تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

معالم المنهج الفكري عند السيد محمد حسين فضل اللَّـه

حسين علي المصطفى

في صباح يوم الأحد 22 رجب 1431هـ الموافق 4/7 / 2010م فقدت الأمتين العربية والإسلامية السيد محمد حسين فضل الله عن عمر يناهز خمسة وسبعين عاماً.

وفقدت بموته علماً طالما تعودت الساحة الإسلامية أن تستنير من حركة اجتهاده المستنير وجهاده الكبير الذي سخَّره في سبيل إعلاء كلمة الله؛ ليتحمل أخطار الساحة وتحدياتها وكل سلبياتها.. وقد كان لإسهاماته الفضل الكبير في تشكيل الخطاب الإسلامي الشيعي الحديث؛ فهو الذي نسج للوحدة رمزاً، وللتعايش قيمةً، وللحب مساحةً، وللحرية متنفساً. وصرف من أجل تثبيت هذه القيم الرسالية عمره كله. وما كان لها أن تأخذ هذا الحجم العالمي إلَّا من خلال ما يملكه من عناصر شخصيته الذاتية، ولا سيّما شجاعة الموقف ورحابة الأفق، فهو قطب عظيم، لـم ينبض مشرقنا الإسلامي بمثيل له منذ عهد طويل.

لقد انفتح (قدس سره) مبكراً على عالمية الإسلام، ووحدة الأمة، والسعي من أجل قضاياها المصيرية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وكرّس فكره لإعلاء مبادئ الإسلام العليا في خطابه، موضحاً أنّ الإسلام لا بد أن يصوغ وعي الإنسان بذاته داخل مجتمعه الإنساني المتنوع، وفي علاقته بالوجود من حوله، وأنّ الإسلام يبني الإنسان العقلاني في مسؤوليته عن أفكاره وما يعتقده، فغرس فينا الحرية والعدالة والمحبة والكرامة.

وحيث إنني أخذت على عاتقي أن أرسم في هذه الدراسة منهجه الفكري فلا ريب أن نقف أولاً على تعريف للمنهج.

تعريف الفكر لغة واصطلاحاً

أولاً: تعريف الفكر لغة

قال الأزهري: «التفكر: اسم للتفكير، ويقولون: فكَّر في أمره، وتفكَّر، ورجل فكِّير: كثير الإقبال على التفكير والفكرة؛ كل ذلك معناه واحد، ومن العرب من يقول الفِكْر للفكرة..».

وقال ابن فارس: «فَكَرَ: الفاء والكاف والراء تردد القلب في الشيء، يقال: تفكَّرَ إذا رَدَّدَ قلبه معتبراً، ورجل فكِّير: كثير الفكر».

وقال ابن منظور: «فكر: الفَكْرُ والفِكْرُ: إعمال الخاطر في الشيء، قال سيبويه: ولا يجمع الفِكْرُ ولا العِلم ولا النظر، قال: وقد حكى ابن دريد في جمعه: أفكاراً، والفِكْرة؛ كالفِكَر وقد فكر في الشيء وأفكَرَ فيه وتفكَّرَ بمعنى، ورجل فكِّير: مثال فِسِّيق، وفِكِّير: كثير الفكر».

وقال الفيروز آبادي: «الفِكْرُ بالكسر، ويُفتَح: إعمال النظر في الشيء؛ كالفِكْرَة والفِكْرَى بكسرهما (ج): أفكارٌ، فُكَر فيه وأفكَرَ وفكَّرَ وتفكَّرَ وهو فكِّير؛ كسكيت، وفيْكَرُ كصيقل: كثير الفكر، وما لي فيه فكرٌ وقد يُكسر، أي: حاجةٌ».

وفي المعجم الوسيط: «فَكَرَ في الأمر فكْراً: أعمل العقل فيه، ورتّب بعض ما يعلم ليصل به إلى مجهول، أفْكَرَ في الأمر: فكَّر فيه؛ فهو مُفْكر. فكَّرَ في الأمر: مبالغة في فَكَرَ، وهو أشيع في الاستعمال من فَكَرَ، وفي المشكلة: أعمل عقله فيها؛ ليتوصل إلى حلها، فهو مفكِّر وفلاناً بالأمر: أخطره بباله «محدثة»، افْتَكَرَ: تذكر، وفي الأمر: أعمل عقله فيه، تفكَّرَ في الأمر: افتكر، والتفكير: إعمال العقل في مشكلة للتوصل إلى حلّها. الفِكْرُ: إعمال العقل في المعلومات للوصول إلى معرفة مجهول، ويقال: لي في الأمر فكْر: نظر ورؤية، وما لي في الأمر فكْرُ: ما لي فيه حاجة ولا مبالة (ج) أفكار..».

وبعد عرض أقوال اللغويين نجد أنّ كلمة (فكر) ترجع إلى خمسة معاني:

1- إعمال النظر في الشيء.

2- التأمل.

3- تردد القلب في الشيء.

4- إعمال الخاطر في الشيء.

5- إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهول.

وعند التأمل نجد أنّ هذه المعاني تكاد تكون متطابقة؛ لأنّ إعمال النظر هو التأمل، وكلاهما ناتج عن توجه القلب أو العقل للشيء الذي أعمل فيه النظر أو تأمل فيه.

ثانياً: تعريف الفكر في الاصطلاح

ذكر العلماء له تعريفات كثيرة منها ما يلي:

قال الجرجاني: «الفكر: ترتيب أمور معلومة لتؤدي إلى مجهول».

وقال أبو البقاء في كلياته: «الفكر حركة النفس نحو المبادئ، والرجوع عنها إلى المطالب».

وقال الراغب الأصفهاني: «الفكر قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر: جولان تلك القوة بحسب نظر العقل؛ وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلَّا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب..».

وقال الفيلسوف الفرنسي ديكارت في كتاب التأملات: «ما هو الفكر؟ إنه الشيء الذي يشك، ويفهم، ويدرك، ويثبت، ويريد، أو لا يريد، ويتخيل، ويحس».

والفكر عند الفيلسوف الألماني كانت هو القوة الانتقادية.

ويتبين من خلال ما سبق ذكره ما يلي:

1- قصر الجرجاني في تعريفه للفكر على معنى من معانيه؛ ألا وهو: عملية التفكير، وكيفية القيام بالتفكير عن طريق ترتيب ما هو معلوم إلى أن يصل المفكر بفكره من خلال هذا المعلوم إلى ما هو مجهول لديه.

2- وأما تعريف أبي البقاء فقد تأثر بتعريف الفلاسفة للفكر؛ وهو عملية التفكير، كما صنع قبله الجرجاني.

3- وفرَّق الراغب الأصفهاني بين الفكر والتفكير؛ فالفكر هو القوة الموصلة للمعلوم، وأما التفكير: جولان القوة بحسب النظر العقلي. فيظهر أنّ الفكر عنده غير العقل؛ إلَّا أنّ تعريفه لا يخلو من إيهام، ووجه الإيهام: أننا لا ندري ما مراده بالقوة هل هي الغريزة أو غير ذلك؟ وجعل تحريك القوة بحسب النظر العقلي؛ ففصل القوة عن العقل، وإلَّا فكيف تكون القوة هي العقل؟ ويكون التحريك بالعقل؟ أي: أنّ المحرَّك والمحرِّك شيء واحد؛ وهنا يقع الإيهام.

4- أما تعريف ديكارت للفكر فهذا غير مسلم له؛ لأنه يشمل الإحساس والإدراك والتخيل والشك، والإثبات والإرادة، وهذه المعاني شيء منها لا يدرك بالعقل، بل بالنفس؛ فلها علاقة بالشعور والإدراك النفسي لا بالإدراك العقلي. وقد بطل اليوم استعمال لفظ الفكر بهذا المعنى العام، حتى أنّ ديكارت نفسه لم يطلق لفظ الفكر على الحالات الانفعالية والإرادية إلَّا من جهة ما هي حالات تدركها النفس بأعمال الفكر فيها.

5- أما كانط ففي تعريفه للفكر بأنه «قوة نقدية للأحكام» فلقد شمل عملية التفكير الذي هو التأمل مع الإشارة إلى نتاج ذلك التأمل.

وبناءً على ما سبق نجد أنّ الفكر يطلق على أمرين:

الأول: فعل العقل الذي هو التأمل أو النظر.

والثاني: النتيجة المترتبة على التأمل والنظر، وفي هذا الصدد يقول الدكتور أحمد حسن فرحات: «يمكن أن يسمى نتاج الفكر (فكراً) تسمية للشيء باسم ما يصدر عنه، كما يسمى ما يصدر عن الرأي رأياً، وما يصدر عن العقل عقلاً؛ وعلى هذا جرى مصطلح (الفكر الإسلامي) إذ يراد به نتاج الفكر، لا عملية التفكير نفسها. فالفكر في الاصطلاح المختار هو «إعمال العقل وما ترتب عليه من نتائج».

وجملة القول أنّ الفكر يطلق على الفعل الذي تقوم به النفس عند حركتها في المعقولات، أو يطلق على المعقولات نفسها، فإذا أطلق على فعل النفس دلَّ على حركتها الذاتية، وهي النظر والتأمل، وإذا أطلق على المعقولات دلَّ على الموضوع الذي تفكر فيه النفس، وهو مرادف للفكرة، ومنه قولهم: الفكر الديني، والفكر السياسي. والفكري هو المنسوب إلى الفكر، تقول: الحياة الفكرية، والعمل الفكري.

أما المفكر، فقد عرفه الأستاذ زكي نجيب محمود فقال:

«لقد جرى العرف -أو كاد يجري- على أن تكون هناك تفرقة بين من نطلق عليهم اسم «المفكرين» -أو قادة الفكر- من جهة، والباحثين العلماء من جهة أخرى، ولعلَّ أميز ما يميز الطائفة الأولى هو أنهم جماعة استنارت فأرادت أن تنير، جماعة عرفت ثم جعلت همَّها أن تنشر المعرفة في الآخرين، ولكن أي معرفة؟ إنها ليست المعرفة الأكاديمية التي تستند إلى تجارب المعامل العلمية أو إلى الوثائق والمراجع، بل هي المعرفة التي تتبع عند صاحبها من الخبرة الحية، ويكون لها أصداؤها في شعور الإنسان.

وبالطبع لا تناقض هناك بين أن يجتمع في الرجل الواحد أن يكون من أصحاب البحث العلمي على الصورة الجامعية، وأن يكون في الوقت نفسه من «المفكرين» بمعنى الكلمة الذي نريده لها، لكن التمييز والتفريق بين الموقفين من شأنه أن يزيدنا دقة ووضوحاً فيما نحن بصدد الحديث فيه، فالباحث العلمي على الطريقة الجامعية لا يعد من المفكرين لمجرد أنه مختص بدراسة الفلك وطبقات الأرض، ولا بمجرد كونه ذا مهنة تقوم على أسس علمية، كالمهندس والطبيب والكيماوي وغيرهم، بل لا بد لطائفة المفكرين من صفة أخرى وهي أن يجاوزوا حدود الاختصاص الدراسي إلى حيث ينظرون إلى الكون وإلى الحياة نظرة شاملة تعتمد -إلى جانب اعتمادها على العقل المنطقي واستدلالاته- على الإدراك الحسي العياني المباشرة، ومقتضى هذه النظرة أن تجيء ذاتية مرتكزة على الخبرة الخاصة بصاحبها.

ولهذا يتحتم أن تجيء نظرات المفكرين متصلة أوثق صلة بالحياة الفعلية الجارية من حولهم، بأفراحها وآلامها، لأن الكاتب إذا نضح من خبرته الذاتية المباشرة، جاءت كتابته -بالضرورة- تعبيراً عما قد تراكم في نفسه من آثار حياته بكل ما فيها من متاع وحرمان، فإذا درست كتاباً في الرياضة أو الكيمياء، لم تدرِ هل كان مؤلفه مقتَّراً عليه في الرزق أو من ذوي اليسار، لكنك إذا قرأت كتاباً مما يكتبه المفكرون استطعت أن تلمس وراء الكتابة أي طراز من الناس كان كاتبه».

معالم المنهج الفكري

لقد ترك السيد محمد حسين فضل الله (قدس سره) كتبه التي ألَّفها، والتي تزيد على مائة وعشرين كتاباً؛ لتمثل معالم المنهج الفكري والمشروع الحضاري للإسلام، كما يراه السيد فضل الله.

ولم يكن هَمُّ السيد فضل الله فيما كتب هو الترف الفكري، بل كان همّه وضع لَبِنَات في البناء الفكري والحضاري للأمة؛ مما جعل تلك المؤلفات بمثابة المدماك الفكري للسيد فضل الله؛ فقد أتت متنوعة لتشمل ما يشغل الأمة في الداخل والخارج، حاضراً ومستقبلاً.

وتوزعت إسهاماته الفكرية على العديد من أبواب المعرفة، وكان له فيها إضافات ومبادرات، استطاع أن يفتح من خلالها أبواباً جديدة؛ فهماً وصياغة ومراجعة، وحاول (قدس سره) أن يثير الاهتمام والسؤال عن المتوارث والمنقول وضرورة تقييم كل ذلك بميزان العقل.

لقد كان السيد محمد حسين فضل الله (قدس سره) مدرسة متميزة حاولت أن تشق لها طريقاً مغايراً خارج المألوف، ولم يكن ذلك أمراً يسيراً، بل واجه حملات مضادة، ومعارك امتدت إلى أكثر من ساحة لمجرد رأي أو إثارة سؤال في حدث ما.

ويمكن أن نتصور ملامح المنهج للسيد فضل الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يلي:

1- الواقعية الرسالية

الواقعيّة لغةً: لفظ مشتق من الواقع، والواقع نعني به: حقيقة الشيء كما هو، كحقيقة الإنسان -مثلاً-، أو هو ظرفٌ محيط اجتماعيًّا وفكريًّا بالإنسان أو المجتمع أو الدولة أو الموقف وما إلى ذلك، أي سواء كانت هذه الحقيقة موضوعاً خارجيًّا أو ذاتيًّا ذا علاقة بملكات الإنسان وطبيعته الوجودية.

ونحن هنا لا نريد أن نخوض في دراسة حقائق الأشياء فالمجال لا يتسع لها، بل نقتصر في كلمتنا هذه على الواقعية بمعناها الاجتماعي وهي المحيط والظروف الاجتماعية والثقافية في إطار الزمان والمكان.

وكثيراً ما تصبح الواقعية -بمعناها الاجتماعي- أثناء الانحسارات أو الاحباطات الاجتماعية والثقافية لفظة دعائية ولافتة تمويه، يحملها المتصدّون على أنّ آراءهم ومناهجهم قريبة من الواقع، بل من صلب الواقع. واتهام الآخر بأنه بعيد عن الواقع.

والواقع الرسالي بالنسبة للسيد فضل الله (قدس سره) هو: الوسط الذي يتفاعل معه بحيث يأخذ منه ويعطيه. فلم يكن (قدس سره) يأخذ في معالجاته الفكرية والمعرفية الشكل التجريدي الحالم كطريقة بعض المفكرين والفلاسفة، بل كان واقعيًّا وموضوعيًّا في المعالجة والفهم والتصور.

ولم تختلف هذه الرؤية الواقعية حتى في تفسيره القيِّم للقرآن الكريم (من وحي القرآن)، وهو -كما يقول الخبير القرآني الشيخ محمد هادي معرفة (قدس سره)-: «تفسير تربوي اجتماعي شامل، ويعد من أروع التفاسير الجامعة، النابعة من روح حركية نابضة بالحيوية الإسلامية العريقة. انطلق فيه المؤلف في إحياء الجو القرآني في كل مجالات الحياة المادية والمعنوية...».. هذا على مستوى تعامله مع القرآن تفسيراً وحركة ودعوة وحواراً.

وكذلك هو الحال على مستوى تعامله مع قراءته لشخصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في خط رسالته، حيث لا مجال لمعرفته إلَّا من خلال ما يوحي به الله في كتابه، وما يلهمه أو يبيّنه لرسوله الذي يعبّر عنه في سنته، ومن هنا لا بدّ للمسلمين أن يستغرقوا في دراسة هذه القضية من خلال القرآن في ظواهره من حيث يريد الله للناس أن يفهموه ويعتقدوه ويعيشوه، لا سيما في عهد الرسالة الأول؛ حيث كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعيش مع أتباعه (المسلمين) وخصومه (المشركين) في آن واحد، الأمر الذي كان يثير الكثير من المشاكل والتعقيدات وعلامات الاستفهام، باعتبار أنّ الوحي كان ينطلق من الفكرة العامة على مستوى النظرية، ومن حركة التجربة الواقعية على مستوى التطبيق، فكان الناس يرون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مضمون الآيات، ويحدّقون به في حركة الواقع، فيجدون وحدة الخطّ الفكري مع التجسيد الإنساني الواقعي وفي سلوكه العملي مع الناس؛ لأنّه ليس من الطبيعي أن تكون الصورة النبوية في الوجدان الإسلامي في تلك المرحلة -التي تؤسس للمراحل القادمة- بعيدة عن الصورة الواقعية.

وكان (قدس سره) ينتقد من تناول في دراسته لتاريخ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كشخص لا كرسالة؛ وتحت عنوان (السيرة النبوية: إشكالية النص ومنهج الدراسة) يقول (قدس سره):

«إننا ندرس التاريخ بشكل تقريري جامد، ينقل القصة من خلال استيحاء قداسة الرسول لا قداسة الرسالة، أو بالأحرى من خلال شخصية صاحب الدعوة، دون التفات إلى حركة الرسالة في حركته وشخصيته؛ ومن هذا المنطلق تبدأ دراسة تاريخ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كسيرة ذاتية للرجل لا للرسول تصل إلى حدّ تمثّل فيه الرسالة عن طريق العرض حدثاً من أحداث حياته الخاصة، أمّا أخلاقه وأساليبه في العمل فهي من مميزاته الفريدة التي لا يمكن لأحد أن يبلغ شأوها أو يقترب من مستواها، فلذا لا مجال لدى هذا الاتجاه للاحتجاج على تأسي المسلمين بأخلاق النبيّ وأعماله، لأنَّ تلك المميزات من خصائصه الذاتية وليست ميزة إسلامية يمكن للمسلمين أن يقتدوا بها في حياتهم العامّة للتدرج في مدارج الكمال.

وقد شارك هذا الاتجاه في تركيز العلاقة بين الأنبياء وأتباعهم على أساس شخصيّ، ما جعل التقديس الروحي يتجه إلى الأشخاص أكثر ممّا يتجه إلى الرسالة.. فنراهم ينصرفون إلى ممارسة الطقوس التي تمثّل الإخلاص للنبيّ، والاحتفال بذكراه وزيارة قبره، بينما لا نجد مثل هذا الاهتمام بممارساتهم لواجبات الرسالة وطقوسها والتزاماتها.. وقد تدرج هذا الوضع إلى مرحلة إنشاء نوع من أنواع المدح النبوي الذي يتغزل فيه المادح بحسن النبيّ وجماله ويقف ليثبت فيه وجده ولوعته وشوقه تماماً كما يتغزل أيّ حبيب بحبيبه».

وعندما يتأمل (قدس سره) تجربة الإمام علي (عليه السلام) فإنه يتأملها من حيث النص والواقع أيضاً. ولا تغيب هذه الواقعية الرسالية في تناوله بالدراسة والتحليل لأدوار أئمة أهل البيت (عليهم السلام)؛ بل وفي كل دراساته للتاريخ الإسلامي وأحداثه.

وفي ندوة قرآنية مؤرخة بتاريخ (الثلاثاء 15/ 3/2005 م) قال (قدس سره):

«الفكرة الأساسية هي في القيمة الرسالية التي يمتلكها الإنسان بعيداً عن الاعتبارات المادية والنَّسَبية، وإنّما من خلال ما يملكه من علمٍ ومن روحيةٍ ومن أخلاقية وما إلى ذلك؛ لأنّ قيمة الإنسان إنما فيما يملكه في الداخل، لأنّ كل الأمور الأخرى التي يتفاضل فيها الناس فيما بينهم، هي خارجة عن ذات الإنسان، فالمال الذي يملكه الإنسان ليس شيئاً في داخل الكيان الإنساني بل هو شيء خارج وجوده الإنساني.

أيضاً بالنسبة إلى مسألة النَّسَب، فهو ليس الإنسان، بل هو ما ينتمي إليه الإنسان بلحاظ الناس الآخرين، إنّ أباك ليس أنت، عندما يكون أبوك كبيراً فإنّ ذلك لا يكبرك، أو عندما يكون صغيراً فإنّ ذلك لا يصغرك، فأنت تنتمي إليه من خلال أنّ جسدك ينتمي إلى جسده، أما أنت فلست هو وهو ليس أنت.

إنّ أباك ليس أنت، عندما يكون أبوك كبيراً فإنّ ذلك لا يكبرك، أو عندما يكون صغيراً فإنّ ذلك لا يصغرك.

ولذلك كان الإمام علي (عليه السلام) يتحدث عن القربى بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقول: «إن ولي محمد من أطاع الله وإن بَعُدت لحمته -أي بَعُد نسبه- وإن عدوَّ محمد من عصى الله وإن قربت قرابته»، ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}، لا أولاده. فنسبك ليس أنت، مالك ليس أنت، إنما أنت عقلك، قيمتك.

ولذا يقول الإمام علي (عليه السلام): «قيمة كلِّ امرئٍ ما يحسنه»، قل لي ما هو علمك؟ ما هي خبرتك؟ ما هي إمكاناتك العقليّة والفكريّة؟ أقل لك قيمتك، خلافاً لما هو موجود عند الناس، الذين يقدّرون الإنسان بما يملكه من مال. كلا، فمالك ليس أنت. لذلك ركّز الإسلام على القيمة الأخلاقية والروحية، والإمكانات العقلية، والنشاطات التي يبذلها الإنسان من داخل ما يملكه من طاقة ليفجّرها في الناس الآخرين، ولذا فإنّ الله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.

2- حركية الإسلام

يؤمن سماحة السيد فضل الله بحركية الإسلام وعدم جموده، والحركية -عنده- تعني (القدرة) على التطبيق، و(القابلية) على التنفيذ، و(المرونة) في التعاطي مع الأحداث والوقائع، و(الاستيعاب) للمتغيرات.

باعتبار أنه يختزن في داخله عملية تطوير حاجات الإنسان من خلال دعوته للإنسان إلى أن يبحث عن سنن الله في الكون وإلى أن يستخدم كل الظواهر الكونية التي يمكن أن يجد إليها سبيلاً، باعتبار أنّه سخر له الكون كلّه، وجعل عقله وسيلة من وسائل اكتشاف الكون بالإضافة إلى ما زوّده به من وسائل التجربة الحيّة.

فالإسلام يختزن في داخله الدعوة إلى تطوير الواقع على أساس اعتبار العقل مسؤولية الإنسان العاقل واعتبار الحواس مسؤولية الإنسان الذي يملكها ليستخدمها في خط التجربة، ويحث الإنسان على أن يدخل في كل يوم جديد في مواقع جديدة فيما تكشفه من أسرار الكون.. وعلى هذا الأساس فإنّ الإسلام يدعو الإنسان دائماً إلى أن يتجدد، ويدعو العقل دائماً إلى أن يتحرك، ويدعو التجربة دائماً إلى أن تدخل في كل الواقع.

فالإسلام الحركي هو أن يكون الإنسان مسلماً في كل أحواله، في السلم وفي الحرب، في حال الشدة والرخاء، في الفقه وفي الفلسفة وفي السياسة.. هو أن يكون مسلماً في الاستراتيجيات وفي التكتيك، بخلاف بعض الناس الذين انطلقوا بالتكتيك وابتعدوا عن الإسلام، أو حاولوا أن يجدوا في الضربة الاستراتيجية ما يعفيهم من الالتزام بها فكراً وحركة.

فالذين انطلقوا بالفكر الإسلامي تنظيراً وحركة انطلقوا به بعد أن عاشوا تجارب كثيرة، وواجهوا تحديات كثيرة، ولكن السيد محمد حسين فضل الله كان على خلافهم، فقد انطلق بالإسلام كقاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة؛ فهو يقول: «إنّ الإسلام انطلق حركيًّا ولن يمكن له أن يجد أي موقع في الفكر أو في الواقع إلَّا إذا عاد حركيًّا».

ولذلك يؤكد على أنّ «القرآن لا يفهمه إلَّا الحركيون الذين عاشوا معنى الحركية الإسلامية في حيوية الإسلام في انطلاقه مع الإنسان والعالم».

وبفضل عناصر حركيته تحوّل منزل سماحة السيد فضل الله إلى محجة لدراسة الإسلام الحركي، وكان (قدس سره) مصدراً أساسيًّا للتعرف على الإسلام الحركي الذي بدأت أصداؤه تتردّد في طول العالم الإنساني وعرضه.

ولذا انفتحت خطوط التواصل بين سماحة السيد وكبريات الحركات الإسلامية العالمية سنيّها وشيعيّها، وبات فكر السيد وتوجّهاته وإرشاداته السياسية والاستراتيجية، مناهج تتداولها قيادات وكوادر التيارات الإسلامية في العالم، خاصةً بعد أن حالت الهجمة الاستكبارية والاستخباراتية على سماحة السيد دون سفره إلى دول العالم الإسلامي والغربي، فأصبح هذا التواصل يتمّ عبر الزيارات المباشرة إلى سماحته من شتى أقطار العالم، وعبر متابعة أخباره وأفكاره ومقابلاته في الصحف والمجلات ومختلف الوسائل الإعلامية الأخرى.

3- الانفتاح على المعاصرة

عاش السيد محمد حسين فضل الله منفتحاً على الإسلام، ومقبلاً إليه، ومنسجماً معه، وفي الوقت نفسه، استفاد أيضاً من النتاج الإنساني، انطلاقاً من أهمية (التجربة) الإنسانية المختلفة، وأراد أن يفتح الإسلام على العصر ويفتح العصر على الإسلام.

ولا يكون الإنسان معاصراً إلَّا إذا كان محيطاً بوعي الاختلاف عند البشر وما يحملونه من علوم؛ ولقد سُئِل الإمام أبو حنيفة: عن أفقه الناس في زمانه؟ فأجاب: جعفر بن محمد.. والسبب في ذلك -كما يقول أبو حنيفة نفسه-: «أليس قد روينا أنَّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس».

وقد جاء عن الصادق (عليه السلام) في كلمة آل داود: «قال في حكمة آل داود: ينبغي للعاقل أن يكون مقبلاً على شأنه حافظاً للسانه عارفاً بأهل زمانه».

والسبب في ذلك -كما يقول السيد فضل الله-: «لأنّ الكلام ينطلق من العلم والمعرفة والعقل، فلا بد للإنسان أن يعرف عصره وأهل عصره، كيف يفكرون ويتحركون، ويركّزون علاقاتهم، وكيف يفهمون الحرب والسلم والوعي والتخلّف. فالإنسان الذي يعيش عصره وهو لا يفهمه هو إنسان يعيش العمى العقلي والعمى الروحي والعمى الحركي في حياته. ولعلّ مشكلة الكثير من العلماء والمصلحين -وهم المخلصون لعملهم ولرسالتهم- أنهم يعيشون خارج عصرهم بين من يعيش في زمن ما قبل الألف عام، ويقرأ الكتب التي ألّفت آنذاك مما يمثل تجربة العالم أو المفكر في ذلك المجتمع، ولكنه لا يدرس الواقع الذي يعيشه مجتمعه الآن. ونحن نعرف أنّ الذهنية لغة، فكما أنك لا تستطيع أن تكلم من يعرف العربية بالإنجليزية لا يمكن أيضاً أن تكلّم من يعيش ذهنية القرون الوسطى في طريقة تفكيره ومواجهته للأشياء بذهنية معاصرة والعكس صحيح. لذلك جاء التأكيد في أكثر من حديث على أن يكون العاقل عارفاً بأهل زمانه، والربط بالعقل يوحي بأنّ من العقل ذلك؛ لأنّ العقل يريد منك أن تندمج في مجتمعك وتحقق رسالتك فيه، وأن تدخل فكرك إلى عقول المجتمع الذي يعيش معك، وأن تتحرك معهم للتكامل معهم».

لقد أراد (قدس سره) أن يعيش عصره بالإسلام من غير تردد أو انفصام، وألَّا يكون غريباً على عصره، أو متبرماً منه أو كافراً به أو مهاجراً عنه.. بل أراد أن يحاور عصره، ويأخذ منه ويعطيه في انسجام وتكامل في إطار الإسلام. حيث لا تتحقق المعاصرة إلَّا من خلال: التفاعل والمواكبة والقدرة على التواصل والتوليد.

فالخطاب الإسلامي -في أجواء المعاصرة- «هو الخطاب الذي يجبُ أنْ نوسِّعَ آفاقه، ليشمَلَ خطاب الإنسان للإنسان، فإسلامُكَ هو عيشٌ للإنسانيّة فيه؛ لأنَّ هذه الإنسانيّة هي صورةٌ داخلنا، وصورةُ عقلنا المفكّر، وقلبنا النابض في الذات، وطاقتنا المتفجِّرة في الواقع».

ولذلك نراه (قدس سره) يناقش الخط التقليدي -الذي ينطلق من مفردات الاجتهادات التاريخية وأساليبها، من دون دراسة المتغيرات الكبيرة التي تحكم الواقع في تطور قضاياه وحاجاته ووسائله وعلاقاته-، سواء من ناحية طريقة الحكم وعنوانه وإدارته وتنظيمه، أو من ناحية الأوضاع السياسية التي تحيط به، أو من جانب التحديات الفكرية التي تترك تأثيراتها على المسألة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

وكان (قدس سره) يلاحظ على هذه الفئة أنّ اللغة التي يتحدّثون بها على صعيد المضمون والأسلوب، لا تتناسب مع مفردات اللغة المعاصرة. ويقصد باللغة -هنا- الذهنية التي تتحرك بها وسائل التعبير ومفردات التفكير؛ لأنّ الذهنية المتنوّعة تمثل حاجزاً عن التفاهم تماماً كما هي اللّغة في طبيعتها، ولهذا انطلقت الرسالات في خط الأنبياء، لتدفعهم إلى أن يخاطبوا الناس بقدر عقولهم، كما جاء في الحديث المأثور عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم».

وفي سؤال عن الإسلام والتحديات المعاصرة؛ أجاب السيد فضل الله (قدس سره) -مفصلاً-:

«إنّ المسألة ليست هي أن ينتظر المسلمون حتى يؤسسوا فكراً يواجه المتغيرات أو التحديات، بل إنّ المسألة هي ألَّا يبقى الإسلام الفكري والحركي في منأى عن الواقع، ألَّا يهرب من ساحة الصراع، ألَّا يواجه المتغيرات -التي قد تتحول إلى تحديات بحسب اختلافها مع الخطوط الفكرية الإسلامية- ألَّا يواجهها بطريقة اللامبالاة.

ونحن نؤكد أنّ الإسلام يملك من خلال قواعده الثقافية -بكل تنوعاتها- أن يواجه الفكرة المضادة التي ربما جاء بها العصر، أو أن يقف من المتغيرات موقف الباحث الذي يدرس كل مفردة من مفرداتها بطريقة موضوعية يتعرف من خلالها ما ينسجم منها مع الفكر الإسلامي فيلتقي به، وما يتنافى مع هذا الفكر فيناقشه.

إننا نعتقد أنّ الإسلام يملك حيوية ثقافية في مواجهة كل التحديات الفكرية التي تناقض فكره، أو تناقش فكره، أو تنحرف بالواقع عن مسار فكره. ليست المسألة أننا ننتظر أن يأتي الآخرون لننتج فكراً جديداً، بل أن نحرك ما لدينا من فكر في مواجهة كل التحديات.

وليس معنى أن يكون النص مقدساً -كما هو مقدس في الكتاب والسنة- أن يتجمد الفكر في داخل النص، لأن ثبات النص ككلمة لا يعني جمود المفهوم عند ثبات الكلمة. فللمفهوم عالم واسع متحرك يمكن أن يجتهد فيه المجتهدون. ليفهم مجتهد منه شيئاً ويفهم مجتهد آخر منه شيئاً. الكلمة ثابتة ولكن المفهوم متحرك، ونحن من خلال حركية المفهوم ننطلق لنستوحي إسلاماً يبقى متحركاً مع الحياة. لأن الكلمة قد تأتي في موقع، ولكن الموقع يمثل النموذج الذي يتسع لكل النماذج المماثلة في حركية الحياة».

4- الإصلاح والتغيير

يتطلع السيد فضل الله (قدس سره) إلى تغيير الحياة والمجتمع والإنسان على أساس مشروع متكامل الجوانب، تلتقي فيها الخيوط في تناسق تام، ولم يكن يكتفي بالوعظ والإرشاد الأخلاقي أو إسقاط الواجب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحدوده الفردية والجزئية، بل كان يخاطب بالتغيير كلَّ مفصل من مفاصل الحياة والمجتمع، ولم يكن التغيير -عنده- يستند إلى الفكر فحسب، بل كانت المؤسسات والحركات والمشاريع والبرامج تستلهم رؤاه في حركة الإصلاح والتغيير.

يقول (قدس سره) -في حفل خيري للمبرات الخيرية-:

«هذا عالمٌ لا بد لنا أن نصنعه، لأنّ كلّ جيل يصنَعُ عالَمه، أن نصنع الإنسان الذي يمكن أن يضيء ويتوهّج وينفتح ويسمو ويبدِع، حتى نشعر أنّ إنسانيتنا تنتج، تتحرك، تتغير، تغير الواقع نحو الأفضل.. هذا عالمٌ لا بد لنا أن نصنع فيه معنى القيمة، وأن نعيش رحابته، فلا نتقوقع في زاوية هنا وزاوية هناك، ولا نحرّك الحقد لينفتح على ما سمّيناه قداسة، حقد أتباع هذا الدين على أتباع ذاك الدين، أو حقد هذا الخط السياسي على الخط السياسي الآخر.. هذا عالمٌ لا بدّ أن نعيش رحابته، تماماً كرحابة الشمس التي تطلع على البرِّ والفاجر، وكما هي رحابة الينبوع في عطائه عندما يتدفق على الأرض الخصبة والجدبة، لا بد لنا أن نفكر، لأن كل هذا الضجيج الذي يفترس كل طهر الهدوء في عقولنا وفي قلوبنا وفي حياتنا يمنعنا أن نفكر، أن يكون فكرنا فكراً يعيش رحابة الحياة، ويخطط لرحابة المستقبل».

وكان أكبر همِّ السيد فضل الله (قدس سره) هو: بناء طاقة الإنسان العقلية والروحية والنفسية. ومن أجل ذلك آمن بأهمية المؤسسات كوسيلة لتأمين حاجات المجتمع وبناء الأفراد وصناعة مستقبلهم.. وأكد سماحته -منذ بداياته الأولى- على بناء المؤسسات، وأنّها الباقية، والقادرة على التطور، وأنّ المجتمع الذي لا يملك المؤسسات هو مجتمع لا يستطيع أن يحقق حاجاته، ولن يقدر على مواجهة التحديات ولا الوصول إلى أهدافه.. أما الأفراد فإنهم يزولون، ومهما كبرت إمكاناتهم فإنها تبقى محدودة بحدود قدراتهم ونظرتهم إلى الأمور.

ولذلك كان حرصه -ومن خلال موقعه الديني كمرجع- على الدعوة إلى المرجعية المؤسسة لا مرجعية الفرد، الذي تزول كل مشاريعه بذهابه إلى ربه أو تتحول إلى إرث شخصي أو تفقد الأمة كل النتائج التي حصل عليها من خلال كونه في أعلى مواقع المسؤولية الدينية.

ويؤكد سماحته (قدس سره) على أنّ «الفقيه لا يملك حق القرار المطلق، وخصوصاً في المواقع الحركية كالمواقع السياسية الكبرى والعسكرية وما إلى ذلك. لا بد له من الرجوع إلى أهل الخبرة. فإذا ابتعد الفقيه عن الرجوع إلى أهل الخبرة فيما لا خبرة له فيه، أو فيما لم يستكمل الخبرة لنفسه فيه، وإذا تحرك من خلال حالة مزاجية بعيداً عن القانون، فإنّ على الأمة أن تسقطه».

ومنذ عهد مبكر أنشأ السيد فضل الله (قدس سره) في العام 1978 أول مؤسسات جمعية المبرّات الخيرية، «مبرّة الإمام الخوئي»، بعدما اشتق لها اسماً من «البر». وأعطيت الأولوية لرعاية الأيتام وانتشالهم من واقع التشرد والحرمان والضياع. وتطور العمل من حضانة اجتماعية إلى رعاية تربوية ثقافية شاملة، لتخريج إنسان مؤهل فكريًّا وروحيًّا.

ونتيجة لفداحة تأثيرات الحرب الأهلية اللبنانية على الواقع التعليمي والاجتماعي، توجّه الاهتمام لرعاية وتربية الفئات الخاصة، من خلال مؤسسة الهادي بمدارسها الثلاث: «النور للمكفوفين»، «الرجاء للصم»، و«البيان للاضطرابات اللغوية»، لتفتح لهم أبواب العلم والعمل والمعرفة. وأردفتها بإنشاء مدارس نموذجية ومعاهد فنية وتقنية لتأمين التعليم بمستوى راقٍ، مع الاهتمام بإنشاء مراكز إعداد المعلّمين والمعلّمات بما يحقق الاكتفاء الذاتي في الأداء التربوي في مسيرة الجمعية.

ولذا أنشأ السيد فضل الله (قدس سره) أكثر من 65 مركزاً ومعهداً ومؤسسة.. وتضم جمعية المبرات الخيرية أكثر من (خمسة عشر ألف) تلميذ في مدارسها ومؤسساتها المنتشرة من الشمال إلى الجنوب.

وحري بي أن أنقل لكم صورة حيّة: ففي حفل إفطار جمعية المبرات الخيرية السنوي: «بعد تلاوة عطرة من القرآن الكريم، ألقى الكفيف يوسف دحنون من مؤسسة الهادي للإعاقة السمعية والبصرية كلمة تحدث فيها عن معاناة المكفوفين في لبنان وسعيهم لنيل أعلى مراتب الدراسة، مشيراً إلى مشاركته في برنامج «من سيربح المليون» وفوزه بـ125 ألف ريال سعودي، مؤكداً أنّ الكفيف يمكنه أن يتدرج في سلّم العلم والعطاء شرط أن يتحمل المجتمع مسؤوليته تجاه المكفوفين والمحتاجين».

لقد ساهمت تلك المؤسسات الرائدة في تأمين البيئة التي تضمن تنمية واستمرار هذه الطاقات بفعالية وتطور دائمين، وبذلك ناضل السيد فضل الله (قدس سره) في مواجهة التحديات ليساهم في تعزيز حضور الإنسان؛ كما المقاومة للعدو كذلك مقاومة التخلف والضعف والجهل والفقر والحرمان.

5- الأصالة

ليست الأصالة عند السيد فضل الله (قدس سره) جموداً على ما ورد من السلف، بل هي عدم الخروج على الصحيح مما ورد من السلف من ثوابت العقيدة والقواعد والأحكام.. فليس كل ما ورد من السلف لا يمكن محاكمته؛ حيث كان (قدس سره) لا يؤمن بالأصالة بمعنى التقليد والجمود والترديد من دون إعادة فهم وصياغة. بل الأصالة عنده (قدس سره) هو «الأخذ بوعي، والترك عن دراية».

وفي حوار مطول مع جريدة المجد الأردنية يقول السيد فضل الله (قدس سره): «إنّ مسألة التراث هي مسألةٌ لا قداسة فيها بعيداً عن النص المقدس. فكل تراث العلماء الفقهي والكلامي والقرآني (بما هو تفسير القرآن) هو تراث نحترمه في إطار الظروف الموضوعية التي أحاطت بالذين أنتجوه في ثقافتهم، في مفردات الواقع المحيط بهم، في أسلوبهم في فهم النص، في المؤثرات التي أثرت في اجتهادهم، وما إلى ذلك».

ويضيف قائلاً: «ولهذا، فإننا لا نعطي التراث البشري قداسة، بل نقول إنه اجتهاد نحترم جهد أصحابه في إنتاجه، ولكننا نقول: إنّ من الممكن أن نناقشهم فيه على الأسس العلمية الإسلامية في مناقشة الفكر، وفي فهم النص، وفي وسيلة الاستنباط. وربما تأتي التحديات من خلال أنّ هناك أحداثاً في العصر لم يكن للمجتهدين سابق عهد بها، وأنّ هناك قضايا مستجدة لم يصدر حكم شرعي تفصيلي فيها. لذلك من الطبيعي جدًّا أن ينطلق المجتهدون ليناقشوا ما صدر من اجتهادات من الفقهاء، وليعطوا لكل قضية جديدة حكمها على أساس الكتاب والسنة، وليهدموا كثيراً من الأحكام الاجتهادية التي ثبت خطؤها، وأنها لا تمثل الرأي الإسلامي الأصيل، ويستوعب العصر كله».

فالمقدس هو الكتاب والسنّة، أما فهم الكتاب والسنة من قِبَل العلماء الآخرين (فليس مقدساً). بل هم مجتهدون يُخطئون ويُصيبون، وكم ترك الأول للآخر.

فـ(الكتاب والسنة) هما الخط والأفق والعمق بالمعنى المقدس، ولكنَّ كلام الكتاب والسنة عربيٌ، وللكلام العربي قواعده فيما يفهمه النّاس منه، ولذلك فالنّص بكلماته هو الثابت، ولكنَّ معنى النص بمفهومه هو المتحرك؛ متحركٌ من خلال أنّ حيوية اللغة العربية تجعل الإنسان يفهم النّص في أكثر من احتمال، فالنّص في داخله مملوءٌ بالحيوية، كما هو مضمون الكلام العربي مملوءٌ بالحيوية.

وفي إطار تناوله للنص الشرعي -فهماً وطرحاً ومعالجة- نرى أنّ للسيد فضل الله (قدس سره) أسلوبه الخاص؛ حيث كان يتعامل مع النص وإيحاءاته بذهنية متفتحة من غير تحميل أو تطويع، لعدة حيثيات:

أ- أنّ الفقه عند سماحته هو للحياة، وليست مادة علمية مخبرية لا يفهمها غير ذوي الاختصاص أو تحتاج إلى التفسير، فهو ليس فقهاً جامداً وقفاً على مرحلة تاريخية، بل كان فقهاً يتحرك مع العصر، ويسد الفراغات فيه، ويحاول أن يدفع به إلى المواكبة.

ولذا يؤكد (قدس سره) -دائماً- على ضرورة تجنب (الوعي الهندسي) للنص الديني بحسب تعبيره، والذي هو وعي يتعاطى مع النص بدقة هندسية قد لا تكون بالضرورة مقصودة لدى المتكلم، مما ينجم عنه الخروج بنتائج غريبة عن مراد المتكلم، ولذا كان يؤكد دوماً ضرورة استجلاء المنطق العرفي لأنّ المتكلم كان يتكلم بما يتعارف عليه الناس في ذلك الزمان، وهو ما يمكن اعتباره جوًّا اجتماعيًّا للنص، ومفتاحاً لإعادة المعنى الغائب والمغيب في وعي النص.

ب- يؤمن السيد فضل الله (قدس سره) أنّ الفقه للواقع والعصر، وليس الفقه من أجل الفقه، وكان يريد بذلك أن يواكب الفقه الحياة بإشكالاتها وأسئلتها وحاجاتها، وأن يلاحق الإنسان في أوضاعه وأماكن ترحاله وعمله ونشاطه.

ت- تميّز فقه السيد فضل الله باليسر وبالحركية التي تستند إلى أنّ الإسلام هو الشريعة السهلة السمحاء، وقد لجأ السيد إلى التبسيط وعدم التشديد وتجنب التوقف والاحتياطات.

ث- أعاد السيد فضل الله (قدس سره) النظر في فهم الكثير من الأحكام وطرح مفاهيم جديدة تستند إلى علم أهل الاختصاص من الأطباء والعلماء والخبراء.

ج- وسّع من دائرة الاستفادة من أهل الخبرة العلمية الاختصاصية بالعلوم الطبيعية في تحديد مواضيع الأحكام، كلٌّ في مجال اختصاصه.. أي أنه إلى جانب الأخذ بمحددات العرف وتفسيراته، كان لأهل الاختصاص مساحة واسعة وتدخّل في إعادة صياغة الحكم الشرعي.

ولذا يضع السيد فضل الله عدداً من المبادئ المنهجية التي يمكنها أن تضبط عملية الاجتهاد:

الأول: ضرورة مراعاة الأبعاد التاريخية: فمن الضروري دراسة حركة الواقع من أجل استخلاص كيفية تحرك النصوص في هذا الواقع، وليس من أجل إخضاعها لهذا الواقع. إذ ليس هناك سبيل لفصل فهم القرآن عن حركة الإنسان، والمجتهد أو المفسر يخضع للمؤثرات التي تحيط به، وتسهم في تشكيل ذهنيته بطريقة شعورية أو لا شعورية، والضمانة الجيدة لمعادلة ذاتية الفقيه هي نقد الفقيه الآخر، وهنا تبرز قيمة الاختلاف.

فبينما يرى الكثير من الفقهاء حرمة دخول المسيحيين والماركسيين وغيرهم من أهل الكتاب والملحدين المساجد، من أجل استماع المحاضرات وغيرها من الأنشطة الإسلامية، يرى سماحته الجواز انطلاقاً من النقل التاريخي الثابت أنّ النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كان يستقبل نصارى نجران وغيرهم في المسجد، كذلك كان الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يستقبل الزنادقة والملحدين ويحاورهم في المسجد، ولم ينقل أنه طردهم منه..

الثاني: مراعاة الأبعاد المقاصدية: وذلك بالبعد عن الانشغال بالعلاقة الشكلية بين الأحكام الشرعية وموضوعاتها. فهي تمثل منطلقات الشرع في أحكامه، أو ما يسمّى بعلل التشريع أو ملاكاته، وهو ما يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يحققه من أهداف في حياته من خلال التزامه بهذا الحكم الشرعي أو ذاك.

يقول السيد محمد حسين فضل الله (قدس سره):

«نحن نعرف أنّ بعض الأحكام الشرعية من الأحكام التوقيفية كالعبادات مثلاً، ولذلك نجد بعضها قد يخضع لقاعدة تختلف عن القاعدة التي يخضع لها حكم شرعي عبادي آخر. ولكننا لا نمانع من أنّ هناك كثيراً من الأحكام الشرعية لا سيما في عالم المعاملات، مما يمكن استكشاف ملاكه بشكل وبآخر من خلال استظهاره من طبيعة النص نفسه، على أساس مناسبات الحكم والموضوع، أو من خلال القرائن المتنوعة التي تدل على ذلك.

ومن هنا فإننا نتصور أنّ القول بعدم إمكان إدراك الملاك بالمطلق هو قول غير دقيق، لأننا إذا لم نستطع إدراك الملاك في الأحكام التوقيفية كالعبادات وأمثالها، فإنّه بإمكاننا أن ندرك الملاكات في المعاملات، أو بعض الأحكام الأخلاقية وغير ذلك.

ولكن المشكلة هو الاستغراق في التعبدية، والتعامل مع الفقه بمنطق الأسرار والتعبد المحض، ويحضرني ما يقال في تطهير بعض النجاسات كالمتنجس بالبول، فإنّهم يتحدثون عن اشتراط غسلتين بالماء القليل، ويؤكدون على التعددية بحيث لو غسلنا -كما عن بعضهم- الموضع المتنجس بقطرتين على التوالي فإنّه يطهر، ولكننا مع ذلك لو أهرقنا إبريقاً كاملاً دفعة واحدة بلا تعدد فإنّه لا يطهر، وذلك لأنّ التعددية شرط في التطهير، وقد يجاب عن الفرق بين الموردين بأنّه من شؤون التعبد التي لا يمكن إدراك الملاك فيها. مع أنّ الإنسان عندما يقف أمام موضع يتعلق بالنجاسة والطهارة يعرف أنّ المسألة هي إزالة الاستقذار، وأنّ قضية التعدد قد تنطلق من خلال الحالة الطبيعية للتطهير بحيث تكون الغسلة الأولى لإزالة العين، والغسلة الثانية لإزالة الاستقذار الناشئ من طبيعة وقوع هذه العين على هذا الموقع، ولذلك لا يجد الإنسان خصوصية للتعدد إلَّا من خلال أنّها ناظرة إلى الوضع الطبيعي في عالم الغسل، التي تدور القذارة فيه بهذه الطريقة. وعليه فيمكن أن يستفيد الإنسان من المدار بأنّ الكمية الأكثر والمستمرة يمكن أن تحقق الغسل بطريقة أكيدة أكثر من سابقتها.

طبعاً هذا لا ينفي أن يكون ثمة عدد من الأحكام الشرعية غير معروفة من جهة الملاكات والعلل، كما في العادة الشهرية للمرأة، وعدم قضاء الصلاة مثلاً وقضاء الصيام، وقد يقف المرء عاجزاً عن تفسير لهذه الأحكام، ولكن ذلك لا يعني الاستغراق في الظاهرة التعبدية في الوقت الذي لا خصوصية لهذا المورد أو ذاك لو تأمل الفقيه فيه بشكل جيد، لأنّ القضية ليست قضية أسرار على الدوام وبشكل كامل كما يوحي البعض».

الثالث: التكاملية في دراسة النصوص: ووضعها في وحدة موضوعية هيكلية، لنستخلص منها الحكم الشرعي بعيداً عن التجزيء. بحيث تطعم بأبعادها التاريخية والقانونينة المعاصرة...

الرابع: حتمية أن يتحرك الاجتهاد الإسلامي في دائرة المصادر الإسلامية وأن يخضع لقواعدها، وذلك في مقابل الاجتهاد الذاتي المتجاوز للنص، فلا يكون للإسلام دور إلَّا من خلال العناوين العامة؛ إذ ينبغي أن تُحكم مسألة الانفتاح والضيق (أو الانغلاق والسعة) بقاعدة شرعية، لا أن تكون مُسيّرة وفق مزاج شخصي.

ولذا كان القرآن في نظر السيد فضل الله هو مرآة للحديث، وليس معنى ذلك أنّه يقلِّص من حجم السنّة في حركة الاستنباط، ولكنّ الفقهاء اعتادوا في أبحاثهم الفقهية الاستنباطية التركيز على مناقشة تفاصيل الروايات من دون الالتفات إلى الأسس القرآنية العامة، وذلك على العكس من المنهج الذي يطرحه سماحة السيد، حيث يرى أنّ القرآن هو مرآة الأحاديث وليست الأحاديث مرآة القرآن.

وعلى مستوى التطبيق العلمي نلاحظ أنّ السيد فضل الله (قدس سره) يتوقف عند أهمية توثيق السنة ويشدد على ضرورة التدقيق في الأحاديث المتعلقة بتفسير القرآن وتفصيل مجمله -لا سيما الغيبيات- لما لها من دور رئيس في تشكيل ذهنية المسلم العامة. ويؤكد على أنّ الجهود المبذولة في ذلك لم تصل إلى نتائج حاسمة لا تقبل الجدل مهما قيل عن وثاقة كتاب أو مؤلف. لذا فهو يؤكد على حاكمية القرآن على السنة، وأنه الميزان الفصل لكل ما يُروى من أحاديث، ورفض تخصيص الآية بخبر الواحد، بل وذهب إلى تخصيص الحديث بالآية؛ لأنّ القرآن يتسم بالتأصيل والتقعيد، في حين ترد السنة في غالبها -وليس جميعها- لتحاكي تطبيقات وتعالج وقائع هنا وهناك، مما يجعل الحديث يتحرك في دائرة خاصة من القرائن والإيحاءات المحيطة به.

ومن الطبيعي -بحسب هذا المنهج- أن تكثر مخالفة السيد لآراء المشهور، وذلك لأنّ الاختلاف في الأسس والمقدمات يستدعي الاختلاف في الفروع والنتائج، ومن الأمثلة التوضيحية على ذلك: أنّ الغالبية الساحقة من الفقهاء يحرِّمون على المرأة أن تخرج من البيت إذا لم يأذن لها زوجها بالخروج، حتى ولو كان السبب مزاجيًّا، وهو ما يجوِّز للرجل أن يحبس المرأة داخل المنزل من حين الزفاف إلى يوم تدفن، فيكون البيت سجناً شرعيًّا مؤبداً للمرأة، ولكن السيد يناقش في هذه الفتوى على أساس منهجه القرآني، حيث يرى أنّ هذا الحكم يخالف الخط القرآني الذي يقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ}.. فكيف يمكن أن تصدق المعاشرة بالمعروف مع فرض كون البيت سجناً شرعيًّا مؤبداً؟ّ ولذلك يرى سماحته أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من البيت في حال كان خروجها منافياً لحق الزوج الجنسي لا مطلقاً.

6- صدم الوعي المسكون

عُرِفَ سماحة السيد فضل الله بجرأته الكبيرة وشجاعته العلمية؛ التي جعلته لا يتردد في المجاهرة بآرائه المخالفة للمألوف والمتداول طالما قادته قناعته الفكرية إلى ذلك، وقد خاض (قدس سره) في مجالات عديدة -فكرية وفقهية وتاريخية- ما أثارت عليه ردود فعل كثيرة، ولكنه لم يأبه لها ولم ينحنِ، بل أصرّ وواصل حتى خمدت العاصفة وبقي رأيه صامداً يحث الآخرين على التفكير والجديّة في التقييم، ولم يتوقف وجر عليه ذلك كلاماً كثيراً ولم يبالِ.. ولقد أسس لهذه الفكرة من خلال وعيه القرآني في الكثير من مفاصل حرمة النبوة.

ولا يفتأ (قدس سره) يُذكّر من حوله بهذا الوعي النبوي حتى أثناء تدارسه للتاريخ الإسلامي، ففي حركة صلح الحسن وثورة الحسين، يقول:

«إنّ صلح الإمام الحسن (عليه السلام) لم يكن حالة ضعف أو حالة هروب من الشهادة. لقد كانت القضية أن يفسح الإمام الحسن (عليه السلام) بهذا الصلح المجال للناس ليدرسوا الأُمور على الطبيعة، لتتحرك المعارضة من خلال أنّ هناك واقعاً يُنمّيها ويُنمّي قواعدها، مع إمكانية أن يسمح المستقبل بالحركة، وهكذا كان، إذ لم تمض سنون على ذلك إلَّا وكانت هناك قاعدة تنتقد، وتعترض، وتشير.. وكانت انطلاقة الإمام الحسين (عليه السلام) هي الصدمة التي أراد (عليه السلام) من خلالها أن يصدم الواقع حتّى يهزه هزةً عنيفةً من الأعماق، من أجل أن تؤثر تلك الصدمة في المستقبل عندما ينفتح الناس على قضية الحسين (عليه السلام) ليفكروا: كيف انطلقت وكيف عاشت وكيف تحركت؟ لهذا: فإنّ أسلوب الإمام الحسن (عليه السلام) كان أُسلوب المرحلة في حركة الإسلام، وأُسلوب الإمام الحسين (عليه السلام) كان أُسلوب المرحلة أيضاً».

ولا نزال نتذكر كيف كانت آراء السيد -التي كانت تصلنا في الخليج- تشكل ما يشبه الصدمة العلمية، ما يدفع الطلاب والأساتذة إلى المناقشة والبحث العلمي، وذلك على غرار ما تحدثه الصدمة الطبية التي تُعطى للمريض من أجل إعادة ضربات القلب فيه، ولا يزال هذا المنهج يحتاج إلى وقت ليس قصيراً حتى يشق طريقه في الأوساط الحوزوية، وحتى يأخذ أبعاده من التعميق والتركيز والمناقشة.

7- الـعـالـمـيـة

لم يحشر السيد فضل الله نفسه في مساحة ضيقة، ولم يؤطر اهتمامه بجماعة معينة، بل كان إنسانيًّا في اهتمامه وموقفه، وعالميًّا في توجهه ونزعته؛ ولذا كانت قضايا المسلمين وغيرهم حاضرة عنده يوليها رعايته واهتمامه ومعالجته، ويسلط عليها الأضواء في خطبه، بل لا يترك أمراً يمر دون أن يسجل موقفه منه ويبدي رأيه فيه، وكان يتحرك في كل دائرة تتحرك فيها قضايا الإنسان المعاصر سياسيًّا واجتماعيًّا ومعرفيًّا واقتصاديًّا.

ويؤكد سماحته أنه ينطلق في الاتجاه الذين يريد منا الإسلام أن ننطلق وإن أبطأتها الأدوات المادية، فهو يقول: «هناك فرق بين الأدوات المادية التي يملك فيها الآخرون ظروف الغزو فمثلاً يملك الآخرون الأجهزة الإعلامية كما يملكون القوة المادية والقوة السياسية والاقتصادية التي تتيح لهم أن ينفّذوا مآربهم في كل مكان في العالم. هذا صحيح، ولكنّنا نملك أصالة الفكر الإسلامي وإنسانية الفكر الإسلامي وعقلانية الفكر الإسلامي، ومن الطبيعي فإنّ الإنسان الذي أحاطت به التكنولوجيا من جميع الجهات لا يزال يبحث عن الروح ويبحث عن العقلانية الصافية، وعندما نلتقي بمفكرين كبار من الغربيين ممن دخلوا في الإسلام بعد أن كانوا مسيحيين أو ماركسيين نعرف أنّ الإسلام يخترق فكر هؤلاء المثقفين الذين عاشوا الثقافة الغربية بكل عناصرها ولكنهم رأوا في الإسلام الأصالة، ورأوا فيه الدين الذي يحترم الإنسان كلّه، فعندما نرى ذلك فإننا نشعر بواقعية أنّ الإسلام دين عالمي، ولكن المشكلة هي أنّ المسلمين لم يتحوّلوا إلى دعاة بل إنهم يعيشون في داخل ذواتهم أشكال التخلف، ومشكلتنا هي قيادات الجهل والتخلّف والخرافة التي أساءت إلى الإسلام، وإلَّا فلو عرف الناس الإسلام الأصيل، الإسلام القرآني، والإسلام المحمّدي، والإسلام الذي انطلق في خط الأئمة (عليهم السلام) لرأوا ما يجعلهم يؤمنون به ويشعرون بأنه هو الذي يجلب لهم السعادة في الدنيا والآخرة».

كان واضحاً أمام سماحة السيد (قدس سره) منذ اللحظة الأولى لمجيئه إلى لبنان، أنه لا بد من العمل للإسلام في إطار مشروع متكامل، وأن العدّة التي لا بدّ من مباشرة العمل بها هي الإخلاص والإصرار والمزيد من الصبر على المكاره، وقد أعان سماحته على استيعاب صعوبات العمل في الساحة اللبنانية، ما أكسبته إيّاه الساحة العراقية من خبرة، وهي ساحة تتمتع بالغنى في جميع مجالاتها، حيث كانت الأنشطة التي زاولها في مناطق شاسعة من العراق، والتي انفتح فيها على شرائحها الشعبية والثقافية والاجتماعية المتنوعة تأثراً وتأثيراً، كانت له عوناً وخبرةً على معالجة ساحة هي في غاية التعقيد كالساحة اللبنانية.

حين حضر سماحة السيد موسى الصدر إلى لبنان، وأراد أن يباشر حركته السياسية، كان السيد فضل الله قد أهّل نخبةً كبيرةً من الشباب كانوا نواة العمل السياسي الإسلامي الذي انطلق في تلك المرحلة.. ومع ذلك، فإن سماحته أراد أن يُبقي على المشروع الفكري الإسلامي حاكماً للمشاريع الأخرى، باعتبار أن العمل الفكري الإسلامي العام يمكن أن يشكّل خيمة كبيرة لكل المشاريع الأخرى، وأيضاً الرافد الأساسي لكل المشاريع المتصلة بالإسلام على صعده السياسية والاجتماعية المتنوّعة.

ترجم سماحة السيد فضل الله توجهه الإسلامي العالمي عن طريق طرح الإسلام كفكر عام غير حزبي وغير طائفي وغير مذهبي، وسعى إلى أن يكون عامل جذب متنوع لكل من أراد التزام الإسلام بلا عقد وحواجز، ولكل من أراد التعرف إلى الإسلام بدون تعقيدات المذاهب والطوائف والأحزاب.

فكان روّاد محاضراته ودروسه منذ البداية، شباب لبناني من مختلف الطوائف، وإن غلب عليه اللون الشيعي، فلأن الساحة الأساسية لجهاده ونشاطه كانت انطلاقتها من هذه البيئة المعروفة.

وقد عمد سماحته (قدس سره) إلى ترجمة البعد العالمي لمشروعه الإسلامي الأممي ميدانيًّا، عن طريق تلبية الدعوات المكثّفة التي كانت تأتيه من مختلف دول العالم الإسلامي والغربي، فكان له جولات سنوية على دول إسلامية، وأخرى غربية التقى خلالها نخبة من الشباب الإسلامي الملتزم الواعي المدرك لأهمية التمسّك بالإسلام في الحياة، وخاصة في بلاد الاغتراب، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا ودول غربية أخرى.

ذاع صيت سماحته في مختلف أصقاع العالم، وبدأ الطلب على محاضراته وخطبه يتوالى بشكل عكس الحاجة الشبابية الملحّة إلى إسلام متحدٍّ غير منعزل، وإسلامٍ قابل للحياة يتعامل مع الواقع بأدوات الواقع، ويتحرك بثقة كبيرة، كغيره من الأفكار التي كانت رائجة في العالم آنذاك ويعمل لها منظرون أفذاذ، كالماركسية والرأسمالية والاشتراكية والقومية.

وهكذا أفلح سماحة السيّد في طرح الإسلام كفكر إنساني عالمي، كما يطرح المفكرون العلمانيون والقوميون أفكارهم على مستوى العالم، ولعلّه أول علماء الدين في العصر الحديث الذي اعتبر أن إسلامنا لا بد من أن نطرحه بقوة، لأنه يمتلك ذاتيًّا تلك القوة، وأن العالم يحترم الفكر القويّ. والمهم أن أصحاب هذا الفكر يجب أن يتوفروا على ما يجعلهم قادرين على خوض غمار المواجهة والتحدّي.

 

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة