشطط، وتمنعه من الزّلل، وتنقله إلى عالم البداهة والوضوح، وتزوده بسلاح الشك والنقد.

وحال المنهج في العلم كحال رجلين أرادا السفر، أحدهما يسير دون خطة ولا خريطة في أرض غير معلومة لديه، والثاني تزود بكل ما يلزم وما يميله منطق السّفر. فمن البديهي أن الأول سيضِل طريقه ويتيه في المنعطفات والجُدد، وحتى وإن وصل فيكون قد ضيع جهده ووقته وبلغ منه النَّصَب مبلغاً، في حين أن الثاني يكون قد وفر الوقت والجهد وكان له السبق في الوصول.

إن العلوم الاجتماعية تعتبر حقلاً معرفيًّا صعباً للغاية من منطلق أن الإنسان هو الدّارس والمدروس، وتجتمع الذات الباحثة بموضوع البحث ذاته في بؤرة الإدراك، فيصعب على الذّات الباحثة أن تدرس الموضوع دراسة مستقلة وموضوعية، فالموضوع له تأثيره السّحري على الذّات العارفة من خلال التأثير الذي تمارسه كل من القوى الشعورية واللاشعورية، فالميل الأيديولوجي والعقدي والرغبات والميول... كلها تعتبر من معوقات البحث العلمي الجاد.

إن العلوم الإنسانية والاجتماعية تأخر ترسيمها كعلم (المعنى الأكاديمي) قياساً والعلوم التجريبية والتجريدية، بناء على جملة من المعوقات على رأسها استحالة تطبيق المنهج التجريبي على الظاهرة الإنسانية والاجتماعية، وخاصة استحالة عزل الظاهرة أو إخضاع جزء منها للاختبار.

ومن خلال ما سبق، لم يستطع العقل الوصول إلى تشكيل المعرفة إلا بواسطة إبداع آليات إنتاج المعرفة، والتي تشكلت كمنهج يعصم عند مراعاة قواعده الفكر من الوقوع في المغالطات والتناقضات. فالمنهج ارتبط حضوره في أغلب الأحيان بالنسقية، التي جعلت أحياناً علاقة الذات بالموضوع تتسم بالتّعالي المفرط، فالموضوع لا ينبغي أن يرتقي إلى مستوى الذّات العارفة. وأحيانا أخرى، تجعل الموضوع أكثر أهمية من الذات، باعتبار أن الحقيقة ليس كما تعتقد الذات العارفة وإنما الحقيقة تكمن في الموضوع وتصبح الذّات مجرد مرآة تعكس حقيقة الموضوع وفق آليات المنهج.

العلوم الاجتماعية والإنسانية: الأزمة ورهانات التّّحول

لا تزال العلوم الاجتماعية والإنسانية إلى اليوم تتعرض للأزمات في البنية المَتْنِيَّة والمنهج معاً، فمنذ تأسيس علم الاجتماع على يد كل من أوغست كومت وإيميل دوركهايم لا زال الأخير يُجدد مناهج بحثه وطرق نظره لكون الظاهرة الاجتماعية معقدة وتتحكم فيها العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فكل سلطة تحاول أن توجه علم الاجتماع نحو ما يبرر وجودها ويوطن فلسفتها، وتحاول قدر الإمكان تسخير النتائج وفق الاستراتيجية العامة للدولة.

ولقد تفنن السّاسة اليّوم في إبداع مفهوم جديد يُبرر تبعية العلوم الاجتماعية لما هو سياسي، والمتمثل في مفهوم الأمن القومي، الذي بموجبه يمكن طمس الحقائق والنتائج وتحويرها إلى ما يخدم الأمن القومي.

إن علم الاجتماع لم يعد علماً خالصاً، بل تحوَّل إلى علم السلطة والجماعات الضاغطة، التي من خلال التفسيرات المبنية على الإحصاءات والاستبيانات تحاول أن تُوجِّه الرأي العام نحو ما تريد السُّلط أن يطلع عليه الشعب. وبالرغم من استعمال المنهج الرياضي في علم الاجتماع مُمثلاً في الإحصاء إلا أن النتائج لم تصل إلى مستوى اليقين قياساً والعلوم التجريدية.

لا زال علم الاجتماع في البلدان الغربية بالخصوص يشهد تبياناً بين الموضوعية والذّاتية، ولا زال عالم الاجتماع قرين السلطة وخادمها الوفي.

تتسم المناهج في علم النفس بالتغير المتسارع، فمن التّحليل النّفسي الذي وضعه سيغموند فرويد لم نر منهجاً يشكل نقطة تحول في مساره، فالروس حاولوا أدلجة علم النفس من خلال المنهج المادي الذي طبقه بافلوف، وخلص إلى تفسير سلوك الإنسان بالمنعكسات الشرطية معتبراً النّفس مجرد جوهر مادي شفاف. والأمر ذاته حدث في المدرسة الإنجلوسكسونية حيث وضع السلوك الإنساني ضمن ثنائية المحاولة والخطأ، أو ربط السلوك بالنزعة السلوكية لسكنر وواطسن.

وعلم النفس ذاته، لم يستطع أن يتخلص من اللَّايقين والتّفسير الافتراضي لمعطيات النّفس المعقدة، فلقد أُسِّس أصلاً على سرح خرافة عقدة أوديب وألكترا، وبُني على مسلمة غير قابلة للبرهان تسمى اللاشعور. والذي شهد بعد فرويد تحويراً مستمراً، فظهر اللاشعور الجمعي مع يونغ، واللاشعور السياسي مع روجيس دوبري.

ولم تكن الفلسفة أسعد حظًّا من غيرها، فلقد أصبحت اليوم دون منهج، نظراً لفشل المناهج المتبعة في التأمل العقلي. لقد حاولت المدارس الفلسفية أن تجعل الفلسفة كالعلم من خلال تطبيق مناهج البحث في العلوم التجريبية والتجريدية، بيد أن الفلسفة شهدت تراجعاً حادًّا وتقهقراً مستمراً في عصر تنوع مناهج البحث العلمي، لأن طبيعة التأمل الفلسفي تنفر من الأنساق والبراديغمات الضّيقة.

فلو أخذنا على سبيل المثال كتاب مقالة في المنهج لديكارت، لاستنتجنا بوضوح أن المنهج الذي استخدم في الفلسفة إنما كان في الأصل موجًّهاً للعلوم التجريدية، فديكارت من خلال رباعيته الشهيرة وقواعده الثلاث عشرة يحاول ترييض العلم والفلسفة، ويمكن أن نقبل فرضية ترييض العلم ولكن تطبيقها على المتن الفلسفي سيجعل من الفلسفة تنتهي لحظة وصول الأنا إلى تحقيق الكوجيتو.

ونلاحظ أن المناهج الأكثر شهرة في الفكر والفلسفة تنم عن أزمة منهج أكثر ما تنم عن التنوع والإبداع، فعلى سبيل المثال إن المنهج الأركيولوجي ما هو إلا محاولة التشبُّه بعلم دراسة طبقات الأرض، ففرضية تمثيل المعرفة بطبقات الأرض في تراكمها يُعد تخيلاً وقياساً لا يراعي طبيعة المعرفة ذاتها.

ويصدق الأمر والحال على المنهج الأركيولوجي والجينيالوجي، والبنيوي والتفكيكي، والتأويلي والمادي... فكل المناهج المعاصرة هي مجرد إسقاطات عقل تائه في النهايات ولحظات الشرود والأفول.

لقد ترجم هذه الأزمة أنصار اللاّمنهج، وعلى رأسهم فيرباند، حيث اقتنعوا أن الإبداع والتّقدم يتم عندما نُحرر العلوم من سلطة المنهج لأن اللَّامنهج كفيل بإحداث النّقلة النّوعية ويجعل العلوم تتطور في عصر الهوّس بالمنهج.

إن أزمة المنهج في العلوم الاجتماعية والإنسانية لا يعني عدم القدرة على إنتاج مناهج قادرة على تطويرها وتفعيلها، وتقريبها من العلوم التجريبية والتجريدية، إذ إن بعض المناهج استطاعت أن تقدم خدمة جليلة ولو نسبيًّا، لقد تغير حال العلوم الاجتماعية والإنسانية عما كانت عليه في القرن الماضي، لقد أصبحت أكثر تناسقاً وضبطاً وأكثر مصداقية بالرغم من أن نسبة الخطأ لا زالت مرتفعة حتى عند تطبيق أشهر مناهج البحث. وسأحاول أن أُقدم نموذجاً استطاع في لحظةٍ تاريخيةٍ ما أن يعطى دفعة قوية للعلوم الاجتماعية والإنسانية بالرغم من كونه لم يستطع أن يستمر كما كان يأمل إدموند هوسرل. إن المنهج الفينومينولوجي انطلق من أزمة العلوم الإنسانية، وخاصة علم النفس، إذ يجزم أغلب من أرخوا لتاريخ الفكر الفلسفي أن مصطلح الفينومينولوجيا عُرف في الفلسفة الكلاسيكية كمصطلح تابع للدراسات النفسية، ويعني ارتباط الموضوع بملكة الإحساس غير الوهمي ارتباطاً يؤدي إلى تمظهره تمظهراً يحقق الموضوعية.

ومن ناحية أخرى يعترف هوسرل لعالم النفس فرانز برونتو بالفضل في ميلاد المذهب الظواهري من خلال أعماله حول الظواهر البسيكولوجية، والذي نبَّه إلى ضرورة فهم الظاهرة النفسية انطلاقاً من القصد: «المعرفة هي دائماً قصد مُوجَّه نحو الموضوع». وهو نفسه القائل: «الوعي هو دوماً وعي بعض الأشياء».

لكن رغم هذا التأثير فقد وجَّه مؤسس الظواهرية نقداً للمذهب النفسي من خلال المنهج المتبع، الذي يري فيه انزلاقاً نحو المذهب الاسمي والوضعي، كما أراد أن يعطي للوعي الإنساني مكانته بعيداً عن النظرة المكبلة له ضمن أطر الأحاسيس والانطباعات، يقول: «إن القيام ضد النزعة السيكولوجية عند هوسرل كان يتجه أساساً ضمن إدراج الوعي ضمن كائنات الطبيعة، بيد أنه كان يريد أن يصون الذات ويحفظها في صميمها داخل المثالية الترنسنتالية».

إن المقولة التالية لهوسرل تبين قيمة الشعور اللامحصور، بل الذي يحدده الوعي القصدي: «كل شعور هو شعور إذا حاول الوعي أن يعود إلى ذاته ويتحد معها وينغلق على نفسه انعدم».

وقد أسس الفينومينولوجيا على أساس تقديم أفق منهجي وفلسفي لتنمية العلوم الاجتماعية والإنسانية. إذ بقي الصراع بين المدرسة التجريبية وأنصار العقلانية الديكارتية مستمراً في الفكر الأوروبي، ولم يكن الخلاف بينهم حول موضوع المعرفة وإنما كان الخلاف الجوهري حول مشروعية المنهج الذي يوصلنا إلى المعرفة. إن إشكالية فصل الذات عن الموضوع، لم تخرج عن منطق السجال إلا مع ظهور الفينومينولوجية، والتي قدمت منهجاً قائماً على قلب الكوجيتو الديكارتي، فبدل أنا أفكر إذن أنا موجود، يصبح المبدأ الفينومينولوجي أنا أفكر إذن أنا المفكر فيه (EGO COGITO COGITATUM).

ومن خلال دراسة أعمال كل من هوسرل وميرلو بونتي وغادامير، نكتشف بنية المنهج يقوم على الأسس التالية:

- لا يوجد موضوع خارج ما أفكر فيه ولا يمكن أن أفكر في موضوع خارج بؤرة الذات.

- ضرورة بناء السؤال ضمن مقولة الشيء في ذاته، واختزال مقولة الشيء في ذاته ولذاته.

- وعي السؤال في حقوله الثلاثة: الماضي، الحاضر، الماضي + الحاضر.

- الانتقال من أفق السؤال إلى فينومينولوجية التأويل (اللغة - الجمال - المنطق).

- الانتقال من جاذبية التفكير إلى قصديته، أي عدم فصل العملية الشعورية عن المدركات.

إن الغاية من المنهج الفينومينولوجي هي إدراك العلاقة بين الذات والموضوع، والتي تتحدد وفق قصدية الذات، لأن المناهج التقليدية لم تعط للموضوع المدرك القيمة التي يحتلها كطرف في حقل المعرفة، إن المنهج الفينومينولوجي هو تركيب بين المنطق الهيجلي الأكثر حركيةً وتدافعاً بين عناصر الموضوع، والمذهب الوجودي الأكثر ثورةً على الأنساق القديمة.

يحدد علماء المنهج كون علم الظواهر علمان، علم يدرس الظواهر من حيث اقترانها بأسباب حدوثها، ويخلص إلى تحديد العلاقة المبنية على أساس العلة والمعلول، يستمد شرعية نتائجه غالباً من التجربة والاختبار وفق القواعد التي وضعها كل من فرانسيس بيكون وجون ستوارت ميل، وهو ما يعرف لدى العام والخاص بالمذهب التجريبي الذي يحاول أن يفصل الموضوع عن الذات العارفة إذ يصبح الموضوع هو أصل الحقيقة (المعرفة يعكسها موضوعها). وعلم يدرس الظواهر كما هي عليه في الزمان والمكان دون فصل الذات عن الموضوع أو إقصاء الأحوال الشعورية النفسية عن موضوع المعرفة.

وعلم الظواهر يتخذ ثلاث أشكال رئيسة:

1- دراسة الظواهر النفسية من خلال علاقة الأنا بأحوالها الشعورية، ويرتبط بمبدأين:

أ - ملاحظة المعطيات النفسية من خلال أعراضها.

ب- وصف الأحوال الشعورية وصفاً دقيقاً مستقلاً عن كل قصد أو تصور أو حكم سابق عنه.

2- علم دراسة ظواهر الوجود: ويختص بدراسة بنية الظاهرة من أجل معرفة شروط ظهورها أو حدوثها أو وقوعها، ويرتكز على مبدأين:

أ - دراسة وصفية تحليلية.

ب- تفسير تكوُّن الظاهرة وتبيان ماهيتها.

3- علم الظواهر المتعالي: وهو العلم الذي سيطر على الساحة الفلسفية، وتمخض عنه المذهب الفينومينولوجي والذي يعود الفضل في إرساء قواعده وتحديد منهجه إلى إدموند هوسرل والظواهر لم تكن علماً منفصلاً عن السياقات العلمية الأخرى بينما هي استمرارية للفكر الغربي، وهوسرل يجعل رونيه ديكارت معلماً من خلال كتابه (تأملات)، يقول هوسرل: «فالاندفاعات الجديدة التي تلقتها الفينومينولوجيا إنما تدين لروني ديكارت أعظم مفكري فرنسا، وقد تحولت الفينومينولوجيا الناشئة بفضل دراسة (تأملات) ديكارت إلى نموذج جديد للفلسفة المتعالية». ودون أن ننسى دور هيجل من خلال كتابه «فينومينولوجيا الروح».

إن الظواهرية هي علم وصف الظاهرة وصفاً مستقلاً عن الوسائط المادية التجريبية، إذ يعتمد على تحليل الظاهرة تحليلاً عقليًّا، مبنياً على القصدية الشعورية، مرتكزاً على التتالي في عملية التحليل، كما أنه يتحدد بدور الشعور المحض أو الخالص (PHINOMINOLOGI DE LESPRIT).

وكما جاء في الموسوعة العلمية: «الفينومينولوجية تتعلق عموماً بدراسة وصفية أولية للمعطى الظاهراتي، لأجل تشكيل صورة مجردة، وهذه الوصفية ترتبط بضرورة تحديد الشروط العامة للظاهرة باعتبارها نفسها تمثل بعدا جوهريا للكائن».

ونتيجة انتشار الفينومينولوجية في الأوساط الفكرية فقد أثرت في كثير من التيارات الفلسفية والأدبية كالوجودية، فتكون ما يعرف باسم علم الظواهر الوجودي (phinominolgie) ويتمثل في استعمال منهج يعمل على وصف ما يحيط بالذات من شروط واقعية تحدد وجوده العيني أو ما سواه. إن أهم العناصر في بنية المنهج الفينومينولوجي تتمثل في نظرية الحصر أو التعليق أو التقويس.

يرفض هوسرل الشك الديكارتي كمنهج لمعرفة ماهية الموضوع، ويري أن الشك هو نفسه عملية يصدر من خلالها حكم على الموضوع المقصود في ذاته، وبالتالي لا يمكن أن يحقق معرفة بإصدار حكم على حكم، وعليه فإن المنهج الفينومينولوجي يخلصنا من عملية إصدار الأحكام نتيجة ميله في لحظات الوعي الخالص إلى التعالي. ونقصد بذلك أن الإدراك المرتبط بالوعي الخالص والمُسيج بالقصدية يجنح إلى مرحلة الحصر والإقصاء. بمعنى آخر هو رفض الأحكام أو على الأقل التوقف عن إصدار الأحكام ريثما يتجلى الوعي الخالص.

ونظرية الحصر عند هوسرل تحاول أن تعطي للذات العارفة لحظة مثالية لأجل تأمل الموضوع تأملاً وصفيًّا ماهويًّا، مع توفير شروط إدراك الموضوع من خلال ربطه بالأحوال النّفسية للذات التي تتحدد وفق تفاعلات الذّات مع أحوالها الشعورية.

إن لحظة التوقف عن إصدار الأحكام مرتبطة بلحظة تاريخية وهي لحظة الاطلاع على الأحكام والآراء التي أطلقتها المذاهب والمدارس على الظاهرة التي هي بالضرورة موضوع اللحظة التأملية.

إن من شروط الفيلسوف وفق معايير المذهب الفينومينولوجي التوقف عن إصدار الأحكام، لأن المنهج الفينومينولوجي لا يهمه الحكم في ذاته، بل يهمه كيف استطاع المتأمل أن يصل إلى ماهية وكنه الموضوع.

وعملية الحصر أو التعالي تمر بالمراحل التالية:

1- إقصاء الحكم القبلي والجاهز عن الموضوع. «وبعزل التفرد والوجود نكون قد قمنا بعملية تحديد لجميع علوم الطبيعة وعلوم الذات، وكذلك نكون قد قمنا بتجريد تجارب هذه العلوم وفرضياتها».

2- التركيب بين عملية الإقصاء والنية: إن الإقصاء والتعالي يؤدي إلى حتمية وجود نية وقصد حيال الموضوع، وعندما نصل إلى أعلى درجات الوعي الخالص فإن الحقيقة تنبلج على أنها تيار من التجارب المتعاقبة على الشعور، عندئذ تتمظهر أفعالاً مجردة، ولعل هذا ما أراده كانط في قوله: «فإن الظواهر لابد أن تخضع لتصور الاشتراك (الأثر المتبادل)، وهكذا تكون المبادئ القبلية أساس الأحكام الصحيحة موضوعيًّا مع أنها أحكام تجريبية».

الوعي الخالص لا يعد أفعالاً غرضية، لأن الموضوع ليس سوى معطى خاص لهذا المحمول المنطقي.

والموضوع الغرضي يتشكل من خلال التفاعل الناتج بين المادة المحسوسة (HYLE) وبين الهيئة المقصودة (MORPHE) يوجد عنصر نشيط يوقظ العلاقة بين H وN يتمثل في (NOESE).

إن المنهج الفينومينولوجي حاول من خلال فلسفة أنصار مذهب الماهية أن يحقق مساءلة فلسفية خالصة، تتمثل في استنفاد التجربة الغرضية من لحظات التأمل الخالص لجملة التجارب المرتبط بالأحوال الشعورية، فيصبح بموجب هذا الاستنفاد المحمول مرتبطاً بالموضوع، والموضوع معطى أساسيًّا للمحمول الخالص.

إن الحقيقة عند الفينومينولوجين ليست شيئاً مستقلاً، فهي مجرد ظاهرة مجردة –موجود ما- والظاهرة ما هي آخر الأمر إلا مشروع نية ووعي خالص.

لقد حاولت من خلال المنهج الفينومينولوجي الوصول إلى حقيقة، تتمثل في أن العلوم الإنسانية تعيش أزمة دائمة، وإنه من العبث في العالم الإسلامي والعربي أن نعيش على وهم أن المناهج الغربية صالحة لدراسة الظواهر التي نعيشها، إن المنهج ليس مجرد تقنيات وآليات يتبعها الباحث حتى يصل إلى ما يصبو إليه من حقائق، بل المنهج هو تكامل بين الثقافة والمكان والآليات معا، فعندما نستخدم منهجاً غربيًّا يكون عنصر الثقافة والمكان مغيباً، وبالتالي يفقد المنهج نجاعته، لقد نجح مشروع شاخت في ألمانيا نجاحا باهرا لكنه فشل فشلا ذريعا في ماليزيا. ويعود سبب الفشل إلى وجود انفصام بين المشروع وطبيعة المكان الثقافية والاجتماعية.

إننا لن نطور العلوم الاجتماعية والإنسانية في جامعتنا ونحن نستورد المناهج ونطبقها كما هي على ظواهر تتطلب منا أن نبدع مناهج تتماشى وطبيعتها.

لا أرفض الاستعانة بالمناهج الغربية، لكن ينبغي أن نأخذ ونضيف، وفي عملية التركيب نكون قد أبدعنا وتميزنا. فالمنهج الفينومينولوجي على سبيل المثال يمكن تطويره وفق رؤية إسلامية عربية، فالرجوع إلى كتاب المناظر لحسن البصري نلاحظ خطة منهجية تتقارب مع بعض ما ذكر في خطوات المنهج الظواهري ولنتأمل النص التالي: «فطالب الحق ليس هو الناظر في كتب المتقدمين، المسترسل مع طبهم في حسن الظن بهم، بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم، المتوقف فيما يفهمه عنهم، المتبع الحجة والبرهان، لا قول القائل الذي هو إنسان المخصوص في جبلته بضروب الخلل والنقصان، والواجب على الناظر في كتب العلوم، إذا كان غرضه معرفة الحقائق، أن يجعل نفسه خصماً لكل ما ينظر فيه ويجيل فكره في متنه وفي جميع حواشيه، ويخصمه من جميع جهاته ونواحيه، ويتهم أيضاً نفسه عند خصامه، فلا يتحامل عليه و لا يتسمح فيه، فإنه إذا سلك هذه الطريقة انكشفت له الحقائق، وظهر ما عساه وقع قي كلام من تقدمه من التقصير والشّبه».

يحاول الملف المُقدَّم في مجلة (الكلمة) أن يدرس إشكالية المنهج في العلوم الاجتماعية والإنسانية، بالتركيز على الفكر الغربي الذي يسعى جاهداً أن يُصدِّر مناهجه للعالم، فإذا كان الغرب ذاته يعيش أزمة منهج فما حال العالم الإسلامي والعربي الذي لا يُنتج أصلاً، وكيف يستطيع العالم الإسلامي أن يتطور من خلال العلوم الاجتماعية والإنسانية التي هي أصلاً أسيرة المناهج الغربية المتأزمة في بلازما ثقافتها أصلاً؟ أليس من الأفضل أن نستفيد من تجارب الغرب ثم العمل على إبداع مناهج تتماشى وطبيعة تفكيرنا ومنطقنا؟ وكيف نطور العلوم الاجتماعية والإنسانية ونحن دوماً نمارس منطق الزبون والتلميذ؟

إن الملف المقدم هو دراسة متنوعة ومختلفة لإشكالية المنهج في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وكل باحث له الحق في التّعبير عن وجهة رأيه، إما مدحاً وتثميناً أو نقداً وتمحيصاً.

الملف المنجز يفوق عشرة أبحاث، بيد أننا اخترنا ستة منها فقط، حتى يحافظ الملف على تناسقه ووحدة أفكاره، ويتماشى مع مقاصده الأساسية. ورُتبت المقالات كرنولوجيًّا على الوتيرة التالية:

1- العلوم الإنسانية وآفاق البحث في مناهجها، للدكتور بوكرالدة الزواوي.

انطلق د. الزّواوي بوكرالدة في بحثه من نقطة هامة، تتمثل في ربط تطور علوم الإنسانية والاجتماعية بقصدية الفكر ومتطلبات المجتمع المدني، فالمنهج ما هو إلا وسيلة فقط من أجل تطوير البحث، فالغاية من العلوم الاجتماعية والإنسانية هي خدمة المجتمع المدني وفق ما تتطلبه مشاكله وأزماته. ولقد قدم بحثه وفق التصور التالي:

- لا يمكن أن نعالج إشكالية المنهج في العلوم الاجتماعية/ الإنسانية دون تحديد ماهيتها، إن ظهور العلوم الإنسانية ارتبط بعصر الأنوار الأوروبية ومع النزعة الإنسانية التي واكبت هذا العصر، والتي اهتمت بموضوع الإنسان كظاهرة تدرس مثل بقية الظواهر المادية القابلة للتجربة. واستشهد بالمفكر ميشال فوكو الذي يرى أن العلوم الإنسانية لم تتوارث تراثاً واضح المعالم لأنها كانت منطوية تحت الفلسفة، ومع بداية القرن الثامن عشر بدأت هذه العلوم تفترض فكرة وجود الإنسان كذات قابلة للدراسة والبحث. ثم قدم شهادة «كلود ليفي ستراوس» التي تتمثل في كون العلوم الإنسانية تأخرت كثيراً عن العلوم التجريبية لأسباب موضوعية تتعلق بصعوبة إخضاعها للمنهج التجريبي.

أما جان بياجي فقد اعتبر أن تطور العلوم الإنسانية جاء نتيجة حتمية لانفصالها عن الفلسفة، وبذلك حاولت حل مجموعة من الإشكاليات بمناهج تصدر عن طبيعة موضوعاتها ووظفتها من العلوم التجريبية.

- الكتابة حول المنهج ظهرت مع «راموس» Ramus (1578 – 1515) في عصر النهضة حيث قسم المنطق إلى أربعة أقسام: التصور والحكم والبرهان والمنهج. ويرجع له الفضل في شد انتباه الباحثين إلى أهمية المنهج حيث قام من بعده «بور روايال» Port Royal بوضع أدوات عملية لبناء منهج من خلال علم المنطق. أما «ديكارت» فقد قام بالتنظير للمنهج المؤدي إلى توجيه العقل توجيهاً صحيحاً والبحث عن الحقيقة من خلال كتابه (مقال في المنهج) حيث وضع ثلاثة عشر قاعدة يسير بمقتضاها العقل في بحثه عن حقيقة الأشياء، ويكون بذلك خالف «أرسطو طاليس» الذي وضع ثلاث قواعد أساسية للعقل.

- حاول د. بوكرالدة أن ينبه الباحث العربي إلى ضرورة الاستفادة من الدرس الغربي، وتفعيل دور المثقف في تطوير العلوم الإنسانية في الجامعات، فبرغم من أن الأزمات التي تعرضت لها العلوم الإنسانية والاجتماعية إلا أن المثقف الغربي انكب على التفكير من أجل تطويرها وإخراجها من أزمة المنهج والمتن. مختتماً العنصر بالتساؤل التالي: هل نحن امتلكنا المثقف القادر على تأسيس منهج للعلوم الإنسانية داخل الجامعات الموجودة عبر كامل الوطن العربي؟

ولقد أورد الكاتب نماذج من المثقفين الغربيين الذين ساهموا في تطوير العلوم الاجتماعية والإنسانية، وقد اختار كل من:

- الفلسفة النقدية لكانط.

- الفلسفة التأويلية والعلوم الإنسانية عند غادمير.

- التفسير المادي للظواهر الإنسانية لدلتاي.

واختتم المقال بجملة من التّصورات التي في رأيه يمكن أن تُطور العلوم الاجتماعية والإنسانية في العالم العربي والإسلامي.

2- الفلسفة وسؤال المنهج: مقاربة نقدية لمقولة الأنا أفكر الديكارتي، للدكتور مزي عبد القادر.

انطلق من ثنائية الفلسفة والمنهج، حيث يعتبر سؤال المنهج من الأسئلة الأكثر حضوراً في الفلسفة الحديثة، ويظهر ذلك جليًّا في الفلسفة القاريَّة على وجه الخصوص، وتحديداً منذ بداية عصر النهضة إلى غاية ظهور المنهج التجريبي على يد «فرنسيس بيكون» (1561 - 1626)، ثم استمر التساؤل حول المنهج إذ حاز على مساحة واسعة من مجال التفكير الفلسفي؛ فلقد كتب «رينه ديكارت» (1591 - 1650) «مقالة في الطريقة» (Discours de la méthode) عام 1633، ثم تبعه «جون لوك» (1632 - 1704) بكتاب موسوم «بمحاولة في الفهم البشري» (Essai sur l’entendement humain) عام 1690 حينما حاول الإجابة عن سؤال: ما الذي يمكننا معرفته وكيف يتسنى ذلك؟.

لقد حاول الكاتب أن يحلل «الأنا أفكر الديكارتي» داخل مجموع الأنساق الفلسفية العلمية الأخرى، أو بعبارة أخرى؛ كيف يمكن التفكير مع «ديكارت» وضد «ديكارت» نفسه في مسألة «الكوجيتو»؟

لقد أخذ سؤال: كيف نعرف؟ (الذي يعكس أزمة المنهج) حقه من التأمل الفلسفي الناضج بالرغم من المضايقات التي تعرض لها علماء كثيرون، ولم يكن «ديكارت» بمنأى عن ملاحقة سلطة الكنيسة، لذلك همَّ بإحراق كتابه (Traité du monde ou de la lumière) الذي كتبه في العام نفسه الذي تمت فيه محاكمة «غاليلي» 1633. مما يعني أنه اكتسب القدرة على التعاطي مع ظروف عصره إذ سمحت لفكره بأن يعرف النور بعد ذلك، فجلّ الفلسفات الحديثة إنما كانت بمثابة تعليقات هامشية على فلسفة «ديكارت»؛ وهكذا فإن كل خطوة باتجاه المعرفة العلمية الصحيحة يجب أن تتبع مسلكاً واضحاً يبدأ من المفاهيم الأكثر بداهةً ووضوحاً وتميزاً ثم بعد ذلك تتدرج إلى المعارف الأكثر تعقيداً عن طريق التدرج.

وتوصل الباحث إلى كون أكثر الأفكار بداهةً ووضوحاً هي كوني أفكر، لأن المرء كلما ازداد شكًّا في كونه يفكر ازداد تفكيره، وبالتالي ثبت باليقين عنده أنه يفكر، وهو ما يعني أنه موجود. ثمة إذاً تماهٍ بين التفكير والوجود وليس الثاني نتيجة للأول، أي لست موجوداً لأنني أفكر بل أنا موجود لكوني أفكر والعكس. وبشكل أدق إن الفاعل «أنا» هو مشروط بالحال «أفكر»، ليصبح «الأنا» مبجلاً على حد تعبير «نتشه».

انطلاقاً من هذا المبدأ كانت انتقادات الفيلسوف الظواهري «هوسرل» (Husserl Edmund) (1859 - 1938) لمقولة الأنا أفكر الديكارتي، ومن قبله «نتشه» (Friedrich Nietzsche) الذي سخر من هذه المقولة وكل الفلسفات التي تقوم على العقل وتحتقر الجسد وتمضي مستمرة في الوهم.

ويبقى المشكل «هو أن نفهم كيف تنشأ نسخة من الواقع أو ما يحاكيه داخل الجسد ثم داخل الفكر». الذي يبقى دائماً الهدف من وراء السعي الحثيث للفلاسفة عبر التاريخ لأجل ضبط العلاقة بين المُدرِك والمُدرَك (الواقع)، أو بتعبير آخر: الذات والموضوع.

3- من أجل علم البدء: كلية المنهج الفينومينولوجي والصبغة التاريخية لاستراتيجية الارتداد، للدكتور قواسمي مراد.

تناول بالتحليل والنقد المنهج الفينومينولوجي كبرديغم لتحليل أزمة العلوم الاجتماعية والإنسانية، إذ ينطلق الكاتب من خلال النظرة التي ظلت شائعة عن الظواهرية حيث اعتبرت فينومينولوجيا هوسرل (Husserl) «علماً صارماً» لا يمكن من خلاله إلا الوصول إلى الحقيقة أو على الأقل تجلياتها الرئيسة، ذلك أن الحقيقة الموضوعية تقوم أساساً على مسألة المنهج، وهو ما يعني أنه لا وجود لحقيقة من دون منهج، بل المنهج هو الحقيقة الموضوعية والعلمية، وكل ما يبتعد عن ذلك ينبغي تطبيق الرّد (Réduction) عليه، بما هو مجرّد أوهام عنكبوتية، بلغة فرانسيس بيكون (Francis Bacon)، بموجب أنه من قبيل الحقيقة النسبية ذات الطابع الرّيبي الذي عرفه تاريخ الفلسفة مع السوفسطائيين في العصر القديم أو حتى في العصر الحديث مع النزعة النسبية مع نيوتن (Newton)، هيغل (Hegel) وديلثاي (Dilthey).

وضَّح الكاتب مسألة بالغة الأهمية، تتمثل في كون الحديث عن المنهج يعني بالضرورة وجود أزمة، حيث يسرد ذلك في مقدمته: إن مناسبة الحديث، حسب هوسرل، عن ضرورة منهج لبحث الحقيقة هي أن الحقيقة نفسها تعيش «أزمة» (Krisis)، سببها التوجّهات الريبية والشكّية التي انتشرت هنا وهناك وذاع صيتها وتأثيرها، لأن الرّؤية الفينومينولوجية لا تحتمل أن تخضع الحقيقة للريب، الأمر الذي يعتبر مدعاة لنقد العقل، إذ لم يكف نقد العقل الكانطي المحض، لسبب أنّه كان واقع في كثير من المطبّات، مطب اكتفائه بالحدس الحسّي في المعرفة مثلاً. ولهذا وجب تأسيس منهج جديد يحصّل الحقيقة القطعية (Apodictique) أو بالأحرى ما يفضّل هوسرل تسميته بالبداهة (Evidence)، في صورة تختلف كلية عن كيفية بحث الحقيقة عند: كانط، هيغل، ديلتاي، نيوتن، برانتانو(Brentano) وتواردوفسكي (Twardowski)...فكلّ هؤلاء لم يتمكّنوا من تقويم منهج علمي يحصّل الحقيقة الكلية المطلقة، الأمر الذي جعله يخوض غمار المغامرة، ودروب الفلسفة الشاقة، لأن الطموح العلمي هو الذي كان يحرّكه قبل كل شيء.

4- أزمة المنهج في الفلسفة وإمكانية التجاوز البرغسوني، للأستاذ العربي الميلود.

الباحث العربي الميلود يعترف منذ البداية بأن الفلسفة المعاصرة تعيش وضعاً متأزماً ومعقداً، ليس على صعيد المنهج فحسب، بل في تغير تركيبة المعطيات العلمية، وانكفاء وتراجع المناهج الفلسفية أمام النزاعات العلموية المعاصرة، والتي تسعى لإحلال العقل التقني محل العقل الفلسفي التأملي، مما انجر عنه تراكم إعلان النهايات: نهاية الميتافزيقا، نهاية التاريخ، نهاية المثقف، نهاية الإنسان (موت الإنسان)...

ويحاول من خلال القراءة التي قدمها جيل دولوز أن يقدم المنهج البرغسوني كمنهج تجاوزي يحل أزمة العلوم الإنسانية، إذ يعتبر الباحث أن المنهج البرغسوني إزاء معالجة الإشكالات الفلسفية والهواجس الفكرية نجده يتعدد ويتغير بتعدد المسائل الفلسفية المعالجة، إذ يتناول كل مسألة معينة بنظرة خاصة وأسلوب مغاير، كما هو الحال في تناوله لإشكالية الزمان والحرية، إذ عالج هذه المسألة في مؤلفه «محاولة في المعطيات المباشرة للشعور» بتقويضه للتصورات الميكانيكية والآلية للحياة النفسية، وكذا تهديم تصورات دعاة علم النفس الفيزيائي اللذين حاولوا قياس شدة حالاتنا الشعورية والتعبير عنها بكم معلوم.

فما طبيعة التمايز الذي أقامه برغسون بين الفلسفة الروحية والآلية العلمية؟ وما هي أهم الأفكار التي ساقها برغسون لدحض الآلية وتقرير الحرية الإنسانية والديمومة المتصلة كمعطيين أساسيين من معطيات الشعور الإنساني؟.

ابتدأ برغسون بحثه في إشكالية الزمان بتقويض وهدم المبادئ والأسس التي انبنت عليها المذاهب العلمية، فحاول نقد التفسير العلمي الرياضي للظواهر النفسية، متجاوزاً تلك الحتمية الطبيعية الوثيقة الصلة بالنظرة الميكانيكية للمادة والتي تطبق قانون بقاء الطاقة على الحياة النفسية، كطرح جون ستيوارت مل -مثلاً- عن وجود كيمياء عقلية تماماً كوجود كيمياء مواد إذ نحللها إلى عناصرها البسيطة لندرك مركباتها، الأمر ذاته بالنسبة للحياة النفسية «إذ يجب أن نحلل الأحوال النفسية إلى عناصرها البسيطة وأن نفحص بعد ذلك مركباتها».

بتحليل مسهب يسلّم فيه برغسون بمقدمات الجبرية الفيزيقية، فيكشف هشاشة بنيانها على مستوى الظواهر السيكولوجية غير الخاضعة للإمبريقية، فالنقطة المادية «تحيا في حاضر أبدي»، على عكس خصائص الزمان الذي يجعل استمرار التغير والتقدم المتصل مرتبط بالاحتفاظ بالماضي في الحاضر، ومن غير الممكن أن يحصل ذلك بتعميم قانون بقاء الطاقة على الحياة النفسية وعلى مختلف الأجسام الحية الشاعرة.

5- المقاربة الجدلية في تأسيس المنهج عند هربرت ماركيوز، للأستاذ عطار أحمد.

الباحث عطار أحمد أراد من خلال هربرت ماركيوز أن يعيد للمنهج النقدي دوره الريادي في نقد الظواهر الاجتماعية والإنسانية، ذلك أن الفلسفة ذاتها تنطلق من النّقد وتنتهي إلى النقد. وقد استخلص الباحث من خلال دراسة أعمال ماركيوز خاصة كتابه «السلب» أن المهمة الأخيرة للفلسفة ستكون مهمة نقدية، ولا يوجد مكان تقوم عليه إلا بالعودة إلى جوهرها الأصيل، فلطالما كانت الفلسفة لحظة نقدية للواقع المعطى، فنقد ما هو كائن يؤسس البعد الأكثر عمقاً للسؤال الفلسفي كونه يدخل في حوار ومساءلة مع الوجود كما هو معروض أمامنا، فالسلب يبقى الطور الأساسي لكل تمايز بين التفكير العادي والتفكير الفلسفي حيث يعتبر المحرك لكل تأمل خلَّاق، ولا يمكن حصرها في مجال ضيق من الدراسات اللغوية الميتة، بل عليها الاستفادة من تطورات العلوم الإنسانية والانخراط في الوجود المتعين لتعرية مواطن الاستلاب الحاصل فيه، وتكشف عنف السلطة واستراتيجيات الهيمنة والسيطرة، فهي تضيء الوجود الإنساني، لقد كان الفكر دائماً في تطلع إلى ما يجب أن يكون داحضاً ما هو كائن وكان النقد جذوة التفكير التي لا تنطفئ.

ومن خلال هذا الفعل النقدي للفلسفة والعلم برز ماركيوز كناقد للفكر المعاصر، في علاقته بالمجتمع الحداثي مستنداً إلى فلسفة النفي الهيجلية التي وجد فيها ماركيوز المرجعية الأساسية في نقد أسس ومبادئ الفكر المعاصر، فبدلاً من أن تكون التكنولوجيا قوة تحريرية في خدمة الإنسان المعاصر أمست عقبة في وجه التّحرر، بتحويل الإنسان المعاصر إلى أداة، وعقله إلى عقل أداتي.

6- دريدا وتفكيك علوم الإنسان، للدكتور بودومة عبد القادر.

يدور مقال د. بودومة عبد القادر حول المنهج التفكيكي déconstruction، الذي تأسس سنة 1966، على يد جاك دريدا Derrida.J (1930 - 2004)، وقد لمح إليه من خلال محاضرته المعنونة بـ«البنية، العلامة واللعب، في خطاب العلوم الإنسانية». والتي تم طبعها ضمن كتاب: «الكتابة والاختلاف» في مؤتمر عن البنيوية نظمته جامعة جون هوكينز ببالتيمور. والتفكيكية هي محاولة إعادة بناء آلية منهجية لفهم النص بعيداً عن الصورة النمطية والتقليدية التي تحاول تقييد النص بنظام البنية الداخلي، فالتفكيكية هي محاولة تفكيك بنية النص ثم إعادة تركيبه من جديد، حيث ينبلج التركيب عن إبداع جديد وإنتاج لمعنى آخر. ويقوم المنهج التفكيكي على جملة من المقاصد أوردها كاتب المقال على النّحو التالي:

- تعتبر ممارسة لعبة التفكيك تمرين على خلخلة النّص، مما ينجر عنه قراءة من الداخل والخارج في الآن معاً.

- يقود تفكيك أي نص إلى إنتاج التعارضات القائمة في النص ذاته، أو معاودة ابتكار réinventer الصراع الخلاصي، المبني على فكرة أن النص لا يعني بدقة ما يقوله، أو ما يعنيه.

- يقوم التفكيك على استراتيجية إحياء النص والإبقاء على حياته، من خلال إعطائه أوجهاً جديدةً ومخارج آخرى كانت تبدو مغلقة على الفهم، فالتفكيك منهج يهدم ويبني في الآن ذاته. وفي حركة الهدم والبناء تكمن حياة النص.

- يقوم التفكيك على شرط محبة الحكمة، فممارسة التفكيك ممارسة مفرطة في العشق، والمفكك لن يكون إلا عاشقاً محبًّا، فحين نتوجه إلى التفكيك سنجد نوعاً من الأنس مع هذا المتمرد والممتنع عن الفهم.

حاول الكاتب تنبيه القارئ إلى أن دريدا انشغل بالمفارقات الموجودة داخل النّصوص المغلقة على نفسها، الرافضة أن تكون موضوعاً للابتكار والإنتاج، أو الممتنعة عن الذهاب إلى حيث استراتيجيات البحث والتحليل. ومن هذا المنطلق يستوجب على كلّ قارئ - طارئ امتلاك ترسانة منهاجية تمكّنه من جلب النصوص طواعية أو قسراً نحو مخابر التحليل وورشات التدبير والتمرين.

نأمل أن يكون الملف قد وضح إشكالية المنهج من خلال النماذج المقدمة، وبلور ضرورة التفكير في بناء مناهج للبحث تتماشى وخصوصيات المجتمعات العربية والإسلامية، وسنحاول في الملف الثاني أن نقدم دراسة مسحية لأهم المناهج التي عرفها ومارسها العلماء والفلاسفة في الفكر الإسلامي القديم، خاصة ابن الهيثم والبيروني وابن سينا والشافعي وعلماء الأصول والتفسير وغيرهم ممن تركوا أثراً طيباً، ينبغي إعادة بعثه وتجديده. لقد وصلنا إلى قناعة أن المنهج ينبغي أن ينبع من ذات المفكر وبيئته، فالمنهج ليس نصًّا مشتركاً فحسب، بل المنهج هوية وبصمة ثقافية وعنوان أمة بكاملها.

يكفي نقلاً دون تجديد وتطعيم، ويكفي انبهاراً دون إبداع وخلق. نحن نؤمن بالتنوع والتشارك والتبادل والتجاور، لكن نؤمن أكثر بالتّميز وإضفاء الخصوصية على علومنا وتجاربنا وتراثنا.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة